الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكأن الآيات الكريمة تقول لهم وللناس إن نعم الله على عباده لا تحصى ورحمته بهم واسعة، فاشكروه على نعمه، وتوبوا إليه من ذنوبكم، فإن الإصرار على المعاصي يؤدى إلى سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
ثم تراها- ثالثا- تدافع عن عيسى وأمه مريم دفاعا عادلا مقنعا وتبرئهما مما نسبه أهل الكتاب إليهما من زور وبهتان، وتصريح بأن أهل الكتاب لا حجة عندهم فيما تقولوه على عيسى وعلى أمه مريم، وأنهم في أقوالهم ما يتبعون إلا الظن، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ثم تسوق الحقيقة التي لا باطل معها في شأن عيسى، بأن تبين بأن الذين زعموا أنهم قتلوه كاذبون مفترون فإنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وسيؤمنون به عند نزوله في آخر الزمان، أو عند ما يكونون في اللحظات الأخيرة من حياتهم، حين لا ينفع الإيمان.
ثم تراها- رابعا- لا تعمم في أحكامها، وإنما تحق الحق وتبطل الباطل فهي بعد أن تبين ما عليه اليهود من كفر وظلم وفسوق عن أمر الله، وتتوعدهم بالعذاب الشديد في الآخرة. بعد كل ذلك تمدح الراسخين في العلم منهم مدحا عظيما، وتكرم المؤمنين الصادقين منهم تكريما عظيما، وتبشرهم بالأجر الجزيل الذي يشرح صدورهم، ويطمئن قلوبهم. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
هذا جانب مما اشتملت عليه هذه الآيات من عبر وعظات «لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» .
وبعد هذا الحديث المستفيض عن شبهات اليهود وسوء طباعهم. ساق- سبحانه- ما يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وأنه ليس بدعا من الرسل، بل هو واحد منهم إلا أنه خاتمهم، وأرفعهم منزلة عند الله- تعالى- فقال- سبحانه-:
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر- سبحانه- بعد ذلك أنهم لا يسألون لأجل الاسترشاد، ولكن لأجل العناد واللجاج، وحكى أنواعا كثيرة من فضائحهم وقبائحهم
…
شرع- سبحانه- بعد ذلك في الجواب عن شبهاتهم فقال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ «1» .
وقوله أَوْحَيْنا من الإيحاء أو الوحى. والوحى في الأصل: الإعلام في خفاء عن طريق الإشارة، أو الإيماء، أو الإلهام، أو غير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص، وليس إعلاما ظاهرا.
والمراد به هنا إعلام الله- تعالى- نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ما أراد إعلامه به من قرآن أو غيره.
والمعنى: إنا أوحينا إليك يا محمد بكلامنا وأوامرنا ونواهينا وهداياتنا.. كما أوحينا إلى نبينا نوح وإلى سائر الأنبياء الذين جاءوا من بعده. فأنت يا محمد لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول من عند الله- تعالى- تلقيت رسالتك منه- سبحانه- كما تلقاها غيرك من الرسل.
وأكد- سبحانه- خبر إيحائه صلى الله عليه وسلم، للاهتمام بهذا الخبر، ولإبطال ما أنكره المنكرون لوحى الله- تعالى- على أنبيائه ورسله فقد حكى القرآن عن الجاحدين للحق أنهم قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
وبدأ سبحانه بنوح عليه السلام، لأنه الأب الثاني للبشرية بعد آدم عليه السلام، ولأن في
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 108
ذكره معنى التهديد لأولئك الجاحدين للرسالة السماوية، فقد أجاب الله تعالى، دعاءه في الكافرين فأغرقهم أجمعين.
قال الجمل: وإنما بدأ الله- تعالى- بذكر نوح- عليه السلام لأنه أول نبي بعث بشريعة، وأول نذير على الشرك. وكان أول من عذبت أمته لردهم دعوته. وكان أطول الأنبياء عمرا «1» .
والتشبيه في قوله: كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ تشبيه بجنس الوحى، وإن اختلفت أنواعه، واختلف الموحى به.
والكاف في قوله كَما نعت لمصدر محذوف، وما مصدرية. أى: إنا أوحينا إليك إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح- عليه السلام.
وقوله مِنْ بَعْدِهِ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة للنبيين أى: والنبيين الكائنين من بعده أى: من بعد نوح.
وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ معطوف على أوحينا إلى نوح، داخل معه في حكم التشبيه.
أى: أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وكما أوحينا إلى إبراهيم بن آزر، وكما أوحينا إلى ابنه إسماعيل، وابنه إسحاق، وكما أوحينا إلى يعقوب بن إسحاق، وكما أوحينا إلى الأسباط وهم أولاد يعقوب.
قال الآلوسى: والأسباط هم أولاد يعقوب- عليه السلام في المشهور. وقال غير واحد:
إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل وقد بعث منهم عدة رسل. فيجوز أن يكون- سبحانه- أراد بالوحي إليهم، الوحى إلى الأنبياء منهم. كما تقول: أرسلت إلى بنى تميم، وتريد أرسلت إلى وجوههم ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف كانوا أنبياء، بل الذي صح عندي- وألف فيه الجلال السيوطي رسالة- خلافه» «2» .
وكرر- سبحانه- كلمة وَأَوْحَيْنا للإشعار بوجود فترة زمنية طويلة بين نوح وبين إبراهيم- عليهما السلام.
ثم ذكر- سبحانه- عددا آخر من الأنبياء تشريفا وتكريما لهم فقال وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً.
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 488
(2)
تفسير الآلوسى ج 6 ص 16
أى: أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى هؤلاء الأنبياء السابقين، وكما أوحينا إلى عيسى ابن مريم الذي أنكر نبوته اليهود الذين يسألونك الأسئلة المتعنتة، وإلى أيوب الذي ضرب به المثل في الصبر، وإلى يونس بن متى الذي لم ينس ذكر الله وهو في بطن الحوت، وإلى هارون أخى موسى، وإلى سليمان بن داود الذي آتاه الله ملكا لم يؤته لأحد من بعده.
وقوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً معطوف على قوله: أوحينا، وداخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء.
وأوثر. قوله هنا: وآتينا على أوحينا لتحقق المماثلة في أمر خاص وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء.
والزبور- بفتح الزاى- اسم الكتاب الذي أنزله الله على داود- عليه السلام قالوا: ولم يكن فيه أحكام، بل كان كله مواعظ وحكم وتقديس وتحميد وثناء على الله- تعالى-.
ولفظ (زبور) هنا بمعنى مزبور أى مكتوب. فهو على وزن فعول ولكن بمعنى مفعول. وزبر معناه كتب. أى: وآتينا داود كتابا مكتوبا.
ثم أجمل- سبحانه- بيان الرسل الذين أرسلهم فقال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ.
وقوله وَرُسُلًا منصوب بفعل مقدر قبله. أى: وأرسلنا رسلا قد أخبرناك عنهم، وقصصنا عليك أنباءهم فيما نزل عليك من قرآن قبل نزول هذه الآيات عليك. وأرسلنا رسلا آخرين غيرهم لم نقصص عليك أخبارهم لأن حكمتنا تقتضي ذلك، ولأن فيما قصصناه عليك من أخبار بعضهم عظات وعبرا لقوم يؤمنون.
هذا، وقد تكلم بعض العلماء عن عدد الأنبياء والرسل، واستندوا في كلامهم على أخبار وأحاديث لم تسلم أسانيدها من الطعن فيها.
قال ابن كثير: وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث أبى ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه في تفسيره حيث قال: حدثنا إبراهيم بن محمد. عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذر قال: قلت يا رسول الله: كم عدد الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قلت يا رسول الله. كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر..» «1» .
وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تشريف لموسى- عليه السلام بهذه الصفة ولهذا يقال
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 586
له: موسى الكليم. أى. وخاطب الله موسى مخاطبة من غير واسطة.
قال الجمل: والجملة إما معطوفة على قوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ عطف القصة على القصة، وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات.
وقوله تَكْلِيماً مصدر مؤكد لعامله رافع لاحتمال المجاز.
قال الفراء: العرب تسمى ما وصل إلى الإنسان كلاما بأى طريق وصل. ما لم يؤكد بالمصدر. فإن أكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام «1» .
فدل قوله تَكْلِيماً على أن موسى قد سمع كلام الله- تعالى- حقيقة من غير واسطة، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو- سبحانه-.
وقد ساق بعض المفسرين نقولا حسنة في مسألة كلام الله- تعالى- فارجع إليها إن شئت «2» .
وقوله: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
بيان لوظيفة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وللحكمة من إرسالهم. وقوله: رُسُلًا منصوب على المدح، أو بفعل مقدر قبله، أى: وأرسلنا رسلا. والمراد بالحجة هنا: المعذرة التي يعتذر بها الكافرون والعصاة.
أى: وكما أوحينا إليك يا محمد بما أوحينا من قرآن وهدايات. وأرسلناك للناس رسولا، فقد أرسلنا من قبلك رسلا كثيرين مبشرين من آمن وعمل صالحا يرضا الله عنه في الدنيا والآخرة، ومنذرين من كفر وعصى بسوء العقبى، وقد أرسل- سبحانه- الرسل مبشرين ومنذرين لكي لا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، أى لكي لا تكون لهم معذرة يعتذرون بها كأن يقولوا. يا ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك، ويعلمنا أحكامك وأوامرك ونواهيك، فقد أرسلنا إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لكي لا تكون لهم حجة يحتجون بها، كما قال- تعالى- وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى «3» .
قال الآلوسى: فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل. وأن العقل لا يغنى عن ذلك. وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن مسألة الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعترى الإنسان من دون اختيار. فمعنى الآية عندهم: لئلا يبقى للناس على الله حجة.
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 449
(2)
تفسير القاسمى ج 5 من ص 1723 إلى ص 1752
(3)
سورة طه الآية 134 [.....]
.
وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه- سبحانه- حجة مجاز. بتنزيل المعذرة في القبول عنده- تعالى- بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها «1» » .
وقوله: حُجَّةٌ اسم يكون. وخبره قوله «للناس» وقوله: على الله حال من حجة.
وقوله: بَعْدَ الرُّسُلِ أى: بعد إرسال الرسل وتبليغ الشريعة على ألسنتهم وهو متعلق بالنفي أى: لتنتفى حجتهم واعتذارهم بعد إرسال الرسل.
قال ابن كثير: وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين وفي لفظ آخر: «ومن أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه» «2» .
وقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً تذييل قصد به بيان قدرته التي لا تغالب وحكمته التي لا يحيط أحد بكنهها. أى: وكان الله- تعالى- وما زال هو القادر الغالب على كل شيء، الحكيم في جميع أفعاله وتصرفاته، وسيجازى الذين أساؤا بما عملوا، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
هذا وللمرحوم الأستاذ الإمام محمد عبده كلام نفيس في كتابه (رسالة التوحيد) عن: حاجة البشر إلى إرسال الرسل، وعن وظيفتهم- عليهم الصلاة والسلام- ومما قاله في ذلك: الرسل يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته. ويبينون الحد الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان. على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة.
الرسل يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم. وتنازعته مصالحهم ولذاتهم.
فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع. ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم به المصالح العامة. ولا يفوت به المصالح الخاصة.
الرسل يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة. يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم. كاحترام الدماء البشرية إلا بحق. مع بيان الحق الذي تهدر له، وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق. مع بيان الحق الذي يبيح تناوله. واحترام الأعراض. مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع.
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 588
(2)
تفسير الآلوسى ج 6 ص 18
يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية إلى طلب الرغائب السامية آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله- جل شأنه-.
يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم وما يعرضهم لسخطه عليهم. ثم يحيطون بيانهم بنبإ الدار الآخرة، وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى، لمن وقف عند حدوده. وأخذ بأوامره.
وبهذا تطمئن النفوس، وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر، انتظارا لجزيل الأجر. أو إرضاء لمن بيده الأمر. وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنسانى، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم «1» .
وقوله- سبحانه-: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً استدراك قصد به الرد على جحود أهل الكتاب للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقال لهم:
والمقصود من الآية الكريمة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب كثير من الناس له، وإدخال الطمأنينة على قلبه، فكأنه- سبحانه- يقول له:
لم يشهد أهل الكتاب بأنك رسول من عند الله وصادق فيما تبلغه عنه لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أى: لكن الله يشهد بأن الذي أنزله إليك من قرآن هو الحق الذي لا ريب فيه.
وقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أى: أنزله بعلم تام، وحكمة بالغة، أو بما علمه من مصالح عباده في إنزاله عليك.
وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أى: والملائكة يشهدون بأنك صادق في رسالتك، وبأن ما أنزله الله عليك هو الحق الذي لا تحوم حوله شبهة.
وقوله. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أى: وكفى بشهادة الله شهادة بأنك على الحق وإن لم يشهد غيره لك. فإنه لا عبرة لإنكار المنكرين لنبوتك، ولا قيمة لجحود الجاحدين لما نزل عليك بعد شهادة الله لك بأنك نبيه ورسوله، لتخرج الناس بإذنه من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
وقد أجاد صاحب الكشاف في توضيح تلك المعاني حيث قال: فإن قلت الاستدراك لا بد له
(1) رسالة التوحيد للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ص 117 وما بعدها.
(2)
تفسير ابن جرير ج 6 ص 31