الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكريم ذلك في كثير من آياته، ومن ذلك قوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. وقوله- تعالى- ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وقوله- تعالى- وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
ولقد كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف والتيسير، ففي الحديث الشريف:«إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» .
وكان من وصاياه لمعاذ بن جبل وأبى موسى الأشعرى عند ما أرسلهما إلى اليمن «يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا» .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت لنا ألوانا من مظاهر فضل الله على عباده ورحمته بهم، لكي يزدادوا له شكرا وطاعة وخضوعا.
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض المحرمات المتعلقة بالأنفس والأموال، بعد أن بين لهم قبل ذلك المحرمات من النساء والمحللات منهن ومظاهر فضله- سبحانه- بعباده ورحمته بهم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 31]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
والمراد بالأكل في قوله لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ مطلق الأخذ الذي يشمل سائر التصرفات التي نهى الله عنها.
وخص الأكل بالذكر لأن المقصود الأعظم من الأموال هو التصرف فيها بالأكل.
والباطل: اسم لكل تصرف لا يبيحه الشرع كالربا والقمار والرشوة والغصب والسرقة والخيانة والظلم إلى غير ذلك من التصرفات المحرمة.
والمعنى. يا أيها المؤمنون لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال غيره بطريقة باطلة لا يقرها الشرع، ولا يرتضيها الدين، كما أنه لا يحل لكم أن تتصرفوا في الأموال التي تملكونها تصرفا منهيا عنه بأن تنفقوها في وجوه المعاصي التي نهى الله عنها فإن ذلك يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذي آمنتم به.
وناداهم- سبحانه- بصفة الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وإغرائهم بالاستجابة لما أمروا به أو نهوا عنه.
وفي قوله أَمْوالَكُمْ إشارة إلى أن هذه الأموال هي نعمة من الله لنا، وأن على الأمة جميعها أن تصون هذه الأموال عن التصرفات الباطلة التي لا تبيحها شريعة الله.
وفي قوله بَيْنَكُمْ إشارة إلى أن تبادل الأموال بين الأفراد والجماعات يجب أن يكون على أساس من الحق والعدل ولا يكون بالباطل أو بالظلم.
والاستثناء في قوله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ استثناء منقطع لأن التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل.
والمعنى: لا يحل لكم- أيها المؤمنون- أن تتصرفوا في أموالكم بالطرق المحرمة، لكن يباح لكم أن تتصرفوا فيها بالتجارة الناشئة عن تراض فيما بينكم لأنه لا يحل لمسلم أن يقتطع مال أخيه المسلم إلا عن طيب نفس منه.
والتجارة: اسم يقع على عقود المعاوضات التي يقصد بها طلب الربح. وخصت بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا ولأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
أخرج الأصبهانى عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا) .
وكلمة تِجارَةً قرأها عاصم وحمزة والكسائي بالنصب على أنها خبر لكان الناقصة، واسم كان ضمير يعود على الأموال أى إلا أن تكون الأموال المتداولة بينكم تجارة صادرة عن تراض
منكم. وقرأها الباقون بالرفع على أنها فاعل لكان التامة أى: إلا أن تقع تجارة بينكم عن تراض منكم.
وقوله عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ صفة لقوله تِجارَةً ولفظ عَنْ للمجاوزة أى: إلا أن تكون تجارة صادرة عن تراض كائن منكم.
والتراضي: هو الرضا من الجانبين بما يدل عليه من لفظ أو عرف، وهو أساس العقود بصفة عامة، وأساس المبادلات المالية بصفة خاصة، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا.
قال بعضهم: وحقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله- تعالى- والمراد ها هنا أمارته. كالإيجاب والقبول وكالتعاطى عند القائل به. وقد قال- تعالى- إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط. ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأى لفظ وقع وعلى أى صفة كان، وبأى إشارة مفيدة حصل» «1» .
وقال الآلوسى: والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدوا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا. وعند المالكية والشافعية حالة الافتراق عن مجلس العقد وقيل التراضي: التخيير بعد البيع
…
» «2» .
هذا، وظاهر قوله- تعالى- إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ يفيد إباحة جميع أنواع التجارات ما دام قد حصل التراضي بين المتعاقدين، ولكن هذا الظاهر غير مراد لأن الشارع قد حرم المتاجرة في أشياء معينة حتى ولو تم التراضي بين المتعاقدين فيها، وذلك مثل المتاجرة في الخمر والميتة ولحم الخنزير، ومثل بيع الغرر والعبد الآبق ونحو ذلك مما نهى عنه الشارع من العقود والمعاملات.
وقوله وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معطوف على ما قبله.
وللعلماء في تأويله اتجاهات: فمنهم من يرى أن معناه: ولا يقتل بعضكم بعضا، فإن قتل بعضكم لبعض قتل لأنفسكم. والتعبير عن قتل بعضهم لبعض بقتل أنفسهم للمبالغة في الزجر عن هذا الفعل، وبتصويره بصورة مالا يكاد يفعله عاقل.
وإلى هذا المعنى اتجه الفخر الرازي فقد قال: اتفقوا على أن هذا نهى عن أن يقتل بعضهم بعضا. وإنما قال: أَنْفُسَكُمْ لقوله صلى الله عليه وسلم «المؤمنون كنفس واحدة» . ولأن العرب يقولون:
(1) تفسير القاسمى ج 5 ص 1203.
(2)
تفسير الآلوسى ج 5 ص 16.
قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يحرى مجرى قتلهم» «1» .
ومنهم من يرى أن معناه النهى عن قتل الإنسان لنفسه. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ- أى يطعن- بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» «2» .
وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص- أى سهام عراض واحدها مشقص- فلم يصل عليه «3» .
ومنهم من يرى أن معناه: لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض وبارتكابكم للمعاصي التي نهى الله عنها، فإن ذلك يؤدى إلى إفساد أمركم، وذهاب ريحكم، وتمزق وحدتكم، ولا قتل للأمم والجماعات أشد من فساد أمرها، وذهاب ريحها.
وقد ذهب إلى هذا المعنى الإمام ابن كثير فقد قال: وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أى بارتكاب محارم الله- وتعاطى معاصيه، وأكل أموالكم بينكم بالباطل» «4» .
والذي نراه أن الجملة الكريمة تتناول كل هذه الاتجاهات، فهي تنهى المسلم عن أن يقتل نفسه، كما أنها تنهاه عن أن يقتل غيره، وهي أيضا تنهاه عن ارتكاب المعاصي التي تؤدى إلى هلاكه.
وقدم- سبحانه- النهى عن أكل الأموال بالباطل على النهى عن قتل الأنفس مع أن الثاني أخطر، للإشعار بالتدرج في النهى من الشديد إلى الأشد ولأن وقوعهم في أكل الأموال بالباطل كان أكثر منهم وأسهل عليهم من وقوعهم في القتل.
وقد ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً لبيان أن ما نهى الله عنه من محرمات، وما أباحه من مباحات، إنما هو من باب الرحمة بالناس، وعدم المشقة عليهم. فالله- تعالى- رءوف بعباده ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم إلا بما هو في قدرتهم واستطاعتهم.
(1) تفسير الفخر الرازي ج 10 ص 72.
(2)
أخرجه البخاري في باب شرب السم من كتاب الطب ج 1 ص 181، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان ج 1 ص 181.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الجنائز ج 3 ص 66
(4)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 480
وهذه الآية الكريمة أصل عظيم في حرمة الأموال والأنفس. ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في خطبته في حجة الوداع حيث قال: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» .
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة من يفعل ما نهى الله عنه فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
واسم الإشارة في قوله «ومن يفعل ذلك» يعود إلى المذكور من أكل الأموال بالباطل ومن القتل. وقيل الإشارة إلى القتل لأنه أقرب مذكور.
والعدوان: مجاوزة الحد المشروع عن قصد وتعمد.
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
والمعنى: أن من يفعل ذلك المحرم حال كونه ذا عدوان وظلم عاقبه الله على ذلك عقابا شديدا في الآخرة، بإدخاله نارا هائلة محرقة، وكان عقابه بهذا العذاب الهائل الشديد يسيرا على الله، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء.
وجمع- سبحانه- بين العدوان والظلم ليشمل العذاب كل أحوال الارتكاب لمحارم الله، وليخرج ما كان غير مقصود من الجرائم، كمن يتلف مال غيره بدون قصد، وكمن يقتل غيره بدون تعمد، فإنه يكون ظالما وعليه دفع عوض معين للمستحق لذلك، إلا أنه لا يكون مستحقا لهذا العذاب الشديد الذي توعد الله به من يرتكب هذه الجنايات عن عدوان وظلم.
وبعد هذا الوعيد الشديد لكل معتد وظالم، فتح القرآن الكريم باب الرحمة للناس حتى لا يقنطوا من رحمة الله فقال- تعالى- إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً.
واجتناب الشيء معناه: المباعدة عنه وتركه جانبا بحيث تكون أنت في جانب وهو في جانب آخر ولا تلاقى بينكما.
وكبائر الذنوب: ما عظم منها، وعظمت العقوبة عليه. كالشرك، وقتل النفس بغير حق، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك من المحرمات.
والسيئات: جمع سيئة وهي الفعلة القبيحة، وسميت بذلك لأنها تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا.
والمراد بالسيئات هنا: صغائر الذنوب بدليل مقابلتها بالكبائر.
والمعنى: إن تتركوا- يا معشر المؤمنين- كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عن اقترافها،
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أى نسترها عليكم، ونمحها عنكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل فضلا من الله عليكم، ورحمة بكم.
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً أى وندخلكم في الآخرة مدخلا حسنا وهو الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين. فهي مكان طيب يجد من يحل فيه الكثير من كرم الله ورضاه.
والمدخل- بضم الميم- كما قرأه الجمهور مصدر بمعنى الإدخال، ومفعول ندخلكم محذوف أى نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم إدخالا كريما.
ويصح أن يكون اسم مكان منصوبا على الظرفية عند سيبويه، وعلى المفعولية عند الأخفش.
وقرأ نافع مُدْخَلًا- بفتح الميم- على أنه اسم مكان للدخول، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا. أى ندخلكم مكانا كريما أو ندخلكم دخولا كريما.
هذا، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن صغائر الذنوب يغفرها الله- تعالى- لعباده رحمة منه وكرما متى اجتنبوا كبائر الذنوب، وصدقوا في توبتهم إليه.
كما استدلوا بها على أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر لأن هذه الآية قد فصلت بين كبائر الذنوب وبين ما يكفر باجتنابها وهو صغار الذنوب المعبر عنها بقوله- تعالى-: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. ولأن الله- تعالى- يقول في موضع آخر وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ «1» .
قال الآلوسى ما ملخصه: واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال منها: أنها كل معصية أوجبت الحد. ومنها: أنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته.
وقال الواحدي: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها. ولكن الله- تعالى- أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر. ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى، وليلة القدر. وساعة الإجابة.
وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبط بحد. فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله- تعالى- من أول هذه السورة إلى هنا. وقيل هي سبع بدليل ما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله- تعالى- والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي
(1) سورة النجم: الآيتان 31، 32.
يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
فإن قيل: جاء في روايات أخرى أن من الكبائر «اليمين الغموس» و «قول الزور» و «عقوق الوالدين» ؟ قلنا في الجواب: إن ذلك محمول على أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ما ذكر منها قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر وليس لحصره الكبائر فيه- فإن النص على هذه السيع بأنهن كبائر لا ينفى ما عداهن» «1» .
والذي نراه أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر، وأن الصغائر يغفرها الله لعباده متى اجتنبوا الكبائر وأخلصوا دينهم لله، وأن الكبائر هي ما حذر الشرع من ارتكابها تحذيرا شديدا، وتوعد مرتكبها بسوء المصير، كالإشراك بالله، وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الفواحش التي يؤدى ارتكابها إلى إفساد شأن الأفراد والجماعات والتي ورد النهى عنها في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وأن الصغائر، هي الذنوب اليسيرة التي يرتكبها الشخص من غير إصرار عليها ولا استهانة بها أو مداومة عليها، بل يعقبها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح وصدق الله إذ يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ، ولقد فتح الله- تعالى- لعباده باب التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا ييأسوا من رحمته فقال- سبحانه-: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «2» ثم نهى- سبحانه- عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه مما يجرى فيه التنافس، وبين- سبحانه- أنه قد جعل لكل إنسان حقا معينا فيما تركه الوالدان والأقربون فقال- تعالى-:
(1) تفسير الآلوسى ج 5 ص 17. [.....]
(2)
سورة الفرقان: الآيات 68، 69، 70.