الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَمْ تَزَلْ شِيعَةُ عُثْمَانَ الْقَادِحِينَ فِي عَلِيٍّ تَحْتَجُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً رَاشِدًا وَمَا كَانَتْ (1) حُجَّتُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ حُجَّةِ الرَّافِضَةِ، فَإِذَا (2) كَانَتْ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةً وَعَلِيٌّ قُتِلَ مَظْلُومًا فَعُثْمَانُ أَوْلَى بِذَلِكَ.
[باب الفصل السادس في فسخ حججهم على إمامة أبي بكر]
[الأول الإجماع والجواب منع الإجماع والرد عليه]
بَابٌ.
قَالَ الرَّافِضِيُّ (3) : الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي فَسْخِ (4) حُجَجِهِمْ (5) عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْإِجْمَاعُ، وَالْجَوَابُ: مَنْعُ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَمْ يُوَافِقُوا عَلَى ذَلِكَ وَجَمَاعَةً مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَسَلْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَالْمِقْدَادِ وَعَمَّارٍ وَحُذَيْفَةَ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ (6)[وَابْنِ عَبَّاسٍ](7) .
(1) ن، م، س: مَا كَانَتْ
(2)
س، ب: وَإِذَا
(3)
فِي (ك) ص 197 (م)
(4)
فَسْخِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س)، (ب) وَفِي (ك) : نَسْخِ
(5)
س، ب حُجَّتِهِمْ
(6)
م: ك: وَخَالِدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ خَطَأٌ. وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، صَحَابِيٌّ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، اخْتُلِفَ فِي يَوْمِ اسْتِشْهَادِهِ فَقِيلَ فِي: يَوْمِ مَرْجِ الصُّفَّرِ، وَقِيلَ: يَوْمَ أَجْنَادَيْنِ. انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي: الْإِصَابَةِ 1/406، طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ 4/94 - 100
(7)
وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي (ك) فَقَطْ
حَتَّى أَنَّ أَبَاهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ (1)، وَقَالَ: مَنِ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ (2) ؟ فَقَالُوا: ابْنُكَ، فَقَالَ: وَمَا فَعَلَ الْمُسْتَضْعَفَانِ؟ إِشَارَةٌ إِلَى عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ (3)، قَالُوا: اشْتَغَلُوا بِتَجْهِيزِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَأَوْا [أَنَّ](4) ابْنَكَ أَكْبَرُ [الصَّحَابَةِ سِنًّا، فَقَالَ: أَنَا] أَكْبَرُ (5) مِنْهُ.
وَبَنُو حَنِيفَةَ كَافَّةً لَمْ يَحْمِلُوا (6) الزَّكَاةَ إِلَيْهِ، حَتَّى سَمَّاهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَقَتَلَهُمْ وَسَبَاهُمْ، فَأَنْكَرَ (7) عُمَرُ عَلَيْهِ، وَرَدَّ السَّبَايَا أَيَّامَ خِلَافَتِهِ.
وَالْجَوَابُ: بَعْدَ أَنْ يُقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ إِخْوَانِ الْمُرْتَدِّينَ مَا تَحَقَّقَ بِهِ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّهُمْ إِخْوَانُ الْمُرْتَدِّينَ حَقًّا، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ وَهَتَكَ أَسْتَارَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَزَالُ يَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ تُبَيِّنُ عَدَاوَتَهُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِخِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} .
(1) أَيْ أَنَّ أَبَا قُحَافَةَ وَالِدَ أَبِي بَكْرٍ أَنْكَرَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ النَّاسُ ابْنَهُ
(2)
ك: مَنِ اسْتَخْلَفَ النَّاسُ
(3)
ك: إِشَارَةٌ إِلَى عَلِيٍّ عليه السلام وَعَبَّاسٍ عليه السلام
(4)
أَنَّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (س) ، (ب)
(5)
ن، م، س: وَابْنُكَ أَكْبَرُ مِنْهُ، ب: ابْنُكَ أَكْبَرُ سِنًّا. وَالْمُثْبَتُ مِنْ (ك) وَهُوَ الصَّوَابُ
(6)
ن، م، س، ب: وَلَمْ يَحْمِلُوا، وَهُوَ خَطَأٌ. وَالْمُثْبَتُ مِنْ (ك)
(7)
ك: وَأَنْكَرَ
فَنَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِالسِّيرَةِ، وَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، جَزَمَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِأَنَّ قَائِلَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَخْبَارِ الصَّحَابَةِ، وَإِمَّا أَنَّهُ مِنْ أَجْرَأِ النَّاسِ عَلَى الْكَذِبِ، فَظَنِّي أَنَّ هَذَا الْمُصَنِّفَ وَأَمْثَالَهُ مِنْ شُيُوخِ الرَّافِضَةِ يَنْقُلُونَ مَا فِي كُتُبِ سَلَفِهِمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ، وَلَا نَظَرٍ فِي أَخْبَارِ (1) الْإِسْلَامِ، وَفِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَعْرِفَ أَحْوَالَ الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي ظُلْمَةِ الْجَهْلِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُفْتَرِينَ لِلْكَذِبِ (2) مِنْ شُيُوخِ الرَّافِضَةِ كَثِيرُونَ جِدًّا (3) وَغَالِبُ الْقَوْمِ ذَوُو هَوًى أَوْ جَهْلٍ فَمَنْ حَدَّثَهُمْ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ صَدَّقُوهُ، وَلَمْ يَبْحَثُوا عَنْ صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ، وَمَنْ حَدَّثَهُمْ (4) بِمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ كَذَّبُوهُ، وَلَمْ يَبْحَثُوا عَنْ صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ وَلَهُمْ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 32] كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَهُمْ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 33] .
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ جَعْلُهُ (5) بَنِي حَنِيفَةَ
(1) م: وَلَا نَظَرُوا أَخْبَارَ
(2)
م: الْكَذِبَ
(3)
م: كَثِيرٌ جِدًّا
(4)
س، ب: يُحَدِّثُهُمْ
(5)
م: جَعْلُ
مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ ; فَإِنَّهُمْ لَمَّا امْتَنَعُوا عَنْ بَيْعَتِهِ وَلَمْ يَحْمِلُوا (1) إِلَيْهِ الزَّكَاةَ سَمَّاهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَقَتَلَهُمْ وَسَبَاهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِهِ.
وَبَنُو حَنِيفَةَ قَدْ عَلِمَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ بِالْيَمَامَةِ، وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّسَالَةِ، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي آخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَ (2) هُوَ وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ بِصَنْعَاءِ الْيَمَنِ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْهَلَةَ، وَاتَّبَعَ الْأَسْوَدَ أَيْضًا خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ بِيَدِ فَيْرُوزَ الدَّيْلِمِيِّ وَمَنْ أَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ (3) لَيْلَةَ قُتِلَ، وَقَالَ:" «قَتَلَهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ أَهْلِ (4) بَيْتٍ صَالِحِينَ» "(5) .
وَالْأَسْوَدُ ادَّعَى الِاسْتِقْلَالَ بِالنُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْمُشَارَكَةِ، وَغَلَبَ عَلَى الْيَمَنِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا عُمَّالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى قَتَلَهُ
(1) ن، م، س امْتَنَعُوا عَنْ بَيْعَتِهِ لَمْ يَحْمِلُوا. .
(2)
فَقُتِلَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (س) ، (ب)
(3)
بِقَتْلِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب)
(4)
أَهْلِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب)
(5)
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " الِاسْتِيعَابِ " عَلَى هَامِشِ الْإِصَابَةِ 3/202) قَالَ " سَيْفُ (بْنُ عُمَرَ) وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الشَّنَوِيُّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَى الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنَ السَّمَاءِ اللَّيْلَةَ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْأَسْوَدُ الْكَذَّابُ الْعَنْسِيُّ، فَخَرَجَ لِيُبَشِّرَنَا فَقَالَ: " قُتِلَ الْأَسْوَدُ الْبَارِحَةَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مُبَارَكِينَ " قِيلَ " وَمَنْ قَتَلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ "
اللَّهُ، وَنَصَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ (1) ، بَعْدَ أَنْ جَرَتْ أُمُورٌ، وَقَدْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ.
وَأَمَّا مُسَيْلِمَةُ فَإِنَّهُ ادَّعَى الْمُشَارَكَةَ فِي النُّبُوَّةِ، وَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّ فِي يَدِي سُوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَقِيلَ لِي: انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ: صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ» "(2) وَأَمْرُ مُسَيْلِمَةَ وَادِّعَاؤُهُ النُّبُوَّةَ وَاتِّبَاعُ بَنِي حَنِيفَةَ لَهُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى، إِلَّا عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ.
وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَلِمَهُ مَنْ [يَعْلَمُهُ مِنَ] الْيَهُودِ (3) وَالنَّصَارَى، فَضْلًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُرْآنُهُ الَّذِي قَرَأَهُ قَدْ حَفِظَ النَّاسَ مِنْهُ سُوَرًا إِلَى الْيَوْمِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: يَا ضِفْدَعُ بَنْتَ ضِفْدَعَيْنِ، نِقِّي كَمْ تَنِقِّينَ، لَا الْمَاءَ تُكَدِّرِينَ، وَلَا الشَّارِبَ تَمْنَعِينَ، رَأْسُكِ فِي الْمَاءِ وَذَنَبُكِ فِي الطِّينِ.
وَمِثْلَ قَوْلِهِ: الْفِيلُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْفِيلُ، لَهُ زَلُّومٌ طَوِيلُ، إِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا لَقَلِيلُ.
(1) س، ب: الْمُسْلِمُونَ
(2)
سَيَرِدُ الْحَدِيثُ مُفَصَّلًا بَعْدَ صَفَحَاتٍ (ص 328) فَانْظُرْ كَلَامِي عَلَيْهِ هُنَاكَ
(3)
ن: قَدْ عَلِمَهُ مِنَ الْيَهُودِ ; س، ب: قَدْ عَلِمَهُ الْيَهُودُ
وَمِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَمَاهِرْ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَهَاجِرْ، وَلَاتُطِعْ كُلَّ سَاحِرٍ (1) وَكَافِرْ.
وَمِثْلَ قَوْلِهِ: وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا، وَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا، وَالْخَابِزَاتِ خُبْزًا، إِهَالَةً وَسَمْنًا إِنَّ الْأَرْضَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قُرَيْشٍ نِصْفَيْنِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ لَا يَعْدِلُونَ. وَأَمْثَالَ هَذَا الْهَذَيَانِ.
وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ قَتْلِ مُسَيْلِمَةَ طَلَبَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُسْمِعُوهُ شَيْئًا مِنْ قُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ، فَلَمَّا أَسْمَعُوهُ، قَالَ لَهُمْ:" وَيْحَكُمْ أَيْنَ يَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ؟ إِنَّ هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ " أَيْ مِنْ رَبٍّ (2) .
وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ قَدْ كَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ: " مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ (3) فِي الْأَمْرِ مَعَكَ " فَكَتَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَلَمَّا جَاءَ رَسُولُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا أَظْهَرَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ الرِّدَّةَ
(1) ن: سَافِرٍ، م: مُسَافِرٍ
(2)
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ "" وَفِي حَدِيثِ الصِّدِّيقِ لَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ كَلَامُ مُسَيْلِمَةَ قَالَ: " إِنَّ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ " أَيْ مِنْ رُبُوبِيَّةٍ. وَالْإِلُّ بِالْكَسْرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالِي، وَقِيلَ: الْإِلُّ: هُوَ الْأَصْلُ الْجَيِّدُ، أَيْ لَمْ يَجِئْ مِنَ الْأَصْلِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ الْقُرْآنُ. . "
(3)
س، ب: فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ أُشْرِكْتُ
بِالْكُوفَةِ فَقَتَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَذَكَّرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا (1) .
وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ قَدْ (2) قَدِمَ فِي وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَشْرَكَنِي فِي الْأَمْرِ مَعَهُ " وَاسْتَشْهَدَ بِرَجُلَيْنِ (3) : أَحَدُهُمَا الرَّحَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ، فَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ. وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَالَ لِثَلَاثَةٍ أَحَدُهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالثَّانِي: الرَّحَّالُ هَذَا: " إِنَّ أَحَدَكُمْ ضِرْسُهُ فِي النَّارِ أَعْظَمُ مِنْ كَذَا وَكَذَا» " فَاسْتُشْهِدَ الثَّالِثُ فِي سَبِيلِ [اللَّهِ](4) وَبَقِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ خَائِفًا حَتَّى شَهِدَ هَذَا لِمُسَيْلِمَةَ بِالنُّبُوَّةِ، وَاتَّبَعَهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ هُوَ كَانَ الْمُرَادَ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (5) .
وَكَانَ مُؤَذِّنُ مُسَيْلِمَةَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا وَمُسَيْلِمَةَ رَسُولَا اللَّهِ.
(1) ذَكَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ تَفْصِيلًا ابْنُ كَثِيرٍ فِي " السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ " 4/97 - 99. وَانْظُرْ أَيْضًا سِيرَةَ ابْنِ هِشَامٍ 4/247 إِمْتَاعَ الْأَسْمَاعِ، ص 508 - 509 زَادَ الْعِمَادِ 3/610 - 613
(2)
قَدْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب)
(3)
س، ب: رَجُلَيْنِ
(4)
لَفْظُ الْجَلَالَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي (ن)
(5)
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي " السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ " 4/97: " وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الرَّحَّالَ بْنَ عُنْفُوَةَ - وَاسْمُهُ نَهَارُ بْنُ عُنْفُوَةَ - وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَصَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُدَّةً. وَقَدْ مَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ، فَقَالَ لَهُمْ: " أَحَدُكُمْ ضِرْسُهُ فِي النَّارِ مِثْلُ أُحُدٍ " فَلَمْ يَزَالَا خَائِفَيْنِ حَتَّى ارْتَدَّ الرَّحَّالُ مَعَ مُسَيْلِمَةَ وَشَهِدَ لَهُ زُورًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْرَكَهُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ وَأَلْقَى إِلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَحْفَظُهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَادَّعَاهُ مُسَيْلِمَةُ لِنَفْسِهِ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ لِبَنِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ قَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ "
وَمِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ - أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ - أَنَّهُ قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ؛ وَأَعْظَمُ النَّاسِ رِدَّةً كَانَ بَنُو حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَكُنْ قِتَالُهُ لَهُمْ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ، بَلْ قَاتَلَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، وَكَانُوا فِيمَا يُقَالُ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ.
وَالْحَنَفِيَّةُ أُمُّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ سُرِّيَّةُ عَلِيٍّ كَانَتْ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ سَبْيَ الْمُرْتَدَّاتِ إِذَا كَانَ الْمُرْتَدُّونَ مُحَارِبِينَ، فَإِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ مَعْصُومِينَ، فَكَيْفَ اسْتَجَازَ عَلِيٌّ أَنْ يَسْبِيَ نِسَاءَهُمْ؟ وَيَطَأَ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ؟ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ، فَأُولَئِكَ نَاسٌ آخَرُونَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُؤَدُّونَهَا وَقَالُوا: لَا نُؤَدِّيهَا إِلَيْكَ، بَلِ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَاتَلَهُمْ عَلَى هَذَا، لَمْ يُقَاتِلْهُمْ لِيُؤَدُّوهَا إِلَيْهِ، وَأَتْبَاعُ الصِّدِّيقِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا يَقُولُونَ: إِذَا قَالُوا: نَحْنُ نُؤَدِّيهَا (1) وَلَا نَدْفَعُهَا إِلَى الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ لَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الصِّدِّيقَ، إِنَّمَا قَاتَلَ مَنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا جُمْلَةً لَا مَنْ قَالَ: أَنَا أُؤَدِّيهَا بِنَفْسِي.
وَلَوْ عَدَّ هَذَا الْمُفْتَرِي الْرَافِضِيُّ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الْمَجُوسَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ عَدِّهِ لِبَنِي حَنِيفَةَ، بَلْ كُفْرُ بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ ; فَإِنَّ أُولَئِكَ كُفَّارٌ مِلِّيُّونَ (2) وَهَؤُلَاءِ مُرْتَدُّونَ، وَأُولَئِكَ يُقِرُّونَ
(1) ن، م: نَحْنُ لَا نُؤَدِّيهَا. . .، وَهُوَ خ
(2)
س، ب: أَصْلِيُّونَ
بِالْجِزْيَةِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ (1) ، وَأُولَئِكَ لَهُمْ كِتَابٌ، أَوْ شِبْهَةُ كِتَابٍ، وَهَؤُلَاءِ اتَّبَعُوا مُفْتَرِيًا كَذَّابًا؛ لَكِنْ كَانَ مُؤَذِّنُهُ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا وَمُسَيْلِمَةَ رَسُولَا اللَّهِ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ مُحَمَّدًا وَمُسَيْلِمَةَ سَوَاءً.
وَأَمْرُ مُسَيْلِمَةَ مَشْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ، وَالْمَغَازِي وَالْفُتُوحِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالْكَلَامِ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ خَلُصَ إِلَى الْعَذَارَى فِي خُدُورِهِنَّ، بَلْ قَدْ أَفْرَدَ الْإِخْبَارِيُّونَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ كُتُبًا سَمَّوْهَا كُتُبَ " الرِّدَّةِ " وَ " الْفُتُوحِ " مِثْلَ كِتَابِ " الرِّدَّةِ " لِسَيْفِ بْنِ عُمَرَ (2) وَالْوَاقِدَيِّ وَغَيْرِهِمَا، يَذْكُرُونَ فِيهَا مِنْ تَفَاصِيلِ أَخْبَارِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَقِتَالِهِمْ مَا يَذْكُرُونَ كَمَا قَدْ أَوْرَدُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفُتُوحِ الشَّامِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَمِنْهُ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ، وَمِنْهُ أَشْيَاءُ مَقَاطِيعُ وَمَرَاسِيلُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صِدْقًا وَكَذِبًا وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَكَذِبٌ.
(1)(1 - 1) : سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب) .
(2)
س، ب: وَالْفُتُوحِ كَسَيْفِ بْنِ عُمَرَ. . وَتَكَلَّمَ سَزْكِينُ (م [0 - 9] ، ج [0 - 9] ، ص 102 عَلَى كِتَابِ " الرِّدَّةِ - لِلْوَاقِدِيِّ وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُ صَفَحَاتٍ مَخْطُوطَةً وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبَيْشٍ اقْتَبَسَ مِنْهُ فِي " كِتَابِ الْمَغَازِي " كَمَا تُوجَدُ قِطَعٌ مِنْهُ فِي كِتَابِ " الْإِصَابَةِ " بَيَّنَ سِزْكِينُ مَوَاضِعَهَا. وَتَكَلَّمَ سِزْكِينُ أَيْضًا عَلَى سَيْفِ بْنِ عُمَرَ التَّمِيمِيِّ الْمُتَوَفَّى فِي عَهْدِ هَارُونَ الرَّشِيدِ (مِنْ 170 - 193 هـ) وَذَكَرَ مِنْ كُتُبِهِ كِتَابَ " الْفُتُوحِ الْكَبِيرِ وَالرِّدَّةِ " وَذَكَرَ عَدَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ اقْتَبَسُوا مِنْهُ وَاعْتَمَدُوا مِثْلَ الطَّبَرِيِّ وَابْنِ عَسَاكِرَ وَيَاقُوتٍ وَابْنِ حَجَرٍ. انْظُرْ سِزْكِينَ (م 1، ج [0 - 9] ، ص 133 - 134)
لَكِنَّ تَوَاتُرَ رِدَّةِ مُسَلْيِمَةَ وَقِتَالِ الصِّدِّيقِ وَحَرْبِهِ [لَهُ](1) كَتَوَاتُرِ هِرَقْلَ وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قَاتَلَهُ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَتَوَاتُرِ كُفْرِ مَنْ قَاتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ مِثْلَ عُتْبَةَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَحُيَيِ بْنِ أَخْطَبَ، وَتَوَاتُرِ نِفَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
بَلْ تَوَاتُرُ رِدَّةِ مُسَيْلِمَةَ وَقِتَالِ الصِّدِّيقِ لَهُ أَظْهَرُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ قِتَالِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَمِنْ كَوْنِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ قَاتَلَا عَلِيًّا، وَمِنْ كَوْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ تَخَلَّفُوا عَنْ بَيْعَةِ عَلِيٍّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ اتَّبَعْتُهُ، فَقَدَّمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مَنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةٌ مِنْ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ:" «لَوْ سَأَلَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ (2) فِيكَ مَا رَأَيْتُ، وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي» "، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " أُرِيتُ (3) فِيكَ مَا رَأَيْتُ "
(1) لَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م)
(2)
م: رِيتُ ن، س، ب: رَأَيْتُ وَالْمُثْبَتُ هُوَ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَسَيَتَكَرَّرُ بَعْدَ قَلِيلٍ كَمَا أَثْبَتَهُ هُنَا
(3)
عَنْهُ زِيَادَةٌ فِي (م)
فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سُوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ (1) فِي الْمَنَامِ أَنْ أَنْفُخَهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي، فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَالْآخَرُ (2) مُسَيْلِمَةَ» "(3) .
وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِضِيِّ: " إِنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ قِتَالَ أَهْلِ الرِّدَّةِ ".
فَمِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى عُمَرَ، بَلِ الصَّحَابَةُ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى قِتَالِ مُسَيْلِمَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَكِنْ كَانَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مُقِرِّينَ بِالْإِسْلَامِ، وَامْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَهَؤُلَاءِ حَصَلَ لِعُمَرَ أَوَّلًا شُبْهَةٌ فِي قِتَالِهِمْ، حَتَّى نَاظَرَهُ الصِّدِّيقُ، وَبَيَّنَ لَهُ وُجُوبَ قِتَالِهِمْ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ
(1) س، ب: رَأَيْتُ
(2)
س، ب فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ.
(3)
س، ب أَيْ وَالْأَخَرُ
النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، [وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ] (1) "، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَمْ يَقُلْ إِلَّا بِحَقِّهَا؟ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا. وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ " (2) .
وَعُمَرُ احْتَجَّ بِمَا بَلَغَهُ أَوْ سَمِعَهُ (3) مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ أَنَّ قَوْلَهُ: " بِحَقِّهَا " يَتَنَاوَلُ الزَّكَاةَ، فَإِنَّهُمَا حَقُّ الْمَالِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: (4) لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» "(5) .
فَهَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي الَّذِي قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ فِقْهَ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْقِتَالِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلْقُرْآنِ.
(1) وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م)
(2)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَا مَضَى
(3)
ن، م: وَسَمِعَ
(4)
م: يَشْهَدُو
(5)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/75 - 76، 1/117
[سُورَةُ التَّوْبَةِ: 5] فَعَلَّقَ تَخْلِيَةَ السَّبِيلِ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ.
وَالْأَخْبَارُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَدْ (1) قَبَضَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَى أَصْحَابِهَا لَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَرَبَّصُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهَا لَمَّا قَاتَلَهُمْ صَارَتِ الْعُمَّالُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الصَّدَقَاتِ زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرُهُمْ يَقْبِضُونَهَا، كَمَا كَانُوا يَقْبِضُونَهَا فِي زَمَنِهِ وَيَصْرِفُونَهَا كَمَا كَانُوا يَصْرِفُونَهَا.
وَبِهَذَا الْكِتَابِ وَنَظَائِرِهِ يَأْخُذُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ؛ فَلَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا وَلَّى أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ، لَا هُوَ وَلَا عُمَرُ بِخِلَافِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَإِنَّهُمَا وَلَّيَا أَقَارِبَهُمَا.
فَإِنْ جَازَ أَنْ يَطْعَنَ فِي الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ أَنَّهُمَا قَاتَلَا لِأَخْذِ الْمَالِ، فَالطَّعْنُ فِي غَيْرِهِمَا أَوْجَهُ فَإِذَا وَجَبَ الذَّبُّ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَهُوَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْجَبُ.
وَعَلِيٌّ يُقَاتِلُ لِيُطَاعَ وَيَتَصَرَّفَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ هَذَا
(1)(قَدْ) سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب)
قِتَالًا عَلَى الدِّينِ؟ وَأَبُو بَكْرٍ يُقَاتِلُ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَرَكَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لِيُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَطْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا قِتَالًا (1) عَلَى الدِّينِ؟ .
وَأَمَّا الَّذِينَ عَدَّهُمْ هَذَا الرَّافِضِيُّ أَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا عَنْ بَيْعَةِ الصِّدِّيقِ مَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ فَذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَإِنَّ مُبَايَعَةَ هَؤُلَاءِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُنْكَرَ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَالْمَنْقُولَاتِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ.
وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مَا خَرَجَ فِي السَّرِيَّةِ حَتَّى بَايَعَهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ لَهُ:" يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ".
وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ ذَكَرَهُ بَايَعَهُ، لَكِنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ كَانَ نَائِبًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا أَكُونُ نَائِبًا لِغَيْرِهِ» " فَتَرَكَ الْوِلَايَةَ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ الْمُقِرِّينِ بِخِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَتِهِ إِلَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ.
وَأَمَّا عَلِيٌّ وَبَنُو هَاشِمٍ فَكُلُّهُمْ بَايَعَهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُوَ مُبَايِعٌ لَهُ.
لَكِنْ قِيلَ: [عَلِيٌّ](2) تَأَخَّرَتْ بَيْعَتُهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: بَلْ بَايَعَهُ ثَانِيَ يَوْمٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَقَدْ بَايَعُوهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ.
(1) ن، م: قِتَالٌ، وَهُوَ خَطَأٌ
(2)
عَلِيٌّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م)
ثُمَّ جَمِيعُ النَّاسِ بَايَعُوا عُمَرَ إِلَّا سَعْدًا، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَةِ عُمَرَ أَحَدٌ إِلَا بِنُو هَاشِمٍ وَلَا غَيْرُهُمْ.
وَأَمَّا بَيْعَةُ عُثْمَانَ فَاتَّفَقَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَيْهَا، وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَلَمْ يُدْرِكْهَا، وَتَخَلُّفُ سَعْدٍ قَدْ عُرِفَ سَبَبُهُ؛ فَإِنَّهُ (1) كَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَصِيرَ أَمِيرًا، وَيَجْعَلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمِيرًا وَمِنَ الْأَنْصَارِ أَمِيرًا، وَمَا طَلَبَهُ (2) سَعْدٌ لَمْ يَكُنْ سَائِغًا بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِذَا ظَهَرَ خَطَأُ الْوَاحِدِ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ، ثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ كَانَ صَوَابًا، وَأَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ الَّذِي عُرِفَ خَطَؤُهُ بِالنَّصِّ شَاذٌّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُظْهِرُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً مِنِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، فَإِنَّ هَذَا يُسَوِّغُ خِلَافَةً، وَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ مَعَهُ وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ.
كَمَا كَانَ الْحَقُّ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي تَجْهِيزِ جَيْشِ أُسَامَةَ وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى تَبَيَّنَ صَوَابُ رَأْيِهِ فِيمَا بَعْدُ.
وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي قُحَافَةَ فَمِنَ الْكَذِبِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَبُو قُحَافَةَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، أَتَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ مِثْلُ الثَّغَامَةِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «لَوْ أَقْرَرْتَ الشَّيْخَ مَكَانَهُ لَأَتَيْنَاهُ» "(3) إِكْرَامًا لِأَبِي بَكْرٍ. وَلَيْسَ
(1) ن، س، ب: وَإِنْ
(2)
م: وَمَا طَلَبَ
(3)
الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي: الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 3/16
فِي الصَّحَابَةِ مَنْ أَسْلَمَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَأَوْلَادُهُ، وَأَدْرَكُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَدْرَكَهُ أَيْضًا بَنُو أَوْلَادِهِ: إِلَّا أَبُو بَكْرٍ مِنْ جِهَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. فَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنِينَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ كُلُّهُمْ أَيْضًا آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَحِبُوهُ وَأُمُّ أَبِي بَكْرٍ أُمُّ الْخَيْرِ (1) آمَنَتْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُمْ أَهْلُ بَيْتِ إِيمَانٍ لَيْسَ فِيهِمْ مُنَافِقٌ، وَلَا يُعْرَفُ فِي الصَّحَابَةِ مِثْلُ هَذَا لِغَيْرِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ.
وَكَانَ يُقَالُ: لِلْإِيمَانِ بُيُوتٌ وَلِلنِّفَاقِ بُيُوتٌ فَبَيْتُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُيُوتِ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَبَنُو النَّجَّارِ مِنْ بُيُوتِ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ (2) .
وَقَوْلُهُ: " إِنَّهُمْ قَالُوا لِأَبِي قُحَافَةَ: إِنَّ ابْنَكَ أَكْبَرُ الصَّحَابَةِ سِنًّا " كَذِبٌ ظَاهِرٌ، وَفِي الصَّحَابَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَسَنُّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَ الْعَبَّاسِ، فَإِنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ أَسَنَّ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَسَنَّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (3) : " لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ: يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ - مَاتَ وَسِنُّهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ اسْتَوْفَى سِنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَا لَا يَصِحُّ، لَكِنَّ الْمَأْثُورَ عَنْ أَبِي قُحَافَةَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(1) س، ب: وَأُمُّ الْخَيْرِ
(2)
م: مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ
(3)
أَوْرَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْكَلَامَ التَّالِيَ فِي " الِاسْتِيعَابِ " وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ التَّرْتِيبِ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ هُنَا. انْظُرْ الِاسْتِيعَابَ 2/248، 2/24
وَسَلَّمَ - ارْتَجَّتْ مَكَّةُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ أَبُو قُحَافَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَمْرٌ جَلِيلٌ، فَمِنْ وَلِيَ بَعْدَهُ؟ قَالُوا: ابْنُكَ، قَالَ: فَهَلْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ ".
وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ عَنْ مَنْعِهِ الْإِجْمَاعُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ إِلَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَإِلَّا فَالْبَقِيَّةُ كُلُّهُمْ بَايَعُوهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تَخَلَّفَتْ عَنْ مُبَايَعَتِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بَايَعَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ رَهْبَةٍ وَلَا رَغْبَةٍ.
وَالرِّسَالَةُ الَّتِي يَذْكُرُ بَعْضُ الْكُتَّابِ أَنَّهُ أَرْسَلَهَا إِلَى عَلِيٍّ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ عَلِيٌّ أَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنِ ائْتِنَا، فَذَهَبَ هُوَ إِلَيْهِمْ فَاعْتَذَرَ عَلِيٌّ إِلَيْهِ وَبَايَعَهُ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (1) : أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» " وَإِنَّمَا
(1) الْكَلَامُ التَّالِي - مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ - فِي: الْبُخَارِيِّ 5/139 - 140 " كِتَابُ الْمَغَازِي: بَابُ غَزْوَةِ خَيْبَرَ "؛ مُسْلِمٍ 3/1380 - 1381 " كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ " وَانْظُرْ مَا سَبَقَ: 4/196 (ت [0 - 9] ) ، 4/232 - 233
يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِهِ، وَإِنِّي لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ "، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا عَلِيٌّ لَيْلًا وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا عَلِيٌّ.
وَكَانَ لِعَلِيٍّ وَجْهٌ مِنَ النَّاسِ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا مَاتَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنِ ائْتِنَا، وَلَا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ كَرَاهَةَ مَحْضَرِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَسَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي؟ وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُمْ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضِيلَتَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ وَلَمْ نُنَفِّسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ اسْتَبْدَدْتَ بِالْأَمْرِ عَلَيْنَا وَكُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فِيهِ حَقًّا لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ؛ فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ (1) فَإِنِّي لَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الْحَقِّ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ: عَلِيٌّ
(1) س، ب: الْأُمُورِ
لِأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقَى عَلَى الْمِنْبَرِ وَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا إِنْكَارٌ لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فِي الْأَمْرِ نَصِيبًا فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا بِهِ، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا؛ فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِمَامَةِ لَا يَضُرُّ فِيهِ تَخَلُّفُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالطَّائِفَةِ الْقَلِيلَةِ فَإِنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ لَمْ يَكَدْ يَنْعَقِدُ إِجْمَاعٌ عَلَى إِمَامَةٍ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَةَ أَمْرٌ مُعَيَّنٌ فَقَدْ يَتَخَلَّفُ الرَّجُلُ لِهَوًى لَا يُعْلَمُ كَتَخَلُّفِ سَعْدٍ فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَشْرَفَ إِلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ أَمِيرًا مِنْ جِهَةِ الْأَنْصَارِ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ، فَبَقِيَ (1) فِي نَفْسِهِ بَقِيَّةُ هَوًى.
وَمَنْ تَرَكَ الشَّيْءَ لِهَوًى، لَمْ يُؤَثِّرْ تَرْكُهُ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ كَالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ خَالَفَ فِيهِ الْوَاحِدُ، أَوْ الِاثْنَانِ فَهَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَالثَّانِي: يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِي الْأَحْكَامِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامَةِ أَنَّ الْحُكْمَ أَمْرٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِوُجُوبِ الشَّيْءِ يُوجِبُهُ عَلَى
(1) ن، م، س: بَقِيَ
نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَالْقَائِلُ بِتَحْرِيمِهِ يُحَرِّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، فَالْمُنَازِعُ فِيهِ لَيْسَ مُتَّهَمًا؛ وَلِهَذَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الرَّجُلِ لِلْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَ خَصْمًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهَا وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُحَدِّثُ الْيَوْمَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْحَدِيثِ فَغَدًا يَكُونُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِخِلَافِ شَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ خَصْمٌ، وَالْخَصْمُ لَا يَكُونُ شَاهِدًا.
فَالْإِجْمَاعُ عَلَى إِمَامَةِ الْمُعَيَّنِ لَيْسَ حُكْمًا عَلَى أَمْرٍ عَامٍّ كُلِّيٍّ، كَالْأَحْكَامِ عَلَى أَمْرٍ خَاصٍّ مُعَيَّنٍ.
وَأَيْضًا فَالْوَاحِدُ إِذَا خَالَفَ النَّصَّ الْمَعْلُومَ، كَانَ خِلَافُهُ شَاذًّا كَخِلَافِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ أُبِيحَتْ لِلْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ هَذَا لَمَّا جَاءَتِ السَّنَةُ الصَّحِيحَةُ بِخِلَافِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.
وَسَعْدٌ كَانَ مُرَادُهُ أَنْ يُوَلُّوا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ قُرَيْشٍ» فَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ قُرَشِيًّا وَاسْتَقَرَّ خِلَافُهُ لَكَانَ شُبْهَةً، بَلْ عَلِيٌّ كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّهُ بَايَعَ الصِّدِّيقَ طَائِعًا مُخْتَارًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ فَرَضَ خِلَافَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ وَبِقَدْرِهِمْ مَرَّتَيْنِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي ثُبُوتِ الْخِلَافَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْخِلَافَةِ إِلَّا اتِّفَاقُ أَهْلِ الشَّوْكَةِ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُقَامُ بِهِمُ الْأَمْرُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ بِهِمْ مَقَاصِدُ الْإِمَامَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ (1) الْجَمَاعَةِ» "(2) .
وَقَالَ: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ (3) أَبْعَدُ» "(4) ".
(1) ن، س، ب: عَلَى
(2)
لَمْ أَجِدِ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي: سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 3/316 (كِتَابُ الْفِتَنِ، بَابٌ فِي لُزُومِ الْجَمَاعَةِ) وَلَفْظُهُ: " يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: " هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ " وَالْحَدِيثُ فِي " صَحِيحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " 6/336 وَقَالَ السُّيُوطِيُّ إِنَّهُ فِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَقَالَ إِنَّهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " لِلْبَيْهَقِيِّ وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ وَفِي " السُّنَّةِ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَهُوَ فِيهَا أَيْضًا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ وَجَاءَتْ عِبَارَةُ " فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ " فِي حَدِيثِ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ 6/84 - 85 (كِتَابُ تَحْرِيمِ الدَّمِ، بَابُ قَتْلِ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَنَصُّهُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ: " إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، أَوْ يُرِيدُ يُفَرِّقُ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ " وَجَاءَتْ عِبَارَةُ " وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ " أَيْضًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي: سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 3/315 - 316 (كِتَابُ الْفِتَنِ، بَابٌ فِي لُزُومِ الْجَمَاعَةِ) وَنَصُّهُ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي - أَوْ قَالَ: أَمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: " هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَلِيمَانُ الْمَدِينِيُّ وَهُوَ عِنْدِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُفْيَانَ. وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "
(3)
مَعَ: كَذَا فِي (م) . وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: عَلَى
(4)
هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي: سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 3/315 (كِتَابُ الْفِتَنِ، بَابٌ فِي لُزُومِ الْجَمَاعَةِ) وَنَصُّهُ:. . . عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا فَقَالَ: " أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. . . " وَالْحَدِيثُ أَيْضًا فِي " الْمُسْنَدِ (ط الْمَعَارِفِ " 1/204 - 205 (رَقْمُ 114) ، 230 - 231 (رَقْمُ 177) وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر رحمه الله الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَقَالَ: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ، وَالذِّئْبُ إِنَّمَا يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ» "(1) .
وَقَالَ: " «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» "(2) .
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَعْظَمَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مُبَايَعَةِ عَلِيٍّ، فَإِنَّ ثُلُثَ الْأُمَّةِ - أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ - لَمْ يُبَايِعُوا عَلِيًّا، بَلْ قَاتَلُوهُ وَالثُّلُثَ الْآخَرَ لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَهُ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يُبَايِعْهُ أَيْضًا؛ وَالَّذِينَ (3) لَمْ يُبَايِعُوهُ مِنْهُمْ مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ، فَإِنْ جَازَ الْقَدْحُ فِي الْإِمَامَةِ بِتَخَلُّفِ بَعْضِ الْأُمَّةِ عَنِ الْبَيْعَةِ كَانَ الْقَدْحُ فِي إِمَامَةِ عَلِيٍّ أَوْلَى بِكَثِيرٍ.
(1) جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 5/232 - 233، 243 وَنَصُّهُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ:" إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ؛ فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ ". وَضَعَّفَ الْأَلْبَانِيُّ الْحَدِيثَ فِي " ضَعِيفِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " 2/53 وَذَكَرَهُ الْهَيْثَمِيُّ فِي " مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ 5/219، وَقَالَ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ إِلَّا الْعَلَاءَ بْنَ زِيَادٍ، قِيلَ، إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ "
(2)
لَمْ أَجِدِ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَسَبَقَ قَبْلَ قَلِيلٍ كَلَامِي فِي التَّعْلِيقَاتِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَفِيهِ الْعِبَارَةُ الْأَخِيرَةُ " وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ "؛ أَمَّا عِبَارَةُ " عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ " فَجَاءَتْ ضِمْنَ أَحَادِيثَ، انْظُرِ الْمُسْنَدَ (ط. الْحَلَبِيِّ) 4/278، 282 - 283
(3)
ن، م، س: فَالَّذِينَ
وَإِنْ قِيلَ: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ لَمْ تُقَاتِلْهُ، أَوْ قِيلَ بَايَعَهُ أَهْلُ الشَّوْكَةِ وَالْجُمْهُورُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَانَ هَذَا فِي حَقٍّ أَبِي بَكْرٍ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَإِذَا قَالَتِ الرَّافِضَةُ: إِمَامَةٌ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِجْمَاعِ وَالْمُبَايَعَةِ.
قِيلَ: النُّصُوصُ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، لَا عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَكَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ أَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْخَلِيفَةَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ فَخِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ لَا تَحْتَاجُ إِلَى الْإِجْمَاعِ؛ بَلِ النُّصُوصُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّتِهَا وَعَلَى انْتِفَاءِ مَا يُنَاقِضُهَا.
الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ فِي إِمَامَةِ الصِّدِّيقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي وُجُودِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لَهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ وَاتِّفَاقِ النَّاسِ بِأَنَّهُ تَوَلَّى الْأَمْرَ وَقَامَ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَلَفَهُ فِي أُمَّتِهِ وَأَقَامَ الْحُدُودَ وَاسْتَوْفَى الْحُقُوقَ وَقَاتَلَ الْكُفَّارَ وَالْمُرْتَدِّينَ وَوَلَّى الْأَعْمَالَ وَقَسَّمَ الْأَمْوَالَ وَفَعَلَ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُ (1) الْإِمَامُ، بَلْ هُوَ أَوَّلُ (2) مَنْ بَاشَرَ الْإِمَامَةَ فِي الْأُمَّةِ.
وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِإِمَامَتِهِ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ، فَهَذَا عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ الْإِجْمَاعِ، فَلَا طَرِيقَ يَثْبُتُ بِهَا كَوْنُ عَلِيٍّ مُسْتَحِقًّا لِلْإِمَامَةِ إِلَّا وَتِلْكَ الطَّرِيقُ يَثْبُتُ بِهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مُسْتَحِقٌّ لِلْإِمَامَةِ، وَأَنَّهُ أَحَقُّ لِلْإِمَامَةِ (3) مِنْ عَلِيٍّ
(1) س، ب: مَا فَعَلَ
(2)
م: أَوَّلُ
(3)
س، ب: بِالْإِمَامَةِ