الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ خَيْرًا مِنَ الْقِتَالِ فِيهَا، وَأَنَّهُ أَثْنَى عَلَى مَنْ أَصْلَحَ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَلَوْ كَانَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَكَانُوا أَكْفَرَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْبَاقِينَ عَلَى دِينِهِمْ وَأَحَقَّ بِالْقِتَالِ *) (1) مِنْهُمْ كَالْمُرْتَدِّينَ أَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى قِتَالِهِمْ، بَلْ (2) وَسَبَوْا ذَرَارِيَّهُمْ، وَتَسَرَّى عَلِيٌّ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ بِالْحَنَفِيَّةِ: أَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ.
[فصل كلام الرافضي على كون أبي بكر كان أنيس النبي صلى الله عليه وسلم في العريش يوم بدر والرد عليه]
فَصْلٌ.
قَالَ الرَّافِضِيُّ (3) : " وَأَمَّا كَوْنُهُ أَنِيسَهُ فِي الْعَرِيشِ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَا فَضْلَ فِيهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أُنْسُهُ بِاللَّهِ مُغْنِيًا لَهُ عَنْ كُلِّ أَنِيسٍ، لَكِنْ لَمَّا عَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَمْرَهُ لِأَبِي بَكْرٍ (4) بِالْقِتَالِ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الْحَالِ حَيْثُ هَرَبَ عِدَّةَ مِرَارٍ فِي غَزَوَاتِهِ، وَأَيُّمَا أَفْضَلُ: الْقَاعِدُ عَنِ الْقِتَالِ، أَوِ الْمُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ (5) فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ ".
الْجَوَابُ: أَنْ يُقَالَ لِهَذَا الْمُفْتَرِي الْكَذَّابِ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ أَظْهَرِ الْبَاطِلِ مِنْ وُجُوهٍ (6) :
(1) مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م) .
(2)
بَلْ: زِيَادَةٌ فِي (ن)
(3)
الْكَلَامُ التَّالِي فِي (ك) ص 200 (م) وَسَبَقَ إِيرَادُهُ فِي هَذَا الْجُزْءِ
(4)
ك: أَمَرَهُ أَبَا بَكْرٍ.
(5)
ك: بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ. .
(6)
ن، س، ب: بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ " هَرَبَ عِدَّةَ مِرَارٍ فِي غَزَوَاتِهِ " يُقَالُ لَهُ: هَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَائِلَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِمَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْوَالِهِ، وَالْجَهْلُ بِذَلِكَ غَيْرُ مُنْكَرٍ مِنَ الرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ، وَأَعْظَمِهِمْ تَصْدِيقًا بِالْكَذِبِ فِيهَا وَتَكْذِيبًا بِالصِّدْقِ مِنْهَا.
وَذَلِكَ أَنَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ هِيَ أَوَّلُ مَغَازِي الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ غَزَاةٌ مَعَ الْكُفَّارِ أَصْلًا، وَغَزَوَاتُ الْقِتَالِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعُ غَزَوَاتٍ: بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَغَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ وَخَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ وَحُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، وَأَمَّا الْغَزَوَاتُ الَّتِي لَمْ يُقَاتِلُ فِيهَا فَهِيَ نَحْوُ بِضْعَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا السَّرَايَا فَمِنْهَا مَا كَانَ فِيهِ قِتَالٌ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِتَالٌ.
وَبِكُلِّ حَالٍ فَبَدْرٌ أُولَى (1) مَغَازِي الْقِتَالِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي يَعْلَمُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي وَالسِّيَرِ وَالْفِقْهِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْأَخْبَارِ، يَعْلَمُونَ أَنَّ بَدْرًا هِيَ أَوَّلُ الْغَزَوَاتِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ قَبْلَهَا غَزْوَةٌ وَلَا سَرِيَّةٌ كَانَ فِيهَا قِتَالٌ، إِلَّا قِصَّةَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ (2) ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ.
(1) ن، س، ب: أَوَّلُ.
(2)
فِي جَمِيعِ النُّسَخِ: إِلَّا قِصَّةَ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، وَهُوَ خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ مَا أَثْبَتُّهُ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ. وَاسْمُ الْحَضْرَمِيِّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ، وَيُقَالُ: مَالِكُ بْنُ عِبَادٍ. وَانْظُرْ سِيرَةَ ابْنِ هِشَامٍ 2/252 - 256.
فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ هَرَبَ قَبْلَ ذَلِكَ عِدَّةَ مِرَارٍ (1) فِي مَغَازِيهِ؟ ! .
الثَّانِي: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ يَهْرَبْ قَطُّ حَتَّى يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَنْهَزِمْ لَا هُوَ وَلَا عُمَرُ وَإِنَّمَا كَانَ عُثْمَانُ تَوَلَّى، وَكَانَ مِمَّنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ إِنَّهُمَا انْهَزَمَا مَعَ مَنِ انْهَزَمَ، بَلْ ثَبَتَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ السِّيرَةِ (2) ، لَكِنَّ بَعْضَ الْكَذَّابِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمَا أَخَذَا الرَّايَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَرَجَعَا وَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ فِي الْكَذِبِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا انْهَزَمَا [مَعَ مَنِ انْهَزَمَ](3) ، وَهَذَا كَذِبٌ كُلُّهُ.
وَقَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَمَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا هُوَ الْمُدَّعِي لِذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ بِنَقْلٍ يُصَدَّقُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى هَذَا فَأَيْنَ النَّقْلُ الْمُصَدَّقُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ هَرَبَ فِي غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَرَبَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ؟ ! .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْجُبْنِ بِهَذِهِ الْحَالِ (4) لَمْ يَخُصُّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دُونَ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي الْعَرِيشِ، بَلْ لَا يَجُوزُ اسْتِصْحَابُ مِثْلَ هَذَا فِي الْغَزْوِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ (* يَسْتَصْحِبَ مُنْخَذِلًا (5) وَلَا مُرْجِفًا، فَضْلًا عَنْ أَنَّ *) (6) يُقَدَّمُ (7) عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَيَجْعَلَهُ مَعَهُ فِي عَرِيشِهِ.
(1) م: مَرَّاتٍ
(2)
س، ب: السِّيَرِ.
(3)
مَعَ مَنِ انْهَزَمَ: زِيَادَةٌ فِي (م)
(4)
س، ب: الْحَالَةُ.
(5)
م: مَخْذُولًا.
(6)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)
(7)
ب: يُقَدِّمَهُ
الرَّابِعُ: أَنَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ ثَبَاتِهِ وَقُوَّةِ يَقِينِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ يُكَذِّبُ هَذَا الْمُفْتَرِي، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ:" اللَّهُمَّ أَنْجَزَ لِي مَا وَعَدْتِنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ " فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكَبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} » [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 9] الْآيَةَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1) .
الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ السِّيرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَقْوَى قَلْبًا مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ لَا يُقَارِبُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَزَلْ مُجَاهِدًا ثَابِتًا (2) مِقْدَامًا شُجَاعًا، لَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّهُ جَبُنَ عَنْ قِتَالِ عَدُوٍّ، بَلْ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعُفَتْ قُلُوبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُثَبِّتُهُمْ حَتَّى قَالَ أَنَسٌ:" خَطَبْنَا أَبُو بَكْرٍ وَنَحْنُ كَالثَّعَالِبِ فَمَا زَالَ يُشَجِّعُنَا حَتَّى صِرْنَا كَالْأُسُودِ ".
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ تَأَلَّفِ النَّاسَ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ
(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى
(2)
ثَابِتًا: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب) .
وَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ: أَجَبَّارٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارٌ فِي الْإِسْلَامِ؟ ! عَلَامَ أَتَأَلَّفُهُمْ: عَلَى حَدِيثٍ مُفْتَرًى أَمْ عَلَى شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ؟ ! .
السَّادِسُ: قَوْلُهُ: " أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْقَاعِدُ عَنِ الْقِتَالِ، أَوِ الْمُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ ! .
فَيُقَالُ: بَلْ كَوْنُهُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْعَدُوُّ يَقْصِدُهُ، فَكَانَ ثُلُثُ الْعَسْكَرِ حَوْلَهُ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْعَدْوِ، وَثُلُثُهُ اتَّبَعَ الْمُنْهَزِمِينَ وَثُلُثُهُ أَخَذُوا الْغَنَائِمَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ.
السَّابِعُ: قَوْلُهُ: " إِنَّ أُنْسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَبِّهِ كَانَ مُغْنِيًا لَهُ عَنْ كُلِّ أَنِيسٍ ".
فَيُقَالُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّهُ كَانَ أَنِيسَهُ فِي الْعَرِيشِ، لَيْسَ هُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَمَنْ قَالَهُ، وَهُوَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ يُؤْنِسُهُ لِئَلَّا يَسْتَوْحِشَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُعَاوِنُهُ عَلَى الْقِتَالِ، كَمَا كَانَ مَنْ هُوَ دُونَهُ يُعَاوِنُهُ عَلَى الْقِتَالِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 62] وَهُوَ أَفْضَلُ (1) الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِمْ.
وَقَالَ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 84] ، وَكَانَ الْحَثُّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعَاوِنَهُ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُهُ وَعَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُحَرِّضَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَيُقَاتِلُ بِهِمْ عَدُوَّهُ
(1) ن، م، س: وَأَفْضَلُ أَفْضَلُ:. . وَهُوَ خَطَأٌ، وَالْمُثْبَتُ مِنْ (ب) .
بِدُعَائِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَفِعْلِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ [بِهِ](1) عَلَى الْجِهَادِ.
الثَّامِنُ: أَنْ يُقَالَ \: [مِنْ](2) الْمَعْلُومِ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مُقَدَّمَ الْقِتَالِ الْمَطْلُوبِ، الَّذِي قَدْ قَصَدَهُ أَعْدَاؤُهُ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، إِذَا أَقَامَ فِي عَرِيشٍ، أَوْ قُبَّةٍ أَوْ حَرْكَاةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُجِنُّهُ (3) ، وَلَمْ يَسْتَصْحِبْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا وَاحِدًا، وَسَائِرُهُمْ خَارِجَ ذَلِكَ الْعَرِيشِ لَمْ يَكُنْ هَذَا إِلَّا أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، وَأَعْظَمُهُمْ مُوَالَاةً لَهُ وَانْتِفَاعًا بِهِ.
وَهَذَا النَّفْعُ فِي الْجِهَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ قُوَّةِ الْقَلْبِ وَثَبَاتِهِ، لَا مَعَ ضِعْفِهِ وَخَوَرِهِ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ أَكْمَلَهُمْ إِيمَانًا وَجِهَادًا، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ فَمَنْ كَانَ أَفْضَلَ فِي ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا.
قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 19، 20] فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ، وَالصِّدِّيقُ أَكْمَلُ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا قِتَالُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ فَقَدْ شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ (4) الَّذِينَ قَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَا أُحُدٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ.
(1) بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (س)
(2)
مِنْ: زِيَادَةٌ فِي (م)
(3)
ن، م، س: مِمَّا يُحِبُّهُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ. وَيُجِنُّهُ: يُخْفِيهِ.
(4)
م: كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
فَفَضِيلَةُ الصِّدِّيقِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَفَضِيلَةُ عَلِيٍّ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ خَرَجَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرِيشِ، وَرَمَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّمْيَةَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 17] وَالصِّدِّيقُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَدْ رَأَيْتُكَ يَوْمَ بَدْرٍ فَصَدَفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ: لَكِنِّي لَوْ رَأَيْتُكَ لَقَتَلْتُكَ.
فَصْلٌ.
قَالَ الرَّافِضِيُّ (1) : " وَأَمَّا إِنْفَاقُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَذِبٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ، فَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ فَقِيرًا فِي الْغَايَةِ، وَكَانَ يُنَادِي عَلَى مَائِدَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ كُلَّ يَوْمٍ بِمُدٍّ (2) يَقْتَاتُ بِهِ، وَلَوْ (3) كَانَ أَبُو بَكْرٍ غَنِيًّا لَكَفَى أَبَاهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُعَلِّمًا لِلصِّبْيَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي الْإِسْلَامِ كَانَ خَيَّاطًا (4) ، وَلَمَّا وَلِيَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ مَنَعَهُ النَّاسُ عَنِ الْخِيَاطَةِ، فَقَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ (5) إِلَى الْقُوتِ
(1) الْكَلَامُ التَّالِي فِي (ك) ص 200 (م) وَسَبَقَ فِي هَذَا الْجُزْءِ.
(2)
ك: بِمُدٍّ فِي كُلِّ يَوْمٍ.
(3)
ك: فَلَوْ.
(4)
ك: خَيَّاطًا، وَكُلَّ يَوْمٍ يَخِيطُ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ.
(5)
ك: مِنَ الْخِيَاطَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي لَأَحْتَاجُ.
فَجَعَلُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ " (1) .
وَالْجَوَابُ: أَنْ يُقَالَ: أَوَّلًا: مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ وَالْبُهْتَانِ أَنْ يُنْكِرَ الرَّجُلُ مَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ وَشَاعَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَامْتَلَأَتْ بِهِ الْكُتُبُ: كُتُبُ الْحَدِيثِ الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِدِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أَخْبَارِالْقَوْمِ وَفَضَائِلِهِمْ، ثُمَّ يَدَّعِي شَيْئًا مِنَ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَلَا يَنْقُلُهُ بِإِسْنَادٍ مَعْرُوفٍ وَلَا إِلَى كِتَابٍ (2) يَعْرِفُهُ يُوثَقُ بِهِ، وَلَا يَذْكُرُ مَا قَالَهُ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ نَاظَرَ أَجْهَلَ الْخَلْقِ لَأَمْكَنَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: بَلِ الَّذِي ذَكَرْتَ هُوَ الْكَذِبُ وَالَّذِي قَالَهُ مُنَازِعُوكَ هُوَ الصِّدْقُ فَكَيْفَ تُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا، وَلَا نَقْلٍ يُعْرَفُ بِهِ ذَلِكَ؟ وَمَنِ الَّذِي نَقَلَ مِنَ الثِّقَاتِ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ؟ .
ثُمَّ يُقَالُ: أَمَّا إِنْفَاقٌ أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ، فَمُتَوَاتِرٌ مَنْقُولٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ:" «مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ» "(3)، وَقَالَ:" «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ» "(4)، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ اشْتَرَى الْمُعَذَّبِينَ مِنْ مَالِهِ: بِلَالًا وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ اشْتَرَى سَبْعَةَ أَنْفُسٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يُنَادِي عَلَى مَائِدَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ.
فَهَذَا لَمْ يَذْكُرْ لَهُ إِسْنَادًا يُعْرَفُ بِهِ صِحَّتَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَضُرَّ، فَإِنَّ هَذَا
(1) ك مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ
(2)
ب: يُعْرَفُ
(3)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 5/21
(4)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ 1/512.
كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ مَاتَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَكَانَ لِأَبِي قُحَافَةَ مَا يُعِينُهُ وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّ أَبَا قُحَافَةَ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ وَقَدْ عَاشَ أَبُو قُحَافَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَوَرِثَ السُّدُسَ فَرَدَّهُ عَلَى أَوْلَادِهِ لِغِنَاهُ عَنْهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا لَكَانَ الصِّدِّيقُ يَبَرُّهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَةٍ بَعِيدَةٍ، وَكَانَ مِمَّنْ تَكَلَّمُ (1) فِي الْإِفْكِ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سُورَةُ النُّورِ: 22] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ، وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. (2)
وَقَدِ اشْتَرَى بِمَالِهِ سَبْعَةً مِنَ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ، وَلَمَّا هَاجَرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَصْحَبَ مَالَهُ فَجَاءَ أَبُو قُحَافَةَ، وَقَالَ لِأَهْلِهِ: ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ بِنَفْسِهِ فَهَلْ تَرَكَ مَالَهُ عِنْدَكُمْ أَوْ أَخَذَهُ؟ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَقُلْتُ: بَلْ تَرَكَهُ، وَوَضَعْتُ فِي الْكُوَّةِ شَيْئًا، (* وَقُلْتُ: هَذَا هُوَ الْمَالُ لِتَطِيبَ نَفْسِهِ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِعِيَالِهِ، وَلَمْ يَطْلُبْ أَبُو قُحَافَةَ مِنْهُمْ شَيْئًا *) (3) ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى غِنَاهُ.
(1) ن، س، ب: يَتَكَلَّمُ.
(2)
الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما فِي الْبُخَارِيِّ 3/173 - 176 (كِتَابُ الشَّهَادَاتِ، بَابُ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بِعْضِهِنَّ بَعْضًا) ، 6/101 - 105 (كِتَابُ التَّفْسِيرِ، سُورَةُ النُّورِ، بَابُ: لَوْلَا إِذَ سَمِعْتُمُوهُ. . .) ، 8/138 (كِتَابُ الْأَيْمَانِ، بَابُ الْيَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَفِي الْمَعْصِيَةِ وَفِي الْغَضَبِ) مُسْلِمٍ 4/2129 - 2137 (كِتَابُ التَّوْبَةِ، بَابٌ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ) الْمُسْنَدِ (ط الْحَلَبِيِّ) 6/194 - 198.
(3)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م) .
وَقَوْلُهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مُعَلِّمًا لِلصِّبْيَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَهَذَا مِنَ الْمَنْقُولِ الَّذِي لَوْ كَانَ صِدْقًا لَمْ يَقْدَحْ فِيهِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ (1) الْمُسْلِمِينَ يُؤَدِّبُونَ، مِنْهُمْ أَبُو صَالِحٍ صَاحِبُ (2) الْكَلْبِيِّ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ يُعَلِّمَانِ الصِّبْيَانَ فَلَا يَأْخُذَانِ أَجْرًا، وَمِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ (3) . وَحُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، وَهُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ وَالْقَاسِمُ بْنُ عُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَحَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ مَوْلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ.
وَمِنْهُمْ عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَكَانَ لَهُ مَكْتَبٌ يُعَلِّمُ فِيهِ.
وَمِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْإِمَامُ الْمُجْمَعُ عَلَى إِمَامَتِهِ وَفَضْلِهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ (4) مِنَ الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ؟ ! .
بَلْ لَوْ كَانَ الصِّدِّيقُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَرْذَلِينَ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ سَعْدٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَصُهَيْبُ وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَطَلَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَرْدَهُمْ فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ:
(1) عُلَمَاءِ: سَاقِطَةٌ مَنْ (م) .
(2)
صَاحِبُ: سَاقِطَةٌ مَنْ (س) ، (ب) .
(3)
م. وَعَبْدُ الْكَرِيمِ وَأَبُو أُمَيَّةَ
(4)
ذَلِكَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب) .
{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 52، 53] .
وَقَوْلَهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 28] .
وَقَالَ فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ - وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ - وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ - وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ - وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ - فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ - عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} إِلَى آخَرِ السُّورَةِ [سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: 29 - 34] .
وَقَالَ: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 212] .
وَقَالَ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أَهَؤُلَاءِ {الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 48، 49] .
وَقَالَ: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ - أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [سُورَةُ ص: 62، 63] .
وَقَالَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 111] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [سُورَةُ هُودٍ: 27] وَقَالَ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 75، 76] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ هِرَقْلَ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ» (1) .
فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ كَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي كَمَالِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، كَمَا لَمْ يَقْدَحْ فِي إِيمَانِ هَؤُلَاءِ وَتَقْوَاهُمْ، وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ.
وَلَكِنَّ كَلَامَ الرَّافِضَةِ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَصَّبُونَ لِلنَّسَبِ وَالْآبَاءِ لَا لِلدِّينِ، وَيَعِيبُونَ الْإِنْسَانَ بِمَا لَا يَنْقُضُ إِيمَانَهُ وَتَقْوَاهُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ ظَاهِرَةً عَلَيْهِمْ فَهُمْ يُشْبِهُونَ الْكُفَّارَ مِنْ وُجُوهٍ خَالَفُوا بِهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
وَقَوْلُهُ: " إِنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ خَيَّاطًا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمَّا وَلِيَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ مَنَعَهُ النَّاسُ عَنِ الْخِيَاطَةِ ".
كَذِبٌ ظَاهِرٌ، يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَإِنْ كَانَ لَا غَضَاضَةَ فِيهِ لَوْ
(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/434.
كَانَ حَقًّا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ خَيَّاطًا، وَإِنَّمَا كَانَ تَاجِرًا تَارَةً يُسَافِرُ فِي تِجَارَتِهِ وَتَارَةً لَا يُسَافِرُ، وَقَدْ سَافَرَ إِلَى الشَّامِ فِي تِجَارَتِهِ (1) فِي الْإِسْلَامِ، وَالتِّجَارَةُ كَانَتْ أَفْضَلُ مَكَاسِبِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ خِيَارُ أَهْلِ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ أَهْلَ التِّجَارَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُمْ بِالتِّجَارَةِ، وَلَمَّا وُلِّيَ أَرَادَ أَنْ يَتَّجِرَ لِعِيَالِهِ فَمَنَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: هَذَا يَشْغَلُكَ عَنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ عَامَّةُ مَلَابِسِهِمُ الْأَرْدِيَةَ وَالْأُرُزَ، فَكَانَتِ الْخِيَاطَةُ فِيهِمْ قَلِيلَةً جِدًّا، وَقَدْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ خَيَّاطٌ دَعَا (2) النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتِهِ (3) .
وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ الْمَشْهُورُونَ فَمَا أَعْلَمُ فِيهِمْ خَيَّاطًا مَعَ أَنَّ الْخِيَاطَةَ مِنْ أَحْسَنِ الصِّنَاعَاتِ وَأَجَلِّهَا.
وَإِنْفَاقُ أَبِي بَكْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (4) ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي قُرَيْشٍ مُحَبَّبًا مُؤْلَفًا خَبِيرًا بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِهِمْ، وَكَانُوا يَأْتُونَهُ لِمَقَاصِدِ التِّجَارَةِ وَلِعِلْمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ لَهُ ابْنُ الدَّغِنَّةِ،
(1) ن، م: فِي تِجَارَةٍ
(2)
س، ب عِنْدَ
(3)
ب: لِآلِ. وَالْحَدِيثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي الْبُخَارِيِّ 7/68 (كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ، بَابُ مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ. . .) وَنَصُّهُ. . . سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ. قَالَ أَنَسٌ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمَئِذٍ. وَالْحَدِيثُ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ 3/61 (كِتَابُ الْبُيُوعِ، بَابُ ذِكْرِ الْخَيَّاطِ، مُسْلِمٍ 3/1615 (كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ، بَابُ جَوَازِ أَكْلِ الْمَرَقِ. . .) وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْمُوَطَّأِ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالدُّبَّاءُ. الْيَقْطِينُ أَوِ الْقَرْعُ الْوَاحِدَةُ: دُبَّاءَةٌ.
(4)
م: فِي الْإِسْلَامِ.
" مِثْلُكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ "(1) .
وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ (2) عَابَ أَبَا بَكْرٍ بِعَيْبٍ، وَلَا نَقَصَهُ وَلَا اسْتَرْذَلَهُ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُمْ عَيْبٌ (3) إِلَّا إِيمَانَهُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ قَطُّ بِهِ عَيْبٌ عِنْدَ قُرَيْشٍ وَلَا نَقْصٌ وَلَا يَذُمُّونَهُ بِشَيْءٍ قَطُّ، بَلْ كَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَهُمْ بَيْتًا وَنَسَبًا مَعْرُوفًا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَكَذَلِكَ صِدِّيقُهُ الْأَكْبَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَيْبٌ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُيُوبِ.
وَابْنُ الدَّغِنَّةِ سَيِّدُ الْقَارَةِ إِحْدَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ قُرَيْشٍ يُجِيرُونَ مَنْ أَجَارَهُ لِعَظَمَتِهِ عِنْدَهُمْ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لِمَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَّةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدُ رَبِّي، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنَا لَكَ جَارٌ فَارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَّةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ
(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ صَفَحَاتٍ فِي هَذَا الْجُزْءِ.
(2)
وَغَيْرِهِمْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب) .
(3)
ن: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَيْبٌ عِنْدَهُمْ. .
الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ؟ فَلَمْ يُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَّةِ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَّةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِنَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَّةِ، فَقَدِمَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجْرَنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَجَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَّةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارِكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1)
(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْجُزْءِ.
فَقَدْ وَصَفَهُ ابْنُ الدَّغِنَّةِ بِحَضْرَةِ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ بِمِثْلِ مَا «وَصَفَتْ بِهِ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَقَالَ لَهَا: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى عَقْلِي " فَقَالَتْ لَهُ: " كَلَّا وَاللَّهِ لَنْ يُخْزِيَكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» " (1) .
فَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ النَّبِيِّينَ، وَصِدِّيقُهُ أَفْضَلُ الصِّدِّيقِينَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي
(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 2/419 - 420
(2)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ عِدَّةَ مَرَّاتٍ. انْظُرْ 1/512.
إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ (1) ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ " مَرَّتَيْنِ» (2) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا» " فَذَكَرَ تَمَامَهُ (3) .
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا نَفَعَنِي مَالٌ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ " فَبَكَى وَقَالَ: وَهَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ؟ (4) .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مَالُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفَعُ لِي مِنْ مَالِ أَبِي بَكْرٍ " وَمِنْهُ أَعْتَقَ بِلَالًا» ، وَكَانَ يَقْضِي فِي مَالِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا يَقْضِي الرَّجُلُ فِي مَالِ نَفْسِهِ.
(1) ن، س: صَدَقَ
(2)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي هَذَا الْجُزْءِ
(3)
انْظُرْ مَا سَبَقَ 1/512
(4)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 5/21.