الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأعني بالاستجداد الجهد في ألا يواطئ من قبله في مجموع عبارة أو جملة معنى، وبالتأنق طلب الغاية القصوى من الإبداع في وضع بعض أجزاء العبارات والمعاني من بعض وتحسين هيئات الكلام في جميع ذلك. فإن العبارة إذا استجدت مادتها وتأنق الناظم في تحسين الهيأة التأليفية فيها وقعت من النفوس أحسن موقع. وكذلك الحال في المعاني، فتأمل ذلك.
د- معرف دال على طرق المعرفة بكيفية التصرف في مقاصد الشعر وجهاته
.
وجهات الأقاويل الشعرية هي ما يكون الكلام منوطا به من الأشياء المقصود وصفها أو الإخبار عنها. والجهات ضربان: ضرب يع في الكلام مقصودا لنفسه. وهو ما كان له بالغرض المقول فيه علقة وله إليه انتساب بوجه يوجب ذكره.
والصنف الثاني ما لم يكن له بالغرض علقة، ولكن له علقة ببعض الجهات المتعلقة بالغرض، فيذكر تابعا لما ذكر معتمدا على جهة إحالة أو محاكاة أو غير ذلك؛ وقد يكون له بالغرض علقة إلا أنه لم يذكر إلا من حيث ما هو تابع لغيره ومتعلق به.
1-
إضاءة: وكانت للأوائل عناية بتعليق الأوصاف بهذه الجهات الثواني. وذلك حيث يكون في قوة الكلام أن يعود من الأوصاف المتعلقة بالثواني ما يفيد مبالغة أو غير ذلك في الجهات الأول.
2-
تنوير: واعلم أن الشعراء تتفاوت طبقاتهم فيا لتصرف في الجهات الأول، وتتفاوت في الجهات الثواني. والتفاوت في الثواني أكثر، لأن الجهات الأول يمكن حصرها في كل فن، وأما الجهات الثواني فقلما يتأتى حصرها لكثرة ما يمكن أن يستطرد من الشيء إليه أو يحال به عليه أو يحاكى به أو يعلق على الجملة به لنسبة في المعنى تقتضي ذلك.
فإذا كانت الجهة الواحدة من الأول يمكن أن يناط بها جهات ثوان كثيرة على أنحاء من الاستدراج والاستطراد وما جرى مجرى ذلك من أنحاء الانتقالات المتنوعة بتنوع المقاصد، وكان كل نحو من ذلك ممكنا أن يذهب فيه إلى ضروب كثيرة من الهيئات الحاصلة عن الترتيب الذهني وعن النسب الواقعة بين بعض المعاني وبعض، صارت الصور الحاصلة عن جميع ذلك في تشفيع معاني الجهات الأول بمعاني الثواني وإردافها بها كثيرة التشعب بعيدة عن الحصر. وعظم التفاوت بين الشعراء في مقدار التصرف في ذلك. وإذا كانوا يتفاوتون في مقدار التصرف في الجهات الممكن حصرها فهم أجدر بالتفاوت فيما يبعد على الحصر.
3-
إضاءة: فأما تصرفهم في الجهات الأول فمنهم من يقتصر على الجهات الأكيدة في الغرض، ومنهم من يزيد إلى ذلك جهات هي أبعد من غرض الكلام من الجهات المقتصر عليها، ومنهم من لا يستوفي جميع الجهات الأكيدة ويقتصر على ما تيسر له منها. فهذا نوع من التصرف.
4-
تنوير: وهناك تصرف ثان. وهو مقدار ما يتصوره الشاعر من معاني الجهة. والشعراء في ذلك ثلاث طبقات: منهم من في قوته أن يستقصي معاني الجهة إذا شاء، ومنهم من لا يبلغ إلى الاستقصاء ويأتي من ذلك بمقدار كاف، ومنهم من يقصر عن المقدار الكافي.
5-
إضاءة: وهناك تصرف ثالث. وهو ملاحظة ما في الجهة التي عدمت فيها صفات الحسن أو قلت من الأوصاف التي يرى أنها حسنة حقيقية أو تمويها، وملاحظة ما في الجهة التي عدمت فيها صفات القبح أو قلت من الأوصاف التي يرى أنها قبيحة حقيقة أو تمويها، يقصد بذلك تحسين القبح وتقبيح الحسن. ويتمكن من هذا الغرض من حصل له التصرف في الأول والتصرف في الثواني والتصرف في الجمع بين الأول والثواني.
6-
تنوير: والشعراء يختلفون أيضاً في هذا: فمنهم من يقوى على حشر ما يمكن أن يوصف به الشيء الحسن من صفة يرى أنها قبيحة حقيقة أو تمويها، وما يمكن أن يوصف به القبيح من صفة يرى أنها حسنة حقيقة أو تمويها، ومنهم من لا يتهدى إلا إلى الشيء القليل من ذلك؛ ومنهم من يتوسط بين الطرفين.
وهذا النوع من المقاصد من مجالات الشعر الضيقة. وكان أقوى الناس عارضة وأكثرهم تصرفا في هذا ابن الرومي. واعتبر قوته على ذلك بما قال في صفة السوداء في الشعر الذي يقول فيه: (المنسرح -ق- المتراكب)
أكسبها الحب أنها صبغت
…
صبغة حب القلوب والحدق
وبما قال في النرجس والورد وبتحسينه التصابي في حال المشيب بشعره الذي أوله: (الخفيف -ق- المترادف)
لاح شيبي فظلت أمرح فيه
…
مرح الطرف في اللجام المحلى
ونحو من ذلك حسن تصرفه في الشعر الذي رثى فيه بعض القيان، وهو الذي يقول فيه:(الخفيف -ق- المتراكب)
سيشفع الحور فيه أنك منهن بذاك الدلال والحور
7-
إضاءة: والتصرف في الثواني يتفاوت الشعراء فيه بحسب توفر حظ كل واحد منهم في القوى المتخيلة والشاعرة بالمناسبات الواقعة بين بعض المعاني وبعض المتهدية لأنحاء الانتقالات من الأول إلى الثواني والوجوه التي يكون بها بعضها من بعض بسبب من حيث كان تعليق المعنى الثاني بالأول إنما يكون على هذه الأنحاء: فمنهم من حظه أوفر الحظوظ من ذلك، ومنهم من حظه أدنى الحظوظ، ومنهم وسط بين الطرفين.
8-
تنوير: ومن الشعراء من يحسن القول في جهة واحدة ولا يحسن أن يردف قوله في جهة بقوله في جهة وأن ينتقل من إحداهما إلى الأخرى انتقالا لطيفا، ومنهم من يحسن إرداف الجهة بالجهة المناسبة لها ولا يحسن إردافها بما لا يناسبها فلا تتأتى النقلة لذلك من إحداهما إلى الأخرى إلا بمآخذ في الانتقالات لطيفة ومنازع في الالتفاتات بديعة، ومنهم من يحسن إرداف الجهات بالجهات في جميع ذلك.
وطبقات الشعراء في الإحسان في كل ذلك تتفاوت بحسب ما تكون عليه أفكارهم من التهدي إلى ضروب الانتقالات وأنحاء الالتفاتات.
9-
إضاءة: وللشعراء مذاهب في ما يعتمدون إيقاعه فيا لجهات التي يعتمدون فيها لقول من الأنحاء المستحسنة في الكلام كالوصاف والتشبيهات والحكم والتواريخ. فقل ما يشذ من مستحسن الكلام عن هذه الأنحاء الأربعة شيء.
فمنهم من تشتد عنايته بالأوصاف كالبحتري، وبالتشبيه كابن المعتز، وبالأمثال كالمتنبي، وبالتواريخ كابن دراج القسطلي.
ومنهم من يتوفر قسطه من جميع ذلك كأبي تمام، وإن كان غيره أشف منه في التشبيه والحكم.
ولابن الرومي في الإحاطة بالأوصاف والتشبيهات المجال المتسع، وابن دراج أيضاً في الأوصاف والتشبيهات متسع المجال.
10-
تنوير: فأما الأوصاف فتقتبس من الجهات التي القول فيها. وأما التواريخ فتقتبس من غير الجهة التي فيها القول. وأما التشبيهات والحكم فتارة تقتبس من الجهة التي فيها القول وتارة تقتبس من جهة ثانية.
وأنا أذكر ما تتنوع إليه هذه الجناس الأربعة ذكرا إجماليا على سبيل الإشارة.
11-
إضاءة: أما الأوصاف فإنهما تتنوع إلى وصف مطلق، وإضافي، وشرطي، وفرضي. ولكل واحد منها مواضع يليق بها ولا يصلح فيها غيره. وقد تقدم التعريف بجملة من أحكام الأوصاف وكيفيات التصرف فيها يمكن أن تعرف بها ما جرى مجراها. فكان ذلك مغنيا عن أن نشغل هذا الموضع بإعادة الكلام في ذلك.
12-
تنوير: وأما التشبيهات فمنها ما يتعلق الشبه فيه بالصور والخلق ومنها ما يتعلق الشبه فيه بالأفعال والصفات. وكلا التشبيهين لا يخلو من أن يكون تشبيه الشيء فيه بما هو من نوعه أو بما هو من جنسه الأقرب أو بما هو من جنسه الأبعد أو بما ليس من جنسه.
وتشبيه الشيء بالشيء يكون أن يتفق معه في صفة تكون في أحدهما على حدها في الآخر أو بنسبة منها أو في أكثر من صفة، فأما أن يتفق معه في جميع الصفات فلا يمكن، وإلا فكان يلزم لو اتفق معه في جميع ذلك أن يكون حقيقة هذا حقيقة ذلك من جميع الجهات وذلك غير ممكن. وقد تقدم التعريف بأنحاء التشبيهات وأحكامها وكيفيات التصرف فلا معنى لإعادته أيضا.
13-
إضاءة: وأما التواريخ والقصص فإما أن تكون الإحالة فيها إحالة تذكرة أو إحالة محاكاة أو مفاضلة أو إضراب أو إضافة؛ وقد تكون من جهات أخر غير هذه.
وقد تقدمت الإشارة إلى جمل من الأمور التي بها يتسبب إلى ذكر الأخبار الماضية والقصص السالفة فليتأمل القول في ذلك هنالك.
14-
تنوير: وأما الحكم والأمثال فإما أن تكون الأخبار فيه يجرى الأمور على المعتاد فيها وإما بزوالها في وقت عن المعتاد على جهة الغرابة والندور أو الندور فقط لتوطن النفوس بذلك على ما لا يمكنها التحرز منه أو لا يحسن بها التحرز من ذلك، ولتحذر مما يمكنها التحرز منه ويحسن بها ذلك، ولترغب فيما يجب أن ترغب فيه وترهب مما يجب أن ترهبه، وليقرب عندها ما تستبعده ويبعد لديها ما تستقربه، ولتبين لها أسباب الأمور وجهات اتفاقات البديعة الاتفاق منها.