الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
إضاءة: وينبغي ألا يستكثر في كلتا الصناعتين مما ليس أصيلا فيها كالتخييل فيا لخطابة، والإقناع في الشعر، بل يؤتى في كلتيهما باليسير من ذلك على سبيل الإلماع.
4-
تنوير: فإن ساوى بعض الناس بين المخيلات والمقنعات في كلتا الصناعتين، أو حام حول مساواة المخيلات بالمقنعات في الشعر، أو مساواة المقنعات بالمخيلات في الخطابة، كان قد أفرط في كلتا الصنعتين في الاستكثار مما ليس أصيلا فيه ولا مع ذلك مقبولا.
5-
إضاءة: فإن جاوز حد التساوي في كلتيهما، فجعل عامة الأقاويل الشعرية خطابية، وعامة الأقاويل الخطابية شعرية، كان قد أخرج كلتا الصناعتين عن طريقهما، وعدل بها عن سواء مذهبها، ووجب رد قوله ولنسبة كلامه إلى ما ذهب به من المذاهب المعنوية، ولا إلى ما هيأه به من الهيئات اللفظية. وأن تعد الخطابة في ذلك شعرا، والشعر خطابة، فيكون ظاهر الكلام وباطنه متدافعين، وهو مذهب مذموم في الكلام.
وكان أبو الطيب المتنبي يعتمد المراوحة بين معانيه، ويضع مقنعاتها من مخيلاتها أحس وضع، فيتمم الفصول بها أحسن تتمة، ويقسم الكلام في ذلك أحسن قسمة. ويجب أن يؤتم به في ذلك، فإن مسلكه فيه أوضح المسالك.
هـ- معلم دال على طرق العلم بكيفية الاستمرار في الأساليب والاطراد عليها وما يحسن
اعتماده فيها.
لما كانت الأغراض الشعرية يوقع في واحد منها الجملة الكبيرة من المعاني والمقاصد، وكانت لتلك المعاني جهات فيها توجد ومسائل منها تقتنى كجهة وصف المحبوب وجهة وصف الخيال وجهة وصف الطلول وجهة وصف يوم النوى وما جرى مجرى ذلك في غرض النسيب، وكانت تحصل للنفس بالاستمرار على تلك الجهات والنقلة من بعضها إلى بعض وبكيفية الاطراد في المعاني صورة وهيأة تسمى الأسلوب، وجب أن تكون نسبة الأسلوب، وجب أن تكون نسبة الأسلوب إلى المعاني نسبة النظم إلى الألفاظ، لأن الأسلوب يحصل عن كيفية الاستمرار في أوصاف جهة جهة من جهات غرض القول وكيفية الاطراد من أوصاف جهة جهة. فكان بمنزلة النظم في الألفاظ الذي هو صورة كيفية الاستمرار في الألفاظ والعبارات والهيئة الحاصلة عن كيفية النقلة من بعضها إلى بعض وما يعتمد فيها من ضروب الوضع وأنحاء الترتيب.
فالأسلوب هيأة تحصل عن التأليفات المعنوية، والنظم هيأة تحصل عن التأليفات اللفظية.
1-
إضاءة: ولما كان الأسلوب في المعاني بإزاء النظم في الألفاظ وجب أن يلاحظ فيه من حسن الاطراد والتناسب والتلطف في الانتقال عن جهة إلى جهة والصيرورة من مقصد إلى مقصد ما يلاحظ في النظم من حسن الاطراد من بعض العبارات إلى بعض ومراعاة المناسبة ولطف النقلة.
2-
تنوير: ومما يجب أن يكون حال الأسلوب فيه على نحو ما يكون النظم عليه ملاحظة الوجوه التي تجعلها معا مخيلين للحال التي يريد تخيلها الشاعر من رقة أو غلطة أو غير ذلك.
فإن النظام اللطيف المأخذ، الرقيق الحواشي، المستعمل فيه الألفاظ العرفية في طريق الغزل، تخيل رقة نفس القائل. ولو وقع ذلك مثلا في طريقة الفخر لم تخيل الغرض، بل تخيل ذلك الألفاظ الجزلة والعبارات الفخمة المتينة القوية. وكذلك لطف الأسلوب ورقته ويخيلان لك أن قائلة عاشق، وخشونة الأسلوب وجفاؤه لا يخيلان ذلك نحو أسلوب الفرزدق في النسيب.
3-
إضاءة: وإنما وجب أن يستعمل في كل طريق الألفاظ المستعملة فيه عرفا، لأن ما كثر استعمال في غرض ما واختص به أو صار كالمختص لا يحسن إيراده في غرض مناقض لذلك الغرض، ولأنه غير لائق به لكونه مألوفا في ضده وغير مألوف فيه، وذلك مثل استعمال السالفة والجيد في النسيب، واستعمال الهادي والكاهل في الفخر والمديح ونحوهما، واستعمال الأخدع والقذال فيا لذم.
المنهج الرابع في الإبانة عن المنازع الشعرية وأنحائها وطرق المفاضلة بين الشعراء
في ذلك وغيره من أنحاء التصاريف في هذه الصناعة وما يعتبر به أحوال الكلام وأحوال القائلين في جميع ذلك.
أ- معلم دال على طرق العلم بما يجب اعتماده في المنازع الشعرية التي يكون للكلام
بها حسن موقع من النفوس.
ومنازع الشعراء في الشعر تختلف. ويجب أن نبين أولا ما المنزع؟ ثم نبين مذاهب الشعراء في ذلك. فأقول:
إن المنازع هي الهيئات الحاصلة عن كيفيات مآخذ الشعراء في أغراضهم، وأنحاء اعتماداتهم فيها، وما يميلون بالكلام نحوه أبدا، ويذهبون به إليه، حتى يحصل بذلك للكلام صورة تقبلها النفس أو تمتنع من قبولها. والذي تقبله النفس من ذلك ما كانت المآخذ فيه لطيفة، والمقصد فيه مستطرفا، وكان للكلام به حسن موقع من النفس. والعين على ذلك أن ينزع بالكلام إلى الجهة الملائمة لهوى النفس من حيث تسرها أو تعجبها أو تشجوها، حيث يكون الغرض مبنيا على ذلك، نحو منزع عبد الله ابن المعتز في خمرياته، والبحتري في طيفياته، فإن منزعهما، فيما ذهبا إليه من الأغراض، منزع عجيب.
1-
إضاءة: والذي لا تقبله النفس من ذلك ما كان بالضد مما ذكرته.
والناس يختلفون في هذا. فيستحسن بعضهم من المنازع ما لا يستحسنه آخر. وكلم نهم يميل إلى ما وافق هواه.
2-
تنوير: ومن الشعراء من يمشي على نجه غيره في المنزع ويقتفي في ذلك أثر سواه، حتى لا يكون بين شعره وشعر غيره ممن حذا حذوه في ذلك كبير ميزة، ومنهم من اختص بمنزع يتميز به شعره من شعر سواه، نحو منزع مهيار ومنزع ابن خفاجة.
وهذا الامتياز يكون بأحد الطرفين: إما بأن يثر في شعره أبدا الميل إلى جهة لم يؤثر الناس الميل إليها ولم يأخذوا فيها مأخذه، فيتميز شعره بهذا عن شعرهم، وإما أن يسلك أبدا في جميع الجهات التي يميل بكلامه إلى مذهب شاعر واحد ولكن يقتفي أثر واحد في الميل إلى جهة وأثر آخر فيا لميل إلى جهة أخرى، وكذلك في جهة جهة يأخذ بمذهب شاعر شاعر، فتكون طريقته مركبة، فيتميز كلامه بذلك وتصير له صورة مخصوصة.
3-
إضاءة: وقد يعنى بالمنزع أيضاً كيفية مأخذ الشاعر في بنية نظمه وصيغة عباراته وما يتخذه أبدا كالقانون في ذلك كمآخذ أبي الطيب في توطئه صدور الفصول للحكم التي يوقعها في نهاياتها، فإن ذلك كله منزع اختص به أو اختص بالإكثار منه والاعتناء به.
وقد يعنى بالمنزع غير ذلك إلا انه راجع إلى معنى ما تقدم، فإنه أبدا لطف مأخذ في عبارات أو معان أو نظم أو أسلوب.
ويستحسن من جميع ذلك ما حسن موقعه من النفوس. ولا يسحن ما كان بالضد من ذلك.
4-
تنوير: ولا يخلو لطف المأخذ في جميع ذلك من أن يكون 1- من جهة تبديل، 2- أو تغيير، 3- أو اقتران بين شيئين، 4- أو نسبة بينهما، 5- أو نقلة من أحدهما إلى الآخر، 6- أو تلويح به إلى جهة وإشارة به إليه.
وهذه الأنحاء الستة من التصرف لا يخلو من أن تكون متعلقة - مما يرجع إلى المعاني الذهنية - بالتصورات منها، أو بالنسبة الواقعة بين بعضها وبعض، أو بالأحوال المنوطة بها، أو بجهة الأحكام فيها، أو بالمحددات لها، أو بأنحاء التخاطب المتعلق بها.
5-
إضاءة: وهذه الأنحاء التي ينزع بالمعاني إليها: منها ما بتيسر التهدي إليه على أكثر الشعراء، ومنها ما لا يتيسر التهدي إليه إلا على بعضهم.
والذي لا يتهدى إليه إلا بعضهم: منه ما يشترك فيه العربي والمحدث ومنه ما لا يكاد يوجد إلا في شعراء المحدثين. وذلك مثل إسنادهم وإضافتهم ضد الشيء إليه، وكإعمالهم الشيء في مثله، وكإقامتهم الشيء مقام ضده وتنزيلهم له منزلته على جهة من الاعتبار.
فأما إضافة ضد الشيء إليه، فنحو قول أبي الطيب رحمه الله:(الخفيف -ق- المترادف)
صلة الهجر لي، وهجر الوصال
وأما إعمالهم الشيء في مثله فنحو قوله أيضا: (الكامل -ق- المترادف)
أسفي على أسفي الذي دلهتني
…
عن علمه فيه علي خفاء
وقوله: (الطويل -ق- المتدارك)
لبست لها كدر العجاج كأنما
…
ترى غير صاف أن ترى الجو صافيا
ومن قول الشيباني: (الرجز -ق- المترادف)
واصدد كصدي عن طويل الصد
وأما تنزيل الشيء منزلة ضده على جهة من الاعتبار، فنحو قول المتنبي:(الكامل -ق- المتدارك)
وشكيتي فقد السقام، لأنه
…
قد كان لما كان لي أعضاء
ومنه قول الحسين بن الضحاك: (مجزو الخفيف -ق- المتدارك)
كبدي في هواك أس
…
قم من أن تقطعا
لم تدع سورة الضنا
…
في للسقم موقعا
وكان أبو الطيب المتنبي يستعمل هذه الأنحاء الثلاثة في المعاني ويقصدها في مواضع كثيرة من شعره.
6-
تنوير: فأما إسناد الفعل إلى ما اشتق منه نحو قول المتنبي: (الطويل -ق- المترادف) =أمات الموت؟ أم ذعر الذعر