الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بأكثر مما يستحقون من خير عميم، ونعيم مقيم، وما أحكم قوله- تعالى-: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً إنها لآية كريمة تحض الناس على أن يقبلوا على ربهم بقلب سليم فيعبدوه حق العبادة، ويطيعوه حق الطاعة لينالوا ثوابه وجزاءه الحسن يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أنه يبغض الجهر بالسوء من القول إلا في أحوال تقتضي ذلك، وتوعد الكافرين به وبرسله بالعذاب المهين، وبشر المؤمنين حق الإيمان بالأجر العظيم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 152]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
وقوله- تعالى-: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ نهى للمؤمنين عن الاسترسال في الجهر بالسوء إلا عند ما يوجد المقتضى لهذا الجهر.
وعدم محبته- سبحانه- لشيء كناية عن غضبه على فاعله وعدم رضاه عنه، والجهر بالقول
معناه: النطق به في إعلان، ونشره بين الناس، وإذاعته فيهم فهو يقابل السر والإخفاء.
والقول السوء: هو الذي يسوء من يقال فيه ويؤذيه في شرفه، أو عرضه أو غير ذلك مما يلحق به شرا.
والمعنى: لا يحب الله- تعالى- لأحد من عباده أن يجهر بالأقوال السيئة أو الأفعال السيئة، إلا من وقع عليه الظلم فإنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول في الحدود التي تمكنه من رفع الظلم عنه دون أن يتجاوز ذلك، كأن يجهر الخصم بما ارتكبه خصمه في حقه من مآثم. وكأن يذكر المظلوم الظالم بالقول السيئ في المجالس العامة والخاصة متحريا البعد عن الكذب والبهتان.
قال القرطبي ما ملخصه: والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه- ولكن مع اقتصاد- إن كان مؤمنا، فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا، وإن كان كافرا فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:«اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» .
وإن كان مجاهرا بالظلم دعا عليه الداعي جهرا، ولم يكن لهذا المجاهر عرض محترم، ولا بدن محترم ولا مال محترم. وقد روى أبو داود عن عائشة أنها قالت: سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه- أى على السارق- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبخى عنه» أى: لا تخففى عنه العقوبة بدعائك عليه. وروى أبو داود- أيضا- عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول صلى الله عليه وسلم قال:
«لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» أى: المماطلة من القادر على دفع الحقوق لأصحابها ظلم يبيح للناس أن يذكروه بالسوء «1» .
وقول السوء بدون مقتض يبغضه الله سواء أكان هذا القول سرا أم جهرا إلا أنه- سبحانه- خص الجهر بالذكر لأنه أشد فحشا، ولأنه أكثر جلبا للعداوة بين الناس، وأشد تأثيرا في إشاعة الجرائم في المجتمع، فإن كثرة سماع الناس للكلام السيئ. وللقول الماجن، يغرى الكثير منهم بترديد ما سمعوه، وبحكايته في أول الأمر بشيء من الحياء، ثم لا يلبث هذا الحياء أن يزول بسبب إلف الناس للكثير من الألفاظ النابية، والأقوال السيئة.
وأنت تقرأ القرآن فتراه في عشرات الآيات يأمر أتباعه بالمداومة على النطق بالكلام الطيب حتى تنتشر بينهم المحبة والمودة. ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً «2» .
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 3.
(2)
سورة الأسراء الآية 53.
والخلاصة أن الإسلام يحب لأتباعه أن يلتزموا النطق بالكلمة الطيبة، ويكره لهم أن يجهروا بالسوء من القول إلا في حالة وقوع ظلم عليهم، ففي هذه الحالة يجوز لهم أن يجهروا بالسوء من القول حتى يرتدع الظالم عن ظلمه.
والاستثناء في قوله إِلَّا مَنْ ظُلِمَ استثناء منقطع، فتكون إلا بمعنى لكن.
أى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لكي يدفع ما وقع عليه من ظلم.
ويحتمل أن يكون متصلا فيكون المعنى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول من أحد إلا ممن ظلم فإنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول لرفع الظلم عنه فيكون الاستثناء من الفاعل المحذوف وهو- من أحد- أو: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم فإنه ليس بخارج عن محبة الله لأن دفع الظلم واجب. فيكون الكلام على تقدير مضاف محذوف.
وقوله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً تذييل قصد به التحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه، ووعد للمظلوم بأنه- تعالى- يسمع شكواه ودعاءه، ويعلم ظلم ظالمه.
أى: وكان الله سميعا لكل ما يسر به المسرون أو يجهر به المجاهرون، عليما بما يدور في النفوس من بواعث وهواجس، وسيجازى كل إنسان بأقواله وأعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى، وحض على العفو والصفح وفعل الخير فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.
أى: إن تظهروا- أيها الناس- خَيْراً من طاعة وبر وقول حسن، وفعل حسن، أو تُخْفُوهُ أى، تخفوا هذا الخير بأن تعملوه سرا أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ بأن تصفحوا عمن أساء إليكم، يكافئكم الله- تعالى- على ذلك مكافأة حسنة، ويتجاوز عن خطاياكم، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أى: كثير العفو عن العصاة مع كمال قدرته على مؤاخذتهم ومعاقبتهم فاقتدوا بهذه الصفات الحميدة لتنالوا محبة الله ورضاه.
فالآية الكريمة تدعو الناس إلى الإكثار من فعل الخير سواء أكان سرا أم جهرا، كما تدعو إلى العفو عن المسيئين إليهم.
قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح: «ما نقص مال من صدقة. وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» «1» .
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 571.
وقال الفخر الرازي: اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق وخلق مع الخلق. والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم ودفع ضرر عنهم. فقوله. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ إشارة إلى إيصال النفع إليهم. وقوله: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ إشارة إلى دفع الضرر عنهم. فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر «1» .
ثم بين- سبحانه- رذائل أهل الكتاب وأباطيلهم وسوء مصيرهم بعد حديثه القريب عن المنافقين.. فقال- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن يجحدوا وحدانية الله، وينكروا صدق رسله- عليهم الصلاة والسلام- وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أى يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله- تعالى- وبين الإيمان برسله، بأن يعلنوا إيمانهم بوجود الله- تعالى- وأنه خالق هذا الكون، إلا أنهم يكفرون برسله أو ببعضهم.
قال القرطبي: نص- سبحانه- على أن التفريق بين الإيمان بالله والإيمان برسله كفر، وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه- فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا رسالة الرسل فقد ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع- سبحانه- وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية. وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر «2» .
وقوله- تعالى- وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ حكاية لما نطقوا به من كفر وجحود. أى. ويقولون على سبيل التبجح والعناد: نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعضهم كما قال اليهود نؤمن بموسى والتوراة ونكفر بما وراء ذلك. وكما قال النصارى. نؤمن بعيسى والإنجيل ونكفر بما سوى ذلك.
وقوله وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أى ويريدون بقولهم هذا أن يتخذوا بين الإيمان بالبعض والكفر بالبعض طريقا يسلكونه، ودينا يتبعونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا، لأن الرسل جميعا قد بعثهم الله- تعالى- لدعوة الناس إلى توحيده، وإخلاص العبادة له ونشر مكارم الأخلاق في الأرض. فمن كفر بواحد منهم كفر بهم جميعا.
وقوله أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إخبار عن سوء مصيرهم، وشناعة عاقبتهم.
أى: أولئك الموصوفون بتلك الصفات القبيحة هم الكافرون الكاملون في الكفر،
(1) تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 90.
(2)
تفسير القرطبي ج 6 ص 4.