الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا معنى له. لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا. فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج. وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات
…
» «1» .
والذي نراه أن هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة.
أما الكتاب فهو قوله- تعالى- في سورة النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية.
وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذي سبق ذكره.
وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإيذاء هو تمام العقوبة، مع أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاقب أحدا من الزناة بالحبس أو بالإيذاء بعد نزول آية سورة النور. بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء، ويرجم المحصن منهما، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء، فثبت أن هذا الحكم المذكور في الآيتين قد نسخ.
ثم بين- سبحانه- الحكم فيما إذا أقلع الزاني والزانية عن جريمتهما فقال: فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً.
أى فإن تابا عما فعلا من الفاحشة، وأصلحا أعمالهما فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً أى مبالغا في قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا رَحِيماً أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة.
وبعد أن وصف- سبحانه- ذاته بأنه هو التواب الرحيم عقب ذلك ببيان من تقبل منهم التوبة، ومن لا تقبل منهم فقال:
[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 5 ص 136- طبعة منير الدمشقي.
والتوبة: هي الرجوع إلى الله- تعالى- وإلى تعاليم دينه بعد التقصير فيها مع الندم على هذا التقصير والعزم على عدم العودة إليه.
والمراد بها قبولها من العبد. فهي مصدر تاب عليه إذا قبل توبته.
والمراد من الجهالة في قوله «يعملون السوء بجهالة» : الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، لأن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة.
قال مجاهد: كل من عصى الله عمدا أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
وقال قتادة: اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصى الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيره» . «1»
قال- تعالى- حكاية عن يوسف- عليه السلام: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ.
وقال حكاية عن موسى- عليه السلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
وقال- سبحانه- مخاطبا نوحا- عليه السلام فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
ووجه تسمية العاصي جاهلا- وإن عصى عن علم- أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما عصى ربه، فلما لم يستعمل هذا العلم صار كأنه لا علم له، فسمى العاصي جاهلا لذلك، سواء ارتكب المعصية مع العلم بكونها معصية أم لا.
والمعنى: إنما قبول التوبة كائن أو مستقر على الله- تعالى- لعباده الذين يعملون السوء، ويقعون في المعاصي بجهالة أى يعملون السوء جاهلين سفهاء، لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل.
وصدر- سبحانه- الآية الكريمة بإنما الدالة على الحصر، للإشعار بأن هؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، هم الذين يقبل الله توبتهم، ويقيل عثرتهم.
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 463.
وعبر- سبحانه- بلفظ على فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ للدلالة على تحقق الثبوت، حتى لكأن قبول التوبة من هؤلاء الذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من الواجبات عليه، لأنه- سبحانه- قد وعد بقبول التوبة وإذا وعد بشيء أنجزه، إذ الخلف ليس من صفاته- تعالى- بل هو محال في حقه- عز وجل.
ولفظ التَّوْبَةُ مبتدأ. وقوله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ متعلق بمحذوف خبر. وقوله عَلَى اللَّهِ متعلق بمحذوف صفة للتوبة.
أى: إنما التوبة الكائنة على الله للذين يعملون السوء بجهالة
…
وقوله بِجَهالَةٍ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يَعْمَلُونَ أى: يعملون السوء جاهلين سفهاء. أو متعلق بقوله يَعْمَلُونَ فتكون الباء للسببية أى: يعملون السوء بسبب الجهالة.
وقوله ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أى ثم يتوبون في زمن قريب من وقت عمل السوء، ولا يسترسلون في الشر استرسالا ويستمرئونه ويتعودون عليه بدون مبالاة بارتكابه.
ولا شك أنه متى جدد الإنسان توبته الصادقة في أعقاب ارتكابه للمعصية كان ذلك أرجى لقبولها عند الله- تعالى- وهذا ما يفيده ظاهر الآية. ومنهم من فسر قوله مِنْ قَرِيبٍ بما قبل حضور الموت. وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف فقال: قوله: مِنْ قَرِيبٍ أى: من زمان قريب. والزمان القريب: ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقى ما وراء ذلك في حكم القريب. وعن ابن عباس: قبل أن ينزل به سلطان الموت. وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت فهي قريب» وفي الحديث الشريف: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» - أى ما لم تتردد الروح في الحلق «1» .
والذي نراه أن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره من أن قوله مِنْ قَرِيبٍ معناه: من قبل حضور الموت، لا يتعارض مع الرأى القائل بأن قوله مِنْ قَرِيبٍ معناه: تم يتوبون في وقت قريب من وقت عمل السوء، لأن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره بيان للوقت الذي تجوز التوبة فيه ولا تنفع بعده، أما الرأى الثاني فهو بيان للزمن الذي يكون أرجى قبولا لها عند الله.
والعاقل من الناس هو الذي يبادر بالتوبة الصادقة عقب المعصية بلا تراخ، لأنه لا يدرى متى
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 489.
يفاجئه الموت، ولأن تأخيرها يؤدى إلى قسوة القلب، وضعف النفس، واستسلامها للأهواء والشهوات.
وقوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً بيان للوعد الحسن الذي وعد الله به عباده الذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من قريب.
أى: فأولئك المتصفون بما ذكر، يقبل الله توبتهم، ويأخذ بيدهم إلى الهداية والتوفيق، ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب، وكان الله عليما بأحوال عباده وبما هم عليه من ضعف، حكيما يضع الأمور في مواضعها حسبما تقتضيه مشيئته ورحمته بهم.
وقوله فَأُولئِكَ مبتدأ. وقوله يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ خبره.
وأشار إليهم بلفظ فَأُولئِكَ للإيذان بسمو مرتبتهم، وعلو مكانتهم، وللتنبيه على استحضارهم باعتبار أوصافهم المتقدمة الدالة على خوفهم من خالقهم عز وجل وقوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها ثم بين- سبحانه- من لا تقبل توبتهم بعد بيانه لمن تقبل توبتهم فقال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ.
أى: وليست التوبة مقبولة عند الله بالنسبة للذين يعملون السيئات، ويقترفون المعاصي، ويستمرون على ذلك حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ. بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا، وانقطع منه حبل الرجاء في الحياة قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أى قال في هذا الوقت الذي لا فائدة من التوبة فيه: إنى تبت الآن.
وقوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أى وليست التوبة مقبولة أيضا من الذين يموتون وهم على غير دين الإسلام.
فالآية الكريمة قد نفت قبول التوبة من فريقين من الناس.
أولهما: الذين يرتكبون السيئات صغيرها وكبيرها، ويستمرون على ذلك بدون توبة أو ندم حتى إذا حضرهم الموت، ورأوا أهواله، قال قائلهم: إنى تبت الآن وقد كرر القرآن هذا المعنى في كثير من آياته، ومن ذلك قوله- تعالى-: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» .
وقوله- تعالى- حكاية عن فرعون،
(1) سورة غافر الآية: ص 85.
حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً «1» .
وعدم قبول توبة هؤلاء في هذا الوقت سببه أنهم نطقوا بها في حالة الاضطرار لا في حالة الاختيار، ولأنهم نطقوا بها في غير وقت التكليف.
وثانيهما: الذين يموتون وهم على غير دين الإسلام. فقد أخرج الامام أحمد عن أبى ذر الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة عبده ما لم يقع الحجاب. قيل: وما الحجاب؟
قال أن تموت النفس وهي مشركة.
وكثير من العلماء يرى أن المراد بالفريق الثاني: الكفار، لأن العطف يقتضى المغايرة.
ومنهم من يرى أن الفريق الأول شامل للكفار ولعصاة المؤمنين فيكون عطف قوله وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ من باب عطف الخاص على العام لإفادة التأكيد.
وحَتَّى في قوله: حَتَّى إِذا حَضَرَ. حرف ابتداء.. والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها. أى ليست التوبة لقوم يعملون السيئات ويستمرون على ذلك فإذا حضر أحدهم الموت قال كيت وكيت.
وقوله وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ معطوف على الموصول قبله. أى ليس قبول التوبة لهؤلاء الذين يعملون السيئات
…
ولا لهؤلاء الذين يموتون وهم كفار.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال- تعالى-: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أى أولئك الذين تابوا في غير وقت قبول التوبة هيأنا لهم عذابا مؤلما موجعا بسبب ارتكاسهم في المعاصي وابتعادهم عن الصراط المستقيم الذي يرضاه- سبحانه- لعباده.
ثم وجه القرآن نداء عاما إلى المؤمنين نهاهم فيه عما كان شائعا في الجاهلية من ظلم للنساء وإهدار لكرامتهن، وأمرهم بحسن معاشرتهن، وبعدم أخذ شيء من حقوقهن فقال- تعالى: -
(1) سورة يونس الآيات: 91، 92، 93.