المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٣

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثالث]

- ‌سورة النساء

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد بين يدي السورة

- ‌[سورة النساء (4) : آية 1]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 3]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 4]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 5]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 6]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 7]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 8]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 9]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 24]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 25]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 31]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 32 الى 33]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 42]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 55]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 68]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 80]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 81 الى 83]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 84 الى 87]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 94]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 121]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 122 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 147]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 152]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 162]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 175]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 176]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «النساء»

الفصل: ‌[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136]

ثَوابَ الدُّنْيا يعنى عرض الدنيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعنى: أن جزاءه في الدنيا منها هو ما يصيب من المغنم. وأما ثوابه في الآخرة فنار جهنم «1» .

والذي نراه أولى أن الآية الكريمة تخاطب الناس عامة، فتبين لهم أن خير الدنيا بيد الله وخير الآخرة أيضا بيد الله، فإن اتقوه نالوا الخيرين، وتنبههم إلى أن من الواجب عليهم ألا يشغلهم طلب خير الدنيا عن طلب خير الآخرة. بل عليهم أن يقدموا ثواب الآخرة على ثواب الدنيا.

عملا بقوله- تعالى- في آية أخرى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا. ولا نرى مقتضيا لتخصيص الآية بالمنافقين كما- يرى ابن جرير- رحمه الله.

وقوله- تعالى- وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً تذييل قصد به حض الناس على الإخلاص في أقوالهم وأعمالهم.

أى: وكان الله- تعالى- سميعا لكل ما يجهر به الناس ويسرونه، بصيرا بأحوالهم الظاهرة والخفية، وسيجازيهم بما يستحقونه من ثواب أو عقاب، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.

ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداءين متتاليين إلى المؤمنين أمرهم فيهما بالمداومة على التمسك بفضيلة العدل في جميع الظروف والأحوال، وبالثبات على الإيمان الحق الذي ينالون به ثواب الله ورضاه، وتوعد الذين ينحرفون عن طريق الحق بسوء العاقبة فقال- تعالى-:

[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

(1) تفسير ابن جرير ج 5 ص 391.

ص: 341

وقوله قَوَّامِينَ جمع قوام وهو صيغة مبالغة من قائم. والقوام: هو المبالغ في القيام بالشيء وفي الإتيان به على أتم وجه وأحسنه.

وقوله شُهَداءَ جمع شهيد بوزن فعيل. والأصل في هذه الصيغة أنها تدل على الصفات الراسخة في النفس ككريم وحكيم.

والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا. كونوا مواظبين على إقامة العدل فيما بينكم في جميع الظروف والأحوال دون أن يصرفكم عن ذلك صارف، وكونوا «شهداء لله» أى: مقيمين للشهادة بالحق ابتغاء وجه الله لا لغرض من الأغراض الدنيوية. ولا لمطمع من المطامع الشخصية، فإن الإيمان الحق يستلزم منكم أن تعدلوا في أحكامكم وأن تؤدوا الشهادة على وجهها.

وفي ندائه- سبحانه- لهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تنبيه إلى الأمر الخير الذي ناداهم من أجله ودعاهم إلى تنفيذه وهو التزام العدالة في كل أمورهم، وتحريك لعاطفة الإيمان في قلوبهم بمقتضى وصفهم- بهذه الصفة الجليلة.

وعبر- سبحانه- بقوله كُونُوا قَوَّامِينَ بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة والمداومة على الشيء، لتمكين صفة العدالة في نفوسهم، وترسيخها في قلوبهم.

فكأنه- سبحانه- يقول لهم: روضوا أنفسكم على التزام كلمة الحق، وعودوها على نصرة المظلوم وخذلان الظلم، وليكن ذلك خلقا من أخلاقكم. وسجية من سجاياكم، فلا يكفى أن تعدلوا في أحكامكم مرة أو مرتين، وإنما الواجب عليكم أن تداوموا على إقامة العدل في كل الأحوال، ومع كل الأشخاص.

قال صاحب المنار: وهذه العبارة- وهي قوله- تعالى- كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أبلغ ما يمكن أن يقال في تأكيد أمر العدل والعناية به فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض تقول: اعدلوا أو أقسطوا. وتقول: كونوا عادلين أو مقسطين.

وهذه العبارة أبلغ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإتيان بالقسط الذي يصدق بمرة.

وتقول: أقيموا القسط. وأبلغ منه: كونوا قائمين بالقسط. وأبلغ من هذا وذاك: كونوا قوامين بالقسط. أى: لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن

ص: 342

تتحروه بالدقة التامة حتى تكون ملكة راسخة في نفوسكم. والقسط يكون في العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد ويكون في الحكم بين الناس.. «1» .

وقوله شُهَداءَ خبر ثان لكونوا. وقوله لِلَّهِ متعلق بمحذوف حال من ضمير شُهَداءَ.

أى: كونوا ملازمين للعدل في كل أموركم وكونوا مقيمين للشهادة على وجهها حالة كونها لوجه الله، لا لعرض من أعراض الدنيا.

قال الفخر الرازي: وإنما قدم- سبحانه- الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه:

الأول: أن أكثر الناس من عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى إن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن. وإذا صدر عن غيرهم كان محل المنازعة. فالله- تعالى- نبه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة. وذلك أنه- سبحانه- أمرهم بالقيام بالقسط أولا، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير.

الثاني: أن القيام بالشهادة عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير، وهو الذي عليه الحق.

ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير.

الثالث: أن القيام بالقسط فعل، والشهادة قول والفعل أقوى من القول «2» .

وقوله: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ تأكيد للأمر بالتزام الحق في الأحكام والشهادات.

أى: كونوا قوامين بالقسط، وكونوا مقيمين للشهادة بالحق خالصة لوجه الله، ولو كانت الشهادة على أنفسكم- بأن تقروا بأن الحق عليها إذا كان واقع الأمر كذلك- ولو كانت- أيضا. على والديكم وعلى أقرب الناس إليكم.

قال القرطبي: وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما. ثم ثنى بالأقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب فكان الأجنبى من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه

ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل. وكان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، لأنه لم يكن أحد

(1) تفسير المنار ج 5 ص 456.

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 72.

ص: 343

يتهم في ذلك من السلف. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم. وأجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا «1» .

ولَوْ في قوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ شرطية. والجار والمجرور خبر لكان المحذوفة مع اسمها. وجواب لو محذوف. والتقدير: ولو كانت الشهادة على أنفسكم فاشهدوا عليها بأن تقروا على أنفسكم بالحق ولا تكتموه.

وقوله- تعالى- إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما تأكيد لوجوب التزام الحق مع الغنى والفقير والصغير والكبير.

أى: إن يكن المشهود عليه غنيا يرجى في العادة ويخشى أو فقيرا يترحم عليه في الغالب ولا يخشى، فلا تمتنعوا عن الشهادة، لأن الله- تعالى- هو الأولى والأجدر بحساب كل من الغنى والفقير، وهو الأعلم بمصالح الناس، والأرحم بهم منكم. وجواب الشرط محذوف، أى: إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تتركوا الشهادة لأن الشهادة في مصلحتهما.

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم ثنى الضمير في «أولى بهما» وكان حقه أن يوحد لأن قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين؟

قلت قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً لا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنى وجنس الفقير. فكأنه قيل: فالله أولى بجنسى الغنى والفقير.

أى: بالأغنياء والفقراء. وفي قراءة أبى: فالله أولى بهم وهي شاهدة على ذلك.

وقال ابن جرير: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم إذ اختصم إليه رجلان: غنى وفقير. وكان ضلعه- أى ميله- مع الفقير لأنه يرى أن الفقير لا يظلم الغنى. فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنى والفقير فقال: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «2» .

والذي يستفاد من هذه الرواية ومن ظاهر الآية أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا في التفاوت في الحكم. ويقاس عليهما غيرهما من أحوال الناس، لأن الله- تعالى- هو الذي نظم الكون بحكمته، وهو أعلم بمصالح الناس من أنفسهم، وجعل فيهم الغنى والفقير لأن الغنى والفقر أمران ثابتان في هذا الوجود، ولا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإنسانية، لأن ذلك تنظيم الله- تعالى، وإرادته الخالدة، وهو الذي يتفق مع الطبيعة الإنسانية، إذ العقول متفاوتة، والعزائم مختلفة، والأعمال متنوعة، ونتيجة لذلك كانت الثمار ليست متحدة.

(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 410- بتصرف وتلخيص-.

(2)

تفسير ابن جرير ج 5 ص 321.

ص: 344

والمراد بالهوى في قوله: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا الخضوع للشهوات والميل مع نزعات النفس الأمارة بالسوء.

وقوله أَنْ تَعْدِلُوا في موضع المفعول لأجله ويحتمل أن يكون بمعنى العدل فيكون علة للمنهى عنه، ويكون في الجملة مضاف مقدر. والمعنى: فلا تتبعوا الهوى والميل مع الشهوات كراهة أن تعدلوا بين الناس ويحتمل أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة للنهى بتقدير لا، أى: أنهاكم عن اتباع الهوى لئلا تميلوا عن الحق وتتركوا العدل.

قال ابن كثير: أى: لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم، على ترك العدل في شئونكم. بل الزموا العدل على أى حال كان. كما قال- تعالى- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى. ولأنتم أبغض الخلق إلى. وما يحملني حبى إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض «1» .

وقوله- تعالى- وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تذييل قصد به تهديدهم ووعيدهم على ترك العدل، وعلى الامتناع عن الشهادة بالحق.

قال الفخر الرازي ما ملخصه: وفي الآية قراءتان. فقد قرأ الجمهور تَلْوُوا- بواوين قبلهما لام ساكنة- بمعنى الدفع والإعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه. أو بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشيء إذا فتله.

وقرأ ابن عامر وحمزة تلوا بلام مضمومة بعدها واو ساكنة- من الولاية بمعنى مباشرة الشيء والاشتغال به «2» .

والمعنى على قراءة الجمهور: وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهتها أو تعرضوا عنها رأسا وتتركوها يعاقبكم الله عقابا شديدا فإنه- سبحانه- عليم بدقائق الأشياء، خبير بخفايا النفوس، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه.

والمعنى على القراءة الثانية: وإن تلوا الشهادة فتباشروها على وجهها يعطكم الله أجرا حسنا، وإن تعرضوا عنها وتتركوها يعاقبكم الله عقابا أليما، فإن الله- تعالى- خبير بكل أقوالكم وأعمالكم.

(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 565.

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 74.

ص: 345

وقيل: إن القراءتين بمعنى واحد لأن أصل (تلوا) - وهي قراءة حمزة وابن عامر- تلووا- وهي قراءة الجمهور- نقلت حركة الواو- في قراءة الجمهور- إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذفت إحداهما فصارت الكلمة (تلوا) .

هذا، والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تبنى المجتمع الإسلامى على أقوى القواعد، وأمتن الأسس وأشرف المبادئ. إنها تبنيه على قواعد العدل والقسط، وتأمر المؤمنين أن يلتزموا كلمة الحق مع أنفسهم ومع أقرب المقربين إليهم مهما تكلفوا في ذلك من جهاد شاق يقتضيه التزام الحق، فإن كلمة الحق كثيرا ما تجعل صاحبها عرضة للإيذاء والاعتداء والاتهام بالباطل من الأشرار والفجار. بل إن كلمة الحق قد تفضى بصاحبها إلى الموت. ولكن لا بأس، فإن الموت مع التمسك بالحق، خير من الحياة في ظلمات الباطل.

ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين أن يثبتوا على إيمانهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أى: يا أيها المؤمنون اثبتوا على إيمانكم وداوموا على تصديقكم بوحدانية الله- تعالى- وعلى تصديقكم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي نزله الله- تعالى- عليه وهو القرآن، وبالكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على الرسل الذين أرسلهم من قبله.

والمراد بالكتاب الذي أنزله على الرسل من قبله جنس الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور.

ثم بين- سبحانه- سوء مصير من يكفر بشيء مما يجب الإيمان به فقال- تعالى-: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.

أى: ومن يكفر بالله بأن يجحد وحدانيته وألوهيته، ولا يخلص له العبادة، ويكفر بملائكته بأن ينكر بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويكفر بكتبه التي أنزلها- سبحانه، على أنبيائه، وبرسله الذين أرسلهم لهداية الخلق. وباليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، من يكفر بكل ذلك فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن السبيل القويم بعدا كبيرا، لأنه بكفره بذلك يكون قد خالف الفطرة، وانحرف عما يقتضيه العقل السليم، وأوغل في الشرور والآثام إيغالا شديدا، يؤدى به إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

وبعد هذه الأوامر السديدة للمؤمنين. عادت السورة الكريمة إلى تحذيرهم من أعدائهم ومن المنافقين، فكشفت لهم عن طبيعتهم، ونهتهم عن القعود معهم، وبينت لهم أنماطا من خداعهم، وألوانا من أخلاقهم الذميمة، وأخبرتهم عن سوء مصير أولئك المنافقين والمتمادين في الغي والضلال.

ص: 346