المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٣

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثالث]

- ‌سورة النساء

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد بين يدي السورة

- ‌[سورة النساء (4) : آية 1]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 3]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 4]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 5]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 6]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 7]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 8]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 9]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 24]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 25]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 31]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 32 الى 33]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 42]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 55]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 68]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 80]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 81 الى 83]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 84 الى 87]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 94]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 121]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 122 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 147]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 152]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 162]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 175]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 176]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «النساء»

الفصل: ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]

ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات ببيان أنه هو المالك لكل شيء، والمهيمن على شئون هذا الكون فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً.

أى: ولله- تعالى- وحده جميع ما في السموات وما في الأرض من موجودات، فهو خالقها ومالكها ولا يخرج عن ملكوته شيء منها. وكان الله- تعالى- بكل شيء محيطا، بحيث لا تخفى عليه خافية من شئون خلقه، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بشرت المؤمنين بحسن الثواب، وبينت أن ثواب الله لا ينال بالأمانى وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح، وأن الدين الحق هو الدين الذي يدعو الإنسان إلى إخلاص نفسه لله، وإلى إحسان العمل في طاعته، وإلى اتباع ما كان عليه إبراهيم من منهاج سليم، وخلق قويم. وأنه- سبحانه هو المتصرف في شئون هذا الكون، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.

ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك جملة من الأحكام التي يتعلق أكثرها بالنساء فقال- تعالى-:

[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)

ص: 324

قال الإمام الرازي في بيان صلة هذه الآيات بما قبلها: اعلم أن عادة الله- تعالى- في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه. وهو أن يذكر شيئا من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته. ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب، لأن التكاليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالوعد والوعيد. والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد. فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقه بالدعوة إلى الحق.

إذا عرفت هذا فنقول: إنه- سبحانه- ذكر في أول هذه السورة أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف. ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك. ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه. ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال:

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ.. إلخ الآية «1» .

وقوله وَيَسْتَفْتُونَكَ من الاستفتاء بمعنى طلب الفتيا أو الفتوى. يقال استفتيت العالم في مسألة كذا. أى سألته أن يبين حكمها. فالإفتاء إظهار المشكل من الأحكام وتبيينه.

فمعنى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ: ويسألك أصحابك يا محمد أن تفتيهم في أمر النساء. أى يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام التي تتعلق بما يجب للنساء من حقوق، وبما يكون عليهن من واجبات.

والذي حمل الصحابة على هذا الطلب أنهم كانوا في جاهليتهم يعاملون النساء معاملة سيئة، ويظلمونهن ظلما شديدا، ثم وجدوا أن الإسلام الذي يدينون به قد أكرم المرأة وأنصفها بطريقة

(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 61

ص: 325

لم يألفوها من قبل، فتعددت أسئلتهم عن الأحكام التي تتعلق بالنساء حتى ينفذوا نحوهن ما يطلبه الإسلام منهم من حيث معاشرتهن وولايتهن وميراثهن وغير ذلك من الأحكام.

قال القرطبي: نزلت- هذه الآية- بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك. فأمر الله- تعالى- نبيه أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن أى:

يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء.

وكانت قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن.. «1» .

فسؤال الصحابة ليس عن ذوات النساء وإنما عن أحكام تتعلق بهن.

أخرج ابن جرير وغيره عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت آية المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال، والمرأة التي هي كذلك كما يرث الرجل الذي يعمل في المال؟ فرجوا أن يأتى في ذلك حدث من السماء فانتظروا:

فلما رأوا أنه لا يأتى حدث قالوا: لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد. ثم قالوا: سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه. فأنزل الله وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ.. الآية «2» .

وقوله قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وعد من الله- تعالى- بالإجابة عما يسألون عنه. وهو لون من تبشير السائل المتحير بأنه قد وجد ضالته حتى يطمئن قلبه، ويهدأ باله. وذلك مثل قولهم- ولله المثل الأعلى- لمن سأل سؤالا لمن يحسن الإجابة عنه: على الخبير وقعت.

أى: قل يا محمد لهؤلاء السائلين عن بعض الأحكام المتعلقة بالنساء: الله- تعالى- يفتيكم في شأنهن، ويبين لكم بأجلى بيان وأحكمه ما تجهلون من أحكامهن. ويقضى بينكم وبينهن بالعدل الذي لا يحوم حوله باطل.

وفي تقديم لفظ الجلالة تنويه بشأن هذه الفتيا، وإشعار بوجوب التزام ما تتضمنه من أحكام لأنها صادرة من العليم الخبير.

وقوله وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ للنحاة فيه مذاهب شتى، لعل أولاها بالقبول أن تكون ما اسم موصول مبتدأ والخبر محذوف والتقدير يسألونك يا محمد عن بعض أحكام النساء فقل لهم: الله يفتيكم في شأنهن، والذي يتلى عليكم في الكتاب كذلك أى: يفتيكم في شأنهن أيضا. وذلك المتلو في الكتاب الذي بين بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء منه قوله- تعالى فيما

(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 402

(2)

تفسير ابن جرير ج 5 ص 399- بتصرف يسير.

ص: 326

تقدم من هذه السورة: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.

قال الفخر الرازي: وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها. وما كان مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب- على سبيل المجاز- ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور: إن كتاب الله بين لنا هذا الحكم. وكما جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.

وقوله فِي يَتامَى النِّساءِ صلة ليتلى. أى: يتلى عليكم في شأنهن «1» .

وإضافة اليتامى إلى النساء من إضافة الصفة إلى الموصوف أى النساء اليتامى وجعلها بعضهم هنا على معنى من لأنها من إضافة الشيء إلى جنسه أى: في اليتامى من النساء.

وقوله اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ صفة لليتامى.

والمراد بما كتب لهن: ما فرض لهن من ميراث وصداق وغير ذلك من حقوق شرعها الله- تعالى- لهن.

قوله: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ معطوف على صلة اللاتي.

أى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن.

وقوله: أن تنكحوهن في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف وهو إما (في) وإما (عن) .

وعلى أن حرف الجر المحذوف (في) يكون المعنى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون في نكاحهن لأنفسكم إن كن جميلات أو غنيات أو غير ذلك مما يرغبكم في الزواج بهن مع عدم إعطائهن حقوقهن كاملة.

وعلى أن حرف الجر المحذوف (عن) يكون المعنى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون عن نكاحهن. أى لا أنتم تتزوجونهن ولا تتركونهن يتزوجن بغيركم حتى تبقى أموالهن تحت أيديكم.

قال ابن كثير: روى البخاري عن عائشة في قوله- تعالى- وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ.. إلى قوله وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ.. أنها قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها. فأشركته في ماله حتى في العذق. فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها. فنزلت هذه الآية.

(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 62

ص: 327

وعنها- أيضا أنها قالت: وقول الله- تعالى- وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رغبة أحدكم عن يتيمته التي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن- أى إذا كن قليلات المال والجمال.

ثم قال ابن كثير: والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزوجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة بمثالها من النساء. وتارة لا يكون له فيها رغبة فنهاه الله- تعالى- عن أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها «1» .

وحذف حرف الجار هنا لا يعد لبسا، بل يعد من باب الإجمال والإيجاز البليغ، لأن الجملة الكريمة صالحة لتقدير كل من الحرفين السابقين على سبيل البدل، بالاعتبارين السابقين. أى باعتبار الرغبة فيهن أو الرغبة عنهن فكأنه- سبحانه- يقول: وترغبون في نكاح بعضهن في حالات معينة وترغبون عن نكاح بعض آخر منهن في حالات أخرى لأن فعل رغب يتعدى بحرف (في) للشيء المحبوب، وبحرف (عن) للشيء غير المحبوب.

قال الآلوسى: واستدل بعض أصحابنا- أى الأحناف- بالآية على جواز تزويج الصغيرة، لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه. والشافعية يقولون: إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك، مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر. وهذا الخلاف في غير الأب والجد، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغيرة بلا خلاف «2» .

وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ معطوف على يتامى النساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم كما لا يورثون النساء، فشرع الله لهم الميراث كما هو مبين في آيات المواريث.

وقوله وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ في محل جر عطفا على ما قبله. أى: وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين من الولدان وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط فيه الكفاية لحملكم على سلوك الطريق القويم مع هؤلاء الضعاف.

ومما ذكره الله- تعالى- في شأن اليتامى قوله في مطلع هذه السورة: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ.

فيكون معنى الآية إجمالا: يسألك بعض أصحابك يا محمد أن تفتيهم في بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء. قل لهم على سبيل التعليم والإرشاد: الله- تعالى- يفتيكم ويبين لكم بيانا

(1) تفسير ابن كثير- بتلخيص يسير ج 1 ص 561

(2)

تفسير الآلوسى ج 5 ص 160

ص: 328

شافيا ما تسألون عنه بشأنهن. ويفتيكم أيضا في شأنهن ما تلاه الله عليكم في قرآنه قبل نزول هذه الآية وما يتلوه عليكم بعدها.

ويفتيكم- أيضا- ما يتلى عليكم في القرآن في شأن اليتامى اللاتي تمنعونهن ما فرض لهن من الميراث وغيره. وترغبون في نكاحهن لما لهن أو لجمالهن بأقل من صداقهن. أو ترغبون عن نكاحهن وتعضلونهن طمعا في أموالهن. وهذا الإفتاء الذي تلاه الله عليكم في قرآنه يمنعكم من أن تفعلوا شيئا من ذلك.

ويفتيكم أيضا ما يتلى عليكم في الكتاب في شأن اليتامى- ذكورا كانوا أو إناثا- بأن يأمركم أن تلتزموا العدل معهم في أموالهم وفي سائر أمورهم.

ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً أى:

وما تفعلوا من خير يتعلق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم فإن الله- تعالى- كان به عليما علما دقيقا محيطا، وسيجازيكم عليه جزاء يشرح نفوسكم ويصلح بالكم.

فالآية الكريمة قد اشتملت على ألوان من الترغيب بشأن الإحسان إلى النساء وإلى المستضعفين من الولدان. وإلى اليتامى حتى تعيش الأمة عيشة هانئة، يشعر ضعيفها برعاية قويها له. ويشعر قويها برضا ضعيفها عنه.

ثم بين- سبحانه- بعض الأحكام التي تتعلق بالزوجين، وعالج ما يقع بينهما من خلاف ونفرة علاجا حكيما فقال- تعالى- وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.

والخوف معناه: توقع الإنسان مكروها ينزل به. وهو هنا مستعمل في حقيقته إلا أنه لا يكون إلا بعد ظهور علامات تدل عليه من الرجل. كأن يقول لها: إنك قد كبرت وأريد أن أتزوج بشابة. إلى غير ذلك من الأحوال التي تلمسها الزوجة من زوجها بمقتضى مخالطتها له.

والنشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع ويوصف به الرجل والمرأة. والمراد به هنا ما يكون من الرجل من استعلاء على زوجته. ومجافاة لها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها وفي حقوقها.

والإعراض عنها من مظاهره: التقليل من محادثتها ومؤانستها وإدخال السرور عليها. وهو أخف من النشوز. «1»

(1) تفسير الآلوسى ج 5 ص 161 [.....]

ص: 329

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: خشيت سودة بنت زمعة إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله. لا تطلقني واجعل يومى لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية. «1»

وأخرج الشافعى عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك. فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن.

وروى عن عائشة أنها قالت: نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول له: أمسكنى وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم.

وقوله: وَإِنِ امْرَأَةٌ فاعل لفعل واجب الإضمار. أى: وإن خافت امرأة خافت.

وقوله: مِنْ بَعْلِها متعلق بخافت، وقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما جواب الشرط.

والمعنى: وإن خافت امرأة من زوجها (نشوزا) أى تجافيا عنها، وترفعا عن صحبتها أَوْ إِعْراضاً أى: انصرافا عن محادثتها ومؤانستها على خلاف ما عهدته منه قبل ذلك، ففي هذه الأحوال فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أى: لا حرج ولا إثم على الزوجة وزوجها في أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً يتفقان عليه فيما بينهما رعاية لرابطة الزوجية وإبقاء على دوامها، وذلك بأن تترك المرأة بعض حقوقها حتى تسترضى زوجها وتعمل على إزالة ما في نفسه من استعلاء وانصراف عنها.

وقوله صُلْحاً مفعول مطلق مؤكد لعامله. أو مفعول به على تأويل يصلحا بيوقعا صلحا.

وبَيْنَهُما حال من صُلْحاً لأنه كان نعتا له ونعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا، وفيه إشارة إلى أن الأولى لهما أن لا يطلعا الناس على ذلك. بل يكون ما يتفقان عليه سرا بينهما.

وقد عبر- سبحانه- عن طلب الصلح بقوله فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ترفقا في الإيجاب، ونفيا لما يتوهم من أن تنازل أحدهما للآخر عن بعض حقه يؤدى إلى الإثم، لأن الصلح بينهما يقتضى أن يتسامح أحد الزوجين في جزء من حقه ليظفر بخير أكثر مما تسامح فيه. فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم عشرتها مع زوجها بالمعروف فذلك لا إثم فيه بل إن فيه الخير.

وأكد- سبحانه- هذا الصلح بقوله صُلْحاً للإشارة إلى وجوب أن يكون الصلح بينهما حقيقيا لا شكليا، وأن يكون بحيث تتلاقى القلوب، وتصفو النفوس. وتشيع بينهما المودة والرحمة، ويرضى كل واحد منهما بما قسم الله له.

(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 65

ص: 330

وقوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ جملة معترضة من مبتدأ وخبر لتأكيد الصلح الذي حض الله عليه قبل ذلك.

أى: والصلح بين الزوجين خير من الفرقة وسوء العشرة، اللهم إلا إذا استحال الصلح والوفاق بينهما فإنه في هذه الحالة تكون الفرقة بينهما خيرا. وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.

قال ابن كثير ما ملخصه: وقوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ. الظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة على أن تركت يومها لعائشة ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله هذا للتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه فهو أفضل في حقه صلى الله عليه وسلم ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال:

وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، بل الطلاق بغيض إليه- سبحانه- ولهذا جاء الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» «1» .

وقوله- تعالى- وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ جملة أخرى معترضة جيء بها لبيان ما جبل عليه الإنسان من طباع، وللحض على الصلح حتى ولو خالف ما طبعت عليه النفس من سجايا.

والفعل حضر يتعدى لواحد فدخلت عليه الهمزة فجعلته يتعدى لاثنين كما هنا. إذ المفعول الأول نائب الفاعل وهو الأنفس والمفعول الثاني كلمة الشح.

والشح: البخل مع الحرص، والمراد: وأحضر الله الأنفس الشح. أى جبل الله النفوس على الشح بما تملكه، فالمرأة لا تكاد تتسامح أو تتنازل عن شيء من حقها، والرجل كذلك لا يكاد يتنازل عن شيء من حقوقه، لأن حرص الإنسان على حقه طبيعة فيه. فعلى الزوجين أن يلاحظا ذلك وأن يخالفا ميولهما وطبعهما من أجل الإبقاء على الحياة الزوجية بصفاء ومودة.

فالجملة الكريمة ترشد الإنسان إلى داء من أدوائه وتأمره بمعالجته حتى ولو أدى ذلك إلى مخالفة ما جبلت عليه نفسه.

ويرى ابن جرير أن المراد بالأنفس هنا أنفس النساء خاصة فقد قال ما ملخصه: وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: عنى بذلك. أحضرت أنفس النساء الشح بانصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة. والشح: الإفراط في الحرص على الشيء. وهو في هذا الموضع: إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.

(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 563

ص: 331

فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضرائرهن.

ثم قال. ويشهد لهذا ما روى في سبب نزول الآية من أنها نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته، إذ تزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت الكبيرة أن تقر على الأثرة، فطلقها تطليقة وتركها. فلما قارب انقضاء عدتها، خيرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة.

فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة فراجعها وآثر عليها. فلم تصبر. ففي ذلك دليل واضح على أن قوله- تعالى- وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إنما عنى به: وأحضرت أنفس النساء الشح بحقوقهن من أزواجهن على ما وصفنا «1» .

ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالأمر بخشيته ومراقبته، والسير في طريق الصلح والوفاق فقال: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.

أى: وإن تحسنوا- أيها الرجال- في أقوالكم وأفعالكم إلى نسائكم وتتقوا الله فيهن: بأن تتركوا التعالي عليهن والإعراض عنهن وتصبروا على مالا ترضونه منهن، من دمامة أو تقصير في واجباتهن. إن تفعلوا ذلك يرفع الله درجاتكم. ويجزل ثوابكم، لأنه- سبحانه- خبير بكل أحوالكم وأعمالكم، ولن يضيع- سبحانه- أجر من أحسن عملا.

فالجملة الكريمة خطاب للأزواج بطريق الالتفات. لقصد استمالتهم وترغيبهم في حسن معاملة نسائهم، وسلوك طريق الصلح معهن.

هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: أن على الزوجين أن يحسنا العشرة الزوجية كل واحد منهما من جانبه، وأن يصبر كل واحد منهما على ما يكون من صاحبه من هفوات ومخالفات لا تخلو منها طبيعة الحياة الزوجية

وأن أحد الزوجين إذا تنازل عن بعض حقوقه للآخر بقصد الإبقاء على الحياة الزوجية جاز ذلك، فإذا رغب رجل- مثلا- في طلاق زوجته لسبب من الأسباب وكانت الزوجة تريد البقاء معه، وتنازلت المرأة عن بعض حقوقها في سبيل أن تبقى معه وتراضيا على ذلك عن طيب خاطر، بأن أعطته بعض المال- مثلا- فإن ما أخذه منها لا يعد مالا حراما في مثل هذه الحالة.

أما إذا تظاهر الرجل بالنشوز أو الإعراض لكي ينال شيئا من حقوقها أو تتنازل له عن بعضها، فإن ما يأخذه الرجل منها في مثل هذه الحالة يكون أكلا لحقوق غيره بالباطل، لأنه لم يكن راغبا حقيقة في الطلاق وإنما تصنع النشوز أو الإعراض اجتلابا لمالها، واستدرارا لخيرها. وقد نهى

(1) تفسير ابن جرير ج 5 ص 313

ص: 332

الله عن كل ذلك بل أمر بترك النشوز، ووعد من يحسن المعاشرة الزوجية ويتقى الله بالأجر الجزيل.

قال القرطبي ما ملخصه: يجوز أن يعطى الزوج على أن تصبر. أو تعطى هي على أن يبقيها في عصمته، أو يقع الصلح بينهما على الصبر والأثرة- أى يؤثر غيرها عليها من غير عطاء فهذا كله مباح. وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيه إياها فقد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم مرة على صفية فقالت لعائشة، أصلحى بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب لك يومى. قالت عائشة: فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جانبه. فقال: «إليك عنى فإنه ليس بيومك» فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأخبرته الخبر، فرضي عنها. وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها «1» .

وقال بعض العلماء ما ملخصه: فإن قيل: إن الله- تعالى- قال في نشوز المرأة: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ. الآية وقال في نشوز الرجل:

وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً. الآية فجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها ولم يجعل لنشوز الرجل عقوبة من زوجته، بل جعل له ترضية وتلطفا فما معنى ذلك؟

والجواب عن ذلك: أن الله- تعالى- جعل الرجال قوامين على النساء، فالرجل راعى المرأة ورئيسها المهيمن عليها. ومن قضية ذلك ألا يكون للمرءوس معاقبة رئيسه، وإلا انقلب الأمر وضاعت هيمنة الرئيس.

وأن الله فضل الرجال على النساء في العقل والدين. ومن قضية ذلك ألا يكون نشوز من الرجل إلا لسبب قاهر. ولكن المرأة لنقصان عقلها ودينها يكثر منها النشوز لأقل شيء تتوهمه سببا.

وأن نشوز الرجل أمارة من أمارات الكراهة وإرادة الفرقة. وإذا كان الله قد جعل له حق الفرقة ولم يجعل للمرأة عليه سبيلا إذا هو أراد فرقتها فأولى ألا يجعل لها عليه سبيلا إذا بدت منه أمارات هذه الفرقة «2» .

ثم بين- سبحانه- أن تحقيق العدالة الكاملة في الحياة الزوجية غير ممكن فقال- تعالى- وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ.

والخطاب هنا للرجال الذين يتزوجون بأكثر من زوجة.

(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 405

(2)

تفسير آيات الأحكام ج 2 ص 148 لفضيلة الشيخ محمد على السائس

ص: 333

والمعنى: ولن تستطيعوا- أيها الرجال- أن تعدلوا بين زوجاتكم المتعددات عدلا كاملا في المحبة وفي الميل القلبي وفي غير ذلك من الأمور التي تختلف باختلاف تآلف النفوس وتنافرها.

ولو أنكم حرصتم على العدل الكامل في مثل هذه الأمور النفسية لما استطعتم، لأن الميل النفسي لا يملكه الإنسان ولا يستطيع التحكم فيه.

قال ابن كثير: نزلت هذه الآية في عائشة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها أكثر من غيرها. وقد روى الترمذي وأبو داود وغيرهما عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك. فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعنى القلب «1» .

وقوله فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ إرشاد من الله- تعالى- للرجال إلى ما يجب عليهم نحو نسائهم المتعددات اللائي ليس في استطاعتهم التسوية بينهن في الميل القلبي.

أى: إذا ثبت أنكم لن تستطيعوا أن تعدلوا بينهن عدلا كاملا من جميع الوجوه ولو حرصتم على هذا العدل أتم الحرص. إذا ثبت ذلك فلا تميلوا كل الميل إلى إحداهن بأن تبالغوا في إرضائها والإقبال عليها حتى تصير الأخرى التي ملتم عنها وهجرتموها كالمعلقة أى كالمرأة التي لا هي بذات زوج فتنال منه حقوقها الزوجية ولا هي بمطلقة فترجو من الله أن يرزقها بالزوج الذي يكرمها. وإنما الواجب عليكم- يا معشر الرجال- أن تجاهدوا أنفسكم حتى تصلوا إلى الحق المستطاع من العدل بين الزوجات.

فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما- أى لم يعدل بينهما فيما يمكنه العدل فيه- جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» .

وعن مجاهد قال: «كانوا يسوون بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه» «2» .

وقوله كُلَّ الْمَيْلِ نصب لفظ كل على المصدرية لأنها على حسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره.

وقوله فَتَذَرُوها منصوب بإضمار أن في جواب النهى. أو مجزوم عطفا على الفعل قبله.

والجملة الكريمة توبيخ للأزواج الذين لا يعدلون بين نسائهم.

قال القرطبي: وقوله فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أى: لا هي مطلقة ولا ذات زوج. وهذا تشبيه

(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 564 بتصرف يسير

(2)

تفسير الآلوسى ج 5 ص 163

ص: 334

بالشيء المعلق من شيء، لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل، وهذا مطرد في قولهم في المثل:(ارض من المركب بالتعليق) . وفي حديث أم زرع: زوجي العشنق- أى الطويل الممتد القامة- إن أنطق أطلق. وإن أسكت أعلق- أى أهمل وأترك حتى لكأننى بدون زوج- «1» .

ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.

أى: وإن تصلحوا أعمالكم- أيها الناس- فتعدلوا في قسمتكم بين أزواجكم وتعاشروهن بالمعروف، وتتقوا الله وتراقبوه فيهن، وتتوبوا إلى الله توبة نصوحا مما حدث منكم من ظلم لهن.

إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم ذنوبكم ويتفضل عليكم برحمته وإحسانه.

هذا وقد ادعى بعض الذين لم يفهموا تعاليم الإسلام فهما سليما أن هذه الآية بضمها إلى قوله- تعالى- في مطلع هذه السورة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً يكون منع تعدد الزوجات جائزا شرعا، لأن الله تعالى- قد بين في الآية التي معنا وهي قوله وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا أن العدل بين الزوجات المتعددات غير مستطاع، وبين في الآية الأخرى وهي قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أن الجمع بين النساء غير جائز إلا عند الوثوق من العدل بينهن، وبما أن العدل بينهن غير مستطاع بنص الآية التي معنا، إذا فالجمع بين النساء غير جائز، وعلى الرجل أن يكتفى بواحدة.

وللرد على هذه الدعوى نقول: إن العدل الذي أخبر الله عنه غير مستطاع، هو العدل الذي يتعلق بالتسوية بين الزوجات في الحب القلبي، والميل النفسي، والتجاوب العاطفى، إذ من المعلوم أن هذه الأمور النفسية لا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيها. فأنت- مثلا- تجلس في مجلس فيه أشخاص متعددون لا تعرفهم فتحس بارتياح لبعضهم وبنفور من بعضهم مع أنك لم يسبق لك أن اختلطت بواحد منهم، وما ذلك إلا لأن الميول القلبية يعجز الإنسان عن التحكم فيها.

أما العدل الذي جعله الله شرطا في جواز الجمع بين الزوجات فهو العدل الذي يتعلق بالتسوية فيما يقدر عليه الإنسان ويملكه مثل التسوية بينهن في النفقة والكسوة والسكنى والمبيت.

وغير ذلك من الأمور التي يقدر عليها.

وبهذا نرى أن موضوع الآية التي معنا يتعلق بالعدل النفسي وهو أمر غير مستطاع كما جاء في الحديث الشريف: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» .

(1) تفسير الآلوسى ج 5 ص 408

ص: 335

وأما موضوع الآية التي في صدر السورة وهي قوله- تعالى- فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً فيتعلق بالعدل الظاهري الذي يقدر عليه الإنسان مثل التسوية في النفقة وغير ذلك مما يقدر عليه الإنسان.

ومع هذا، فالآية التي معنا لم تطالب الرجل بالعدالة المطلقة الكاملة بين زوجاته بأن يسوى بينهن في كل شيء، لأن العدل بهذا المعنى غير مستطاع للمكلف ولو حرص على إقامته وبالغ في ذلك. وإنما الآية الكريمة طالبته بالممكن منه فكأنها تقول: إنكم- أيها الرجال- لن تستطيعوا أن تعدلوا العدل المطلق الكامل بين زوجاتكم في القسم والنفقة والتعهد والنظر والمؤانسة والمحبة وغير ذلك مما لا يكاد يحصر وَلَوْ حَرَصْتُمْ على هذا العدل الكامل أتم الحرص لما استطعتموه، ولذلك لم يكلفكم الله به، إذ التكليف الشرعي إنما يكون بما في الوسع والطاقة، وإذا كان الأمر كذلك فاجتهدوا ما استطعتم في العدل بين زوجاتكم، ولا تميلوا كل الميل إلى واحدة منهن وتهملوا الأخرى إهمالا يجعلها كأنها لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة.

فإن العجز عن العدل المطلق الكامل لا يمنع تكليفكم بما دون ذلك من المراتب التي تقدرون عليها قالوا: ما لا يدرك كله لا يترك كله.

وبهذا نرى أن الآيتين الكريمتين تدعوان المسلم إلى العدل بين زوجاته بالقدر الذي يستطيعه بدون تقصير أو جور، وأنهما بانضمام معناهما لا تمنعان تعدد الزوجات كما ادعى المدعون.

وبعد أن رغب- سبحانه- في الصلح بين الزوجين وحض عليه، وأمر الأزواج بالعدل بين الزوجات بالقدر الذي يستطيعونه، عقب ذلك ببيان أن التفرقة بينهما جائزة إذا لم يكن منها بد.

لأن التفرقة مع الإحسان خير من المعاشرة السيئة فقال- تعالى- وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً.

وإن عز الصلح بين الزوجين واختارا الفراق تخوفا من ترك حقوق الله التي أوجبها على كل واحد منهما يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا منهما مِنْ سَعَتِهِ أى يجعل كل واحد منهما مستغنيا عن الآخر وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً أى: وكان الله- تعالى- وما يزال واسعا أى واسع الغنى والرحمة والفضل حَكِيماً في جميع أفعاله وأحكامه.

وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد وضعت أحكم الأسس للحياة الزوجية السليمة، وعالجت أمراضها بالعلاج الشافي الحكيم، فقد أمرت الرجال بأن يؤدوا للنساء حقوقهن، وأن يعاشروهن بالمعروف، وأن على الزوجين إذا ما دب بينهما خلاف أن يعالجاه فيما بينهما بالتصالح والتسامح، وإذا اقتضى الأمر أن يتنازل أحدهما للآخر عن جانب من حقوقه فليفعل من أجل الإبقاء على الحياة الزوجية. وأن الرجل لا يستطيع أن يعدل عدلا مطلقا كاملا بين زوجاته،

ص: 336