الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحلامكم لسقام الجهل شافية
…
كما دماؤكم يشفى بها الكلب
وقول ابن المعتز: (الكامل -ق- المتدارك)
وكأن حمرة لونها من خده
…
وكأن طيب نسيمها من نشره
حتى إذا صب المزاج تبسمت
…
عن ثغرها فحسبته من ثغره
ما زال ينجز لي مواعيد عينه
…
فمه، وأحسب ريقه من خمره
وقول الصنوبري: (الكامل -ق- المتدارك)
ما أخطأت نوناته من صدغه
…
شبها، ولا ألفاته من قده
فكأنما أنقاسه من شعره
…
وكأنما قرطاسه من جلده
1-
إضاءة: وكل معنى فرع عن معنى فقد يكون واقعا معه في حيز واحد، وقد يكون بينهما تباين في ذلك، وقد يكون المأخذ فيهما واحدا، وقد يكون متخالفا، وقد يكون أحدهما موجها من بعض جهات التوجيه نحو النسب الإسنادية على ما وجه غليه الآخر، وقد يكون أحدهما موجها إلى غير ما وجه إليه الآخر، ومن ذلك قول محمد بن وهيب:(الكامل -ق- المتراكب)
طللان طال عليهما الأمد
…
درسا فلا علم ولا نضد
لبسا البلى، فكأنما وجدا
…
بعد الأحبة مثل ما أجد
2-
تنوير: وينبغي أن يكون النقلة من أحد المعنيين على الآخر فيما قصد فيه التفريع متناسبة، وأن يكون المعنى الثاني مما يحسن اقترانه بالأول ويفيد الكلام حسن موقع من النفس. وما وقع من التفريع غير متناسب الوضع ولا متشاكل الاقتران لم يحس، وكان من قبيل التذييل والحشو الذي لا يحسن.
3-
إضاءة: ولا ينبغي أن يذهب بالمعاني مذهب التفريع في قصيدة بجملتها، ولا أن يتابع ذلك في جملة فصول من القصيد، بل يلمع بذلك في بيت أو فصل غير طويل. وإن وقع ذلك في فصول أو أبيات غير متصلة، بحيث تقع المراوحة بينه وبين غيره من الصناعات، لم يكن مكروها، إذ يتوخى في جميع ذلك تناسب الانتقالات وحسن الاقترانات. وكلما كان الكلام مقتصرا به على فن واحد من الإبداعات، وإن كان حسنا في نفسه، لم يحسن لأن ذلك مؤد على سآمة النفس، فإن شيمتها الضجر مما يتردد والولع بما يتجدد.
المنهج الثالث، في الإبانة عما به تتقوم صنعتا الشعر والخطابة من التخييل والإقناع
، والتعريف بأنحاء النظر في كلتا الصنعتين، من جهة ما به تقومت، وما به تعتبر أحوال المعاني في جميع ذلك، من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.
أ?- معلم دال على طرق العلم بما تتقوم به صناعة الشعر من التخييل، وما به تتقوم
صناعة الخطابة من الإقناع، والرفق بين الصناعتين في ذلك.
لما كان كل كلام يحتمل الصدق والكذب غما أن يرد على جهة الإخبار والاقتصاص وإما أن يرد على جهة الاحتجاج والاستدلال، وكان اعتماد الصناعة الخطابية في أقاويلها على تقوية الظن لا على إيقاع اليقين -اللهم إلا أن يعدل الخطيب بأقاويله عن الإقناع إلى التصديق، فإن للخطيب أن يلم بذلك في الحال بين الأحوال من كلامه- واعتماد الصناعة الشعرية على تخييل الأشياء التي يعبر عنها بالأقاويل وبإقامة صورها في الذهن بحسن المحاكاة، وكان التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن، لأن الشيء قد يخيل على ما هو عليه وقد يخيل على غير ما هو عليه، وجب أن تكون الأقاويل الخطبية -اقتصادية كانت أو احتجاجية- غير صادقة ما لم يعدل بها عن الإقناع إلى التصديق، لأن ما يتقوم به وهو الظن مناف لليقين، وأن تكون الأقاويل الشعرية اقتصادية كانت أو استدلالية غير واقعة أبدا في طرف واحد من النقيضين اللذين هما الصدق والكذب، ولكن تقع صادقة وتارة كاذبة، إذ ما تتقوم به الصناعة الشعرية وهو التخييل غير مناقض لواحد من الطرفين. فلذلك كان الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة، وليس يعد شعرا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيل.
1-
إضاءة: ولما كانت الأقاويل الصادقة لا تقع في الخطابة بما هي خطابة إلا بأن يعدل بها عن طريقتها الأصلية وكان ما وقع منها في الشعر غير مقصود من حيث هو صدق كما لا تكون الأقاويل الكاذبة فيها مقصودة من حيث هي كذب بل من حيث هي أقاويل مخيلة رأيت ألا أشتغل بحصر الطرق التي بها يماز القول الصادق من غيره وتفصيل القول في ذلك، فإن ذلك مخرج على محض صناعة المنطق. وإن كنت قد أشرت إلى الأنحاء التي يتعرف منها ذلك إشارة إجمالية لأرشد الناظر في هذه الصناعة إلى جهات الفحص عن ذلك، وأدله على مظان التماسه، فإن الخطيب واجب عليه والشاعر متأكد في حقه أن يعرف الوجوه التي تصير بها الأقاويل الكاذبة موهمة أنها صدق.
2-
تنوير: وإنما يصير القول الكاذب مقنعا وموهما أنه حق بتمويهات واستدراجات ترجع إلى القول أو المقول له. وتلك التمويهات والاستدراجات قد توجد في كثير من الناس بالطبع والحنكة الحاصلة باعتياد المخاطبات التي يحتاج فيها إلى تقوية الظنون في شيء ما أنه على غير ما هو عليه بكثرة سماع المخاطبات في ذلك والتدرب في احتذائها.
3-
إضاءة: والتمويهات تكون في ما يرجع على الأقوال. والاستدرجات تكون بتهيؤ المتكلم بهيئة من يقبل قوله، أو باستمالته المخاطب واستلطافه له بتزكيته وتقريظه، أو باطبائه إياه لنفسه وإحراجه على خصمه حتى يصير بذلك كلامه مقبولا عند الحكم، وكلام خصمه غير مقبول.
4-
تنوير: والتمويهات تكون بطي محل الكذب من القياس عن السامع، أو باغتراره إياه ببناء القياس على مقدمات توهم أنها صادقة لاشتباهها بما يكون صدقا، أو بترتيبه على وضع يوهم أنه صحيح لاشتباهه بالصحيح، أو بوجود الأمرين معا في القياس أعني أن يقع فيه الخلل من جهتي المادة والترتيب معا، أو بإلهاء السامع عن تفقد موضع الكذب وإن كان إلى حيز الوضوح أقرب منه على حيز الخفاء بضروب من الإبداعات والتعجيبات تشغل النفس عن ملاحظة محل الكذب والخلل الواقع في القياس من جهة مادة أو من جهة ترتيب أو من جهة المادة والترتيب معا.
5-
إضاءة: فلما كان كثير من التمويهات التي تكون من غير جهة اشتغال النفوس بالتعجيبات والإبداعات البلاغية عن تفقد محل الكذب يقصدها كثير من الناس بطباعهم ويتهدون إليها بأفكارهم -وإن كان تحصيل القوانين في حصر طرق تلك التمويهات أنفع شيء للخطيب في التوصل إلى الملكة الخطابية- رأيت ألا أشتغل بحصر تلك الطرق عما هو أنسب إلى هذه الصناعة من ذلك عن إبانة وجوه النظر البلاغي في الأقاويل الخطابية والشعرية من جهة ما يخص كلتا الصناعتين ويعمهما، وأن نشير في ما أشرنا إليه من ذكر طرق التمويهات الخطابية على ما أصله أهل صناعة المنطق كابن سينا وغيره.
6-
تنوير: وليس ترد المقاييس في الأقاويل الشعرية والخطابية المقصود بها البلاغة إلا محذوفة إحدى المقدمتين أو النتيجة في الحمليات، ومحذوفة الاستثناءات والنتائج في الشرطيات المتصلات، لأن القياس كلام تلازمت فيه القضايا فصار مسئما بطوله مع ما يقع فيه من تكرار الأسوار والحد الأوسط وأجزاء النتيجة. وكذلك المقدمات والتوالي في الشرطيات المتصلات يقع فيهما وفيما يتصل بهما التكرار أيضاً بما يعاد من أجزائهما في الاستثناء والنتيجة. فلما كان القول القياسي قد لزمه الطول والتكرار لم يكن لهم بد، فيما قصدوا به البلاغة من كلامهم، من أن يعدلوا مقداره ويميطوا تكراره. فإن الكلام إذا خف واعتدل حسن موقعه من النفس، وإذا طال وثقل اشتدت كراهة النفس له.
7-
إضاءة: وليس يحمد في الكلام أيضاً أن يكون من الخفة بحيث يوجد فيه طيش، ولا من القصر بحيث يوجد فيه انبتار، لكن المحمود من ذلك ما له حظ من الرصانة لا تبلغ به إلى الاستثقال، وقسط من الكمال لا يبلغ به إلى الإسآم والإضجار. فإن الكلام المتقطع الأجزاء المنبتر التراكيب غير ملذوذ ولا مستحلى، وهو شبه الرشفات المتقطعة التي لا تروي غليلا. والكلام المتناهي في الطول يشبه استقصاء الجرع المؤدي إلى الغصص، فلا شفاء مع التقطيع المخل ولا راحة مع التطويل الممل، ولكن خير الأمور أوساطها.
8-
تنوير: ولا يحذف من المقاييس إلا ما يكون في قوة الكلام دليل عليه من مقدمة أو نتيجة أو قضية مستثناة. وهذا المحذوف قد يكون القصد به طي المقدمة التي يظهر فيها الكذب، وقد تكون مقدمات القياس كلها صادقة وتطوى إحداها لما ذكرته من قصد التخفيف خاصة.
9-
إضاءة: وقد يكون اقتضاء ما أبقي من القياس لما أميط عنه اقتضاء صحيحا. وقد يكون غير مقتض له في الحقيقة ويظهر في بادئ الرأي أنه مقتض له على الصحة. وأكثر ما يكون هذا في الاستثناءات الشرطية نحو قول امرئ القيس: (الطويل -ق- المتدارك)
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة
…
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
ففي قوة هذا الكلام، على ما يترامى إليه غرض القول، أن يكون الاستثناء نقيض المقدم والنتيجة نقيض التالي، أي لكنك لم تسؤك مني خليقة فيوهم أنه منتج: فلا تسلي ثيابي من ثيابك. وهذا استثناء وإنتاج غير صحيحين، وإنما يستعمل هذا في الخطابة على جهة الإقناع. وإنما تصح نتيجة الشرطية المتصلة إذا استثني فيها عين المقدم فأنتج عين التالي، أو استثني نقيض التالي فأنتج نقيض المقدم. والمقدم هي القضية التي تلي حرف الشرط، والتالي هي القضية التي تكون جوابا للشرط.
10-
تنوير: فإذا كان الاستثناء والإنتاج على هذا النحو الذي ذكرته آخرا وكانت القضايا صحيحة مسلمة كان القياس صحيحا وكان لزوم النتيجة لما تقدمها من أجزاء القياس واجبا، لأن القياس قول مؤلف من مقدمات وقضايا إذا كانت مسلمة ورتبت الترتيب الذي يجب في القياس الصحيح لزم عن ذلك القول المرتب لذاته قول آخر يسمى نتيجة.
11-
إضاءة: فما كان من الأقاويل القياسية مبنيا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولا شعريا، سواء كانت مقدماته برهانية أو جدلية أو خطابية يقينية أو مشتهرة أو مظنونة. وما لم يقع فيه من ذلك بمحاكاة فلا يخلو من أن يكون مبنيا على الإقناع وغلبة الظن خاصة، أو يكون مبنيا على غير ذلك. فإن كان مبنيا على الإقناع خاصة كان أصيلا في الخطابة دخيلا في الشعر سائغا فيه. وما كان مبنيا على غير الإقناع مما ليس فيه محاكاة فإن وروده في الشعر والخطابة عبث وجهالة سواء كان ذلك صادقا أو مشتهرا أو واضح الكذب.
12-
تنوير: وأكثر ما يستدل في الشعر بالتمثيل الخطابي. وهو الحكم على جزئي بحكم موجود في جزئي آخر يماثله، نحو قول حبيب:(البسيط -ق- المتراكب)
أخرجتموه بكره من سجيته
…
والنار قد تنتضى من ناضر السلم
فالأقاويل التي بهذه الصفة خطابية بما يكون فيها من إقناع، شعرية بكونها متلبسة بالمحاكاة والخيالات.
13-
إضاءة: والاستدلالات الواقعة في الشعر والأمثال المضروبة فيه إنما تجيء تابعة لبعض ما في الكلام، أو لما قد أشير إليه مما هو خارج عنه. فهي إما محاكاة لمتنوعاتها، أو تخييلات فيها أو من أجلها. فكثير من الأمثال أيضاً يكون قولا شعريا، ويكون منها ما هو قول حق، ومنها ما ليس بحق كما كان ذلك في المحاكاة والاستدلالات.
14-
تنوير: وإنما اتسع في المحاكيات الشعرية، على هذه الأنحاء التي أشرت غليها وعلى ما نذكره بعد في أصناف المحاكيات وكيفيات التصرف فيها، في لسان العرب خاصة. فلذلك وجب أن توضع لها من القوانين أكثر مما وضعت الأوائل.
فإن الحكيم أرسطاطاليس، وإن كان اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونانية فيه ونبه على عظيم منفعته وتكلم في قوانين عنه، فإن أشعار اليونانية إنما كانت أغراضاً محدودة في أوزان مخصوصة، ومدار جل أشعارهم على خرافات كانوا يضعونها يفرضون فيها وجود أشياء وصور لم تقع في الوجود، ويجعلون أحاديثها أمثالا وأمثلة لما وقع في الوجود. وكانت لهم أيضاً أمثال في أشياء موجودة نحوا من أمثال كليلة ودمنة ونحوا مما ذكره النابغة من حديث الحية وصاحبها. وكانت لهم طريقة أيضاً - وهي كثيرة في أشعارهم - يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه، وتنقل الدول وما تجرى عليه أحوال الناس وتؤول إليه.
فأما غير هذه الطرق، فلم يكن لهم فيها كبير تصرف، كتشبيه الأشياء بالأشياء، فإن شعر اليونانيين ليس فيه شيء منه، وإنما وقع في كلامهم التشبيه في الأفعال لا في ذوات الأفعال.