الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لما كانت الموصوفات والأوصاف وجهات انتساب بعضها إلى بعض وجهات تعلق الأغراض بها من ذوي الأغراض لا تحصى كثرة وجب أن تكون المعاني التي هي مركبة من تلك الأوصاف على حسب الأغراض أجدر بأن لا يستطاع إحصاؤها، ولكن يمكن أن ينبه على الطرق التي بها تتطرق الخواطر إليها وتتهدى منها إلى تأليفها.
فأقول: إن الأصل الذي به يتوصل إلى استثارة المعاني واستنباط تركيباتها هو التملؤ من العلم بأوصاف الأشياء وما يتعلق بها من أوصاف غيرها، والتنبه للهيئات التي يكون عليها التآم تلك الأوصاف وموصوفاتها ونسب بعضها إلى بعض أحسن موقعا من النفوس، والتفطن إلى ما يليق بها من ذلك بحسب موضع موضع وغرض غرض.
1-
إضاءة: ولاقتباس المعاني واستثارتها طريقان: أحدهما تقتبس منه لمجرد الخيال وبحث الفكر، والثاني تقتبس منه بسبب زائد على الخيال والفكر.
فالأول يكون بالقوة الشاعرة بأنحاء اقتباس المعاني وملاحظة الوجوه التي منها تلتئم، ويحصل لها ذلك بقوة التخيل والملاحظة لنسب بعض الأشياء من بعض ولما يمتاز به بعضها من بعض ويشارك به بعضها بعضا. ولكون خيالات ما في الحس منتظمة في الفكر على حسب ما هي عليه، لا يتباين فيه ما تشابه في الحس ولا يتشابه فيه ما تباين في الحس. فإذا كانت صور الأشياء قد ارتسمت في الخيال على حسب ما وقعت عليه في الوجود وكانت للنفس قوة على معرفة ما تماثل منها وما تناسب وما تخالف وما تضاد، وبالجملة ما انتسب منها إلى الآخر نسبة ذاتية أو عرضية ثابتة أو منتقلة أمكنها أن تركب من انتساب بعضها إلى بعض تركيبات على حد القضايا الواقعة في الوجود التي تقدم بها الحس والمشاهدة، وبالجملة الإدراك من أي طريق كان أو التي لم تقع لكن النفس تتصور وقوعها لكون انتساب بعض أجزاء المعنى المؤلف على هذا الحد إلى بعض مقبولا في العقل ممكنا عنده وجوده، وأن تنشئ على ذلك صورا شتى من ضروب المعاني في ضروب الأغراض.
2-
تنوير: والطريق الثاني الذي اقتباس المعاني منه بسبب زائد على الخيال هو ما استند فيه بحث الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل. فيبحث الخاطر فيما يستند إليه من ذلك على الظفر بما يسوغ له معه إيراد ذلك الكلام أو بعضه بنوع من التصرف والتغيير أو التضمين فيحيل على ذلك أو يضمنه أو يدمج الإشارة إليه أو يورد معناه في عبارة أخرى على جهة قلب أو نقل إلى مكان أحق به من المكان الذي هو فيه، أو ليزيد فيه فائدة فيتممه أو يتمم به أو يحسن العبارة خاصة أو يصير المنثور منظوما أو المنظوم منثورا خاصة. فأما من لا يقصد في ذلك إلا الارتفاق بالمعنى خاصة، من غير تأثير من هذه التأثيرات، فإنه البكي الطبع في هذه الصناعة الحقيق بالإقلاع عنها وإراحة خاطره مما لا يجدي عليه غير المذمة والتعب.
3-
إضاءة: وبحثه في ما استند إليه من تاريخ، على أن يناسب بين بعض مقاصد كلامه ويينه، فيحاكيه به أو يحيل به عليه أو يستشهد في ذلك على الحديث بالقديم، ويتصرف فيه بالجملة نحوا من التصاريف التي قدمنا ذكرها.
4-
تنوير: وبحثه فيما استند إليه من حكمة أو مثل على أن يردف معاني كلامه بها مضمنا لها بالجملة أو مشيرا إليها على جهة استدلال أو تعليل أو نحو ذلك. وقد يتصرف المثل بإبرازه في عبارة جديدة لا تشبه عبارته الأولى. وقد تختصر العبارات عن الأمثال فيورد منها في البيت الواحد المثلان والثلاثة. وقد يتمثل بالمثل على غير ما تمثل به الأول. فربما حسن موقعه من الكلام الثاني أكثر من حسنه في الكلام الأول. فإن كان موقعه في الكلام الأول أحسن عد مورده في الكلام الثاني مسيئا مقصرا. وقد يتصرف في الأمثال والتواريخ والمنظوم والنثور أنحاء من التصرف غير هذه. وإنما ذكرت من ذلك ما تيسر.
و معرف دال على طرق المعرفة بما توجد المعاني معه حاضرة منتظمة في الذهن على ما
يجب أن يكون من بعض عائد إلى بعض، وما به يكون كمال التصرف فيها وفي سائر أركان هذه الصناعة على المذهب المختار.
لما كان الشعر لا يتأتى نظمه على أكمل ما يمكن فيه إلا بحصول ثلاثة أشياء، وهي: المهيئات والأدوات والبواعث، وكانت هذه المهيئات تحصل من جهتين: 1- النشء في بقعة معتدلة الهواء، حسنة الوضع، طيبة المطاعم، أنيقة المناظر، ممتعة من كل ما للأغراض الإنسانية به علقه.
2-
والترعرع بين الفصحاء الألسنة المستعملين للأناشيد المقيمين للأوزان.
وكان المهيء الأول موجها طبع الناشئ إلى الكمال في صحة اعتبار الكلام محسن الروية في تفصيله وتقديره ومطابقة ما خارج الذهن به إيقاع كل جزء منه في كل نحو ينحى به أحسن مواقعه وأعدلها حتى يكون حسن نشء الكلام مشبها حسن نشء المتكلم به. وقد تكون النشأة حسنة على غير هذا النحو. وذلك بأن تستجد الأهوية للناشئ وترتاد له مواقع المزن ومواضع الكلإ والنبات الغض، ولا يخيم به في الموضع إلا ريثما يصوح كلأه ويغيض ماؤه، فإن الطباع الناشئة أيضاً على هذه الحال، وإن لم تكن في الأقاليم المعتدلة، جارية مجرى تلك في سداد الخاطر والتنبه لما يحسن هيآته اللفظية والمعنوي' إلى ما تهدوا. ولو اتفق النشء على هذه الحال من استجداد الأهوية وارتياد الأماكن أزمنة شبابها لأمة تكون أرضهم التي يترددون فيها أحسن الأرض بقعة وأمتعها وأعد لها هواء وكانت دواعيهم تتوفر على جعل الكلام عدة لما يراد من استثارة الأفعال الجمهورية أو كفكفتها بالإقناعات والتخييل المستعملة فيه نحو توفر دواعي العرب إلى ذلك لكانت هذه الأمة أجدر أمة أن تحوز قصبات السبق في الفصاحة وأن تستولي على الأمر الأقصى في ذلك. وأفصح قبائل العرب من شارف هذه الحال التي وصفنا أو قاربها.
والمهيئ الثاني موجه إياه لحفظ الكلام الفصيح وتحصيل المواد اللفظية والمعرفة بإقامة الأوزان.
وكانت الأدوات تنقسم إلى العلوم المتعلقة بالألفاظ والعلوم المتعلقة بالمعاني.
وكانت البواعث تنقسم إلى أطراب وإلى آمال. وكان كثير من الأطراب إنما يعتري أهل الرحل بالحنين إلى ما عهدوه ومن فارقوه، والآمال إنما تعلق بخدام الدول النافعة وجب ألا تكمل تلك المهيآت للشاعر إلا بطيب البقعة وفصاحة الأمة وكرم الدول ومعاهدة التنقل والرحلة. فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة، ولا في جودة النظم من لم يحمله على مصابرة الخواطر في إعمال الروية الثقة بما يرجوه من تلقاء الدولة، ولا في رقة أسلوب النسيب من لم تشط به عن أحبابه رحلة ولا شاهد موقف فرقة.
1-
إضاءة: ولما كان القول في الشعر لا يخلو من أن يكون وصفا أو تشبيها أو حكمة أو تاريخا احتاج الشاعر أن تكون له معرفة بنعوت الأشياء التي من شأن الشعر أن يتعرض لوصفها، ولمعرفة مجاري أمور الدنيا وأنحاء تصرف الأزمنة والأحوال، وأن تكون له قوة ملاحظة لما يناسب الأشياء والقضايا الواقعة من أشياء أخر تشبهها، وقضايا متقدمة تشبه التي في الحال.
2-
تنوير: ولا يكمل لشاعر قول على الوجه المختار إلا بأن تكون له قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة.
فأما القوة الحافظة فهي أن تكون خيالات الفكر منتظمة، ممتازا بعضها عن بعض، محفوظا كلها في نصابه. فإذا أراد مثلا أن يقول غرضا ما في نسيب أو مديح أو غير ذلك وجد خياله اللائق به قد أهبته له القوة الحافظة بكون صور الأشياء مترتبة فيها على حد ما وقعت عليه في الوجود، فإذا أجال خاطره في تصورها فكأنه اجتلى حقائقها. وكثير من خواطر الشعراء تكون معتكرة الخيالات، غير منتظمة التصور، فإذا أجال خاطره في أوصاف الأشياء وخيالاتها اشتبهت عليه واختلطت وأخذ منها غير ما يليق بمقصده وبالموضع الذي يحتاج فيه إلى ذلك.
وكان المنتظم الخيالات كالناظم الذي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة محفوظة المواضع عنده. فإذا أراد أي حجر شاء على أي مقدار شاء عمد إلى الموضع الذي يعلم أنه فيه فأخذه منه ونظمه. وكذلك من كانت خيالاته وتصوراته منتظمة متميزة فإنه يقصد بملاحظة الخاطر منها إلى ما شاء فلا يعدوه.
والمعتكر الخيالات كناظم تكون جواهره مختلطة، فإذا أراد حجرا على صفة ما تعب فيه تفتيشه، وربما لم يقع على البغية، فنظم في الموضع غير ما يليق به. والمعتكر الخيالات في هذه الحال أجدر بطول السدر لكون الأشياء التي في الحس أوضح من التي في التصور والذهن.
3-
إضاءة: والقوة المائزة هي التي بها يميز الإنسان ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض مما لا يلائم ذلك، وما يصح مما لا يصح.