الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
إضاءة: فبهذا الترتيب يتبين ما يصح ويحسن من المبالغة، وما لا يصح منها ولا يحسن. فإن العلماء بصناعة البلاغة متفقون على أن ما أدى إلى الإحالة قبيح. وقد خالف في هذا جماعة ممن لا تحقيق عنده في هذه الصناعة ولا بصيرة له بها، فاستحسنوا من المبالغة ما خرج عن حد الحقيقة إلى حيز الاستحالة، واحتجوا بمطالبة النابغة حسان بن ثابت بالمبالغة في أوصافه حين أنشده قوله:(الطويل -ق- المتدارك)
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فقال له: "قللت جفانك وسيوفك، ولو قلت الجفان والسيوف لكان أبلغ". والبصراء بصناعة البلاغة العارفون بما يجب فيها يقولون: إنما طالب النابغة حسانا بمبالغة حقيقة، وهي تكثير الجفان والسيوف. فاستدرك عليه التقصير عما يمكن فيما وصف، ولم يطالبه بتجاوز غاية الممكن والخروج إلى ما يستحيل.
4-
تنوير: وقد يستساغ الوصف بما يؤدي إلى الإحالة حيث يقصد التهكم بالشيء أو الزراية عليه والإضحاك به. كقول الطرماح: (الطويل -ق- المتدارك)
ولو أن برغوثا على ظهر قملة
…
يكر على صفي تميم لولت
فهذا وأشباهه إنما استعمل على جهة الزراية والإضحاك. فهو مقصود به غرض ما، يسوغ دونه.
5-
إضاءة: وإنما جرى الغلط على كثير من الناس في هذا حيث لم يفرقوا بين الوصف الذي لا يخرج عن حد الإمكان وإن لم يثبت وقوعه، وبين الخارج إلى حيز الاستحالة. وغلطتهم في ذلك أبيات وقعت فيها مبالغات خفيت عليهم فيها جهات الإمكان، فظنوا أنها من الممتنعة أو المستحيلة.
ومثل ذلك من المبالغات التي يمكن أن تتصور لها حقيقة وأن تصرف إلى جهة الإمكان، وإن كان مما يستندر وقوع مثله قول المتنبي:(الطويل -ق- المتدارك)
وأنى اهتدى هذا الرسول بأرضه
…
وما سكنت مذ سرت فيها القساطل
ومن أي ماء كان يسقي جياده
…
ولم تصف من مزج الدماء المناهل
فهذا مستساغ مقبول من حيث يمكن أن تتصور له حقيقة وإن لم تكن واقعة، إذ كانت كثرة الجيوش لا حد لها. ومتى قدرت الزيادة في مقدار منها وإن كثر أمكنت. فجائز أن يغزو أرض قوم من الجيوش ما يصير حزنها سهلا وخيارها وعثا حتى يصير صخرها رهجا وترابها إهبا، فيثور نقعها بأقل حركة أو نفس فلا تسكن القساطل فيها مدة. فأراد المبالغة في جيش ممدوحه فجعله بالغا إلى هذا المقدار. وكذلك سفك الدماء ليس له حد ينتهى إليه. ومتى قدرت الزيادة في مقدار منه أمكنت، فجائز في حق ممدوحه أن يريق من دماء أعدائه ما تكدر منه المياه مدة. فأراد المبالغة في ما أراق هذا الممدوح من دماء الروم، فجعله بالغا إلى ذلك المقدار.
ولا يلزم أبا الطيب أن يكون صادقا في ذلك، لأن صناعة الشعر لها أن تستعمل الكذب إلا أنها لا تتعدى الممكن من ذلك أو الممتنع إلى المستحيل، وإن كان الممتنع فيها أيضاً دون الممكن في حسن الموقع من النفوس.
6-
تنوير: فأما مثل قول أبي الطيب في وصف الأسد: (الكامل -ق- المترادف)
سبق التقاءكه بوثبة هاجم
…
لو لم تصادفه لجازك ميلا
فقبيح، غذ لا يمكن في جرم الأسد وقوته من الزيادة ما أمكن في الجيوش والدماء.
وبهذا الاعتبار يتبين لك ما يحسن من المبالغة وما لا يحسن وما يسوغ منها وما لا يسوغ. فمن اعتمده حمده إن شاء الله.
ج- معلم دال على طرق العلم بأنحاء النظر في صحة المعاني وسلامتها من الاستحالة
الواقعة بفساد التقابل.
وجهات التقابل أربعة: 1- جهة الإضافة وهي أن تكون نسبة شيء إلى شيء آخر مخالفة لنسبة ذلك الشيء إليه، مثل الضعف للعشرة بالقياس على نصفها، والأب إلى ابنه، والمولى إلى عبده.
2-
وجهة التضاد كالأبيض والأسود.
3-
وجهة الغنية والعدم كالأعمى والبصير.
4-
وجهة السلب والإيجاب نحو زيد جالس، زيد ليس بجالس. فالجمع بين متقابلين من هذه الأربعة من جهة واحدة تناقض.
1-
إضاءة: فإن تقابل المعنيان من جهتين، لم يكن ذلك تناقضا مثل أن يقال إن العشرة ضعف ونصف، لكنها ضعف الخمسة ونصف العشرين. ولو قيل إنها نصف العشرين وضعفها كان محالا. وكذلك قول القائل: زيد بصير القلب أعمى العين صحيح. ولو قيل إنه أعمى العين بصيرها كان محالا. وكذلك في التضاد يصح أن يقال في الفاتر إنه حار عند البارد وبارد عند الحار، ولا يكون حارا باردا عند أحدهما. وكذلك في السلب والإيجاب نحو زيد كريم بالمال، زيد ليس كريما بالجاه، فهذا صحيح. ولا يصح أن يكون كريما بأحدهما غير كريم به في حال واحدة.
2-
تنوير: فضروب التقابل الأربعة إنما يصح منها ما لم يتواف المتقابلان فيه من جهة واحدة، ولكن نيط هذا بجهة وهذا بجهة.
فمن الكلام الذي انصرف فيه أحد المتقابلين بالسلب والإيحاب إلى غير الجهة التي انصرف إليها الآخر، فكان ذلك صحيحا سالما من التناقض، قول ابن الرومي:(الطويل -ق- المترادف)
وليسوا بأجذال الطعان ذوى القنا
…
ولكنهم بالحزم والرأي أجذال
ولم يخلقوا أبطال بأس ونجدة
…
ولكنهم بالرفق واللين أبطال
فجعلهم أبطالا من جهة وغير أبطال من جهة، وأجذالا من وجه وغير أجذال من وجه.
3-
إضاءة: وربما تسامح بعضهم في أني يورد معنى في بيت ثم يأتي في بيت آخر بمعنى يقابله على أحد الأنحاء المتقدمة منه التقابل ويجمع بينهما من جهة واحدة، وذلك إذا كان البيت منقطعا عن البيت فيجري البيتين إذا كان كلاهما مستقلا بنفسه مجرى قصيدتين، فكما جاز للشاعر أ، ينقص في قصيدة ما قال في قصيدة أخرى كذلك يجوز له في البيتين المتميز أحدهما عن الآخر.
فأما إذا كان معنى البيت الواحد متعلقا بمعنى البيت الآخر، فإن الجمع بين المتقابلين فيهما من جهة واحدة غير سائغ. وإنما يجوز ذلك مع عدم الاتصال.
وترك التناقض على كل حال أحسن. وقد قال أبو عثمان الجاحظ: "إن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم يمدحون بالشيء الذي يهجون به. وهذا باطل، ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان. فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين. وإذا ذموا ذكروا أقبحهما". وقال الخفاجي تلميذ أبي العلاء: "إنهم على ذلك يتصرف قولهم. فإن أبا تمام لما وصف يوم لا فراق بالطول فقال: (الكامل -ق- المترادف)
يوم الفراق، لقد خلقت طويلا
…
لم تبق لي جلدا ولا معقولا
علل طوله بما لقي فيه من الوجد لرحيل أحبابه عنه.
وأبو عبادة البحتري لما وصفه بالقصر فقال: (الكامل -ق- المترادف)
ولقد تأملت الفراق فلم أجد
…
يوم الفراق على امرئ بطويل
قصرت مسافته على متزود
…
منه لدهر صبابة وعويل
فهما وإن خالف كلاهما صاحبه فقد ذكرا لما ذهبا إليه وجوها يصح عليها الكلام".
4-
تنوير: فمما حمل على التناقض من أقاويل الشعراء قول عبد الرحمن بن عبد الله القس: (الطويل -ق- المتدارك)
أرى هجرها والقتل مثلبين فاقصروا
…
ملامكم، والقتل أعفى وأيسر
ومما حمله بعض البلغاء على التناقض، وأوله بعضهم على وجه من الصحة قول زياد الأعجم:(الطويل -ق- المتدارك)
تراه إذا أبصر الضيف مقبلا
…
يكلمه من حبه وهو أعجم
قال ألو الفرج قدامة: "تناقض من حيث أوجب الكلام للكلب، ثم أعدمه إياه بقوله وهو أعجم".
وقال الخفاجي: "ليس الأعجم هو الذي عدم الكلام جملة كالأخرس، وإنما هو الذي يتكلم بعجمة. وإذا قيل فلان يتكلم وهو أعجم لم يكن متناقضا". انتهى كلام الخفاجي.
والبيت محتمل وجها آخر من التأويل يصح عليه. وهو أنه قد يعنى بالكلام ما يفهم من إشارة من لا يستطيع النطق وحركاته وشمائله حيث يقصد بذلك إفهام ما في نفسه.
وما أبدع قول ابن دراج عندما ذكر وداع امرأته وما ظهر من الشجو في ألحاظ بنيه الصغير، لما أبصر من حالهما عند ذلك فتبين ذلك في عينيه:(الطويل -ق- المترادف)
عيي بمرجوع الخطاب ولحظه
…
بموقع أهواء النفوس خبير
5-
إضاءة: وذهب أبو الفرج قدامة إلى تناقض قول أبي لنواس: (الطويل -ق- المترادف)
كأن بقايا ما عفا من حبابها
…
تفاريق شيب في سواد عذار
تردت به ثم انفرى عن أديمها
…
تفري ليل عن بياض نهار
وقال: "إنه وصف الحباب في البيت الأول بالبياض حين شبهها بالشيب ووصف الخمر بالسواد حين شبهها بسواد العذار، ثم وصف الحباب في البيت الثاني بالسواد حين شببه بتفري الليل ثم وصف الخمر بالبياض حين قال عن بياض نهار، وكون كل واحد من الحباب والخمر أسود أبيض مستحيل". وقد سأل أبو الفرج نفسه فقال: "إن قيل إنه لم يصف الحباب في البيت الثاني بالسواد وإنما شبهه بالليل في تفريه وانسحاره عن النهار دون انفس اللون". وأجاب عن هذا: "بأن أبا نواس قد صرح بأنه لم يرد غير اللون فقط لقوله عن بياض نهار".
وقد يحتمل قول أبي نواس وجوها من التأويل لا يكون معها فيه تناقض.
فمن ذلك أن يكون أراد أن يشبه سواد الخمر بالليل والحباب بالنجوم، فلم يتسع له الكلام لهذا التشبيه، فلوح له في البيت الثاني تلويحا لطيفا بقوله:"تفري ليل عن بياض نهار" حيث كانت النجوم في ضمن الليل تفري الليل ونجومه عن بياض النهار. فالضمير في قوله انفرى راجع إلى ما تردت به الخمر من لون السواد المشبه تفريه بتفري الليل، ولو كان لاضمين في قوله انفرى راجعا على الحباب لكان أليق بكلام أبي نواس في هذه القصيدة أن يقول تحلت به فيجعل الحباب حليا لها على ما جرت عليه عادة الشعراء - فإنا لا نعلم أحدا جعل الحباب رداء- والمشبه ببياض النهار بياض الماء الممزوج بالخمر، شبه تفري سواد الخمر عن بياض الماء الذي جلاه إذ مزج به بتفري الليل عن بياض النهار. وقد يمكن أن يكون في هذا التشبيه غشارة إلى تشبيه الحباب بالنجوم ولم يذكرها لأنها في ضمن الليل وتابعة له في انحساره. وقد يمكن أن يكون الضمير في انفرى راجعا إلى الحباب ويكون قوله تفري ليل في قوة تفري نجوم ليل أو يكون قد اكتفى بذكر الليل لأن النجوم في ضمنه.
6-
تنوير: وليس لقائل أن ينفصل عما ألزمه الفرج قدامة من أن أبا نواس أراد بالبياض نفس اللون بأن يقول: لعله لم يرد بقوله بياض نهار حقيقة اللون، ولكنه استعمله على حد قولهم أقمنا بمكان كذا بياض نهار وأديم ليل، لأن قول القائل أقمنا أديم ليل وبياض نهار معناه أقمنا يوما من أوله إلى آخره وليلة من أولها إلى آخرها.
وقد يقال أيضاً أقمت بها أديم يوم كما قال بشر ابن أبي خازم: (الوافر -ق- المترادف)
وباتت ليلة وأديم يوم
…
على الممهى، يجز لها الثغام
فالمراد في مثل هذا الاستعمال ببياض يوم مخالف للمراد به في قول أبي نواس، إذا لا يمكن أن يريد تفري ليل عن نهار من أوله إلى آخره. فبياض النهار إذن على ما ألزمه أبو الفرج، ومعنى الشعر على ما تأولناه لا على ما تأوله، إذ المعنى الذي قلناه صحيح والعبارة قابلة له على ما فيها من الاختصار الذي كاد أن يخل بالمقصود.
وكلما أمكن حمل بعض كلام هذه الحلبة المجلية من الشعراء على وجه من الصحة كان ذلك أولى من حمله على الإحالة والاختلال لأنهم من ثبت ثقوب أذهالهم وذكاء أفكارهم واستبحارهم في علوم اللسان وبلوغهم من المعرفة به الغاية القصوى.
وقد قال الخليل بن أحمد: "الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا. ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده ومد المقصور وقصر الممدود والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته واستخراج ما كلت الألسن عن وسفه ونعته والأذهان عن فهمه وإيضاحه. فيقربون البعيد ويبعدون القريب ويحتج بهم ولا يحتج عليهم ويصورون الباطل في صورة لاحق والحق في صورة الباطل".
فلأجل ما أشار إليه الخليل، رحمه الله، من بعد غايات الشعراء وامتداد آمادهم في معرفة الكلام واتساع مجالهم في جميع ذلك، يحتاج أن يحتال في تخريج كلامهم على وجوه من الصحة، فإنهم قل ما يخفى عليهم ما يظهر لغيرهم، فليسوا يقولون شيئا إلا وله وجه، فلذلك يجب تأول كلامهم على الصحة والتوقف عن تخطئتهم فيما ليس يلوح له وجه.