الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تُكَذِّبانِ
لأن كل آية قد اشتملت على نعمة أو نعم عظيمة من شأن العاقل أن يشكر الله- تعالى- عليها شكرا جزيلا.
ثم واصلت السورة حتى نهايتها، حديثها عن النعم التي منحها- سبحانه- لمن خاف مقام ربه، فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
وقوله- سبحانه-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ.
ولفظ دون هنا يحتمل أنه بمعنى غير. أى: ولمن خاف مقام ربه جنتان، وله- أيضا- جنتان أخريان غيرهما، فهو من باب قوله- سبحانه- لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ.
قالوا: ويشهد لهذا الاحتمال. أن الله- تعالى- قد وصف هاتين الجنتين بما يقارب وصفه للجنتين السابقتين، وأن تكرير هذه الأوصاف من باب الحض على العمل الصالح الذي يوصل الى الظفر بتلك الجنات، وما اشتملت عليه من خيرات.
ويحتمل أن لفظ دون هنا: بمعنى أقل، أى: وأقل من تلك الجنتين في المنزلة والقدر، جنتان أخريان..
وعلى هذا المعنى سار جمهور المفسرين، ومن المفسرين الذين ساروا على هذا الرأى الإمام ابن كثير، فقد قال- رحمه الله هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة، بنص القرآن، فقد قال- تعالى-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ..
فالأوليان للمقربين، والأخريان: لأصحاب اليمين..
والدليل على شرف الأولين على الأخريين وجوه:
أحدها: أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء، ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ وهذا ظاهر في شرف المتقدم، وعلوه على الثاني.
وقال هناك ذَواتا أَفْنانٍ وهي الأغصان، أو الفنون في الملاذ: وقال هاهنا مُدْهامَّتانِ أى: سوداوان من شدة الري من الماء.. «1» .
وقال الإمام القرطبي: فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين، كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟.
قيل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه. إلا أن الخائفين مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد منزلة في الخوف من الله- تعالى-، والجنتان الأخريان لمن قصرت حاله في الخوف من الله- تعالى- «2» .
وقال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ وخبر أى: ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان والأكثرون على أن الأوليين للسابقين، وهاتين لأصحاب اليمين
…
وقوله: مُدْهامَّتانِ صفة للجنتين.. أى: هما شديدتا الخضرة، والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري.. «3» .
ثم فصل- سبحانه- أوصاف هاتين الجنتين فقال: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
أى:
فوارتان بالماء الذي لا ينقطع منهما من النضخ وهو فوران الماء من العيون مع حسنه وجماله.
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وعطف- سبحانه- النخل والرمان على الفاكهة مع أنهما منها، لفضلهما، فكأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران.
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 279.
(2)
راجع تفسير القرطبي ج 17 ص 184.
(3)
تفسير الآلوسى ج 27 ص 121.
أو- كما يقول صاحب الكشاف-: لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ولذا قال أبو حنيفة- رحمه الله إذا حلف لا يأكل فاكهة، فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث
…
«1» .
والضمير في قوله- تعالى-: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ يعود إلى الجنات الأربع:
الجنتين المذكورتين في قوله- تعالى-: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ والجنتين المذكورتين هنا في قوله- سبحانه-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ.
ولفظ خَيْراتٌ صفة لموصوف محذوف. أى: نساء خيرات حسان.
أى: في هذه الجنات نساء فاضلات الأخلاق، حسان الخلق والخلق.
قال الجمل: قوله: خَيْراتٌ فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين- يقال: امرأة خيرة، وأخرى شرة، والثاني. أنه جمع خيرة المخفف من خيرة بالتشديد، ويدل على ذلك قراءة خيرات- بتشديد الياء.. «2» .
وقوله حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ بدل من خيرات. والحور: جمع حوراء، وهي المرأة ذات الحور، أى: ذات العين التي اشتد بياضها واشتد سوادها في جمال وحسن..
ومقصورات: جمع مقصورة أى: محتجبة في بيتها. قد قصرت نفسها على زوجها
…
فهي لا تجرى في الطرقات.. بل هي ملازمة لبيتها، وتلك صفة النساء الفضليات اللاتي يزورهن من يريدهن، أما هن فكما قال الشاعر:
ويكرمها جاراتها فيزرنها
…
وتعتل عن إتيانهن فتعذر
أى: في تلك الجنات نساء خيرات فضليات جميلات مخدرات. ملازمات لبيوتهن، لا يتطلعن إلى غير رجالهن..
هؤلاء النساء لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أى: لم يلمسهن ويباشرهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ.
أى: لم يجامعهن أحد لا من الإنس ولا من الجن قبل الرجال الذين خصصهن الله- تعالى- لهم..
وقوله: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ
…
حال من قوله- تعالى-:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ....
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 50.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 266.
والرفرف: مأخوذ من الرّف بمعنى الارتفاع، وهو اسم جمع واحده رفرفة، أو اسم جنس جمعى وخُضْرٍ صفة له..
والعبقري: وصف لكل ما كان ممتازا في جنسه. نادر الوجود في صفاته والمراد به هنا الثوب الموشى بالذهب، والبالغ النهاية في الجودة والجمال..
قال القرطبي: العبقري: ثياب منقوشة تبسط.. قال القتيبي: كل ثوب وشى عند العرب فهو عبقري. وقال أبو عبيد: هو منسوب الى أرض يعمل فيها الوشي..
ويقال: عبقر قرية باليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الأنبارى: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: في عمر ابن الخطاب: فلم أر عبقريا يفرى فريه.. «1» .
أى: هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم، قد أسكناهم بفضلنا الجنات العاليات حالة كونهم فيها على الفرش الجميلة المرتفعة. وعلى الأبسطة التي بلغت الغاية في حسنها وجودتها ودقة وشيها..
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ.
أى: جل شأن الله- تعالى-، وارتفع اسمه الجليل عما لا يليق بشأنه العظيم، فهو- عز وجل صاحب الجلال. أى: العظمة والاستغناء المطلق، والإكرام. أى: الفضل التام، والإحسان الذي لا يقاربه إحسان.
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الرحمن» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الدوحة- قطر صباح الأحد 6 من رجب 1406 هـ 16 من مارس 1986 م.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 192.