الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل قول الرافضي أن عليا كان أشجع الناس والرد عليه]
(فَصْلٌ)
قَالَ الرَّافِضِيُّ (1) : " الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَبِسَيْفِهِ ثَبَتَتْ (2) قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ، وَتَشَيَّدَتْ أَرْكَانُ الْإِيمَانِ، مَا انْهَزَمَ فِي مَوَاطِنَ (3) قَطُّ، وَلَا ضَرَبَ بِسَيْفٍ (4) إِلَّا قَطَّ، طَالَمَا (5) كَشَفَ الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ (6) صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَفِرَّ كَمَا فَرَّ غَيْرُهُ، وَوَقَاهُ بِنَفْسِهِ لَمَّا بَاتَ عَلَى (7) فِرَاشِهِ، مُسْتَتِرًا بِإِزَارِهِ، فَظَنَّهُ الْمُشْرِكُونَ إِيَّاهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (8) - فَأَحْدَقُوا بِهِ وَعَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، يَرْصُدُونَ طُلُوعَ الْفَجْرِ لِيَقْتُلُوهُ ظَاهِرًا ; فَيَذْهَبَ دَمُهُ لِمُشَاهَدَةِ بَنِي هَاشِمٍ قَاتِلِيهِ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ، وَلَا يَتِمَّ لَهُمُ الْأَخْذُ بِثَأْرِهِ ; لِاشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي دَمِهِ، وَيَعُودَ كُلُّ قَبِيلٍ عَنْ قِتَالِ رَهْطِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ
(1) فِي (ك) ص 181 (م) - ص 182 (م) .
(2)
ن، م، س: ثَبَتَ.
(3)
ك (ص 182 م) : مَوْضِعٍ.
(4)
ك: بِسَيْفِهِ.
(5)
ك: وَطَالَمَا.
(6)
ن، س، ب: النَّبِيِّ.
(7)
م: فِي.
(8)
ك: وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ - وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - أَنَّهُ هُوَ. . . .
سَبَبَ حِفْظِ دَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمَّتِ السَّلَامَةُ، وَانْتَظَمَ بِهِ الْغَرَضُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْمِلَّةِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْقَوْمُ، وَرَأَوْا (1) الْفَتْكَ بِهِ، ثَارَ إِلَيْهِمْ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ حِينَ عَرَفُوهُ (2) ، وَانْصَرَفُوا وَقَدْ ضَلَّتْ حِيَلُهُمْ (3) ، وَانْتَقَضَ تَدْبِيرُهُمْ ".
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ مِنْ شُجْعَانِ الصَّحَابَةِ، وَمِمَّنْ نَصَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِجِهَادِهِ، وَمِنْ كِبَارِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ (4) ، وَمِنْ سَادَاتِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِمَّنْ قَتَلَ بِسَيْفِهِ عَدَدًا مِنَ الْكُفَّارِ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ، بَلْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا فَضْلُهُ فِي الْجِهَادِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَضْلًا عَنْ أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَى الْخُلَفَاءِ، فَضْلًا عَنْ تَعْيِينٍ (5) لِلْإِمَامَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إِنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ ".
فَهَذَا كَذِبٌ، بَلْ كَانَ أَشْجَعَ (6) النَّاسِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(1) ك: وَأَرَادُوا.
(2)
ن، م، س، ب: حِينَ عَرَفَهُمْ. وَالتَّصْوِيبُ مِنْ (ك) .
(3)
ن، س، ب: حِيلَتُهُمْ.
(4)
وَالْأَنْصَارِ: لَيْسَتْ فِي (م) .
(5)
ب (فَقَطْ) : تُعَيُّنِهِ.
(6)
م: كَانَ أَشْجَعَ، س، ب: بَلْ أَشْجَعُ.
وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، فِي (1) عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ:" لَنْ تُرَاعُوا ". قَالَ الْبُخَارِيُّ: اسْتَقْبَلَهُمْ وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ» (2) .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: " كَانَ إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنَّا "(3) .
وَالشَّجَاعَةُ تُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ عِنْدَ الْمَخَاوِفِ. وَالثَّانِي: شِدَّةُ (4) الْقِتَالِ بِالْبَدَنِ، بِأَنْ يَقْتُلَ كَثِيرًا، وَيَقْتُلَ قَتْلًا عَظِيمًا.
وَالْأَوَّلُ: هُوَ الشَّجَاعَةُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ وَعَمَلِهِ.
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ كَانَ قَوِيَّ الْقَلْبِ، وَلَا بِالْعَكْسِ ; وَلِهَذَا
(1) م: عَلَى.
(2)
الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 4/39، 52 (كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْفِ بِالْعُنُقِ، بَابُ مُبَادَرَةِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْفَزَعِ، بَابُ السُّرْعَةِ وَالرَّكْضِ فِي الْفَزَعِ) ، 8/13 (كِتَابُ الْأَدَبِ، بَابُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الْبُخْلِ) ، مُسْلِمٍ 4/1802 - 1803 (كِتَابُ الْفَضَائِلِ، بَابٌ فِي شَجَاعَةِ النَّبِيِّ عليه السلام وَتَقَدُّمِهِ لِلْحَرْبِ) ، سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 3/117 - 118 (كِتَابُ الْجِهَادِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ الْقِتَالِ) ، سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 2/926 (كِتَابُ الْجِهَادِ، بَابُ الْخُرُوجِ فِي النَّفِيرِ) ، الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 3/147، 185، 261، 271.
(3)
الْحَدِيثُ - مَعَ اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ - فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) 2/228 (رَقْمَ 1042) ، 2/343 (رَقْمَ 1346) وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ شَاكِر رحمه الله الْحَدِيثَيْنِ. وَجَاءَ الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا بِمَعْنَاهُ 2/64 (رَقْمَ 654) وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ كَذَلِكَ.
(4)
شِدَّةُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م) .
تَجِدُ الرَّجُلَ الَّذِي يَقْتُلُ كَثِيرًا وَيُقَاتِلُ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَنْ يُؤَمِّنُهُ، إِذَا خَافَ أَصَابَهُ الْجُبْنُ، وَانْخَلَعَ قَلْبُهُ. وَتَجِدُ الرَّجُلَ الثَّابِتَ الْقَلْبِ، الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ بِيَدَيْهِ كَثِيرًا، ثَابِتًا فِي الْمَخَاوِفِ، مِقْدَامًا عَلَى الْمَكَارِهِ (1) . وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي أُمَرَاءِ الْحُرُوبِ وَقُوَّادِهِ وَمُقَدَّمِيهِ أَكْثَرَ مِنَ الْأُولَى ; فَإِنَّ الْمُقَدَّمَ إِذَا كَانَ شُجَاعَ الْقَلْبِ ثَابِتًا، أَقْدَمَ وَثَبَتَ وَلَمْ يَنْهَزِمْ، فَقَاتَلَ مَعَهُ أَعْوَانُهُ، وَإِذَا كَانَ جَبَانًا ضَعِيفَ الْقَلْبِ ذَلَّ وَلَمْ يُقْدِمْ وَلَمْ يَثْبُتْ، وَلَوْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْمَلَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الشَّجَاعَةِ، الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِي أَئِمَّةِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، قَتَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ أَحَدًا لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. وَكَانَ أَشْجَعَ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، حَتَّى إِنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ انْهَزَمُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغْلَةٍ، وَالْبَغْلَةُ لَا تَكِرُّ وَلَا تَفِرُّ، وَهُوَ يُقْدِمُ عَلَيْهَا إِلَى نَاحِيَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ يَقُولُ:
«
أَنَا النَّبِيُّ لَا (2) كَذِبْ
…
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
»
فَيُسَمِّي نَفْسَهُ، وَأَصْحَابُهُ قَدِ انْكَفُّوا عَنْهُ، وَعَدُوُّهُ مُقْدِمٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُقْدِمٌ عَلَى عَدُوِّهِ عَلَى بَغْلَتِهِ، وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِعِنَانِهَا (3) .
وَكَانَ عَلِيٌّ - وَغَيْرُهُ - يَتَّقُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ
(1) م: مُقْدِمًا فِي الْمَكَارِهِ.
(2)
م: بِلَا.
(3)
سَبَقَ حَدِيثُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ فِيمَا مَضَى 5/63، 64.
أَشْجَعُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ قَدْ قَتَلَ بِيَدِهِ (1) ، أَكْثَرَ مِمَّا قَتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذَا كَانَتِ الشَّجَاعَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْأَئِمَّةِ شَجَاعَةَ الْقَلْبِ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَشْجَعَ مِنْ عُمَرَ، وَعُمَرَ أَشْجَعَ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ سِيَرَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ ; فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه بَاشَرَ الْأَهْوَالَ الَّتِي كَانَ يُبَاشِرُهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَجْبُنْ وَلَمْ يَحْرَجْ وَلَمْ يَفْشَلْ، وَكَانَ يُقْدِمُ عَلَى الْمَخَاوِفِ: يَقِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ، يُجَاهِدُ الْمُشْرِكِينَ تَارَةً بِيَدِهِ وَتَارَةً بِلِسَانِهِ وَتَارَةً بِمَالِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُقْدِمٌ.
وَكَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَرِيشِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْعَدُوَّ يَقْصِدُونَ مَكَانَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ثَابِتُ الْقَلْبِ، رَبِيطُ الْجَأْشِ، يُظَاهِرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُعَاوِنُهُ، وَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو رَبَّهُ وَيَسْتَغِيثُ وَيَقُولُ:" «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ، اللَّهُمَّ، اللَّهُمَّ. . . " جَعَلَ (2) أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ لَهُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ هَكَذَا مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ إِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ» (3) .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ يَقِينِ الصِّدِّيقِ، وَثِقَتِهِ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَثَبَاتِهِ، وَشَجَاعَتِهِ: شَجَاعَةً إِيمَانِيَّةً (4) زَائِدَةً عَلَى الشَّجَاعَةِ الطَّبِيعِيَّةِ.
(1) بِيَدِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م) .
(2)
س، ب: وَجَعَلَ.
(3)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 6/130 - 131.
(4)
م: إِيمَانٍ.
وَكَانَ حَالُ رَسُولِ اللَّهِ أَكْمَلَ مِنْ حَالِهِ، وَمَقَامُهُ أَعْلَى مِنْ مَقَامِهِ. وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ - كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ - أَنَّ حَالَ أَبِي بَكْرٍ أَكْمَلَ (1) - نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - وَلَا نَقْصَ فِي اسْتِغَاثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِخَطَلٍ مِنَ الْقَوْلِ مَرْدُودٍ عَلَى مَنْ قَالَهُ، بَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ - جَامِعًا كَامِلًا، لَهُ مِنْ كُلِّ مَقَامٍ ذُرْوَةُ سَنَامِهِ وَوَسِيلَتُهُ، فَيَعْلَمُ أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوَ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابَ قَدْحٍ فِي الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْمُشْرِكِينَ وَيُقِيمَ الدِّينَ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَادِهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَتَحْرِيضِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِنْصَارَ بِاللَّهِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِ وَالدُّعَاءَ لَهُ فِيهِ أَعْظَمُ الْجِهَادِ وَأَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ وَدَفْعِ الْمَحْذُورِ.
وَلِهَذَا كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ (2) ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ - وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ - أَخْبَرَ (3) أَصْحَابَهُ بِمَصَارِعِهِمْ، وَقَالَ: " هَذَا مَصْرَعُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهَذَا مَصْرَعُ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهَذَا مَصْرَعُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ،
(1) س، ب: أَكْبَرَ.
(2)
سَبَقَ الْحَدِيثُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه وَأَوَّلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ وَيَقُولُ: " هَلْ تُنْصَرُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ". انْظُرْ مَا سَبَقَ 4/483.
(3)
ن، م: قُرَيْشٌ وَقَدْ خَرَجَ وَأَخْبَرَ.
وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ " (1) ، ثُمَّ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى شَيْئًا يَكُونُ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَقْضِيَهُ بِأَسْبَابٍ تَكُونُ، وَأَنَّ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَكُونُ الْعِبَادُ مَأْمُورِينَ بِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الِاسْتِغَاثَةُ (2) بِاللَّهِ، فَقَامَ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مَا وُعِدَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ لَهُ السَّعَادَةَ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْقَلْبُ إِذَا غَشِيَتْهُ الْهَيْبَةُ وَالْمَخَافَةُ وَالتَّضَرُّعُ قَدْ يَغِيبُ عَنْهُ شُهُودُ مَا يَعْلَمُهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ، مُصَدِّقًا لَهُ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي اجْتِهَادٍ وَجِهَادٍ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ (3) ،
(1) لَمْ أَجِدْ حَدِيثًا بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَكِنْ جَاءَ حَدِيثٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي مُسْلِمٍ 3/1403 - 1404 (كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ غَزْوَةِ بَدْرٍ) فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ أَصْحَابَهُ. . إِلَخْ وَفِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ " قَالَ: وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، هَاهُنَا وَهَاهُنَا. قَالَ فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ (أَيْ تَبَاعَدَ) عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَجَاءَ حَدِيثٌ آخَرُ بِمَعْنَاهُ فِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ 2/267، السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لِابْنِ كَثِيرٍ (تَحْقِيقُ مُصْطَفَى عَبْد الْوَاحِدِ) 2/392 - 393، زَادِ الْمَعَادِ 3/173 - 174. عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يُشْبِهُ خَبَرَ رُؤْيَا جُهَيْمِ بْنِ الصَّلْتِ رضي الله عنه الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ (سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ 2/270) قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَإِنِّي لَبَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ حَتَّى وَقَفَ وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ. . إِلَخْ. وَانْظُرِ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ لِابْنِ كَثِيرٍ 2/398 - 399.
(2)
س، ب: الِاسْتِعَانَةُ.
(3)
ن، م، س: لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ. وَكُتِبَ فِي هَامِشِ (س) مَا يَلِي: " لَعَلَّ " لَمْ " زَائِدَةٌ مِنْ سَهْوِ النَّاسِخِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ - نَاقِلِهِ ".
لَمْ يَمْنَعْ (1) أَنْ يَجِدَ بَعْضَ أَلَمِ الْمَوْتِ، وَالْمَرِيضُ الَّذِي إِذَا أُخْبِرَ أَنَّ فِي دَوَائِهِ الْعَافِيَةَ، لَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَجِدَ مَرَارَةَ الدَّوَاءِ - فَقَامَ مُجْتَهِدًا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَانَ هُوَ رَأْسَ الْأَمْرِ، وَقُطْبَ رَحَى الدِّينِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِأَفْضَلَ مِمَّا (2) يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ.
وَذَلِكَ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغَاثَةُ كَانَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا النَّصْرُ. وَمَقَامُ أَبِي بَكْرٍ دُونَ هَذَا، وَهُوَ مُعَاوَنَةُ الرَّسُولِ وَالذَّبُّ عَنْهُ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّا وَاثِقُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّظَرُ إِلَى جِهَةِ الْعَدُوِّ، وَهَلْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟ وَالنَّظَرُ إِلَى صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا تَخْتَلَّ، وَتَبْلِيغُ الْمُسْلِمِينَ مَا يَأْمُرُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 40] . وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ إِذَا لَمْ يَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ.
وَهَذِهِ الْحَالُ كَانَ الْخَوْفُ فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ. وَالْوَزِيرُ مَعَ الْأَمِيرِ لَهُ حَالٌ، وَلِلْأَمِيرِ (3) حَالٌ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ الرَّسُولِ
(1) ب: لَمْ يَمْنَعْهُ.
(2)
ن، م، س: مَا.
(3)
م: وَالْأَمِينِ، ب: وَالْأَمِيرِ.
- صلى الله عليه وسلم أَشْجَعَ مِنْهُ ; وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ نَازِلَةٍ نَزَلَتْ بِهِمْ، حَتَّى أَوْهَنَتِ الْعُقُولَ، وَطَيِّشَتِ (1) الْأَلْبَابَ، وَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ (2) الْبَعِيدَةِ الْقَعْرِ، فَهَذَا يُنْكِرُ مَوْتَهُ، وَهَذَا قَدْ أُقْعِدَ، وَهَذَا قَدْ دُهِشَ فَلَا يَعْرِفُ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ وَمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ يَضِجُّونَ بِالْبُكَاءِ، وَقَدْ وَقَعُوا فِي نُسْخَةِ الْقِيَامَةِ، وَكَأَنَّهَا قِيَامَةٌ صُغْرَى مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى، وَأَكْثَرُ الْبَوَادِي قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ، وَذَلَّتْ كُمَاتُهُ، فَقَامَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه بِقَلْبٍ ثَابِتٍ، وَفُؤَادٍ شُجَاعٍ، فَلَمْ يَجْزَعْ، وَلَمْ يَنْكُلْ، قَدْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: " مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 144] ، فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا الصِّدِّيقُ (3) ، فَلَا تَجِدُ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ يَتْلُوهَا، ثُمَّ خَطَبَهُمْ فَثَبَّتَهُمْ وَشَجَّعَهُمْ.
قَالَ أَنَسٌ: " خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَكُنَّا كَالثَّعَالِبِ، فَمَا زَالَ يُشَجِّعُنَا حَتَّى صِرْنَا كَالْأُسُودِ ".
(1) م: أُذْهِبَ الْعُقُولُ وَطَاشَتِ.
(2)
الرِّشَاءُ: الْحَبْلُ، أَوْ حَبْلُ الدَّلْوِ وَنَحْوِهِ. . . وَالْجَمْعُ أَرْشِيَةٌ. وَالطَّوِيُّ: الْبِئْرُ الْمَطْوِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ، مُذَكَّرٌ، فَإِنْ أُنِّثَ فَعَلَى الْمَعْنَى. .
(3)
م: تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ.
وَأَخَذَ فِي تَجْهِيزِ أُسَامَةَ، مَعَ إِشَارَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ، مَعَ إِشَارَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالتَّمَهُّلِ وَالتَّرَبُّصِ، وَأَخَذَ يُقَاتِلُ حَتَّى مَانِعِي الزَّكَاةِ، فَهُوَ مَعَ الصَّحَابَةِ يُعَلِّمُهُمْ إِذَا جَهِلُوا، وَيُقَوِّيهِمْ إِذَا ضَعُفُوا، وَيَحُثُّهُمْ إِذَا فَتَرُوا، فَقَوَّى اللَّهُ بِهِ عِلْمَهُمْ وَدِينَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ - مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ - يَقُولُ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ تَأَلَّفِ النَّاسَ، فَيَقُولُ: عَلَامَ أَتَأَلَّفُهُمْ؟ أَعَلَى دِينٍ مُفْتَرًى؟ أَمْ عَلَى شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ؟ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ وَصْفُهُ.
فَالشُّجَاعَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنِ الْإِمَامِ لَمْ تَكُنْ فِي أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلَ مِنْهَا فِي أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ. وَأَمَّا الْقَتْلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ غَيْرَ عَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ قَتَلَ مِنَ الْكُفَّارِ أَكْثَرَ مِمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ، فَإِنْ كَانَ مَنْ قَتَلَ أَكْثَرَ يَكُونُ أَشْجَعَ، فَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَشْجَعُ مِنْ عَلِيٍّ، فَالْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ (1) - أَخُو أَنَسٍ - قَتَلَ مِائَةَ رَجُلٍ مُبَارَزَةً، غَيْرَ مَنْ شُورِكَ فِي دَمِهِ.
وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَلَا يُحْصِي عَدَدَ مَنْ قَتَلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدِ انْكَسَرَ فِي يَدِهِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَتَلَ أَضْعَافَ مَا قَتَلَهُ عَلِيٌّ.
وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَعَ الشَّجَاعَةِ الطَّبِيعِيَّةِ شَجَاعَةٌ دِينِيَّةٌ، وَهِيَ قُوَّةٌ (2) يَقِينِيَّةٌ بِاللَّهِ عز وجل، وَثِقَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَهَذِهِ الشَّجَاعَةُ لَا تَحْصُلُ بِكُلِّ مَنْ كَانَ (3) قَوِيَّ الْقَلْبِ، لَكِنَّ هَذِهِ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ،
(1) ن، م: فَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَهُوَ خَطَأٌ.
(2)
س، ب: دِينِيَّةٌ وَقُوَّةٌ. . .
(3)
س: لَا تَحْصُلُ لَكِنْ مَنْ كَانَ (وَفِي الْهَامِشِ: لَعَلَّهُ: إِلَّا لِمَنْ)، ب: إِلَّا لِمَنْ كَانَ. .
وَتَنْقُصُ بِنَقْصِ ذَلِكَ، فَمَتَى تَيَقَّنَ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَدُوَّهُ كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ إِقْدَامِ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَهَذَا كَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَجَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَيْقَنُوا بِخَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ وَأَنَّ اللَّهَ (1) يَفْتَحُ لَهُمُ الْبِلَادَ.
وَمِنْ شَجَاعَةِ الصِّدِّيقِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو (2) عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي (3) عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَهُ عَنْهُ، وَقَالَ:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 28](4) .
(1) س، ب: وَاللَّهُ. .
(2)
م: بْنَ عُمَرَ.
(3)
س، ب: مِنْ. .
(4)
الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما فِي: الْبُخَارِيِّ 5/10 (كِتَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بَابُ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. . .) 5/46 (كِتَابُ مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ، بَابُ مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ) ، 6/127 (كِتَابُ التَّفْسِيرِ، سُورَةُ الْمُؤْمِنِ)، الْمُسْنَدِ 11/143 - 144 وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ شَاكِر رحمه الله:" وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ (7: 292) مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَذَكَرَهُ فِي التَّارِيخِ (3: 45 - 46) مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَقَالَ فِي التَّارِيخِ: " انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ " يَعْنِي عَنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ، كَمَا يَتَبَيَّنُ مِنْ ذَخَائِرَ الْمَوَارِيثِ 4535) ".