الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمان، وأن يسالموا كذلك أولئك الذين يأتون إليهم وهم يكرهون قتالهم أو قتال قومهم، وأظهروا الانقياد والاستسلام للمؤمنين.
وتأمرهم- ثالثا- بأن يأخذوا ويقتلوا أولئك المتلاعبين بالعقيدة والدين والذين بلغ بهم الغدر والخداع أنهم إذا قدموا المدينة أظهروا الإسلام، فإذا ما عادوا إلى مكة أو إلى قومهم أظهروا الكفر، وكانوا مع قومهم ضد المسلمين.
وإنها لتوجيهات حكيمة تبصر المؤمنين بما يجب عليهم نحو غيرهم من الناس الذين يخالفونهم في عقيدتهم.
وبعد هذا الحديث الحكيم الذي بين الله- تعالى- فيه أحوال المنافقين، وصفاتهم الذميمة، وموقف المؤمنين ممن يخالفونهم في العقيدة، بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في بيان حكم القتل الخطأ، وحكم القتل العمد فقال- تعالى-:
[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
روى المفسرون روايات في سبب نزول قوله- تعالى- وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً.. الآية ومن أشهر هذه الروايات ما جاء عن مجاهد وغيره أنها نزلت في عياش بن أبى ربيعه، وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه لكي يترك الإسلام، فأضمر عياش قتل ذلك الرجل. ثم أسلم هذا الرجل دون أن يعلم عياش بإسلامه. فلما لقيه في يوم من الأيام ظن عياش أن الرجل لم يزل مشركا فقتله. فلما علم بإسلامه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قتلته ولم أشعر بإسلامه فأنزل الله الآية «1» .
والآية الكريمة وإن كانت قد نزلت في حادثة معينة إلا أن حكمها يتناول كل من قتل غيره خطأ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والنفي في قوله- تعالى- وَما كانَ ليس لنفى الوقوع، لأنه لو كان كذلك ما وقع قتل على سبيل الخطأ أبدا، وإنما النفي بمعنى النهى وعدم الجواز.
وقد أشار القرطبي إلى ذلك بقوله: قوله- تعالى- وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً هذه آية من أمهات الأحكام. والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، فقوله: وَما كانَ ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهى كقوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط، لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده فهو كقوله- تعالى- ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا. ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول وهو الذي يكون فيه «إلا» بمعنى لكن.
والتقدير: ما كان له أن يقتله ألبتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا. والخطأ: اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد، فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء. ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره: أخطأ. ولمن فعل غير الصواب: أخطأ» «2» .
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت. بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له. أى:
ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. ويجوز أن يكون حالا بمعنى: لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ. وأن يكون صفة للمصدر أى: إلا قتلا خطأ. والمعنى، أن من شأن المؤمن أن ينتفى عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمى كافرا فيصيب مسلما. أو يرمى شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم «3» .
ثم بين- سبحانه- حكم القتل الخطأ فقال: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 534 بتصرف يسير.
(2)
تفسير القرطبي ج 5 ص 312.
(3)
تفسير الكشاف ج 1 ص 548.
قوله فَتَحْرِيرُ، التحرير: الإعتاق وهو تفعيل من الحرية. أى جعل الرقبة حرة. وهو مبتدأ محذوف الخبر أى: فعليه تحرير رقبة مؤمنة.
وقوله: وَدِيَةٌ الدية ما يعطى عوضا من دم القتيل إلى وليه. وهي مأخوذة من الودي كالعدة من الوعد. يقال: ودى القاتل القتيل يديه دية إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس. وسمى المال دية تسمية بالمصدر.
والمعنى: أن المؤمن لا يسوغ له ولا يليق به أن يقتل أخاه المؤمن، لأن ذلك محرم تحريما قاطعا، لكن إن وقع منه القتل له على سبيل الخطأ فإن دم القتيل لا يذهب هدرا، بل على من قتل أخاه المؤمن خطأ «تحرير رقبة مؤمنة» أى: إعتاق نفس مؤمنة، وعليه كذلك دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أى: مؤداة إلى ورثة القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم. وقوله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أى إلا أن يتصدق أهل القتيل بهذه الدية على القاتل، بأن يتنازلوا عنها له على سبيل العفو والصفح.
وعبر- سبحانه- عن العتق بالتحرير في قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ للاشعار بأن الحرية للعبيد مقصد من مقاصد الإسلام، وأن شريعته قد أوجبت على أتباعها أن يعتقوا الأرقاء إذا ما وقعوا في بعض الأخطاء حتى يتحرر أكبر عدد من الرقاب.
والتعبير عن النفس بالرقبة من باب التعبير عن الكل بالجزء. وكان التعبير بذلك للاشارة إلى أن الرق غل معنوي في الرقاب، وأن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي يبذل قصارى جهده في فك الرقاب من قيدها.
وقيد الرقبة المحررة بأن تكون مؤمنة لتخرج الكافرة، إذ الإسلام يحرص على تحرير الأرقاء المؤمنين دون الكافرين.
قال ابن كثير: وجمهور الفقهاء على أن الرقبة المؤمنة تجزئ سواء أكانت صغيرة أم كبيرة فقد أخرج الإمام أحمد عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله، إن على عتق رقبة مؤمنة. فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أنى رسول الله؟ قالت: نعم قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. قال: أعتقها» «1» .
ويرى بعضهم أنه لا تجزئ إلا الرقبة المؤمنة التي صلت وعقلت الإيمان، أما الصغيرة فإنها لا تجزئ.
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 534
وقوله وَدِيَةٌ معطوف على «فتحرير» وقوله مُسَلَّمَةٌ صفة لدية. وقوله إِلى أَهْلِهِ متعلقة بمسلمة.
قال القرطبي ما ملخصه: ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة.
والعاقلة: قرابات الرجل من جهة أبيه وهم عصبته..
وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل. ووداها صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل المقتول بخيبر فكان ذلك بيانا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لمجمل الكتاب واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل، فقالت طائفة: على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم.
وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة. وأجمع أهل العلم على القول به «1» .
ففي الصحيحين عن أبى هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة: عبد وأمة. وقضى بدية المرأة على عاقلتها «2» .
قالوا: وإنما كانت دية القتل الخطأ على العاقلة، لأن القاتل لو دفعها لأوشكت أن تأتى على جميع ماله، وليكون ذلك دليلا على تضافر الأسرة وتعاونها. وإذا كان القاتل فقيرا وأسرته فقيرة، فإن دية المقتول تكون على بيت مال المسلمين، حتى لا يهدر دم القتيل.
قال القاسمى: تجب الدية على كل عاقلة القاتل. وهم عصبته غير الأصول والفروع «3» .
لأنه لما عفى عن القاتل فلا وجه للأخذ منه. وأصوله وفروعه أجزاؤه فالأخذ منهم أخذ منه.
ولا وجه لإهدار دم المؤمن. فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية، لأن الغرم بالغنم. فإن لم يكن له عاقلة أو كانوا فقراء فعلى بيت المال «4» .
والتعبير عن أداء الدين بقوله مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ يومئ إلى وجوب حسن الأداء بأن تسلم هذه الدية إلى أسرة القتيل بكل سماحة ولطف جبرا لخاطرها عما أصابها.
(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 315
(2)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 535
(3)
هذا رأى الشافعى ورواية عن أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في أظهر روايته بدخول الأصول والفروع في العاقلة.
(4)
تفسير القاسمى ج 5 ص 1446
والمراد بقوله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أى: إلا أن يتبرع بها أولياء المقتول على سبيل العفو والصفح.
وعبر عن ذلك بقوله يَصَّدَّقُوا للإشارة إلى أن تبرعهم هذا مرغوب فيه وأنه بمنزلة الصدقة التي لهم ثوابها الجزيل عند الله- تعالى- لا سيما إذا كان أولياء القاتل وعصبته يشق عليهم أداؤها فيتركها أولياء القتيل رأفة بأولياء القاتل وشفقة عليهم، وفي الحديث الشريف كل معروف صدقة.
ثم بين- سبحانه- حكم القتل الخطأ لمؤمن ينتمى إلى الأعداء فقال فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.
أى: فإن كان المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أى محاربين لكم، وَهُوَ مُؤْمِنٌ أى وكان المقتول مؤمنا ولم يعلم به القاتل، لكونه بين أظهر قومه الكفار ولم يفارقهم، أو أتاهم بعد أن فارقهم لأمر من الأمور، فعلى القاتل في هذه الحالة تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كفارة عن هذا القتل الخطأ، وليس عليه دية، لأن أولياء القتيل من الكفار ولا توارث بين المؤمن والكفار، ولأن دفع الدية إليهم يؤدى إلى تقويتهم علينا ومن غير المعقول أن ندفع لأعدائنا ما يتقوون به علينا.
روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: كان الرجل يأتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون. فيصيبه المسلمون في سرية أو غزوة. فيعتق الذي يصيبه رقبة.
ثم بين- سبحانه- حكم القتل الخطأ إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق فقال- تعالى-: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.
أى: وإن كان المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أى: من قوم بينكم وبينهم- أيها المؤمنون- عهد من هدنة أو أمان وهم على دينهم وأنتم على دينكم، فعلى القاتل في هذه الحالة دية تدفعها عاقلته إلى أهل القتيل، لأن حكمهم كحكم المسلمين، وعليه كذلك تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لتكون كفارة له عند الله، وقدم الدية هنا على تحرير الرقبة على العكس مما جاء في صدر الآية، للإشعار بوجوب المسارعة إلى تسليم الدية حتى لا يتردد القاتل في دفعها إلى غير المسلمين الذين بينهم وبين المسلمين عهد يمنع عدم الاعتداء.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد جعل الحكم في قتل المعاهد كالحكم في قتل المسلم من الدية وتحرير الرقبة، وبعضهم يرى أن المراد بالمقتول خطأ هنا المسلم الذي هو في قوم معاهدين وأن الدية لا تدفع لهؤلاء القوم فيكون معنى الآية: وإن كان أى المقتول المؤمن مِنْ قَوْمٍ كفار
بينكم وبينهم ميثاق، فعلى قاتله دية مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ من أهل الإسلام إن وجدوا، ولا تدفع إلى ذوى قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين، إذ لا يرث الكافر المؤمن.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأنه لو كان المراد بالمقتول خطأ هنا القتيل المسلم لكان مكررا ولما كان هناك معنى لإفراده إذ حكمه يكون داخلا في قوله- تعالى- في صدر الآية «ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله» . فلما أفرده- سبحانه- بالذكر علمنا أن المقصود بالقتيل هنا من قتل خطأ من قوم كفار بيننا وبينهم ميثاق سواء أكان المقتول على ديننا أم على دينهم.
وقد ذكر صاحب الكشاف هذا الوجه ولم يذكر سواه فقال: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ- أى:
وإن كان المقتول من قوم- كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابيين فحكمه حكم مسلم من مسلمين» «1» . ومن العلماء أيضا من يرى أن دية المسلم والكافر سواء ومنهم من يرى غير ذلك.
وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذين الرأيين بقوله: قوله- تعالى- وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. الآية، أى: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم. فإن كان مؤمنا فدية كاملة وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء. وقيل يجب في الكافر نصف دية المسلم وقيل ثلثها كما هو مفصل في كتب الأحكام «2» .
ثم يبين- سبحانه- الحكم عند عدم استطاعة إعتاق الرقبة فقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
أى: فمن لم يجد رقبه مؤمنة يعتقها فعليه في هذه الحالة صيام شهرين متواصلين في أيامهما، لا يفرق بينهم فطر، بحيث لو أفطر يوما فيها استأنف من جديد ابتداء الشهرين، إلا أن يكون الفطر بسبب حيض أو نفاس أو مرض يتعذر معه الصوم.
وقوله- تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ مفعول لأجله والتقدير: أى شرع الله لكم ذلك توبة منه أى قبولا لها ورحمة بكم. من: تاب الله على فلان إذا قبل توبته.
وهذه التوبة ليست من إثم القتل الخطأ، لأن الإثم مرفوع عن المخطئ كما في الحديث الشريف «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
وإنما التوبة هنا من التقصير وقلة التثبت والتحقق، ولكي يكون المسلم يعد ذلك متذكرا
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 550. [.....]
(2)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 535.
فلا يقع منه في المستقبل ما وقع منه في الماضي، ولهذا قال الإمام الزيلعى:
وقوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تذييل قصد به زجر الناس عن اتباع الهوى وعن مخالفة شريعته.
أى: وكان الله وما زال عليما بالنفوس وخباياها وحركاتها وبكل شيء في هذا الكون: حكيما في كل ما شرع وقضى. وسيحاسب الناس على أقوالهم. وأعمالهم يوم القيامة. وسيجازيهم بما يستحقون من خير أو من شر.
وبهذا نرى أن الآية الكريمة قد بينت أن المؤمن إذا قتل على سبيل الخطأ أخاه المؤمن أو قتل رجلا من قوم كافرين ولكن بيننا وبينهم ميثاق أمان فعليه في كل حالة من هاتين الحالتين عتق رقبة ودية. أما إذا قتل المؤمن رجلا مؤمنا ولكن كان من قوم كافرين محاربين لنا وليس بيننا وبينهم عهد ولا ميثاق فعلى القاتل تحرير رقبة فقط. فإن لم يستطع تحرير رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين توبة من الله. وبهذه الأحكام الحكيمة تربى النفوس على الاحتراس والاحتياط وأخذ الحذر، وتصان الدماء عن أن تذهب هدرا، وتعوض أسرة القتيل عن فقيدها بما يخفف آلامها، ويجبر خاطرها، وتعوض الجماعة الإسلامية بتحرير رقبة مؤمنة تعمل لصالح الجماعة بحرية وانطلاق بعد أن كانت تعمل لخدمة سيدها فحسب.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك سوء عاقبة من يقتل مؤمنا متعمدا فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً.
أى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قتله فَجَزاؤُهُ الذي يستحقه بسبب هذه الجناية الكبيرة «جهنم خالدا فيها» أى باقيا فيها مدة طويلة لا يعلم مقدارها إلا الله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بسبب ما ارتكبه من منكر وَلَعَنَهُ أى طرده من رحمته وَأَعَدَّ لَهُ من وراء ذلك كله عَذاباً عَظِيماً يوم القيامة.
هذا وقد ساق المفسرون جملة من الآيات والأحاديث التي تهدد مرتكب هذه الكبيرة بالعذاب الشديد واختلفوا في حكمها هل هي منسوخة أولا؟ وهل للقاتل عمدا توبة أو لا؟
وقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان كل ذلك فقال ما ملخصه:
«هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم والذي هو مقرون بالشرك بالله
في غير ما آية. قال- تعالى- وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال المؤمن معتقا- أى خفيف الظهر، سريع السير- ما لم يصب دما حراما. فإذا أصاب دما حراما بلح» أى: أعيا وانقطع.
وفي حديث آخر: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» .
ثم قال: وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا.
وقال البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال:
سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة. فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها.
فقال: نزلت هذه الآية. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وروى ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير قال. سألت ابن عباس عن قوله- تعالى- وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً. فقال: إن الرجل إذا عرف الإسلام، وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ولا توبة له.
ثم قال: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها. أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله- تعالى- فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته.
قال الله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك. وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء.
والمراد بالخلود هنا المكث الطويل. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان.
وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر والتوبة لا أنه يعتقد بطلان توبته «1» .
والآية الكريمة وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. الصواب في معناها: أن جزاءه
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 536.