الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في الترغيب في صلة الرحم والترهيب من قطيعتها.
ثم شرع- سبحانه- في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه، فابتدأ بأحق الناس بالرحمة والمودة، وهم اليتامى فقال- تعالى-:
[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 3]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَاّ تَعُولُوا (3)
والأمر في قوله وَآتُوا يتناول كل من له ولاية أو وصاية أو صلة باليتيم، كما يتناول الجماعة الإسلامية بصفة عامة، لكي تتكاتف وتتعاون على تمكين اليتيم من وصول حقه إليه بدون بخس أو مماطلة.
والْيَتامى جمع يتيم وهو الصغير الذي مات أبوه، مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد. ومنه الدرة اليتيمة.
قال صاحب الكشاف وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم، وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم.
وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يتيم أبى طالب إما على القياس، وإما حكاية للحال التي كان عليها صغيرا في حجر عمه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد الحلم» فهو تعليم شريعة لا لغة.
أى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار» «1» .
والمراد باليتامى هنا الصغار، والمراد بإيتائهم أموالهم حفظها لهم وعدم الطمع في شيء منها
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 463.
لا من قبل الورثة ولا من قبل الأوصياء ولا من قبل غيرهم وعلى هذا المعنى يكون لفظ الإيتاء قد أول بلازم معناه وهو الحفظ والرعاية لمال اليتامى، لا تسليم المال إليهم لأنه من المعروف شرعا ألا يسلم المال إليهم إلا بعد البلوغ، إذ هم في حال الصغر لا يصلحون للتصرف.
ويكون هذا التعبير من باب الكناية بإطلاق اللازم- وهو الإيتاء، وإرادة الملزوم وهو الحفظ، أو من باب المجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء.
ويرى بعضهم أن المراد باليتامى هنا الكبار الذين أونس منهم الرشد وأن المراد بالإيتاء دفع أموالهم إليهم على سبيل الحقيقة.
ويكون التعبير عنهم باليتامى- مع أنهم كبار- باعتبار أن اسم اليتيم يتناول لغة كل من فقد أباه، أو باعتبار قرب عهدهم بالصغر، أو باعتبار ما كان أى الذين كانوا يتامى. قالوا: وفي التعبير عنهم باليتامى مع أنهم كبار، إشارة إلى وجوب المسارعة في تسليم أموالهم إليهم متى أونس منهم الرشد، حتى لكأن اسم اليتيم ما زال باقيا عليهم، غير منفصل عنهم:
ويبدو لنا أن الرأى الأول أولى، لأن الأمر بدفع أموال اليتامى إليهم. بعد بلوغهم قد جاء صريحا في قوله- تعالى- بعد ذلك: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ.
فكان حمل الآية التي معنا على أن المراد باليتامى: الصغار، وبإيتاء أموالهم حفظها لهم، أولى وأقرب إلى المنطق، لأنه على الرأى الأول يكون الأمر وما يذكر به تأسيسات أحكام، وعلى الرأى الثاني يكون ما في الآية الثانية مؤكدا لما في الآية التي معنا. والتأسيس أولى من التأكيد.
ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك في الآية التي معنا وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ- إنما هو تحذير للأوصياء والأولياء من الطمع في مال اليتيم أو إضاعته ما دام المال في أيديهم واليتيم في حجرهم، وهذا يؤيد هذا الرأى الأول القائل بأن المراد باليتامى: الصغار، وبإيتاء أموالهم: حفظها ورعايتها حتى تسلم إليهم عند بلوغهم كاملة غير منقوصة.
وقوله وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ معناه: لا تجعلوا رديء المال لهم بدل الجيد، بأن تأخذوا لأنفسكم كرائم الأموال ونفائسها، وتتركوا لهم الخسيس منها.
قال القرطبي: وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى فكانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم ويقولون اسم باسم، ورأس برأس، فنهاهم الله عن ذلك. وهذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدى والضحاك وهو
ظاهر الآية، إذ التبديل جعل شيء بدل شيء» «1» .
ويرى صاحب الكشاف أن المراد بالخبيث: الحرام، وبالطيب: الحلال فقد قالوا:
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أى: ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها» «2» .
وقوله- تعالى- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ نهى آخر عن الاعتداء على أموال اليتامى عن طريق خلط أموال اليتامى بأموال الأوصياء، والمراد من الأكل: مطلق الانتفاع والتصرف وخص الأكل بالذكر، لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.
والمعنى: ولا تضموا أيها الأوصياء أموال اليتامى إلى أموالكم في الإنفاق فتأكلوها مع أموالكم، وتسووا بينهما في الانتفاع، لأن أموالكم أحل الله لكم أكلها، أما أموال اليتامى فقد حرم الله عليكم أكلها.
فالآية الكريمة صريحة في النهى عن خلط مال اليتيم القاصر بمال الوصي عليه بقصد أكله، لأن هذا لون من ألوان الاستيلاء المحرم على أموال اليتامى، كما أنها تتضمن النهى عن خلط مال اليتيم بمال الوصي عليه ولو لم يقصد أكله، لأن هذا الخلط قد يؤدى إلى ضياعه وعدم تميزه فقد يموت الوصي فلا يعرف مال اليتيم من ماله، فيؤدى الأمر إلى أكله وإن لم يكن مقصودا، ولذا قال الفقهاء: إذا مات الوصي على اليتيم مجهلا مال اليتيم اعتبر مستهلكا له.
والخلاصة أن الآية الكريمة تحرم على الأولياء والأوصياء وغيرهم أن يتصرفوا في أموال اليتامى أى تصرف يؤدى إلى الإضرار بها، بل عليهم أن يحفظوها لهم حتى يدفعوها إليهم سالمة عند البلوغ.
هذا، وليس قيد «إلى أموالكم» محط النهى، بل النهى واقع على أكل أموال اليتامى مطلقا، سواء أكان للآكل مال يضم إليه مال اليتيم أم لم يكن. ولكن لما كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثر أو توفير أموالهم، جيء بهذا القيد رعاية لهذا الغالب، وليكون ذمهم على جشعهم وضعف دينهم أشد وأشنع حيث أكلوا حقوق اليتامى مع أنهم في غنى عنها بما رزقهم الله من أموال.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى
(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 8.
(2)
تفسير الكشاف ج 1 ص 165.
وحده ومع أموالهم فلم ورد النهى عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال- وهم مع ذلك يطمعون فيها- كان القبح أبلغ والذم أحق، ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم» «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً.
والحوب: اسم مصدر من حاب يحوب حوبا: إذا اكتسب إثما. يقال: فلان يتحوب أى يتأثم. والحوباء: النفس المرتكبة للإثم. ويقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي، أى إثمى.
وأصله الزجر للإبل، فسمى الإثم حوبا لأنه يزجر عنه وبه.
والضمير في قوله إِنَّهُ يعود إلى أكل مال اليتيم بأى طريق محرم.
والمعنى: إن أكل مال اليتيم بأى طريقة من الطرق المحرمة كان إثما كبيرا، وذنبا عظيما، لأن هذا الأكل اعتداء على نفس ضعيفة فقدت من يعولها ومن يدافع عنها، ومن اعتدى على نفس ضعيفة، وضيع حقها، وخان الأمانة كان مرتكبا لذنب عظيم يؤدى به إلى العقوبة والعذاب الأليم.
والجملة بمنزلة التعليل للنهى عن أكل مال اليتيم، وعن الطمع بدون وجه حق فيها.
ثم شرع- سبحانه- في نهيهم عن منكر آخر كانوا يباشرونه فقال- تعالى-:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.
وقوله وَإِنْ خِفْتُمْ شرط، وجوابه قوله فَانْكِحُوا.
والمراد من الخوف: العلم، وعبر عنه بذلك للأشعار بكون المعلوم مخوفا محذورا. ويقوم الظن الغالب مقام العلم.
وقوله تُقْسِطُوا من الإقساط وهو العدل. يقال: أقسط الرجل إذا عدل. قال- تعالى-: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ويقال: قسط الرجل إذا جار وظلم صاحبه.
قال- تعالى- أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
والمراد «باليتامى» : يتامى النساء. قال الزمخشري: ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة.
ومعنى ما طابَ لَكُمْ ما مالت إليه نفوسكم واستطابته من النساء اللائي أحل الله لكم نكاحهن.
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 465.
هذا، وللعلماء أقوال في تفسير هذه الآية الكريمة منها: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة- رضى الله عنها- عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختى هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها.
فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره.
قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله- تعالى-: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ.
قالت عائشة: وقول الله- تعالى- وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. قالت: فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال «1» » .
وعلى هذه الرواية التي ساقها أئمة المحدثين عن عائشة في المراد من الآية الكريمة يكون المعنى: وإن علمتم أيها الأولياء على النساء اليتامى أنكم لن تعدلوا فيهن إذا تزوجتم بهن- بأن تسيئوا إليهن في العشرة، أو بأن تمتنعوا عن إعطائهن الصداق المناسب لهن- إذا علمتم ذلك فانكحوا غيرهن من النساء الحلائل اللائي تميل إليهن نفوسكم ولا تظلموا هؤلاء اليتامى بنكاحهن دون أن تعطوهن حقوقهن فإن الله- تعالى- قد وسع عليكم في نكاح غيرهن.
فالمقصود من الآية الكريمة على هذا المعنى: نهى الأولياء عن نكاح النساء اليتامى اللائي يلونهن عند خوف عدم العدل فيهن، إلا أنه أوثر التعبير عن ذلك بالأمر بنكاح النساء الأجنبيات، كراهة للنهى الصريح عن نكاح اليتيمات، وتلطفا في صرف المخاطبين عن نكاح اليتامى حال العلم بعدم العدل فيهن.
فكأنه- سبحانه- يقول: إن علمتم أيها الأولياء الجور والظلم في نكاح اليتامى اللائي في ولايتكم فلا تنكحوهن، وانكحوا غيرهن مما طاب لكم من النساء.
وعلى هذا القول الذي أورده المحدثون عن عائشة- رضى الله عنها- سار كثير من المفسرين في تفسير الآية الكريمة. وبعضهم اقتصر عليه ولم يذكر سواه.
قال بعض العلماء: وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية. وهي وإن لم تسند ما قالته إلى رسول الله، إلا أن سياق كلامها يؤذن بأنه عن توقيف ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة، اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلا عن معاينة حال النزول.
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 450.
لا سيما وقد قالت: ثم إن الناس استفتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس مما يعلمون من أحوالهم، وتكون قد جمعت إلى جانب حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة، حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقها النساء اليتامى كمهور لهن عند الزواج بهن..» «1» .
أما الرأى الثاني فيرى أصحابه أن الآية مسوقة للنهى عن نكاح ما فوق الأربع خوفا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم.
وقد حكى هذا القول الإمام ابن جرير فقال: وقال آخرون بل معنى ذلك: النهى عن نكاح ما فوق الأربع، حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما مال على مال اليتيمة التي في حجره فأنفقه، أو تزوج به، فنهوا عن ذلك. وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم، - إن خفتم ذلك. فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع. وإن خفتم أيضا من الأربع ألا تعدلوا في أموالهم- أى أموال اليتامى-، فاقتصروا على الواحدة أو على ما ملكت أيمانكم «2» - أى إن كان زواجكم بالأربع يؤدى إلى الجور في أموال اليتامى فاقتصروا على الزواج بامرأة واحدة-» .
وقد انتصر ابن جرير لهذا القول وعده أرجح الأقوال، فقال ما ملخصه وإنما قلنا: إن ذلك أولى بتأويل الآية لأن الله- تعالى- افتتح الآية التي قبلها بالنهى عن أكل أموال اليتامى بغير حقها. ثم أعلمهم- هنا- المخلص من الجور في أموال اليتامى فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ما أبحت لكم منهن وحللته: مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم أيضا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة فلا تنكحوها، ولكن تسروا من المماليك، فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن، لأنهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور» «3» .
وينسب هذا الرأى إلى ابن عباس وسعيد بن جبير، والسدى، وقتادة، وعكرمة.
وقال مجاهد: إن الآية الكريمة مسوقة للنهى عن الزنا. وقد حكى هذا الرأى صاحب الكشاف فقال: كانوا لا يتحرجون من الزنا. ويتحرجون من ولاية اليتامى. فقيل لهم: إن
(1) تفسير التحرير والتنوير ج 4 ص 22 للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(2)
تفسير ابن جرير ج 4 ص 223، طبعة الحلبي سنة 1372 سنة 1954 م.
(3)
تفسير ابن جرير ج 4 ص 235- بتصرف وتلخيص-.
خفتم الجور في حق اليتامى، فخافوا الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرمات» «1» .
هذه أشهر الأقوال في معنى الآية الكريمة، ويبدو لنا أن أرجحها أولها، لأنه هو الظاهر من معنى الآية، ولأن الغالب أن السيدة عائشة- رضى الله عنها- ما فسرت الآية بهذا التفسير الذي قالته لابن أختها عروة إلا عن توقيف ومعاينة لحال النزول، ولأن الملازمة بين الشرط والجزاء في الآية على هذا الوجه تكون ظاهرة. إذ التقدير وإن خفتم أيها الأولياء الجور والظلم في نكاح اليتامى اللاتي في ولايتكم فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء.
أما على القول الثاني فمحل الملازمة بين الشرط والجزاء إنما هو فيما تفرع عن الجزاء وهو قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وعلى قول مجاهد تضعف الملازمة بين الشرط والجزاء.
هذا، والأمر في قوله فَانْكِحُوا- على التفسير الأول- للإباحة كما في قوله- تعالى- كُلُوا وَاشْرَبُوا
…
خلافا للظاهرية الذين يرون أنه للوجوب. وما في قوله- تعالى- ما طابَ لَكُمْ
موصولة أو موصوفة. وما بعدها صلتها أو صفتها. وأوثرت على من: لأنها أريد بها الصفة وهو الطيب من النساء بدون تحديد لذات معينة، ولو قال فانكحوا من طاب لكم لتبادر إلى الذهن أن المراد نسوة طيبات معروفات بينهم.
وقوله- تعالى- مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ حال من فاعل طابَ المستتر أو من مرجعه- وهو ما-، أو بدل منه.
وهذه الكلمات الثلاث من ألفاظ العدد. وتدل كل واحدة منها على المكرر من نوعها. فمثنى تدل على اثنين اثنين. وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة. ورباع تدل على أربعة أربعة.
والمراد منها هنا: الإذن لكل من يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين.
والمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء معدودات هذا العدد: ثنتين ثنتين. وثلاثا ثلاثا.
وأربعا أربعا. حسبما تريدون وتستطيعون.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع. فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع.
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 461.
قلت: الخطاب للجميع. فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له. كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال- وهو ألف درهم-: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة. وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى.
فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون أو؟
قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة علمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة. وليس لهم أن يجمعوا بينها. فيجعلوا بعض القسم على تثنية، وبعضا على تثليث، وبعضا على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو.
وتحريره: أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحهن من النساء على طريق الجمع: إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها، محظورا عليهم ما وراء ذلك» «1» .
ثم بين- سبحانه- لعباده ما ينبغي عليهم فعله في حال توقعهم عدم العدل بين الزوجات فقال- تعالى- فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
فالمراد بالعدل هنا: العدل بين الزوجات المتعددات.
أى: فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين الأكثر من الزوجة الواحدة في القسم والنفقة وحقوق الزوجية بحسب طاقتكم، كما علمتم في حق اليتامى أنكم لا تعدلون- إذا علمتم ذلك فالزموا زوجة واحدة، أو أى عدد شئتم من السراري بالغة ما بلغت.
فكأنه- سبحانه- لما وسع عليهم بأن أباح لهم الزواج بالمثنى والثلاث والرباع من النساء، أنبأهم بأنه قد يلزم من هذه التوسعة خوف الميل وعدم العدل. فمن الواجب عليهم حينئذ أن يحترزوا بالتقليل من عدد النساء فيقتصروا على الزوجة الواحدة.
ومفهومه: إباحة الزيادة على الواحدة إذا أمن الجور بين الزوجات المتعددات.
وقوله فَواحِدَةً منصوب بفعل مضمر والتقدير: فالزموا واحدة أو فاختاروا واحدة فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به.
وقرئ بالرفع أى فحسبكم واحدة. أَوْ للتسوية أى سوى- سبحانه- في السهولة واليسر بين نكاح الحرة الواحدة وبين السراري من غير تقييد بعدد، لقلة تبعتهن، ولخفة مؤنتهن، وعدم وجوب القسم فيهن.
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 468.
وقوله ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا جملة مستأنفة بمنزلة لتعليل لما قبلها.
واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى اختيار الواحدة أو التسرى.
وقوله أَدْنى هنا بمعنى أقرب. وهو قرب مجازى. أى أحق وأعون على أن لا تعولوا.
وقوله تَعُولُوا مأخوذ من العول وهو في الأصل الميل المحسوس.
يقال. عال الميزان عولا إذا مال. ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور والظلم ومنه عال الحاكم إذا جار، والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل.
والمعنى: أن ما ذكر من اختيار الزوجة الواحدة والتسرى، أقرب بالنسبة إلى ما عداهما إلى العدل وإلى عدم الميل المحظور، لأن من اختار زوجة واحدة فقد انتفى عنه الميل والجور رأسا لانتفاء محله ومن تسرى فقد انتفى عنه خطر الجور والميل. أما من اختار عددا من الحرائر فالميل المحظور متوقع منه لتحقق المحل والخطر.
ولأن التعدد في الزوجات يعرض المكلف غالبا للجور وإن بذل جهده في العدل.
وهذا المعنى على تفسير (تعولوا) بمعنى تجوروا وتميلوا عن الحق. وهو اختيار أكثر المفسرين.
وقيل: إن معنى أَلَّا تَعُولُوا ألا تكثر عيالكم. يقال: عال يعول، إذا كثرت عياله. وقد حكى صاحب الكشاف هذا المعنى عن الإمام الشافعى فقال:
«والذي يحكى عن الشافعى- رحمه الله أن فسر أَلَّا تَعُولُوا بأن لا تكثر عيالكم.
فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم كقولهم: ما نهم يمونهم إذا أنفق عليهم. لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب.
ثم قال: وكلام مثله من أعلام العلم، وأئمة الشرع، ورءوس المجتهدين، حقيق بالحمل على الصحة والسداد.
وقرأ طاوس: أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعى من حيث المعنى الذي قصده» «1» .
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها: جواز تعدد الزوجات إلى أربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن مجتمعات، لأن هذا العدد قد ذكر في مقام التوسعة على المخاطبين، ولو كانت تجوز الزيادة على هذا العدد لذكرها الله- تعالى-.
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 468. [.....]
وقد أجمع الفقهاء على أنه لا تجوز الزيادة على الأربع، ولا يقدح في هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز الجمع بين ما هو أكثر من الأربع الحرائر، لأن ما ذهب إليه هؤلاء المبتدعة لا يعتد به. إذ الإجماع قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء المبتدعين المخالفين.
وقد رد العلماء على هؤلاء المخالفين بما يهدم أقوالهم، ومن العلماء الذين تولوا الرد عليهم الإمام القرطبي فقد قال- ما ملخصه-:
«اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع. كما قاله من بعد فهمه عن الكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر، جعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع.
وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لا يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع.
وأخرج مالك في الموطأ والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن» .
وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته.
وأما قولهم إن الواو جامعة. فقد قيل ذلك، ولكن الله- تعالى- خاطب العرب بأفصح اللغات. والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة. وكذلك تستقبح ممن يقول، أعط فلانا أربعة، ستة، ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر.
وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أى انكحوا ثلاث بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو. ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع.
وقد قال مالك والشافعى في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع: عليه الحد إن كان عالما.
وقال الزهري: يرجم إن كان عالما، وإن كان جاهلا فعليه أدنى الحدين الذي هو الجلد، ولها مهرها، ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا» «1» .
كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى وإن كان قد أباح التعدد وحدد غايته بأربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن، إلا أنه- سبحانه- قد قيد هذه الإباحة
(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 17.
بالعدل بينهم فيما يستطيع الإنسان العدل فيه بحسب طاقته البشرية، بأن يعدل بينهن في النفقة والكسوة والمعاشرة الزوجية. فإن عجز عن ذلك لم يبح له التعدد.
وللإمام الشيخ محمد عبده كلام حسن في المعنى، فقد قال- رحمه الله «قد أباحت الشريعة الإسلامية للرجل الاقتران بأربع من النسوة إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة. قال- تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً فإن الرجل إذا لم يستطع إعطاء كل منهن حقها اختل نظام المنزل، وساءت معيشة العائلة إذ العماد القويم لتدبير المنزل هو بقاء الاتحاد والتآلف بين أفراد العائلة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، والعلماء الصالحون من كل قرن إلى هذا العهد يجمعون بين النسوة مع المحافظة على حدود الله في العدل بينهن. فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون من أمته لا يأتون حجرة إحدى الزوجات في نوبة الأخرى إلا بإذنها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كان له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل» .
وكان صلى الله عليه وسلم يعتذر عن ميله القلبي بقوله: «اللهم هذا- أى العدل في البيات والعطاء- جهدي فيما أملك، ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك- يعنى الميل القلبي» . وكان يقرع بينهن إذا أراد سفرا.
ثم قال في نهاية حديثه: فعلى العقلاء أن يتبصروا قبل طلب التعدد في الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من العدل وحفظ الألفة بين الأولاد، وحفظ النساء من الغوائل التي تؤدى بهن إلى الأعمال التي لا تليق بمسلمة «1» .
هذا، وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لمشروعية تعدد الزوجات، ومن هذه الحكم أن في هذا التعدد وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد عدد المواليد فيها. ولا شك أن كثيرا من الأمم الإسلامية التي اتسعت أرضها، وتعددت موارد الثروة فيها، في حاجة إلى تكثير عدد أفرادها حتى تنتفع بما حباها الله من خيرات، وتستطيع الدفاع عن نفسها إذا ما طمع فيها الطامعون، واعتدى عليها المعتدون.
ومنها أن التعدد يعين على كفالة النساء وحفظهن وصيانتهن من الوقوع في الفاحشة، لا سيما في أعقاب الحروب التي- عادة- تقضى على الكثيرين من الرجال، ويصبح عدد النساء أكبر بكثير من عدد الرجال.
ومنها أن الشريعة الإسلامية قد حرمت الزنا تحريما قاطعا، وعاقبت مرتكبه بأقسى أنواع
(1) تفسير المنار ج 4 ص 364 وما بعدها- بتصرف وتلخيص-.