الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
افتتحت سورة «الحشر» بالثناء على الله- تعالى- وبتنزيهه عن كل ما لا يليق بذاته الجليلة، فقال- عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وأصل التسبيح لغة: الإبعاد عن السوء. وشرعا: تنزيه الله- تعالى- عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
والذي يتدبر القرآن الكريم، يجد أن الله- تعالى- قد ذكر فيه أن كل شيء في هذا الكون يسبح بحمده- تعالى-، كما في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ كما ذكر- سبحانه- أن الملائكة تسبح له، كما في قوله: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ....
وكذلك الرعد، كما في قوله: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ....
وكذلك الجبال والطير قال- تعالى-: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ «1» .
وقد سبق أن ذكرنا خلال تفسيرنا لقوله- تعالى-: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
…
أن الرأى الذي تطمئن إليه النفس، أن التسبيح حقيقى، ولكن بلغة لا يعلمها إلا الله- تعالى- «2» .
والمعنى: سبح لله- تعالى- ونزهه عن كل ما لا يليق به، جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض من كائنات ومخلوقات. وهو- عز وجل الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه غالب الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله.
وقد افتتحت بعض السور- كسورة الحديد والحشر والصف- بالفعل الماضي، لإفادة الثبوت والتأكيد، وأن التسبيح قد تم فعلا.
وافتتحت بعض السور، كسورة الجمعة والتغابن- بالفعل المضارع «يسبح» لإفادة تجدد هذا التسبيح في كل وقت، وحدوثه في كل لحظة.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين، حيث نصرهم على أعدائهم، فقال: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ....
والمراد بالذين كفروا من أهل الكتاب هنا: يهود بنى النضير، وقصتهم معروفة في كتب السنة والسيرة، وملخصها: أن هؤلاء اليهود كانوا يسكنون في ضواحي المدينة فذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعين بهم في دفع دية لقتيلين قتلهما بعض المسلمين خطأ، فاستقبلوه استقبالا حسنا، وأظهروا له صلى الله عليه وسلم استعدادهم للمساعدة فيما يطلبه منهم، ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن منكم يصعد إلى أعلى هذا البيت الذي يجلس تحته محمد صلى الله عليه وسلم فيلقى عليه حجرا فيريحنا منه.
(1) سورة ص آية 18، 19.
(2)
راجع تفسيرنا لسورة الإسراء الآية 44 ص 361.
فتعهد واحد منهم بذلك، وقبل أن يتم فعله، نزل جبريل- عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما أضمره اليهود من غدر وخيانة فرجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة- وأخبر أصحابه بما أضمره له يهود بنى النضير، ونزل قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «1» .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يستعدوا لحصار بنى النضير، وتأديبهم على غدرهم..
فحاصرهم المؤمنون بضعا وعشرين ليلة، وانتهى الأمر بإجلائهم، عن المدينة، فمنهم من ذهب إلى خبير، ومنهم من ذهب إلى غيرها.
واللام في قوله- تعالى-: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلقة بأخرج، والحشر: الجمع، يقال:
حشر القائد جنده إذا جمعهم، ومنه قوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.
أى: هو- سبحانه- الذي أخرج- بقدرته- الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وهم يهود بنى النضير عند مبدأ الحشر المقدر لهم في علمه، بأن مكنكم- أيها المؤمنون- من محاصرتهم وجمعهم في مكان واحد، ثم طردهم من المدينة المنورة إلى أماكن أخرى، بسبب غدرهم وسوء صنيعهم.
قال صاحب الكشاف: اللام في قوله: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ تتعلق بأخرج، وهي مثل اللام في قوله: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي وفي قولك: جئته لوقت كذا..
والمعنى: أخرج الذين كفروا عند أول الحشر. ومعنى أول الحشر: أن هذا أول حشرهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط.. أو المعنى: هذا أول حشرهم، وآخر حشرهم: إجلاء عمر- رضى الله عنه- لهم من خيبر إلى الشام.
وقيل معناه: أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم، لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. «2» .
وقصر- سبحانه- إخراجهم عليه فقال: هو الذي أخرج الذين كفروا، مع أن المسلمين قد اشتركوا في إخراجهم عن طريق محاصرتهم للإشعار بأن السبب الحقيقي في إخراجهم من ديارهم، هو ما قذفه الله- تعالى- في قلوبهم من الرعب.. أما محاصرة المؤمنين لهم فهي
(1) سورة المائدة الآية 11.
(2)
تفسير الكشاف ج 4 ص 79.
أسباب فرعية، قد تؤدى إلى إخراجهم، وقد لا تؤدى، وللإشعار- أيضا- بأن كل شيء إنما هو بقضاء الله وقدره..
ووصفهم- سبحانه- بالكفر وبأنهم من أهل الكتاب، للتشنيع عليهم وزيادة مذمتهم، حيث إنهم جمعوا بين رذيلتين: رذيلة الكفر بالحق، ورذيلة عدم العمل بكتابهم الذي أمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، والذي يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.
و «من» في قوله- تعالى-: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للبيان، حتى لا يظن بأن المراد بالذين كفروا هنا، مشركو قريش، وإن كان الجميع يشتركون في الكفر والفسوق والعصيان.
وقوله- تعالى-: ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا
…
تذكير للمؤمنين بنعم الله- تعالى- عليهم.
أى: ما ظننتم- أيها المؤمنون- أن يهود بنى النضير سيخرجون من ديارهم بتلك السهولة، وذلك لتملكهم لألوان من القوة، كقوة السلاح، وكثرة العدد، ووجود من يحميهم ممن يسكنون معكم في المدينة، وهم حلفاؤهم من بنى قومهم، كبني قريظة وغيرهم، ومن غير بنى قومهم كالمنافقين الذين وعدوهم ومنوهم.
وقوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ معطوف على ما قبله.
أى: أنتم- أيها المؤمنون- ظننتم أن اليهود لن يخرجوا من ديارهم لما معهم من قوة، وهم- أيضا- ظنوا أن حصونهم ستمنع بأس الله عنهم، وأنها ستحول بينهم وبين خروجهم منها، ونصركم عليهم.
وقوله- سبحانه-: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
…
متفرع عن الظن السابق، الذي ظنه المؤمنون، والذي ظنه أعداؤهم وهم بنو النضير.
أى: أنتم ظننتم أنهم لن يخرجوا من ديارهم، وهم ظنوا- أيضا- أن حصونهم ستمنعهم من نصركم عليهم، فكانت النتيجة أن أتاهم بأس الله وعقابه من حيث لم يحتسبوا ومن حيث لم يخطر ببال، بأن قذف في قلوبهم الرعب والفزع فخرجوا من حصونهم التي تمنعوا بها، ومن ديارهم التي سكنوها زمنا طويلا صاغرين أذلاء.
والتعبير بقوله: مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا إشارة إلى أن ما نزل بهم من هزيمة، لم يكونوا يتوقعونها أصلا، إذ الاحتساب مبالغة في الحسبان، أى: أتاهم عقاب الله- تعالى- من المكان الذي كانوا يعتقدون أمانهم فيه، وفي زمان لم يكونوا أصلا يتوقعون حلول هزيمتهم عنده.
وعبر- سبحانه- بالقذف، لأنه كناية عن الرمي بقوة وعنف وسرعة. والرعب: شدة الخوف والفزع، وأصله: الامتلاء. تقول: رعبت الحوض إذا ملأته.
أى: وقذف- سبحانه- في قلوبهم الرعب الذي ملأها بالجزع والفزع فاستسلموا بسبب ذلك لما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم.
ثم بين- سبحانه- ما حدث منهم خلال جلائهم فقال: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ والتخريب: إسقاط البناء وهدمه أو إفساده.
أى: أن هؤلاء اليهود، بلغ من سوء نيتهم، ومن اضطراب أمرهم، أنهم عند ما أجمعوا أمرهم على الرحيل عن المدينة، أخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم، عن طريق إسقاط بنائها، وهدم السليم منها، وإزالة ما اشتملت عليه من أبواب وغيرها.. حتى لا ينتفع المسلمون بها من بعدهم..
وأخذوا يخربونها- أيضا- بأيدى المؤمنين، أى: بسبب أن المؤمنين كانوا يزيلون من طريقهم كل عقبة حتى يقتحموا عليهم ديارهم، فترتب على ذلك أن هدموا بعض بيوت بنى النضير من الخارج، ليستطيعوا التمكن منهم.
قال صاحب الكشاف: ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين؟ قلت: لما عرّضوهم لذلك، وكانوا السبب فيه. فكأنهم أمروهم به، وكلفوهم إياه
…
«1» .
أى: أن يهود بنى النضير بسبب تحصنهم في ديارهم، ومحاولتهم عدم النزول على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم حملوا المؤمنين على تخريب هذه الحصون من الخارج، ليدخلوا عليهم..
والخطاب في قوله- تعالى-: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ لكل من يصلح له.
قال الجمل في حاشيته: والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة، لأنها تنتقل من العين إلى الخد. وسمى علم التعبير بذلك، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.
ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء، وجهات دلالتها، ليعرف بالنظر فيها شيء آخر.. «2» .
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 81.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 311. [.....]
أى: إذا كان الأمر كما بينا لكم- أيها الناس-، فاعتبروا واتعظوا يا أصحاب العقول السليمة، والعيون الناظرة، بما جرى لهؤلاء اليهود، حيث دبر الله- تعالى أمر إخراجهم من ديارهم تدبيرا حكيما، ونصر المؤمنين عليهم بأيسر طريق، وجعل ديارهم من بعدهم، خير عبرة وعظة لكل ذي بصر، فقد خلفوها من بعدهم شاهد صدق على أن الغدر نهايته الخسران.. وعلى أن النصر إنما هو لمن اتبع الصدق والوفاء بالعهد..
قال الآلوسى: واشتهر الاستدلال بهذه الجملة، على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: لأنه- تعالى- أمر فيها بالاعتبار، وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع.. «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من حكمته في إخراجهم فقال: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ.
ولفظ «لولا» هنا حرف امتناع لوجود أى: امتنع وجود جوابها لوجود شرطها.. و «أن» مصدرية، وهي مع ما في حيزها في محل رفع على الابتداء. لأن لولا الامتناعية لا يليها إلا المبتدأ، والخبر محذوف.
والجلاء: الإخراج. يقال: جلا فلان عن مكان كذا، إذا خرج منه. وأجلاه عنه غيره، إذا أخرجه عنه:
قال القرطبي: والجلاء مفارقة الوطن، يقال جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء، والفرق بين الجلاء والإخراج- وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا- من وجهين:
أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة
…
«2» .
أى: ولولا أن الله- تعالى- قد قدر على هؤلاء اليهود، الجلاء عن ديارهم، لولا أن ذلك موجود، لعذبهم في الدنيا عذابا شديدا، استأصل معه شأفتهم.
ولكن الله- تعالى- كتب عليهم الجلاء دون القتل والإهلاك لمصلحة اقتضتها حكمته، لعل من مظاهرها أن يغنم المسلمون ديارهم وأموالهم، دون أن تراق دماء من الفريقين، ودون أن يعرض المؤمنون أنفسهم لمخاطر القتال.
وجملة «ولهم في الآخرة عذاب النار» مستأنفة. أى: أن هؤلاء اليهود إن نجوا من القتل
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 41.
(2)
تفسير القرطبي ج 18 ص 6.
والإهلاك في الدنيا، فلن ينجوا في الآخرة من العذاب الذي يذلهم ويهينهم، بل سيحل بهم عذاب مقيم، لا فكاك لهم منه.
واسم الإشارة في قوله- تعالى- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعود إلى ما نزل وسينزل بهم من عذاب.
وقوله- تعالى-: شَاقُّوا من المشاقة بمعنى المعاداة والمخاصمة، حتى لكأن كل واحد من المتخاصمين في شق ومكان يخالف شق صاحبه ومكانه.
أى: ذلك الذي حل بهم في الدنيا من عقاب، والذي سيحل بهم في الآخرة من عذاب، سببه أن هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب، عادوا الله- تعالى- وخالفوا دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ بأن يخالف ما أمر به، أو نهى عنه. يعذبه الله- تعالى- ويخذله، فإنه- سبحانه- شديد العقاب.
وجملة فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ قائمة مقام جواب الشرط، أى: ومن يخالف أمر الله- تعالى- عذبه، فإنه- سبحانه- شديد العقاب، لمن أعرض عن طاعته وذكره.
ثم ساق- سبحانه- ما يغرس الطمأنينة في قلوب المؤمنين، الذين اشتركوا في تخريب ديار بنى النضير، وفي قطع نخيلهم، فقال- تعالى-: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ.
و «ما» شرطية في موضع نصب، بقوله: قَطَعْتُمْ وقوله: مِنْ لِينَةٍ بيان لها..
وقوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ جزاء الشرط. واللام في قوله- تعالى-: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلقة بمحذوف.
واللينة: واحدة اللين، وهو النخل كله، أو كرام النخل فقط.
قال الآلوسى ما ملخصه: اللينة هي النخلة مطلقا.. وهي فعلة من اللّون، وياؤها مقلوبة عن واو لكسر ما قبلها- فأصل لينة: لونة
…
وقيل: اللينة: النخلة مطلقا.. وقيل: هي النخلة القصيرة، وقيل: الكريمة من النخل..
ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة
…
«1» .
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أن المسلمين عند ما أخذوا في تقطيع نخيل
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 43.
اليهود، قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع النخيل؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: إن المسلمين بعد أن قطعوا بعض النخيل، ظنوا أنهم قد أخطئوا في ذلك، فقالوا:
لنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وقيل: إن المسلمين نهى بعضهم بعضا عن قطع النخيل، وقالوا إنما هي مغانم المسلمين، فنزلت هذه الآية لتصديق من نهى عن القطع، وتحليل من قطع من الإثم.
والمعنى: لا تختلفوا- أيها المؤمنون- في شأن ما فعلتموه بنخيل بنى النضير، فإن الذي قطع شيئا من هذه النخيل لا إثم عليه، والذي لم يقطع لا إثم عليه- أيضا- لأن كلا الأمرين بإذن الله- تعالى- ورضاه، وفي كليهما مصلحة لكم.
لأن من قطع يكون قد فعل ما يغيظ العدو ويذله، ويحمله على الاستسلام والخضوع لأمركم..
ومن ترك يكون قد فعل ما يعود بالخير عليكم، لأن تلك النخيل الباقية، منفعتها ستئول إليكم
…
وقد شرع- سبحانه- لكم كلا الأمرين في هذا المقام وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ عن أمره، وهم يهود بنى النضير، ومن ناصرهم، وأيدهم، وسار على طريقتهم في الخيانة والغدر.
فالآية الكريمة المقصود بها: إدخال المسرة والبهجة في قلوب المؤمنين، حتى لا يتأثروا بما حدث منهم بالنسبة لنخيل بنى النضير، وحتى يتركوا الخلاف في شأن هذه المسألة، بعد أن صدر حكم الله- تعالى- فيها، وهو أن القطع والترك بإذنه ورضاه، لأن كلا الأمرين يغرس الحسرة في قلوب الأعداء..
وعبر- سبحانه- باللينة عن النخلة، لأن لفظ «لينة» أخف لفظا، وأدخل في كونها نخلة من كرام النخل.
وقال- سبحانه-: أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها لتصوير هيئتها وحسنها وأن فروعها قد بقيت قائمة على أصولها، التي هي جذورها وجذوعها.
قال الآلوسى: وقوله: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلق بمقدر على أنه علة له، وذلك المقدر عطف على مقدر آخر. أى: ليعز المؤمنين، وليخزى الفاسقين أى: ليذلهم..
والمراد بالفاسقين: أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب. ووضع الظاهر موضع المضمر،