الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9-
إضاءة: واعلم أن الشيء إذا حوكي بالشيء، والمقصود محاكاة أحد فعليهما بالآخر، وكان في فعل المحاكي تقصير عن فعل المحاكى به، فإنه مستساغ في الشعر أن يحاكى المقصر عنه وأن يجعل مثله أو مربيا عليه إذا كانت الزيادة في ذلك الفعل مستحسنة بالنسبة إلى ما يراد منه من منفعة أو غير ذلك. ومن هذا تشبيه الفرس بالريح والبرق.
ويجوز أن يحاكى الأعظم حالا في الفعل أو المقدار بالأحقر في ذلك أو هذا إذا كان التحقير في الأعظم مستحسنا بالنسبة إلى ما يراد منه. وكأن القسم الأول تكميل وهذا تعديل.
ح- معرف دال على طرق المعرفة بالوجوه التي لأجلها حسن موقع المحاكاة من النفس
.
لما كانت النفوس قد جبلت على التنبه لأنحاء المحاكاة واستعمالها والالتذاذ بها منذ الصبا، وكانت هذه الجبلة في الإنسان أقوى منها في سائر الحيوان -فإن بعض الحيوان لا محاكاة فيه أصلا، وبعضها فيه محاكاة يسيرة: إما بالنغم كالببغاء، وإما بالشمائل كالقرد- اشتد ولوع النفس بالتخيل، وصارت شديدة الانفعال له حتى أنها ربما تركت التصديق للتخيل. فأطاعت تخيلها وألغت تصديقها. وجملة الأمر أنها تنفعل للمحاكاة انفعالا من غير رؤية، سواء كان الأمر الذي وقعت المحاكاة فيه على ما خيلته لها المحاكاة حقيقة، أو كان ذلك لا حقيقة له فيبسطها التخييل للأمر أو يقبضها عنه. فلا تقصر في طلبه أو الهرب منه عن درجة المبصر لذلك. فيكون إيثار الشيء أو تركه طاعة للتخييل غير مقصر عن إيثاره أو تركه انقياداً للرؤية.
1-
إضاءة: ومن التذاذ النفوس بالتخيل أن الصور القبيحة المستبشعة عندما قد تكون صورها المنقوشة والمخطوطة والمنحوتة لذيذة إذا بلغت الغاية القصوى من أشبه بما هي أمثلة له، فيكون موقعها من النفوس مستلذا لا لأنها حسنة في أنفسها بل لأنها حسنة المحاكاة لما حوكي بها عند مقايستها به.
قال هذا أبو علي ابن سينا في كتاب الخطابة من كتاب الشفاء. ثم قال: "وهذا كله للمناسبة بين الصورة مثلا وما يحاكيها. وهذه المناسبات أمور في الطبيعة".
وقال ابن سينا أيضاً في كتاب الشعر من كتاب الشفاء:
"إن النفوس تنشط وتلتذ بالمحاكاة، فيكون ذلك سبباً لأن يقع عندها للأمر فصل موقع. والدليل على فرحهم بالمحاكاة أنهم يسرون بتأمل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة المتقزز منها. ولو شاهدوها أنفسها لتنطوا عنها. فيكون المفرح ليس نفس تلك الصورة ولا المنقوش بل كونها محاكاة لغيرها إذا كانت قد أتقنت.؟ ولهذا السبب ما صار التعليم لذيذاً لا إلى الفلاسفة فقط بل إلى الجمهور، لما في التعليم من المحاكاة، لأن التعليم تصوير ما للأمر في رقعة النفس. ولهذا ما يكثر سرور الناس بالصور المنقوشة بعد أن يكونوا قد أحسوا الخلق التي هذه أمثالها. فإن لم يحسوها قبل لم تتم لذتهم، بل إنما يلتذون حينئذ قريبا بما يلتذون من نفس محاكاة النقش في كيفيته ووضعه وما يجري مجراه".
ثم قال ابن سينا: "والسبب الثاني حب الناس للتأليف المتفق أو للألحان طبعا. ثم قد وجدت الأوزان مناسبة للألحان فمالت إليها النفوس وأوجدتها. فمن هاتين العلتين تولدت الشعرية".
وقد تضمن كلام ابن سينا شرطا من شروط المحاكاة لم نذكره اكتفاء بالإشارة إليه في هذا الموضوع. وهو أن الالتذاذ بالتخيل والمحاكاة إنما يكمل بأن يكون قد سبق للنفس إحساس بالشيء المخيل وتقدم لها عهد به.
وبقي أن نبسط الكلام شيئاً في تبيين ما للمحاكاة من حسن موقع من النفوس من جهة اقترانها بالمحاسن التأليفية والصيغ المستحسنة البلاغية، وهو الذي أشار إليه أبو علي ابن سينا بالتأليف المتفق.
تنوير: فأما السبب في حسن موقع المحاكاة من النفس من جهة اقترانها بالمحاسن التأليفية فهو أنه لما كان للنفس في اجتلاء المعاني في العبارات المستحسنة من حسن الموقع الذي يرتاح له ما لا يكون لها عند قيام المعنى بفكرها من غير طريق السمع، ولا عند ما يوحى إليها المعنى بإشارة، ولا عند ما تجتليه في عبارة مستقبحة، ولهذا نجد الإنسان قد يقوم المعنى بخاطره على جهة التذكر، وقد يشار له إليه، وقد يلقى إليه بعبارة مستقبحة، فلا يرتاح له في واحد من هذه الأحوال. فإذا تلقاه في عبارة بديعة اهتز له وتحرك لمقتضاه، كما أ، العين والنفس تبتهج لاجتلاء ما له شعاع ولون من الأشربة في الآنية التي تشف عنها كالزجاج والبلور ما لم تبتهج لذلك إذا عرض عليها في آنية الحنتم وجب أن تكون الأقاويل الشعرية أشد الأقاويل تحريكا للنفوس، لأنها أشد إفصاحاً عما به علقة الأغراض الإنسانية، إذا كان المقصود بها الدلالة على أعراض الشيء ولواحقه التي للآداب بها علقة.
والأقاويل غير الشعرية، وخصوصا ما قصد به التصديق والدلالة على ماهيات الأشياء، إنما تفهم منها في أكثر الأمر تلك اللواحق والأعراض على جهة الالتزام والتضمن. وليس ما يكون نصا على الشيء في تمكين إلقائه من النفس طبقا له مثل ما لا يفهم الشيء منه إلا بطريق ضمن أو لزوم.
وأيضا فإن الأقاويل الشعرية يحسن موقعها من النفوس من حيث تختار مواد اللفظ وتنتقى أفضلها وتركب التركيب المتلائم المتشاكل وتستقصى بأجزاء العبارات التي هي الألفاظ الدالة على أجزاء المعاني المحتاج إليها حتى تكون حسنة إعراب الجملة والتفاصيل عن جملة المعنى وتفاصيله، يكون التخيل كما قدمت، يجب فيه تخييل أجزاء الشيء عند تخييله حتى تتشكل جملته بتشكل أجزاء، فتقوم صورته بذلك في الخيال الذهني على حد ما هي عليه خارج الذهن، أو أكمل منها إن كانت محتاجة إلى التكميل.
وقد قال أفلاطون في كتاب السياسة له: "إنا لا نلوم مصورا إن صور صورة إنسان فجعل جميع أعضائه على غاية الحسن، فنقول له إنه ليس يمكن أن يكون إنسان على هذه الصورة، وذلك أن المثال ينبغي أ، يكون المثال".
وليس ما سوى الأقاويل الشعرية في حسن الموقع من النفوس مماثلا للأقاويل الشعرية، لأن الأقاويل التي ليست بشعرية ولا خطابية ينحى بها نحو الشعرية لا يحتاج فيها إلى ما يحتاج إليه في الأقاويل الشعرية، إذ المقصود بما سواها من الأقاويل إثبات شيء أو إبطاله أو التعريف بماهيته وحقيقته.
وإنما يثبت الشيء بغيره وربما هو خارج عنه مما له نسبة إلى ما يرجع غليه مما شأنه إذا ألفت العبارة فيه تأليفا محدودا أن ينتقل منه إليه ويصار به إلى معرفة ثباته أو ارتفاعه. وإذا عرف فإنما يعرف بقول يدل على ماهيته المشتركة والخاصة، وليس يدل على اللواحق والأعراض التي بها تشبث الآداب الإنسانية وعلقة الأغراض إلا على جهة التزم. وإذا خيل لك الشيء بالأقاويل المحاكية له فالمقصود محاكاة ما هو عليه من حسن أو قبح بأقاويل تخيل لواحقه وأغراضه التي بها علقة الأغراض، ومحاسن الشيء ومساويه راجعة غليه. فإذا حوكي الشيء بصفاته أو ما هو مثال لصفاته تصور بما يرجع إليه وبما له علقة بالأغراض مما يرجع إليه أو ما هو مثال لما يرجع إليه. وإذا قصد التعريف به أو الاستدلال عليه عرف بما ليس له علقة بالأغراض، واستدل عليه بما هو خارج عنه.
فمحصول ما عدا الأقاويل الشعرية إيقاع تعريف أو تصديق بما لا تشتد علقته بالأغراض أو لا تكون علقته بالجملة، أو مغالطة السامع وإيهامه أن ذلك واقع من غير أن يكون كذلك. ومحصول الأقاويل الشعرية تصوير الأشياء الحاصلة في الوجود وتمثيلها في الأذهان على ما هي عليه خارج الأذهان من حسن أو قبح حقيقة، أو على غير ما هي عليه تمويها وإيهاما، فأقوال دالة على ما يلحق الأشياء ويعرض لها مما هو خارج عن مقوماتها مما علقة الأغراض الإنسانية به قوية.
فالمحصول الأول كحصول العلم مثلا بامتلاء إناء أو خلوه بأن يبصر مثلا يرشح أو يوجد ثقيلا أو يبصر مكفأ ويوجد خفيفا. والمحصول الثاني وهو الذي للأقاويل الشعرية مثل ما تشف لك آنية الزجاج عن صورة ما تحويه. فلذلك صارت الأقاويل الشعرية أشد إبهاجا وتحريكا للنفوس من غيرها. فلشدة منسبة الأقاويل الشعرية للأغراض الإنسانية كانت أشد تحريكا للنفوس وأعظم أثرا فيها.
3-
إضاءة: وليست المحاكاة في كل موضع تبلغ الغاية القصوى من هز النفوس وتحريكها، بل تؤثر فيها بحسب ما تكون عليه درجة الإبداع فيها، وبحسب ما تكون عليه الهيئة النطقية المقترنة بها، وبقدر ما تجد النفوس مستعدة لقبول المحاكاة والتأثر لها.
4-
تنوير: فتحرك النفوس للأقوال المخيلة إنما يكون بحسب الاستعداد، وبحسب ما تكون عليه المحاكاة في نفسها، وما تدعم به المحاكاة وتعضد مما يزيد به المعنى تمويها والكلام حسن ديباجة من أمور ترجع إلى لفظ أو معنى أو نظم أو أسلوب. وقد ذكرت جل كليات تلك الأشياء في هذا الكتاب.
5-
إضاءة: والاستعداد نوعان: استعداد بأن تكون للنفس حال وهوى قد تهيأت بهما لأن يحركها قول ما بحسب شدة موافقته لتلك الحال والهوى كما قال المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)
وإنما تنفع المقالة في المر
…
ء، إذا وافقت هوى في الفؤاد
والاستعداد الثاني هو أن تكون النفوس معتقدة في الشعر أنه حكم وأنه غريم يتقاضى النفوس الكريمة الإجابة إلى مقتضاه بما أسلبها من هزة الارتياح لحسن المحاكاة. هكذا كان اعتقاد العرب في الشعر. فكم خطب عظيم هونه عندهم بيت! وكم خطب هين عظمه بيت آخر!. ولهذا ما كانت ملوكهم ترفع أقدار الشعراء المحسنين، وتحسن مكافأتهم على إحسانهم. وكان لغير العرب بين الأمم في القديم أيضاً من العناية بالشعر والتأثر له وحسن الاعتقاد فيه مثل ما كان للعرب. وقد قال أبو علي ابن سينا:"إنهم كانوا ينزلون الشاعر منزلة النبي فينقادون لحكمه ويصدقون بكهانته". هذا على أن العرب انتهت من إحكام الصنعة الجديرة بالتأثير في النفوس إلى ما لم تنته إليه أمة من الأمم، لاضطرارهم إلى التأنق في تأسيس مباني كلامهم وإحكام صنعته بسكناهم البيد البسابس في غير إيالة تربطهم وسياسة تضبطهم. فكانوا أخلق أمة بأن يكثر تنازعهم فيما يقيمون به معايشهم. فاتخذوا الإبل لارتياد الخصب، واتخذوا الخيل للعز والمنعة، واتخذوا الكلام المحكم نظما ونثرا للوعظ والحض على المصالح.
6-
تنوير: ولشدة حاجة العرب إلى تحسين كلامها اختص كلامها بأشياء لا توجد في غيره من ألسن الأمم. فمن ذلك تماثل المقاطع في الأسجاع والقوافي لأن في ذلك مناسبة زائدة، ومن ذلك اختلاف مجاري الأواخر، واعتقاب الحركات على أواخر أكثرها، ونياطتهم حرف الترنم بنهايات الصنف الكثير المواقع في الكلام منها لأن في ذلك تحسينا للكلم بجريان الصوت في نهاياتها، ولأن للنفس في النقلة من بعض الكلمة المتنوعة المجاري إلى بعض على قانون محدود راحة شديدة واستجدادا لنشاط السمع بالنقلة من حال إلى حال، ولها، في حسن اطراده في جميع المجاري على قوانين محفوظة قد قسمت المعاني فيها على المجاري أحسن قسمة، تأثر من جهتي التعجيب والاستلذاذ للقسمة البديعة والوضع المتناسب العجيب. فكان تأثير المجاري المتنوعة وما يتبعها من الحروف المصوتة من أعظم الأعوان على تحسين مواقع المسموعات من النفوس، وخصوصا في القوافي التي استقصت فيها العرب كل هيئة تستحسن من اقترنات بعض الحركات والسكنات والحروف المتماثلة المصوتة وغير المصوتة ببعض، وما تتنوع إليه تلك الاقترنات من ضروب الترتيب. فهذه فضيلة مختصة بلسان العرب. ولهذا قال أبو نصر:"إن الألسن العجمية متى وجد فيها شعر مقفى فإنما يرومون أن يحتذوا فيه حذو العرب. وليس ذلك موجودا في أشعارهم القديمة".
7-
إضاءة: وإنما التزمت العرب إجراء اللواحق المصوتة على أعقاب الكلم ونهاياتها على قانون قانون في موضع موضع لا يتعدى، في كل موضع منها صورة مخصوصة من المجاري (لوجهين) :
أحدهما أنها احتاجت إلى فروق بين المعاني. وقد كان يمكنها أن تجعل لذلك علامات غير اختلاف مجاري الأواخر كما فعل غيرها من الأمم، لكنها اختصرت وجعلت مجاري الأواخر، التي احتاجت إليها لتنويع مجاري القوافي والأسجاع وتحسين نهايات الكلمة بالجملة، فروقا بين المعاني، فاجتمع لها في إجراء الأواخر على ما أجرتها فائدتان. والوجه الثاني في السبب الذي لأجله التزموا إجراء الكلام على قانون قانون بحسب موضع موضع أنهم لو أجروا أواخر الكلم كيف اتفق لم يكن ذلك ملذوذا لأن ذلك أمر لا يرجع على نظام. ولجري الأمور على نظام منضبط محكم موقع عجيب من النفس بحفظ المتكلم لنظام كلامه ومقابلته بضروب هيآته ضروب هيآت المعاني اللائقة بها. ولو كان الأمر في ذلك على غير نظام لما كان للنفوس في ذلك تعجيب، ولكانت الفصاحة مرقاة غير معجزة أحدا.
8-
تنوير: ولنرجع على ما كنا بسبيله من المتكلم فيما تكون عليه النفس من استعداد لقبول المحاكاة والتأثر لها أو غير ذلك. فنقول: إن الاستعداد الذي يكون بانطواء السامع على هوى يكون غرض الكلام المخيل موافقا له فينفعل له بذلك أمر موجود لكثير من الناس في كثير من الأحوال. وأما الاستعداد الذي يكون بأن يعتقد فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله فإنه معدوم بالجملة في هذا الزمان، بل كثير من أنذال العالم -وما أكثرهم! - يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة. وكان القدماء، من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيها ضد ما اعتقده هؤلاء الزعانفة، على حال قد نبه عليها أبو علي ابن سينا فقال:"كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي، فيعتقد قوله ويصدق حكمه، ويؤمن بكهانته" فانظر إلى تفاوت ما بين الحالين: حال كان ينزل فيها منزلة أشرف العالم وأفضلهم، وحال صار ينزل فيها منزلة أخس العالم وأنقصهم! 9- إضاءة: وإنما هان الشعر على الناس هذا الهون لعجمة ألسنتهم واختلال طباعهم. فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه المحركة جملة فصرفوا النقص إلى الصنعة، والنقص بالحقيقة راجع إليهم وموجود فيهم، ولأن طرق الكلام اشتبهت عليهم أيضا. فرأوا أخساء العالم قد تحرفوا باعتفاء الناس واسترفاد سواسية السوق بكلام صوروه في صورة الشعر من جهة الوزن والقافية خاصة، من غير أن يكون فيه أمر آخر من الأمور التي بها يتقوم الشعر. وكأن منزلة الكلام الذي ليس فيه إلا الوزن خاصة من الشعر الحقيقي منزلة الحصير المنسوج من البردي وما جرى مجراه من الحلة المنسوجة من الذهب والحرير، لم يشتركا إلا في النسج كما لم يشترك الكلامان إلا في الوزن.
ولكثرة القائلين المغالطين في دعوى النظم وقلة العارفين بصحة دعواهم من بطلاهم لم يفرق الناس بين المسيء المسف إلى الاسترفاد بما يحدثه وبين المحسن المرتفع عن الاسترفاد بالشعر. فجعلوا قيمتهما متساوية، بل ربما نسبوا إلى المسيء إحسان المحسن وإلى المحسن إساءة المسيء. فصارت نفوس العارفين بهذه الصنعة بعض المعرفة أيضاً تستقذر التحلي بهذه الصناعة، إذ نجسها أولئك الأخساء واشتبه على الناس أمرهم وأمر أضدادهم، فأجروهم مجرى واحدا من الاستهانة بهم. فالمعرة لا شك منسحبة على الرفيع في هذه الصنعة بسبب الوضيع. فلذلك هجرها الناس، وحقها أن تهجر.
10-
تنوير: ولأن النفوس أيضاً قد اعتقدت أن الشعر كله زور وكذب على ما رآه قوم ابن سينا رادا عليهم. وكان يجب على هؤلاء إن كان لهم علم بالشعر ألا يحملهم الحسد فيما قصرت عنه طباعهم على أن يتكلموا في ذلك بغير تحقيق. وكثيرا ما يذم الإنسان ما منعه، شيمة ثعالية، فيحملهم الحسد على الغض من الشعر ومن أهله بإخراجه من الحقائق جملة، وإن كانوا ممن ليس لهم به علم، وما أجدرهم أيضاً بهذا! فكان يجب عليهم أن يتعلموا أو لا يتكلموا فيما لم يعملوا. فالناس إذا اعتقدوا هذا الاعتقاد كانوا خلفاء بأن يأخذوا أنفسهم بألا تتحرك للشعر ولا تهتز غليه. وأنت إذا نظرت من تعلم منه شيمة حسد من الكهول والشيوخ الذين يئسوا من البلاغة في النظم والنثر وجدته إذا أنشدته شعرا حسنا إما شديد الحبوس مربد الوجه لشدة الاغتياط، وإما باديا فيه يسير من الهزة وظاهرا منه أنه يقمع نفسه ويمنعها تسريح العنان في الهزة لئلا يسر بذلك المنشد ولاسيما إن كان الشعر له. فأما الأحداث فمثل هذا الحسد فيهم قليل لأنهم لم يقطعوا يأسهم من إدراك البلاغة، وأيضا فإنهم لا يطالبون أنفسهم في السن الحديثة من الاستكمال والأنفة من النقص في المعارف بما طالب به أنفسهم أولئك.
11-
إضاءة: وربما قال قائل: إذا كانت الأقاويل الشعرية منها ما يخيل الشيء ويمثله نفسه بتعرف صورة الشيء مما أعطاه ومثله القول المخيل، كالذي يحاكي بالدمية صورة امرأة فتعرف صفاتها بها، ومنها ما يترك فيه المعنى المخيل للشيء ويخيل بما يكون مثالا لذلك المعنى، كالذي يتخذ مرآة فيقابل الدمية بها فيريك تمثالها فتعرف أيضاً صورة الشيء المحاكى بالدمية بالتمثال الذي يبدو للدمية في المرآة. وقد رأينا من يرى الدمية أو تمثالها في المرآة لا يتحرك لها ولا لتمثالها بنسبة مما كان يتحرك لرؤية الشخص الذي حوكيت صورته بالدمية. فيجب على هذا أن لا يكون التحرك لما يتخيل من الشعر بنسبة من التحرك لمشاهدة الأشياء التي خليت. وأنتم تقولون إن الأقاويل الشعرية ربما كان التحرك لما يتخيل من محاكاتها أشد من التحريك لمشاهدة الشيء الذي حوكي، وابتهاج النفس بما تتخيله من ذلك فوق ابتهاجها بمشاهدة المخيل. فيقال له أولا: إن الدمية والشخص الذي صورت على صورته يختلف اعتبارهما في تحريك النفوس. فالدمية تحركها بالتعجيب من حسن محاكاتها وإبداع الصنعة في تقديرها على ما حكي بها، والشخص الذي هو تمثال له إن كان مستحسنا فإنه يحرك الذي هي تمثال له من هذا الطريق، بل الأمر في الأكثر على ذلك. والقول المخيل قل ما يخلو من التعجيب، بل كأنه مستصحب له من اقل ما يمكن من ذلك في القول المخيل على أكثر ما يمكن. والتعجيب في القول المخيل يكون إما من جهة إبداع محاكاة الشيء وتخييله كما كان ذلك في الدمية، ويكون من جهة كون الشيء المحاكي من الأشياء المستغربة والأمور المستطرفة. وإذا وقع التعجيب من الجهتين المذكورتين على أتم ما من شأنه أن يوجد فيهما فتلك الغاية القصوى من التعجيب. وللنفوس على ما بلغ هذه الغاية تحريك شديد.
12-
تنوير: ثم يقال لمن اعترض بأن محاكاة الشيء يجب أن يكون التحرك لها أقل من التحرك لمشاهدته أن تمثلنا في المحاكتين بالدمية والمرآة على جهة من التسامح. وإنما ينبغي أن يمثل حسن المحاكاة في القول بأحسن ما يمكن أن يوجد من ضروب تصاوير الأشياء وتماثيلها. فأقول إن من أحسن ما يرى من ذلك تصور أشعة الكواكب والشمع والمصابيح المسرجة في صفحات المياه الصافية الساكنة التموج من الخلجان والأودية والمذانب والأنهار. وكذلك نمثل أفانين شجر الدوح بما ضم من ثمر وزهر في صفحات الماء الصفو إذا كان الدوح مطلا عليه. فإن اقتران طرتي الغدير الدوحية بما يبدو من مثالها في صفاء الماء من أعحب الأشياء وأبهجها منظرا. ونظير ذلك من المحاكاة في حسن الاقتران أن يقرن بالشيء الحقيقي في الكلام ما يجعل مثالا له مما هو شبيه به على جهة من المجاز تمثيلية أو استعارية كقول حبيب: (الخفيف -ق- المترادف)
دمن طالما التقت أدمع ال
…
مزن عليها وأدمع العشاق
وقول ابن التنوخي: (الطويل -ق- المترادف)
لما ساءني أن وشحتني سيوفهم
…
وأنك لي دون الوشاح وشاح