الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَجَعَلُوهُ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ، وَمِنْهُ مَا يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ كَلَامٌ حَقٌّ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَلَكِنْ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ.
وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ " الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ " لِلْجَاحِظِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ كَلَامٌ مَنْقُولٌ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ، وَصَاحِبُ " نَهْجِ الْبَلَاغَةِ " يَجْعَلُهُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَهَذِهِ الْخُطَبُ الْمَنْقُولَةُ فِي كِتَابِ " نَهْجِ الْبَلَاغَةِ " لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا عَنْ عَلِيٍّ مِنْ كَلَامِهِ ; لَكَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذَا الْمُصَنَّفِ، مَنْقُولَةً عَنْ عَلِيٍّ بِالْأَسَانِيدِ وَبِغَيْرِهَا. فَإِذَا عَرَفَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْمَنْقُولَاتِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا - بَلْ أَكْثَرَهَا - لَا يُعْرَفُ قَبْلَ هَذَا، عُلِمَ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ، وَإِلَّا فَلْيُبَيِّنِ النَّاقِلُ لَهَا فِي أَيِّ كِتَابٍ ذُكِرَ ذَلِكَ؟ وَمَنِ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ؟ وَمَا إِسْنَادُهُ؟ وَإِلَّا فَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ لَا يَعْجِزُ عَنْهَا أَحَدٌ.
وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَعْرِفَةِ طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمَعْرِفَةِ الْآثَارِ وَالْمَنْقُولِ بِالْأَسَانِيدِ، وَتَبَيُّنِ صِدْقِهَا مِنْ كَذِبِهَا، عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ مِثْلَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ الْمَنْقُولَاتِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صِدْقِهَا وَكَذِبِهَا.
[فصل نقل الرافضي قول علي سلوني قبل أن تفقدوني والرد عليه]
(فَصْلٌ)
قَالَ الرَّافِضِيُّ (1) : " وَقَالَ (2) : سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، سَلُونِي عَنْ طُرُقِ السَّمَاءِ ; فَإِنِّي أَعْلَمُ بِهَا مِنْ طُرُقِ الْأَرْضِ ".
(1) فِي (ك) ص 180 (م) .
(2)
ك: وَقَالَ عليه الصلاة والسلام.
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ يَقُولُ هَذَا بِالْمَدِينَةِ، بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، الَّذِينَ تَعَلَّمُوا كَمَا تَعَلَّمَ، وَعَرَفُوا كَمَا عَرَفَ. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لَمَّا صَارَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، لَا يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ لِيُعَلِّمَهُمْ وَيُفْتِيَهُمْ، كَمَا أَنَّ الَّذِينَ تَأَخَّرَتْ حَيَاتُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِمْ، نَقَلُوا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ كَثِيرَةً لَمْ يَنْقُلْهَا الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَلَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْ نَقْلِهَا ; لِأَنَّ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ قَدْ عَلِمُوهَا كَمَا عَلِمُوهَا.
وَلِهَذَا يُرْوَى لِابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ، وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ، وَنَحْوِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنَ الْحَدِيثِ مَالَا يُرْوَى لِعَلِيٍّ وَلَا لِعُمَرَ، وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ أَعْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ ; لِكَوْنِهِمْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُمْ، وَأَدْرَكَهُمْ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ ; فَاحْتَاجُوا أَنْ يَسْأَلُوهُمْ، وَاحْتَاجَ أُولَئِكَ أَنْ يُعَلِّمُوهُمْ وَيُحَدِّثُوهُمْ.
فَقَوْلُ عَلِيٍّ لِمَنْ عِنْدَهُ بِالْكُوفَةِ: " سَلُونِي " هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لَمْ يَقُلْ هَذَا لِابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ وَأَمْثَالِهِمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ.
وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَسْأَلُهُ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ قَطُّ لَا مُعَاذٌ وَلَا أُبَيٌّ وَلَا ابْنُ مَسْعُودٍ، وَلَا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْتَفْتِيهِ الْمُسْتَفْتِي، كَمَا يَسْتَفْتِي أَمْثَالَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ
يُشَاوِرَانِهِ كَمَا يُشَاوِرَانِ أَمْثَالَهُ، فَكَانَ عُمَرُ يُشَاوِرُ فِي الْأُمُورِ لِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَطِلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي مُوسَى وَلِغَيْرِهِمْ، حَتَّى كَانَ يَدْخُلُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَهُمْ، مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ.
وَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَدَحَهُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [سُورَةُ الشُّورَى: 38] .
وَلِهَذَا كَانَ رَأْيُ عُمَرَ وَحُكْمُهُ وَسِيَاسَتُهُ مِنْ أَسَدِّ الْأُمُورِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَهُ مِثْلُهُ [قَطُّ](1) ، وَلَا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَ وَعَزَّ كَظُهُورِهِ وَانْتِشَارِهِ وَعِزِّهِ فِي زَمَنِهِ. وَهُوَ الَّذِي كَسَّرَ كِسْرَى، وَقَصَرَ قَيْصَرَ وَالرُّومَ وَالْفُرْسَ، وَكَانَ أَمِيرُهُ الْكَبِيرُ عَلَى الْجَيْشِ الشَّامِيِّ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَعَلَى الْجَيْشِ الْعِرَاقِيِّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ - بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ - مِثْلُ خُلَفَائِهِ وَنُوَّابِهِ، وَعُمَّالِهِ وَجُنْدِهِ، وَأَهْلِ شِورَاهُ.
وَقَوْلُهُ: " أَنَا أَعْلَمُ بِطُرُقِ السَّمَاءِ مِنْ طُرُقِ الْأَرْضِ ".
كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَلَمْ يَصْعَدْ أَحَدٌ بِبَدَنِهِ إِلَى السَّمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي مِعْرَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ هُوَ بِبَدَنِهِ أَوْ بِرُوحِهِ؟ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ بِبَدَنِهِ، فَلَمْ يُنَازَعَ السَّلَفُ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَعْرُجْ بِبَدَنِهِ.
وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا مِنَ الْغُلَاةِ فِي أَحَدٍ مِنَ الْمَشَايِخِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ فَهُوَ مِنَ الضُّلَّالِ، مِنْ جِنْسِ مَنِ اعْتَقَدَ مِنَ الْغُلَاةِ فِي أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ النُّبُوَّةَ، أَوْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنَ النُّبُوَّةِ، أَوِ الْإِلَهِيَّةِ.
(1) قَطُّ: زِيَادَةٌ فِي (م) .
وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ كُلُّهَا كُفْرٌ بَيِّنٌ، لَا يَسْتَرِيبُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا كَاعْتِقَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، أَوْلَادِ مَيْمُونَ الْقَدَّاحِ، الَّذِينَ كَانَ جَدُّهُمْ يَهُودِيًّا رَبِيبًا لِمَجُوسِيٍّ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلَادُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ نَسَخَ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْغُلَاةِ يَعْتَقِدُونَ الْإِلَهِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ فِي عَلِيٍّ، وَفِي بَعْضِ أَهْلِ بَيْتِهِ: إِمَّا الِاثْنَا عَشَرَ، وَإِمَّا غَيْرُهُمْ.
وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَامَّةِ وَالنُّسَّاكِ يَعْتَقِدُونَ فِي بَعْضِ الشُّيُوخِ نَوْعًا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ النُّبُوَّةِ، أَوْ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، [وَيَجْعَلُونَ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ](1) ، وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَوْلِيَاءَ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَيَعْتَقِدُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَنَحْوُهُ أَنَّ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ يَسْتَفِيدُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَنَّهُ هُوَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ.
وَيَعْتَقِدُ طَائِفَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْفَيْلَسُوفَ الْكَامِلَ أَعْلَمُ مِنَ النَّبِيِّ بِالْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ.
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَنَحْوُهَا هِيَ مِنَ الْكُفْرِ الْمُخَالِفِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهَا شَيْئًا فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْهُ، كَمَا يُسْتَتَابُ نُظَرَاؤُهُ
(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَرَدَتْ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ بَعْدَ قَلِيلٍ فِيهِمَا.