الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
تنوير: ويستحسن أن يقدم في صدر المصراع ما يكون لطيفا محركا بالنسبة إلى غرض الكلام كالمناجاة والتذكر في النسيب وما جرى مجراهما، وإن قرن ذلك بمعنى من المعاني التي هي أحوال تعتري الإنسان كالتعجب والتشكك نحو قل حبيب:(البسيط -ق- المتراكب)
يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا
وقول المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)
أتراها لكثرة العشاق
…
تحسب الدمع خلقة في المآقي
كان ذلك منزعا بديعا ومأخذا حسنا.
5-
إضاءة: ويجب أن يكون المصراع الثاني مناسبا للمصارع الأول في حسن عبارته وتمامها وشرف معناه بالجملة، ويكون مقطعه على ما ذكرته وأشرت إليه في مقطع المصراع الأول. فأما صدر المصراع الثاني فلا يشترط فيه كثير مما يشترط فيما جاء في صدر المصراع الأول، وإنما حكم صدر المصراع الثاني حكم الألفاظ الواقعة حشوا. واعني بالحشو هنا ما ليس بمبدأ ولا نهاية قد تميز كلاهما بأحكام تخصه.
فهذا إلماع بما يجب في المطالع على الرأي الأول.
6-
تنوير: فأما ما يجب في المقاطع على ذلك الاعتبار وهي أواخر القصائد فأن يتحرى أن يكون ما وقع فيها من الكلام كأحسن ما اندرج في حشو القصيدة، وأن يتحرز فيها من قطع الكلام على لفظ كريه أو معنى منفر للنفس عما قصدت إمالتها إليه أو مميل لها إلى ما قصدت تنفرها عنه. وكذلك يتحفظ في أول البيت الواقع مقطعا للقصيدة من كل ما يكره ولو ظاهره وما توهمه دلالة العبارة أولا وإن رفعت الإبهام آخرا ودلت على معنى حسن، ومن هذا قول المتنبي:(البسيط -ق- المتراكب)
فلا بلغت بها إلا إلى ظفر
…
ولا وصلت بها إلا إلى أمل
وإنما وجب الاعتناء بهذا الموضع لأنه منقطع الكلام وخاتمته.
فالإساءة فيه معفية على كثير من تأثير الإحسان المتقدم عليه في النفس. ولا شيء أقبح من كدر بعد صفو وترميد بعد إنضاج.
فهذا ما يجب في المطالع والمقاطع بهذا الاعتبار على المذهب المختار.
7-
إضاءة: ومن الشعراء من يأخذ فيا لنقيض من هذا فلا يعتني بالمبدأ ولا المقطع. فختم كيفما اتفق ويبدأ كيفما تيسر له. ويعتمد هذا من يريد إعفاء خاطره، أو من يريد أن يظهر أنه لم يعتمد الروية والتنقيح في كلامه وإنما أخذ الكلام أخذا اقتضابيا على الصور التي عن له فيها أولا. فلا يحفل بعدم التصريع ولا يبالي بوقوع خرم في صدر البيت إن وقع له، ليوهم بذلك أنه أعفى قريحته وأن في قوته أن يقول أحسن مما قال.
8-
تنوير: فأما ما يجب في المطالع والمقاطع على رأي من يقول أنها أول الأبيات وأواخرها فإن مطالع الأبيات يجب أن تكون سالمة من الخرم، غير مفتقرة إلى ما قبلها افتقار يجعلها غير مستقلة بأنفسها أو في قوة المستقلة. وأما ما يستحب فيما كان منها رأس فصل أو خاتمته فإني أذكره بعد - إن شاء الله - في الكلام في تأسيس الفصول وترتيبها.
ومحاشاة مطالع الأبيات من كل ما يكره من جهتي المسموعات والمفهومات مستحبة لأنها أول ما يقرع السمع. فهي رائد ما بعدها إلى القلب. فإذا قبلتها النفس تحركت لقبول ما بعدها، وإن لم تقبلها كانت خليقة أن تنقبض عما بعدها. وعلى نحو ما يشترط فيها من جهة المسموع يشترط فيها من جهة المفهوم. فإن النفس تكون مترقبة لما يرد عليها في استئناف كل فيقبضها ما تستقبله من كراهة المسموع أو المفهوم أولا عن كثير من نشاطها بما يرد بعد. ويحسن ألا تتكرر الألفاظ الواقعة في المطالع على قرب ما أمكنت المندوحة عن ذلك.
وأما ما يجب في المقاطع التي هي أواخر الأبيات فقد ألمعنا من الكلام في ذلك بلمحة دالة وقدمنا ذروا من القول فيه، فليتصفح هنالك، وبالله التوفيق.
المنهج الثالث في الإبانة عما يجب في تقدير الفصول وترتيبها ووصل بعضها ببعض وتحسين
هيآتها، وما تعتبر به أحوال النظم في جميع ذلك من حيث يكون ملائما للنفوس أو منافراً لها.
أ- معلم دال على طرق العلم بأحكام مباني الفصول وتحسين هيئاتها ووصل بعضها ببعض
.
العم أن الأبيات بالنسبة إلى الشعر المنظم نظائر الحروف المقطعة من الكلام المؤلف، والفصول المؤلفة من الأبيات نظائر الكلم المؤلفة من الحروف، والقصائد المؤتلفة من الفصول نظائر العبارات المؤلفة من الألفاظ. فكما أن الحروف إذا حسنت حسنت الفصول المؤلفة منها إذا رتبت على ما يجب ووضع بعضها من بعض على ما ينبغي كما أن ذلك في الكلم المفردة كذلك. وكذلك يحسن نظم القصيدة من الفصول الحسان كما يحسن ائتلاف الكلام من الألفاظ الحسان إذا كان تأليفها منها على ما يجب. وكما أن الكلم لها اعتباران: اعتبار راجع إلى مادتها وذاتها، واعتبار بالنسبة إلى المعنى الذي تدل عليه، كذلك الفصول تعتبر في أنفسها وما يتعلق بهيآتها ووضعها، وتعتبر بحسب الجهات التي تضمنت الفصول الأوصاف المتعلقة بها.
وقد تقدم التعريف بالجهات وأنحائها. وأنا أخض هذا المعلم بالقول فيما يجب اعتماده في الفصول من جهة ما يرجع إلى موادها، وإلى هيآتها في أنفسها وما يجب في وضعها وترتيب بعضها من بعض. وأفرد للكلام في ما يتعلق بذلك من جهة اشتمالها على أوصاف الجهات وعلى الأقاويل المخيلة والمقنعة معرفا أقفو به هذا المعلم.
1-
إضاءة: والكلام في ما يرجع إلى ذوات الفصول وإلى ما يجب في وضعها وترتيب بعضه من بعض يشتمل على أربعة قوانين: القانون الأول: في استجادة مواد الفصول وانتقاء جوهرها.
القانون الثاني: في ترتيب الفصول والمولاة بين بعضها وبعض.
القانون الثالث: في ترتيب ما يقع في الفصول.
القانون الرابع: في ما يجب أن يقدم في الفصول وما يجب أن يؤخر فيها وتختتم به.
2-
تنوير: فأما القانون الأول في استجادة مواد الفصول وانتقاء جوهرها، فيجب أن تكون متناسبة المسموعات والمفهومات حسنة الاطراد غير متخاذلة النسج غير متميز بعضها عن بعض التمييز الذي يجعل كل بيت كأنه منحاز بنفسه لا يشمله وغيره من الأبيات بنية لفظية أو معنوية يتنزل بها منه منزلة الصدر من العجز أو العجز من الصدر. والقصائد التي نسجها على هذا مما تستطاب. وينبغي أن يون نمط نظم الفصل مناسبا للغرض. فتعتمد فيه الجزالة في الفخر مثلا والعذوبة في النسيب، وأن تكون الفصول معتدلة المقادير بين الطول والقصر. وتقصير الفصول سائغ في المقطعات والمقاصد التي يذهب بها مذهب الرشاقة، وتطويلها مستثقل في ذلك. فأما تطويل الفصول سائغ فيها ومحتمل لموافقته مقصد الكلام وكون القصيدة فيها رحب لذلك وسعة.
3-
إضاءة: فأما القانون الثاني وهو ترتيب بعض الفصول إلى بعض، فيجب أن يقدم من الفصول ما يكون للنفس به عناية بحسب الغرض المقصود بالكلام. ويكون مع ذلل متأتيا فيه حسن العبارة اللائقة بالمبدأ. ويتلوه الأهم فالأهم إلى أن تتصور التقانة ونسبة بين فصلين تدعو إلى تقديم غير الأهم على الأهم. فهناك يترك القانون الأصلي في الترتيب.
4-
تنوير: وتقديم الفصول القصار على الطوال أحسن من أن يكون الأمر بالعكس.
5-
إضاءة: فأما القانون الثالث في تأليف بعض بيوت الفصل إلى بعض فيجب أن يبدأ منها بالمعنى المناسب لما قبله، وإن تأتي مع هذا أن يكون ذلك المعنى هو عمدة معاني الفصل والذي له نصاب الشرف كان أبهى لورود الفصل على النفس، على أن كثيرا من الشعراء يؤخرون المعنى الأشرف ليكون خاتمة الفصل. فأما من يردف المحاكاة ويختمه بأشرف معاني الإقناع. وإلى هذا كان يذهب أبو الطيب المتنبي رحمه الله في كثير من كلامه.
6-
تنوير: ويحسن أن يصاغ رأي الفصل صيغة تدل على أنه مبدأ فصل، وإن تمكن مع هذا أن يناط به معنى يحسن موقعه من النفوس بالنسبة إلى الغرض كالتعجب والتمني والدعاء وتعديد العهود السوالف وما أشبه ذلك فهو أحسن.
7-
إضاءة: ويشترط في المذهب المختار أن يكون لمعنى البيت مع كون أوله مبدأ كلام ومصدرا بكلمة لها معنى ابتدائي أن يكون لمعنى البيت علقة بما قبله ونسبة إليه.