المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ١٤

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الرابع عشر]

- ‌سورة الذاريات

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]

- ‌[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37]

- ‌[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46]

- ‌[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 51]

- ‌[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 60]

- ‌تفسير سورة الطّور

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28]

- ‌[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 44]

- ‌[سورة الطور (52) : الآيات 45 الى 49]

- ‌تفسير سورة النّجم

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 28]

- ‌[سورة النجم (53) : الآيات 29 الى 32]

- ‌[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 62]

- ‌تفسير سورة القمر

- ‌مقدّمة

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22]

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]

- ‌[سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 55]

- ‌تفسير سورة الرّحمن

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 25]

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 36]

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61]

- ‌[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]

- ‌تفسير سورة الواقعة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80]

- ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 96]

- ‌تفسير سورة الحديد

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 19]

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 27]

- ‌[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29]

- ‌تفسير سورة المجادلة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 8]

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 9 الى 13]

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 19]

- ‌[سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 22]

- ‌تفسير سورة الحشر

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 21]

- ‌[سورة الحشر (59) : الآيات 22 الى 24]

- ‌تفسير سورة الممتحنة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة الممتحنة (60) : الآيات 7 الى 9]

- ‌[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]

- ‌[سورة الممتحنة (60) : آية 12]

- ‌[سورة الممتحنة (60) : آية 13]

- ‌تفسير سورة الصّفّ

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]

- ‌[سورة الصف (61) : آية 5]

- ‌[سورة الصف (61) : آية 6]

- ‌[سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 9]

- ‌[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 13]

- ‌[سورة الصف (61) : آية 14]

- ‌تفسير سورة الجمعة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]

- ‌[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]

- ‌[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]

- ‌تفسير سورة المنافقون

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4]

- ‌[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8]

- ‌[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]

- ‌تفسير سورة التّغابن

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 13]

- ‌[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18]

- ‌تفسير سورة الطّلاق

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 7]

- ‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]

- ‌تفسير سورة التّحريم

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]

- ‌[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]

- ‌[سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]

- ‌فهرس المجلد الرابع عشر من سورة الذاريات إلى سورة التحريم

الفصل: ‌[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26]

التفسير قال الله- تعالى-:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26]

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)

عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)

وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)

افتتحت سورة «الواقعة» بتقرير الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن يوم القيامة حق وأن الحساب حق، وأن الجزاء حق..

ص: 157

وقد اختير الافتتاح بالظرف المتضمن معنى الشرط، لأنه ينبه الأذهان ويحرك النفوس لترقب الجواب.

والواقعة من أسماء القيامة كالقارعة، والحاقة، والآزفة..

قال الجمل: وفي إِذا هنا أوجه: أحدها: أنها ظرف محض، ليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها ليس، من حيث ما فيها من معنى النفي، كأنه قيل: ينتفى التكذيب بوقوعها إذا وقعت.

والثاني: أن العامل فيها اذكر مقدرا. الثالث: أنها شرطية وجوابها مقدر، أى: إذا وقعت الواقعة كان، كيت وكيت، وهو العامل فيها.. «1» .

وقال بعض العلماء: والذي يظهر لي صوابه، أن إذا هنا: هي الظرفية المتضمنة معنى الشرط، وأن قوله الآتي: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا بدل من قوله: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وأن الجواب إذا هو قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ....

وعليه فالمعنى: إذا قامت القيامة، وحصلت هذه الأحوال العظيمة، ظهرت منزلة أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة.. «2» .

وقوله- تعالى-: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ مؤكد لما قبله، من أن وقوع يوم القيامة حق لا ريب فيه.

وكاذبة: صفة لموصوف محذوف، وهي اسم فاعل بمعنى المصدر..

أى: عند ما تقع القيامة، لا تكذبها نفس من النفوس التي كانت تجحدها في الدنيا، بل كل نفس حينئذ تكون مصدقة لها.

قال القرطبي: قوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ. الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر، كقوله- تعالى-: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أى:

لغو..

أى: ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف، بل هي واقعة يقينا..

أو الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أى: ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة.. «3»

(1) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 270.

(2)

راجع أضواء البيان ج 7 ص 761 للشيخ الشنقيطى- رحمه الله.

(3)

تفسير القرطبي ج 17 ص 194.

ص: 158

وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.. «1» .

وقوله- سبحانه-: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ «2» .

ثم بين- سبحانه- ما يترتب على قيام الساعة من أحوال فقال: خافِضَةٌ رافِعَةٌ أى: هي خافضة للأشقياء إلى أسفل الدركات: وهي رافعة للسعداء إلى أعلى الدرجات.

والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة. وفي العز والإهانة.. ونسب- سبحانه- الخفض والرفع إلى القيامة على سبيل المجاز.

والمقصود بالآية الكريمة ترغيب الصالحين في الازدياد من العمل الصالح، لترفع منزلتهم يوم القيامة، وترهيب الفاسقين من سوء المصير الذي ينتظرهم، إذا ما استمروا في فسقهم وعصيانهم.

ويرى بعضهم أن المراد بالخفض والرفع في هذا اليوم، ما يترتب عليه من تناثر النجوم، ومن تبدل الأرض غير الأرض، ومن صيرورة الجبال كالعهن المنفوش..

وعلى هذا يكون المقصود بالآية: التهويل من شأن يوم القيامة، حتى يستعد الخلق لاستقباله، بالإيمان والعمل الصالح، حتى لا يصيبهم فيه ما يصيب العصاة المفسدين، من خزي وهوان..

والآية الكريمة تسع المعنيين، لأن في هذا اليوم يرتفع الأخيار وينخفض الأشرار، ولأن فيه- أيضا- تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ....

والمراد بالرج في قوله- تعالى- بعد ذلك: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا

التحريك الشديد، والاضطراب الواضح. يقال: رج فلان الشيء رجا، إذا حركه بعنف وزلزلة بقوة..

وقوله وَبُسَّتِ من البس بمعنى التفتيت والتكسير الدقيق، ومنه قولهم: بس فلان السويق، إذا فتته ولته وهيأه للأكل

أى: إذا رجت الأرض وزلزلت زلزالا شديدا، وفتت الجبال تفتيتا حتى صارت كالسويق

(1) سورة النساء الآية 87.

(2)

سورة غافر الآية 84. [.....]

ص: 159

الملتوت.. فكانت تلك الجبال كالهباء المنبث أى: المتفرق الذي يلوح من خلال شعاع الشمس إذا ما دخل من نافذة..

إذا ما حدث كل ذلك، وجد كل إنسان جزاءه من خير أو شر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.

فجواب الشرط ما ذكرته الآيات بعد ذلك من حسن عاقبة أصحاب الميمنة وسوء عاقبة أصحاب المشأمة.

ومن الآيات الكثيرة، التي وردت في معنى هذه الآيات قوله- تعالى-: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا «1» .

والخطاب في قوله- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً للناس جميعا، وكان بمعنى صار، والأزواج بمعنى الأصناف والأنواع..

أى: وصرتم- أيها الناس- في هذا اليوم الهائل الشديد، أصنافا ثلاثة، على حسب أحوالكم في الدنيا..

ثم فصل- سبحانه- الحديث عن الأزواج الثلاثة فقال: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ.

والمراد بأصحاب الميمنة، أولئك السعداء الذين يؤتون كتبهم يوم القيامة بأيمانهم، أو لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة..

أو سموا بذلك، لأنهم ميامين، أى: أصحاب بركة على أنفسهم، لأنهم أطاعوا ربهم وخالفوا أهواءهم.. فكانت عاقبتهم الجنة.

وسمى الآخرون بأصحاب المشأمة، لأنهم مشائيم، أى: أصحاب شؤم على أنفسهم، لأنهم طغوا وآثروا الحياة الدنيا، فكانت عاقبتهم النار.

أو سموا بذلك، لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم. أو لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار..

والعرب تسمى الشمال شؤما، كما تسمى اليمين يمنا.

والتعبير بقوله: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ للتفخيم والإعلاء من شأنهم، كما أن التعبير بقوله- تعالى-: ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ للتحقير والتعجيب من حالهم.

وجملة: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مكونة من مبتدأ- وهو ما الاستفهامية-، وخبر وهو

(1) سورة المزمل الآية 14.

ص: 160

ما بعدها، وهذه الجملة خبر لقوله فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. ووضع فيها الاسم الظاهر موضع الضمير للتفخيم، بخلاف وضعه في أصحاب المشأمة، فهو للتشنيع عليهم.

وشبيه بهذا الأسلوب قوله- تعالى-: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ والْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ ولا يؤتى بمثل هذا التركيب إلا في مواضع التفخيم، أو التعجيب..

والمعنى: فأصحاب الميمنة، أى شيء هم في أحوالهم وصفاتهم الكريمة، وأصحاب المشأمة، أى شيء هم في أحوالهم وصفاتهم القبيحة؟.

وقد ترك هذا الاستفهام التعجيبى على إبهامه، لتذهب النفس فيه كل مذهب من الثواب أو العقاب..

وقوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هؤلاء هم الصنف الثالث، وهم الذين سبقوا غيرهم إلى كل قول أو فعل فيه طاعة لله- تعالى- وتقرب إلى جلاله.

والأظهر في إعراب مثل هذا التركيب، أنه مبتدأ وخبر، على عادة العرب في تكريرهم اللفظ، وجعلهم الثاني خبرا عن الأول، ويعنون بذلك أن اللفظ المخبر عنه، معروف خبره، ولا يحتاج إلى تعريفه، كما في قول الشاعر:

أنا أبو النجم، وشعري شعري

يعنى: أن شعري هو الذي أتاك خبره، وانتهى إليك وصفه..

والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم. وعرفت منزلتهم، وبلغت من الرفعة مبلغا لا يفي به إلا الإخبار عنهم بهذا الوصف.

وحذف- سبحانه- المتعلق في الآية لإفادة العموم، أى: هم السابقون إلى كل فضل ومكرمة وطاعة..

وأخرهم- سبحانه- عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، لتشويق السامع إلى معرفة أحوالهم، وبيان ما أعد لهم من ثواب عظيم، فصله بعد ذلك في قوله- تعالى-: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

أى: والسابقون غيرهم إلى كل فضيلة وطاعة، أولئك هم المقربون عند الله- تعالى- وأولئك هم الذين مقرهم جنات النعيم.

فالجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا، لأنها جواب يثيره في النفوس قوله- تعالى- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ وأُولئِكَ مبتدأ، وخبره ما بعده. وما فيه من معنى البعد، مع قرب العهد بالمشار إليه، للإشعار يسمو منزلتهم عند الله- تعالى- ولفظ الْمُقَرَّبُونَ

ص: 161

مأخوذ من القربة بمعنى الحظوة، وهو أبلغ من القريب، لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء..

أى: أولئك هم المقربون من ربهم- عز وجل قربا لا يعرف أحد مقداره.

وقوله- سبحانه-: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بيان لمظهر من مظاهر آثار هذا التقرب.

قال الآلوسى: وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بقوله الْمُقَرَّبُونَ أو بمضمر هو حال من ضميره، أى كائنين في جنات النعيم.

وعلى الوجهين. فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة، لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده، بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم، ولا يرد عليهم أمر أو نهى، ولذا قيل جَنَّاتِ النَّعِيمِ دون جنات الخلود ونحوه.. «1» .

ثم قال- تعالى-: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ والثلة: الجماعة الكثيرة من الناس، وأصلها: القطعة من الشيء.. وهي خبر لمبتدأ محذوف، وللمفسرين في المراد بالثلة من الأولين، وبالقليل من الآخرين، اتجاهان:

أولهما: يرى أصحابه أن المراد بقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ: أولئك السابقون من الأمم الكثيرة السابقة على الأمة الإسلامية، وهم الذين صدقوا أنبياءهم وعزروهم ونصروهم.

والمراد بقوله: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ المؤمنون من هذه الأمة الإسلامية.

وعلى هذا المعنى سار صاحب الكشاف. فقد قال: الثلاثة، الأمة الكثيرة من الناس، قال الشاعر:

وجاءت إليهم ثلة خندقية

بجيش كتيار من السيل مزبد

وقوله- عز وجل: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ كفى به دليلا على الكثرة- أى في لفظ ثُلَّةٌ- وهو من الثل وهو الكسر-.. كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم.

والمعنى: أن السابقين من الأولين كثير، وهم الأمم من لدن آدم- عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم.. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم «2» .

وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه، أن الخطاب في قوله- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً للأمة الإسلامية خاصة، وأن المراد بقوله ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ صدر هذه الأمة الاسلامية.

(1) راجع تفسير الآلوسى ج 27 ص 133.

(2)

تفسير الكشاف ج 4 ص 53.

ص: 162

وأن المراد بقوله- تعالى-: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أتى بعد صدر هذه الأمة إلى يوم القيامة.

وقد أفاض الإمام ابن كثير في ترجيح هذا القول، فقال ما ملخصه: وقد اختلفوا في المراد بقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية، وبالآخرين من هذه الأمة.. وهو اختيار ابن جرير.

وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر، بل هو قول ضعيف، لأن هذه الأمة، هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة

فالقول الراجح أن يكون المراد بقوله- تعالى- ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أى: من صدر هذه الأمة.

والمراد بقوله: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أى: من هذه الأمة..

وروى عن الحسن أنه قال: أما السابقون فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين.

وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال ما ملخصه: وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا.

كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله- تعالى- بعد ذلك: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.

وظاهر القرآن يفيد في هذا المقام: أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية.

والآخرين فيهما من هذه الأمة.

وأن قوله- تعالى-: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ في السابقين خاصة.

وأن قوله- تعالى-: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ في أصحاب اليمين خاصة.

وذلك لشمول الآيات لجميع الأمم، إذ قوله- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً خطاب لجميع أهل المحشر، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين. منهم من هو من الأمم السابقة، ومنهم من هو من هذه الأمة..

ولا غرابة في أن يكون السابقون من الأمم السابقة أكثر.. لأن الأمم الماضية أمم كثيرة..

وفيهم أنبياء كثيرون.

ص: 163

وأما أصحاب اليمين من هذه الأمة، فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جمع الأمم، لأن الثلة تتناول العدد الكثير وقد يكون أحد العددين.. الكثيرين، أكثر من الآخر، مع أنهما كلاهما كثير.

ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير. لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة.. «1» .

ثم بين- سبحانه- ما أعده لهؤلاء السابقين بالخيرات من عطاء كريم، فقال: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ.

والسرر: جمع سرير، وهو ما يستعمله الإنسان لنومه أو الاتكاء عليه في جلسته.

والموضونة: أى المنسوجة بالذهب نسجا محكما، لراحة الجالس عليها ولتكريمه. يقال:

وضن فلان الغزل يضنه، إذا نسجه نسجا متقنا جميلا.

أى: مستقرين على سرر قد نسجت أطرافها بالذهب وبما يشبهه، نسجا بديعا يشرح الصدر. فقوله: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ حال من المقربين..

ومثله قوله: مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أى: مضطجعين عليها اضطجاع الذي امتلأ قلبه بالراحة، وفراغ البال من كل ما يشغله، وقد قابل وجه كل واحد منهم وجه الآخر، ليتم سرورهم ونعيمهم، إذ تقابل وجوه الأحباب يزيد الأنس والبهجة.

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أى: يدور عليهم من أجل خدمتهم غلمان، شبابهم باق لا يتغير، وهيئتهم الجميلة على حالها لا تتبدل، فهم دائما على تلك الهيئة المنعوتة بالشباب والمنظر الحسن.

بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أى: يطوفون عليهم، بأكواب أى: بأقداح لا عرى لها، وأباريق، أى: وبأوان ذات عرا وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أى: وبإناء مملوء بالخمر الكثير الجاري فقوله مَعِينٍ من المعن بمعنى الكثرة.

لا يُصَدَّعُونَ عَنْها.. أى لا يصيبهم صداع أو تعب بسبب شرب هذه الخمر. فعن هنا بمعنى باء السببية.

قوله: وَلا يُنْزِفُونَ أى: ولا تذهب الخمر عقولهم، كما تفعل خمر الدنيا بشاربيها، مأخوذ من النزف، بمعنى اختلاط العقل.

(1) راجع أضواء البيان ج 7 ص 719 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

ص: 164

وقوله: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أى: ويطاف عليهم بفاكهة يتلذذون بأكلها، وهذه الفاكهة تأتيهم من كل نوع، على حسب ما يريدون ويشتهون.

وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ مما يحبونه ويختارونه من هذه اللحوم الطيبة المحببة إلى النفوس، يطاف عليهم به- أيضا- وقوله: وَحُورٌ عِينٌ معطوف على قوله وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أى: ويطوف عليهم- أيضا- نساء عيونهن شديدة البياض والسواد في سعة وجمال.

وهؤلاء الحور العين كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أى: يشبهن اللؤلؤ المكنون الذي لم تلمسه الأيدى، في صفاء بياضهن، وفي شدة جمالهن.

وقوله- سبحانه-: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بيان للأسباب التي أوصلتهم إلى هذا النعيم الكبير..

ولفظ جَزاءً منصوب على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف، أى: أعطيناهم هذا العطاء الجزيل، جزاء مناسبا بسبب ما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال صالحة.

قوله- تعالى-: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً تتميم للنعم التي أنعم- سبحانه- عليهم بها في الجنة.

واللغو: الكلام الساقط الذي لا فائدة منه، ولا وزن له. يقال: لغا فلان يلغو. إذا قال كلاما يلام عليه.

والتأثيم: مصدر إثم، إذا نسب غيره إلى الإثم وفعل ما لا يليق.

أى: أن هؤلاء المقربين لا يسمعون في الجنة كلاما لا يعتد به، ولا يسمعون- أيضا- كلاما سيئا أو قبيحا، بأن ينسب بعضهم إلى بعض ما لا يليق به، وإنما الذي يسمعونه هو الكلام الطيب المشتمل على الأمان المتكرر، والتحية الدائمة.

ولفظ سَلاماً الأول، بدل من قوله قِيلًا أو نعت له.. أى: سالما من العيوب.

والتكرير لهذا اللفظ القصد منه التأكيد، والإشعار بكثرة تحيتهم بهذا اللفظ الدال على المحبة والوئام.

أى: لا يسمعون في الجنة إلا سلاما إثر سلام، وتحية في أعقاب تحية، ومودة تتلوها مودة.

والاستثناء منقطع، لأن السلام لا يندرج تحت اللغو، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، وقِيلًا بمعنى: قولا، وهو منصوب على الاستثناء..

ص: 165