المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 147] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٣

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثالث]

- ‌سورة النساء

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد بين يدي السورة

- ‌[سورة النساء (4) : آية 1]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 3]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 4]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 5]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 6]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 7]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 8]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 9]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 24]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 25]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 31]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 32 الى 33]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 42]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 55]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 68]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 80]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 81 الى 83]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 84 الى 87]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 94]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 121]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 122 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 147]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 152]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 162]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 175]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 176]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «النساء»

الفصل: ‌[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 147]

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك بأسلوبها الحكيم فتقول:

[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 147]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَاّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

ص: 347

وقوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا للمفسرين في تأويل هذه الآية وجوه:

أولها: أن المراد بهم قوم تكرر منهم الارتداد، وأصروا على الكفر، وازدادوا تماديا في البغي والضلال.

وقد صدر الفخر الرازي تفسيره لهذه الآية بهذا المعنى فقال: المراد بهم الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات، فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم، إذ لو كان للإيمان وقع في قلوبهم لما تركوه لأدنى سبب ومن لا يكون للإيمان وقع في قلبه فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيمانا صحيحا معتبرا. فهذا هو المراد بقوله: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ. وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرا، بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه «1» .

وقال الإمام ابن كثير: يخبر- تعالى- عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله، وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له «ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى، ولهذا قال: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. وقد قال ابن عباس في قوله: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً: تمادوا في كفرهم حتى ماتوا» «2» .

(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 78.

(2)

تفسير ابن كثير ج 1 ص 566.

ص: 348

وثانيها: أن المراد بهم أهل الكتاب. وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره «1» .

وثالثها: أن المراد بهم طائفة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام تارة ثم يرجعون عنه إلى يهوديتهم لتشكيك المسلمين في دينهم وذلك معنى قوله: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «2» .

ورابعها: أن المراد بهم المنافقون. فالإيمان الأول وإظهارهم الإسلام. وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم. والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا: إنا مؤمنون. والكفر الثاني هو أنهم إذا خلوا إلى إخوانهم في النفاق قالوا لهم إنا معكم. وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين.

والذي نراه أولى من بين هذه الأقوال القول الأول، لأن ألفاظ الآية عامة ولم تخصص قوما دون قوم، فكل من تكرر منهم الارتداد واستمروا في ضلالهم حتى ماتوا ينطبق عليهم الوعيد الذي بينته الآية الكريمة، سواء كان أولئك الذين حدث منهم هذا الارتداد المتكرر من المنافقين أم من غيرهم.

والمعنى: إن الذين آمنوا بدين الإسلام ثم رجعوا عنه إلى ما كانوا عليه من ضلال، ثم آمنوا ثم كفروا مرة أخرى، ثم ازدادوا كفرا على كفرهم بأن استمروا فيه حتى ماتوا

هؤلاء الذين فعلوا ذلك لم يكن الله ليغفر لهم، لتماديهم في الكفر وإصرارهم عليه حتى ماتوا، ولم يكن- سبحانه- ليهديهم سبيلا مستقيما، لأنهم هم الذين استحبوا العمى على الهدى، وهم الذين كانوا إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.

قال الآلوسى: والقول المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد من نفى المغفرة والهداية، نفى ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت. ومعنى نفيه: استبعاد وقوعه، فإن من تكرر منهم الارتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر، وصار الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه، فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.

(1) تفسير ابن جرير ج 5 ص 328.

(2)

سورة آل عمران الآية 72.

ص: 349

ثم قالوا: وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام أى: ما كان الله مريدا للغفران لهم. ونفى إرادة الفعل أبلغ من نفيه «1» .

ثم تبدأ السورة الكريمة حملتها على المنافقين فتقول: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً والتعبير بقوله: بشر بدل أنذر أو أخبر للتهكم بهم، لأن البشارة لا تكون غالبا إلا في الأخبار السارة، لأن الخبر السار يظهر سرورا في البشرة. فاستعملت البشارة في مطلق الإخبار أو في الإنذار على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

قال الراغب: ويقال: أبشرت الرجل وبشرته أى: أخبرته بأمر سار بسط بشرة وجهه وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر «2» .

وقوله: الْمُنافِقِينَ من النفاق وهو أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن.

قالوا: وسمى المنافق منافقا أخذا من نافقاء اليربوع- وهو جحره فإنه يجعل له بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن. ويدخل مع الكفار بقوله: أنا كافر.

والمعنى: أنذر يا محمد أولئك المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر بالعذاب الأليم، وسق لهم هذا الإنذار بلفظ التبشير على سبيل التهكم بهم، والاستهزاء بعقولهم، في مقابل تهكمهم بالإسلام وأهله وخداعهم للمؤمنين.

ثم كشف- سبحانه- عن جانب من طبيعتهم المنكوسة فقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.

أى: أنذر هؤلاء المنافقين بالعذاب الأليم، الذين من صفاتهم أنهم يتخذون الكافرين أولياء ونصراء لهم تاركين ولاية المؤمنين ونصرتهم. فهم سلم على الكافرين وحرب على المؤمنين.

والمراد بالكافرين هنا: اليهود- على أرجح الأقوال- فقد حكى عن المنافقين أنهم كانوا يقولون: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لن يتم فتولوا اليهود، ولأن غالب سكان المدينة- من غير المسلمين- كان من اليهود.

وقوله مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال من فاعل يتخذون. أى: يتخذون الكفار أنصارا لهم حالة كونهم متجاوزين ولاية المؤمنين ونصرتهم.

(1) تفسير الآلوسى ج 5 ص 171 بتصريف وتلخيص.

(2)

المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 48.

ص: 350

والاستفهام في قوله: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ للإنكار والتعجيب من شأنهم، والتهكم من سوء تصورهم.

وقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً رد على تصوراتهم الباطلة، ومداركهم الفاسدة، وتثبيت للمؤمنين حتى يزدادوا قوة على قوتهم.

أى: أن هؤلاء المنافقين قد تركوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فما الذي دفعهم إلى هذا الانتكاس؟ أيطلبون بلهفة ورغبة العزة والقوة والمنعة من عند الكافرين؟ إذا كان هذا حالهم فقد خابوا وخسروا، فإن العزة والقوة والمنعة والنصرة له وحده. ومن اعتز بغير الله هان وذل.

قال ابن كثير: والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جانب الله- تعالى- والإقبال على عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبى ريحانة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا فهو عاشرهم في النار» «1» .

وقال الإمام الرازي: وأصل العزة في اللغة الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة:

عزاز. ويقال: قد استعز المرض على المريض إذا اشتد ظهره به. وشاة عزوز التي يشتد حلبها ويصعب. والعزة: القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما. والعزيز القوى المنيع بخلاف الذليل.

ثم قال: إذا عرفت هذا فنقول: إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود. ثم إنه- تعالى- أبطل عليهم هذا الرأى بقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.

فإن قيل: هذا كالمناقض لقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ؟ قلنا القدرة الكاملة لله. وكل من سواه فبإقداره صار قادرا. وبإعزازه صار عزيزا فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله- تعالى- فكأن الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله «2» .

قالوا: وقد دلت الآية الكريمة على وجوب موالاة المؤمنين، والنهى عن موالاة الكافرين.

قال- تعالى- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ «3» .

(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 566. [.....]

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 80.

(3)

سورة المجادلة الآية 22.

ص: 351

ثم نهى- سبحانه- المسلمين عن مخالطة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها فقال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.

أى: وقد نزل الله عليكم- أيها المؤمنون- في كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الكافرون، ويستهزئ بها المستهزئون، فعليكم في هذه الأحوال أن تتركوا مجالسهم، وأن تعرضوا عنهم حتى يتكلموا في حديث آخر سوى الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.

قال صاحب الكشاف: والمراد بالمنزل عليهم في الكتاب: هو ما نزل عليهم في مكة من قوله- تعالى-: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «1» . وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزءون به، فنهى- سبحانه- المسلمين عن القعود معهم ماداموا خائضين فيه.

وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا- قبل ذلك- عن مجالسة المشركين بمكة «2» .

وأن في قوله أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ تفسيرية، لأن نَزَّلَ تضمن معنى القول دون حروفه.

وجعلها بعضهم مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أى أنه إذا سمعتم. وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أى أنكم إذا سمعتم، وخبرهما جملة الشرط والجزاء.

وقوله يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها جملتان في موضع الحال من الآيات.

وأضاف- سبحانه- الآيات إليه، لتهويل أمرها، والتشنيع على من كفر أو استهزأ بها.

والضمير في قوله مَعَهُمْ يعود إلى الكافرين والمستهزئين المدلول عليهم بقوله: يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فكأنه قيل: لا تقعدوا- أيها المؤمنون- مع الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها.

والضمير في قوله غَيْرِهِ يعود إلى تحدثهم بالكفر والاستهزاء أى: حتى يخوضوا في حديث سوى حديثهم المتعلق بالكفر بآيات الله والاستهزاء بها.

وقوله إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ تعليل للنهى عن القعود معهم.

أى: - أيها المؤمنون- إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله- تعالى- والاستهزاء بها، كنتم معهم في الاستهانة بآيات الله وشركاء لهم في آثامهم، لأن

(1) سورة الأنعام الآية 68.

(2)

تفسير الكشاف ج 1 ص 578.

ص: 352

الراضي بالكفر بآيات الله وبالاستهزاء بها. يكون بعيدا عن حقيقة الإيمان، ومستحقا للعقوبة من الله- تعالى- قال صاحب الكشاف، فإن قلت: لم يكونون مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟

قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضي بالكفر كافر فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة- حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين- منافقين؟ قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم. وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم فكان ترك الإنكار لرضاهم «1» .

وقال القرطبي: فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يتجنبهم فقد رضى فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله- تعالى- إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ.

فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء. وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وقد روى عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم. فحمل عليه الأدب وقرأ عليه هذه الآية إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أى أن الرضا بالمعصية معصية. ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة العاصي حتى يهلكوا جميعا. وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة «2» » .

ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالوعيد الشديد للكافرين والمنافقين فقال: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لأن هذين الفريقين كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر بآيات الله والاستهزاء بها والتواصي بالشرور والآثام، فسيجمعهم الله جميعا في جهنم يوم القيامة، بسبب ما قدمت أيديهم من جرائم ومنكرات.

فأنت ترى أن الآية الكريمة تنهى المؤمنين عن مجالسة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها، لأن أول الشر سماع الشر، ولأن أول مراتب ضعف الإيمان أن تفتر حماسة المؤمن في الدفاع عن الحق الذي آمن به.

ومن علامات المؤمن الصادق أنه متى سمع استهزاء بتعاليم دينه فعليه إما أن ينبرى للدفاع عن هذه التعاليم بشجاعة وحماسة وقولة تدمغ الباطل وأهله وتفضح كل معتد أثيم.. وإما أن يقاطع المجالس التي لا يحترم فيها دين الله. أما السكوت عن ذلك باسم التغاضى أو التسامح أو المرونة. أو بغير ذلك من الأسماء، فهذا أول مراتب النفاق الذي يؤدى إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 588

(2)

تفسير القرطبي ج 5 ص 418.

ص: 353

ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك سمة أخرى من أبرز سمات المنافقين. وهي أنهم كانوا يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه آخر. أى أنهم يحاولون أن يمسكوا العصا من وسطها حتى يأكلوا من كل مائدة. استمع إلى القرآن وهو يصور ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

وقوله: يَتَرَبَّصُونَ من التربص بمعنى الانتظار وترقب الحوادث. يقال: تربص به إذا انتظره مع ترقب وملاحظة.

وقوله: نَسْتَحْوِذْ من الاستحواذ بمعنى الغلبة والتمكن والاستيلاء، يقال: استحوذ فلان على فلان أى: غلب عليه وتمكن منه. ومنه قوله- تعالى- اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ.

والمعنى: إن من صفات هؤلاء المنافقين- أيها المؤمنون- أنهم يتربصون بكم. أى:

ينتظرون بترقب وملاحظة ما يحدث لكم من خير أو شر، أو من نصر أو هزيمة فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أى: نصر وظفر على أعدائكم قالُوا على سبيل التقرب إليكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الجهاد وغيره فاعطونا نصيبا من الخير الذي أصبتموه. وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أى حظ من النصر عليكم- لأن الحرب سجال- قالُوا لهم- أيضا- على سبيل التقرب إليهم أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أى: ألم نتمكن من قتلكم وأسركم ولكنا لم نفعل ذلك، بل أحطناكم بحمايتنا ورعايتنا ومنعنا المؤمنين من النصر عليكم بسبب تخذيلنا لهم، وتجسسنا على أحوالهم. وإخباركم بما يهمكم من شئونهم، وما دام الأمر كذلك فاجعلوا لنا قسما من نصيبكم.

فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه المنافقون من تلون وتقلب وهرولة وراء شهوات الدنيا في أى مكان كانت.

وعبر عن النصر في جانب المؤمنين بأنه فتح، وعن انتصار الكافرين بأنه نصيب، لتعظيم شأن المسلمين وللتهوين من شأن الكافرين. ولأن انتصار المسلمين يترتب عليه فتح الطريق أمام الحق لكي يدركه الناس، ويدخلوا في دين الله أفواجا، ولأن الفتح من الله يكون معه الدوام وحسن العاقبة بخلاف انتصار الكافرين فهو أمر طارئ وليس بدائم.

قال صاحب الانتصاف: وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن، فإن الذي يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطئوها. وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا. فالتفريق بينهما أيضا

ص: 354

مطابق للواقع «1» والاستفهام في قوله أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وفي قوله أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ للتقرير أى: لقد كنا معكم واستحوذنا عليكم ومنعناكم من المؤمنين.

ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين فقال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

والفاء هنا للإفصاح عن كلام مقدر. أى: إذا كان هذا هو حال المنافقين والكافرين في الدنيا، فأبشركم- أيها المؤمنون- بأن الله سيحكم بينكم وبينهم يوم القيامة بحكمه العادل، فيثيبكم بالثواب الجزيل لأنكم أولياؤه، ويعاقبهم بالعقاب الأليم لأنهم أعداؤه، وأبشركم- أيضا- بأنه- سبحانه- لن يجعل لأعدائكم الكافرين سلطانا عليكم ما دمتم متمسكين بدينكم، ومعتصمين بحبل الله جميعا بدون فرقة أو تنازع أو فشل، وآخذين بالأسباب وبسنن الله الكونية التي تعينكم على الوصول إلى غاياتكم الشريفة، ومقاصدكم السليمة.

فالآية الكريمة تنفى أن يكون هناك سبيل للكافرين على المؤمنين في الدنيا والآخرة.

ومنهم من يرى أن المراد بنفي السبيل هنا في الآخرة.

وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذين الاتجاهين بقوله- تعالى- وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أى: يوم القيامة كما روى عن على بن أبى طالب وغيره.

ويحتمل أن يكون المعنى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أى: في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم تسليط استيلاء واستئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال- تعالى- إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «2» .

والذي نراه أولى أن تكون الجملة الكريمة عامة في نفى أن يكون هناك سلطان للكافرين على المؤمنين ما دام المؤمنون متبعين اتباعا تاما تعاليم دينهم وآخذين في الأسباب التي تجعل النصر حليفا لهم. وإذا كان الكافرون في بعض الأزمان والأحوال قد صارت لهم الغلبة على المسلمين، فذلك قد يكون نوعا من الابتلاء أو التأديب أو التمحيص. حتى يعود المسلمون إلى دينهم عودة كاملة تجعلهم يستجيبون لتوجيهاته. ويذعنون لأحكامه، ويطبقون أوامره ونواهيه.

وهنا يحالفهم نصر الله الذي لا يقهر ووعده الذي لا يتخلف.

ثم تمضى السورة الكريمة بعد هذا الوعد المطمئن لقلوب المؤمنين، في رسم صورة أخرى

(1) حاشية الكشاف ج 1 ص 578.

(2)

تفسير ابن كثير ج 1 ص 567 بتصريف وتلخيص.

ص: 355

للمنافقين مبالغة في الكشف عن قبائحهم وفي التحذير من شرورهم فتقول: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى، يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.

وقوله: يُخادِعُونَ

من الخداع وهو أن يظهر الشخص من الأفعال ما يخفى أمره، ويستر حقيقته.

قال الراغب: الخداع: إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه

ويقال: طريق خادع وخيدع. أى: مضل كأنه يخدع سالكه. وفي الحديث: (بين يدي الساعة سنون خداعة) أى: محتالة لتلونها بالجدب مرة وبالخصب مرة «1» .

وقوله: خادِعُهُمْ

اسم فاعل من خادعته فخذعته إذا غلبته وكنت أخدع منه.

والمعنى: إن المنافقين لسوء طواياهم، وخبث نواياهم يُخادِعُونَ اللَّهَ

أى: يفعلون ما يفعل المخادع بأن يظهروا الإيمان ويبطنوا الكفر وَهُوَ خادِعُهُمْ

أى: وهو فاعل بهم ما يفعله الذي يغلب غيره في الخداع، حيث تركهم في الدنيا معصومى الدماء والأموال.

وأعدلهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار.

ومنهم من جعل المراد بمخادعتهم لله مخادعتهم لرسوله وللمؤمنين فيكون الكلام على حذف مضاف. أى: إن المنافقين يخادعون رسول الله والمؤمنين وهو- سبحانه- خادعهم فهو كقوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ وعبر- سبحانه- عن خداعهم بصيغة تدل على المشاركة والمغالبة وهي قوله يُخادِعُونَ

، للإشعار بأنهم قد ينجحون في خداعهم وقد لا ينجحون.

وعبر- سبحانه- عن خداعه لهم بصيغة اسم الفاعل، للدلالة على الغلب والقهر. لأن الله- تعالى- كاشف أمرهم، ومزيل مغبة خداعهم، ومحاسبهم حسابا عسيرا على ما ارتكبوه من جنايات وسيئات.

وقوله: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى

بيان للون آخر من قبائحهم.

وكُسالى

جمع كسلان وهو الذي يعتريه الفتور في أفعاله لكراهيته لها أو عدم اكتراثه بها.

وهي حال لازمة من ضمير قاموا أى: إن هؤلاء المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة، قاموا متثاقلين

(1) مفردات القرآن ص 144

ص: 356

متباطئين لا نشاط عندهم لأدائها، ولا رغبة لهم في القيام بها، لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها، ولا عقابا على تركها.

وقوله يُراؤُنَ النَّاسَ

حال من الضمير المستكن في كسالى. أو جملة مستأنفة جوابا لمن يسأل: وما قصدهم من القيام للصلاة مع هذا التثاقل والتكاسل عنها؟ فكان الجواب: يراءون الناس. أى: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة والخداع.

قال ابن كثير: وقوله: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى

هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها. وهي الصلاة. إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها، لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها، ولا خشية، ولا يعقلون معناها. وهذه صفة ظواهرهم.

ثم ذكر- سبحانه- صفة بواطنهم الفاسدة فقال: يُراؤُنَ النَّاسَ

أى: لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا» وروى الحافظ أبو ليلى عن عبد الله قال: من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة. استهان بها ربه- عز وجل «1» .

وقوله: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا

معطوف على يُراؤُنَ

أى: أن من صفات المنافقين أنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا متباطئين متقاعسين يقصدون الرياء والسمعة بصلاتهم، ولا يذكرون الله في صلاتهم إلا ذكرا قليلا أو وقتا قليلا لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون.

روى الإمام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تلك صلاة المنافق- تلك صلاة المنافق. يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا» .

قال ابن كثير: وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء بن عبد الرحمن. وقال الترمذي: حسن صحيح.

ومنهم من فسر قوله وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا

أى: ولا يصلون إلا قليلا. لأنهم إنما يصلون رياء فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا. والأول أولى لأنه أعم وأشمل.

(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 568- بتصرف وتلخيص

ص: 357

قال صاحب الكشاف: قوله «ولا يذكرون الله إلا قليلا» أى: ولا يصلون إلا قليلا، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به. وما يجاهرون به قليل أيضا، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو ولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا في الندرة، وهكذا ترى كثيرا من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالى لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه..

فإن قلت ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟ قلت: فيها وجهان:

أحدهما: أن المرائى يريهم عمله وهم يرون استحسانه.

والثاني: أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل. فيقال: راءى الناس. يعنى رآهم كقولك نعمه وناعمه.. روى أبو زيد: راءت المرأة المرآة الرجل: إذا أمسكتها لترى وجهه.. «1» .

وقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل يراءون واسم الإشارة «ذلك» مشار به إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين.

قال القرطبي: المذبذب: المتردد بين أمرين. والذبذبة: الاضطراب. يقال: ذبذبته فتذبذب. ومنه قول النابغة- في مدح النعمان بن المنذر-

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

أى: يضطرب وقال ابن جنى: المذبذب: المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل. فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين. لا مخلصين للإيمان ولا مصرحين بالكفر. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين- أى المترددة بين قطيعين- تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى» «2» .

وقوله لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ في محل نصب على أنه حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بيان وتفسير له.

وقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أى: ومن يضلله الله- تعالى- عن طريق الحق، بسبب إيثاره الغواية على الهداية. فلن تجد له سبيلا يوصله إلى الصراط المستقيم.

وبعد هذا الذم الشديد لما كان عليه المنافقون من خداع ورياء وضلال. وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن موالاة الكافرين فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.

(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 579

(2)

القرطبي ج 5 ص 424.

ص: 358

أى: يا أيها الذين آمنوا بالله حق الإيمان، لا يصح منكم ولا ينبغي لكم أن تتخذوا الكافرين بالحق الذي آمنتم به أَوْلِياءَ أى نصراء وأصدقاء، تاركين ولاية إخوانكم المؤمنين ونصرتهم، فإن ذلك لا يتفق مع الإيمان، ولا يتناسب مع تعاليم دينكم.

فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن موالاة الكفرة. أى: عن مناصرتهم وإفشاء أسرار المؤمنين إليهم، وعن كل ما من شأنه أن يكون مضرة بالمؤمنين. كما قال- تعالى- في آية أخرى:

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «1» .

وفي هذا النهى- أيضا- توبيخ للمنافقين الذين ما زال الحديث متصلا عن قبائحهم ورذائلهم، وتحذير من مسالكهم الخبيثة حيث كانوا يتركون ولاية المؤمنين وينضمون إلى صفوف الكافرين من اليهود وغيرهم ويقولون- كما حكى القرآن عنهم- نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ.

والاستفهام في قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً للإنكار والتحذير من أن تقع هذه الموالاة منهم. والمراد بالسلطان: الحجة والدليل أى: إنكم إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فقد جعلتم لله عليكم حجة في عقابكم، وفي تخليه عن نصرتكم ورعايتكم.

وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال، أتجعلون. للمبالغة في التهويل من أمره ببيان أنه مما لا ينبغي أن تصدر عن العاقل إرادته، فضلا عن صدوره في نفسه.

قال بعضهم: وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين. قال الحاكم: وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه. لا المخالقه والإحسان.

وقال الزمخشري: وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر. فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن. وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن» «2» .

ثم بين- سبحانه- المصير الشنيع الذي سيصير إليه المنافقون يوم القيامة فقال- تعالى-:

إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً أى: في الطبقة السفلى من طبقاتها وسميت دركات لكونها متداركة أى: متتابعة بعضها تحت بعض. والدرك لغة في الدرك وهو كالدرج، إلا أن الدرج يقال باعتبار الصعود. والدرك يقال باعتبار النزول والحدور. ولذا قيل: درجات الجنة ودركات النار.

(1) سورة آل عمران الآية 28

(2)

تفسير القاسمى ج 5 ص 1621 [.....]

ص: 359

قال الآلوسى: والنار لها طبقات سبع: تسمى الأولى كما قيل: جهنم: والثانية: لظى.

والثالثة: الحطمة. والرابعة: السعير. والخامسة: سقر. والسادسة: الجحيم. والسابعة:

الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها

«1» .

والمعنى: إن هؤلاء المنافقين الذين مردوا على النفاق. وسرى في طباعهم مسرى الدم سيكونون يوم القيامة في الطبقة السفلى من النار، ولن تجد لهم نصيرا ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابه.

وإنما كان للمنافقين هذا العذاب الشديد، لأنهم أضافوا إلى كفرهم، الاستهزاء بالإسلام وأهله، وجمعوا بسوء طباعهم بين الكفر. والفسق والتضليل، والخداع، وإشاعة الفاحشة في صفوف المؤمنين، وغير ذلك من رذائلهم المتعددة، وقبائحهم المتنوعة.

قال بعض العلماء: ولكن من هو المنافق الذي يستحق أشد العقاب، ويكون في أعمق النيران يوم القيامة؟ نقول في الجواب عن ذلك: إنه المنافق الخالص الذي لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط، ولكن هو الذي كفر بالله وبالرسالة المحمدية، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم.

ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها، وهو أشد الكفر. ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين ولا تخرج المسلم عن إسلامه، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا. ومن ذلك ممالأة الحكام، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا وخداعا.

قيل لابن عمر- رضى الله عنهما-: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه!! فقال: كنا نعده من النفاق.

ولقد جاء في الحديث الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان: فريق خلص للنفاق، وهذا منكوس القلب والنفس والفكر. وقسم فيه خصلة من النفاق، وهذا يتنازعه الخير والشر. فقد قال- عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد. «القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر. وقلب أغلف مربوط على غلافه. وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن سراجه فيه نوره. وأما القلب الأغلف: فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس: فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح: فقلب فيه إيمان ونفاق.

(1) تفسير الآلوسى ج 5 ص 177.

ص: 360

ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب. ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم. فأى المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» .

وإننا لهذا نقول: إن النفاق في داخل الإسلام مراتب. وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام، وينحدرون إلى درجة وضعهم في مقام النبيين. ومنهم من يذهب به فرط نفاقه، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين، وهؤلاء نتردد في الحكم بأنهم مسلمون. وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة في التأويل. ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام «1» .

ثم بعد هذا الوعيد الشديد للمنافقين فتح- سبحانه- باب التوبة ليدخل فيه كل من يريد أن يقلع عن ذنوبه من المنافقين وغيرهم، حتى ينجو من عقابه- سبحانه- فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً.

أى: هذا الجزاء الذي بيناه هو جزاء المنافقين. لكن الذين تابوا منهم عن النفاق، وأصلحوا ما أفسدوا من أقوالهم وأفعالهم وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أى تمسكوا بكتابه، وتركوا موالاة الكافرين وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ بحيث لا يريدون بطاعتهم سوى رضاه ومثوبته، فَأُولئِكَ الذين فعلوا ذلك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصادقين الذين لم يصدر منهم نفاق. أى: معهم في فضيلة الإيمان الصادق، وما يترتب على ذلك من أجر جزيل. وثواب عظيم. «وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما» لا يقادر قدره، ولا يكتنه كنهه.

فقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من المنافقين في قوله إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.

قال الفخر الرازي ما ملخصه: اشترط- سبحانه- في إزالة العقاب عن المنافقين أمورا أربعة:

أولها: التوبة.

وثانيها: إصلاح العمل. فالتوبة عبارة عن ترك القبيح، وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن.

وثالثها: الاعتصام بالله. وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله.

(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة مجلة لواء الإسلام السنة 17 العدد 12.

ص: 361

ورابعها: الإخلاص: بأن يكون طلب مرضاة الله خالصا وأن لا يمتزج به غرض آخر «1» .

والإشارة في قوله فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تعود إلى الاسم الموصول وهو الَّذِينَ باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة.

والمقصود بالمعية في قوله «مع المؤمنين» التشريف والتكريم بصحبة الأخيار والتعبير «بسوف» لتأكيد وقوع الأمر المبشر به في المستقبل، وليس لمجرد التسويف الزمانى.

أى: وسوف يؤت الله المؤمنين ما وعدهم به إيتاء لا شك في حصوله ووقوعه. ونكر- سبحانه- الأجر ووصفه بالعظم، للتنويه بشأنه. ولإفادة أنه أجر لا يكتنه كنهه.

ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر رحمته بعباده، وفضله عليهم فقال- تعالى-:

ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً.

وما استفهامية. والمراد بالاستفهام هنا النفي والإنكار على أبلغ وجه وآكده والجملة الكريمة استئنافية مسوقة لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم ومعاصيهم لا لشيء آخر.

والمعنى: أى منفعة له- سبحانه- في عذابكم وعقوبتكم إن شكرتم نعمه، وأديتم حقها، وآمنتم به حق الإيمان؟ لا شك أنه- سبحانه- لا يفعل بكم شيئا من العذاب ما دام الشكر والإيمان واقعين منكم فقد اقتضت حكمته- سبحانه- أن لا يعذب إلا من يستحق العذاب، بل إنه- سبحانه- قد يتجاوز عن كثير من ذنوب عباده رحمة منه وفضلا.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله: قوله ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب به نفعا؟ أم يستدفع به ضررا؟ كما هو شأن الملوك.

وهو الغنى المتعالي الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما هو أمر اقتضته الحكمة أن يعاقب المسيء. فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب «2» .

وما في محل نصب ب يَفْعَلُ لأن الاستفهام له الصدارة. والباء في قوله «بعذابكم» سببية متعلقة بيفعل. والاستفهام هنا معناه النفي كما سبق أن أشرنا. وعبر عن النفي بالاستفهام للإشارة إلى أنه- سبحانه- رتب الجزاء على العمل وأنه يجب على كل عاقل أن يدرك أن عدالة الله قد اقتضت أنه- سبحانه- لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب، ويعفو عن كثير من السيئات بفضله ومنته.

(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 88.

(2)

تفسير الكشاف ج 1 ص 581- بتصرف يسير-.

ص: 362

وقوله: إِنْ شَكَرْتُمْ جوابه محذوف دل عليه ما تقدم. أى: إن شكرتم وآمنتم فما الذي يفعله بعذابكم؟

وقدم الشكر على الإيمان، لأن الشكر سبب في الإيمان، إذ الإنسان عند ما يرى نعم الله، ويتفكر فيها ويقدرها حق قدرها، يسوقه ذلك إلى الإيمان الحق، فالشكر يؤدى إلى الإيمان والإيمان متى رسخ واستقر في القلب ارتفع بصاحبه إلى أسمى ألوان الشكر وأعظمها. فعطف الإيمان على الشكر من باب عطف المسبب على السبب.

وقوله: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً تذييل قصد به تأكيد ما سبق من الله- سبحانه- لا يعذب عباده الشاكرين المؤمنين.

أى: وكان الله شاكرا لعباده على طاعتهم. أى مثيبهم ومجازيهم الجزاء الحسن على طاعتهم، عليما بجميع أقوالهم وأفعالهم، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه. فالمراد بالشكر منه- سبحانه- مجازاة عباده بالثواب الجزيل على طاعتهم له ووقوفهم عند أمره ونهيه.

وسمى- سبحانه- ثواب الطائعين شكرا منه، للتنويه بشأن الطاعة، وللتشريف للمطيع، ولتعليم عباده أن يشكروا للمحسنين إحسانهم. فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، ورحم الله الإمام ابن القيم حيث يقول:

وهو الشكور. فلن يضيع سعيهم

لكن يضاعفه بلا حسبان

ما للعباد عليه حق واجب

هو أوجب الأجر العظيم الشان

كلا ولا عمل لديه بضائع

إن كان بالإخلاص والإحسان

إن عذبوا فبعدله، أو نعموا

فبفضله، والحمد للرحمن

وإلى هنا نرى أن الآيات الكريمة التي بدأت بقوله- تعالى-: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ قد كشفت عن حقيقة النفاق والمنافقين في المجتمع الإسلامى، وأماطت اللثام عن طباعهم المعوجة، وأخلاقهم القبيحة، ومسالكهم الخبيثة، وهممهم الساقطة، ومصيرهم الأليم. وذلك لكي يحذرهم المؤمنون، ويتنبهوا إلى مكرهم وسوء صنيعهم. ثم نرى الآيات الكريمة خلال ذلك تفتح باب التوبة للتائبين من المنافقين وغيرهم وتعدهم إن تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله بالأجر العظيم. وأخيرا تجيء تلك اللفتة العجيبة المؤثرة العميقة. أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع الذي توعد الله به المنافقين، وبعد ذكر الأجر العظيم الذي وعد الله به المؤمنين. أخيرا بعد كل ذلك تجيء الآية الكريمة التي تنفى بأبلغ أسلوب أن يكون هناك عذاب من الله لعباده الشاكرين المؤمنين، لأنه- سبحانه- وهو الغنى الحميد، قد اقتضت حكمته وعدالته أن لا يعذب إلا من يستحق العذاب، وأنه- سبحانه- سيجازى الشاكرين المؤمنين

ص: 363