الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طريق الإسلام، الذي يفضى بهم في آخرتهم إلى السعادة والأمان والفوز برضا الله- عز وجل.
وقد ذكرت الآية ثواب الذين آمنوا بالله واعتصموا به، ولم تذكر عقاب الذين كفروا إهمالا لهم، لأنهم في حيز الطرد والطرح، أو لأن عاقبتهم السيئة معروفة لكل عاقل بسبب كفرهم وسوقهم عن أمر الله.
والسين في قوله فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ للتأكيد. أى فسيدخلهم في رحمة كائنة منه وفي فضل عظيم من عنده إدخالا لا شك في حصوله ووقوعه.
وقوله صِراطاً مفعول ثان ليهدى لتضمنه معنى يعرفهم.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت أهل الكتاب عن المغالاة في شأن عيسى- عليه السلام، وعرفتهم حقيقته، ودعتهم إلى الإيمان بوحدانية الله، وبينت لهم ولغيرهم أن عيسى وغيره من الملائكة المقربين لن يستنكفوا عن عبادة الله، وان من امتنع عن عبادة الله فسيحاسبه- سبحانه- حسابا عسيرا، ويجازيه بما يستحقه من عقاب. أما من آمن بالله- تعالى- واتبع الحق الذي أنزله على رسله، فسينال منه- سبحانه- الرحمة الواسعة، والفضل العظيم، والسعادة التي ليست بعدها سعادة.
هذا، وكما اشتملت سورة النساء في مطلعها على الحديث عن أحكام الأسرة وأحكام الزواج والمواريث. فقد اختتمت بهذه الآية المتعلقة ببعض أحكام المواريث وهي قوله- تعالى-:
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل. فتوضأ فصب على أو قال:
صبوا عليه. فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة. فكيف الميراث. فأنزل الله آية الفرائض.
وفي بعض الألفاظ فأنزل الله آية الميراث يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الآية. وفي رواية قال جابر: نزلت في: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «1» .
ويبدو أن عددا من الصحابة قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ميراث الكلالة في أزمنة متفرقة فنزلت هذه الآية للإجابة عن أسئلتهم المتعلقة بها. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بآية الصيف، لأنها نزلت في هذا الوقت.
قال القرطبي: قال عمر: إنى والله لا أدع شيئا أهم إلى من أمر الكلالة. وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال:«يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء» «2» .
وقوله: يَسْتَفْتُونَكَ من الاستفتاء بمعنى طلب الفتيا أو الفتوى. يقال: استفتيت العالم في مسألة كذا. أى: سألته أن يبين حكمها. فالإفتاء معناه: إظهار المشكل من الأحكام وتبينه.
والكلالة.. كما يقول الراغب-: اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكلالة فقال: «من مات وليس له ولد ولا والد» ، فجعله اسما للميت. وقال ابن عباس: هو اسم لمن عدا الولد» «3» .
وقال ابن كثير ما ملخصه: وكان- رضى الله عنه- يقول: الكلالة من لا ولد له. وكان أبو بكر- رضى الله عنه- يقول: الكلالة ما عدا الولد والوالد.
ثم قال: وعن عمر أنه قال: إنى لأستحى أن أخالف أبا بكر. وهذا الذي قاله الصديق، هو الذي عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة في قديم الزمان وحديثه. وهو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن «4» .
وقد ذكرت كلمة الكلالة مرتين في هذه السورة.
أما المرة الأولى ففي قوله- تعالى- في آيات المواريث:
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 592
(2)
تفسير القرطبي ج 6 ص 29
(3)
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 437
(4)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 595
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ.
وقد بينا عند تفسيرنا لهذه الجملة الكريمة أن المراد بالإخوة والأخوات فيها: الإخوة لأم والأخوات لأم.
أما هنا فالأمر يختلف إذ المراد بالإخوة والأخوات في الآية التي معنا: الإخوة والأخوات الأشقاء أو من الأب فقط.
والمعنى: يسألك أصحابك يا محمد في كيفية ميراث الكلالة، قل الله يفتيكم في ذلك، فاسمعوا حكمه وأطيعوه ولا تخالفوه.
وقوله فِي الْكَلالَةِ متعلق بقوله يُفْتِيكُمْ.
وقد تولى- سبحانه- الإجابة مع أن المسئول هو النبي صلى الله عليه وسلم، للتنويه بشأن الحكم المسئول عنه، ولتأكيد أن المواريث من الأمور التي تكفل الله ببيانها وتوزيعها وحده، فلا يصح لأحد أن يخالف ما شرعه الحكيم الخبير في شأنها فهو- سبحانه- أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من آبائهم ومن أبنائهم، ومن كل مخلوق.
وقوله: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ كلام مستأنف مبين للاجابة عما سألوا عنه في شأن ميراث الكلالة.
والمختار الذي عليه المحققون من العلماء أن الولد هنا عام يتناول الذكر والأنثى، لأن الكلام في الكلالة وهو من ليس له ولد أصلا لا ذكر ولا أنثى وليس له والد- أيضا- إلا أنه اقتصر على ذكر الولد ثقة بظهور الأمر. ولأن الولد مشترك معنوي وقع نكرة في سياق النفي فيعم الابن والبنت.
وقيل: المراد بالولد هنا الذكر خاصة لأنه المتبادر من معنى اللفظ.
والمراد بالأخت هنا- كما سبق أن أشرنا- الأخت الشقيقة أو الأخت لأب.
والمعنى: يسألك أصحابك يا محمد عن توريث الكلالة فقل لهم: الله يفتيكم في ذلك، إذا مات إنسان ولم يترك أولادا لا من الذكور ولا من الإناث. ولم يترك كذلك والدا، وترك أختا شقيقة أو من أبيه، فلأخته في تلك الحالة نصف ما تركه هذا الميت بالفرض، والباقي للعصبة، أولها بالرد إن لم يترك عصبة.
وإذا ماتت الأخت قبل أخيها ولم يكن لها ولد- ذكرا كان أو أنثى-، ولم يكن لها كذلك والد، فإن الأخ في تلك الحالة يحرز جميع مالها.
وقوله: امْرُؤٌ مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده أى: إن هلك امرؤ وقوله: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ في محل رفع على أنه صفة لقوله امْرُؤٌ أى: هلك امرؤ غير ذي ولد ولا والد.
والفاء في قوله فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ واقعة في جواب الشرط.
وقوله وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ جملة مستأنفة. سدت مسد جواب الشرط في قوله:
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ.
قال الآلوسي: والآية كما أنها لم تدل على سقوط الإخوة بغير الولد، فإنها لم تدل على عدم سقوطهم به. وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب. إذ صح عنه- صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ.
وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة «1» .
ثم بين- سبحانه- صورتين أخريين من صور الكلالة فقال: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ. وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أى: فإن كانتا أى:
الوارثتان بالأخوة اثنتين أو أكثر، فلهما الثلثان مما ترك أخوهما المتوفى، وإن كان الورثة لهذا الأخ المتوفى إخوة من الرجال والنساء ففي هذه الحالة تقسم تركته بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
وبهذا نرى أن الآية الكريمة قد ذكرت صورا أربعا لميراث الإخوة والأخوات للميت الذي لم يترك ولدا ولا والدا. أى الميت الكلالة.
1-
أن يموت الميت وترثه أخت واحدة. ففي هذه الحالة يكون لها نصف تركته بالفرض والباقي للعصبة إن وجدوا، فإن لم يوجدوا فلها الباقي بالرد.
2-
أن يكون الأمر بالعكس بأن تموت امرأة ويرثها أخ واحد. فيكون له جميع تركتها.
3-
أن يكون الميت أخا أو أختا والوارث أختان فصاعدا، ففي هذه الحالة يكون لهما أو لهن الثلثان.
4-
أن يكون الميت أخا أو أختا، والورثة عدد من الإخوة والأخوات، ففي هذه الحالة تقسم التركة بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
هذا، وظاهر الآية يفيد أنه لا فرق بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأب في أنهم يشتركون في التركة إذا اجتمعوا ولكن هذا الظاهر غير مراد، فقد خصصت السنة هذا العموم، فقدمت الأشقاء على الإخوة لأب. فإذا ما اجتمع الصنفان حجب الإخوة الأشقاء الإخوة لأب.
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 45
وقد تكفلت كتب الفروع ببسط الكلام عن هذه الأحكام وأمثالها. هذا، وقوله- تعالى- يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل قصد به إظهار جانب من فضل الله- تعالى- على عباده، وتحذيرهم من مخالفة شرعه وأمره.
أى: يبين الله لكم هذه الأحكام المتعلقة بالمواريث كما يبين لكم غيرها خشية أن تضلوا طريق الحق في ذلك. بأن تعطوا من لا يستحق أو تهملوا من يستحق، والله- تعالى- عليم بكل شيء لا تخفى عليه خافية من أحوالكم، وسيحاسبكم على أعمالكم، فيجازى المتبع لشرعه بالثواب العظيم، ويجازى المخالف له بالعذاب الأليم.
والمفعول في قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا محذوف، والمصدر المنسبك من أن والفعل مفعول لأجله بتقدير مضاف محذوف أى: يبين الله لكم الحلال والحرام وجميع الأحكام خشية أن تضلوا.
ويجوز أن يكون المصدر هو مفعول قوله يُبَيِّنُ أى: يبين الله لكم ضلالكم لتجتنبوه، فإن الشر يعرف ليجتنب، والخير يعرف ليفعل.
ويرى بعضهم أن الكلام على تقدير (اللام ولا) في طرفي «أن» والمعنى: يبين الله لكم ذلك لئلا تضلوا.
ثم أما بعد: فهذا تفسير وسيط لسورة النساء.
تلك السورة التي نظمت المجتمع الإسلامى تنظيما دقيقا حكيما.
نظمته فيما يتعلق بأوضاعه الداخلية، ونظمته فيما يتعلق بأوضاعه الخارجية. أما فيما يتعلق بأوضاعه الداخلية، فقد رأينا فيما سبق، كيف ساقت الأحكام والآداب والتوجيهات التي تكون مجتمعا فاضلا، يعرف الفرد فيه واجبه نحو خالقه، وواجبه نحو نفسه، وواجبه نحو غيره.
مجتمعا تقوم الأسرة فيه على دعائم ثابتة من الأمان والاطمئنان، والمحبة والمودة والوئام.
مجتمعا رجاله يكرمون نساءه، ويعطفون عليهن، ويعاشرونهن بالمعروف. ونساؤه يحترمن رجاله، ويؤدين ما عليهن نحوهم من حقوق بأدب، وعفة، وإخلاص، ووفاء.
مجتمعا حكامه يحكمون بالعدل، ويراقبون الله في أقوالهم وأعمالهم. المحكومون فيه يطيعون حكامهم فيما يأمرونهم به من حق وخير.
مجتمعا يرى أفراده أن خيراته وأمواله. هي أمانة في أعناقهم جميعا، وأن ثمارها ومنافعها ستعود عليهم جميعا. لذا فهم يحرصون على استغلال ما يملكونه منها فيما يرضى الله، وفيما يعود
عليهم وعلى أمتهم بالخير والصلاح والاستغناء والفلاح.
وأما فيما يتعلق بأوضاعه الخارجية، فقد رأينا- أيضا- فيما سبق، كيف كشفت النقاب عن رذائل المنافقين. وعن العقائد الفاسدة التي يتشبث بها أهل الكتاب. وعن المسالك الخبيثة، والوسائل المتعددة التي اتبعها هؤلاء جميعا لكيد الدعوة الإسلامية والإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
كما رأينا كيف أنها قد حذرت المؤمنين من شرور أعدائهم، وبصرتهم بما يجب عليهم نحوهم. وبما يجعلهم دائما على أتم استعداد لمقاومتهم، ولتأديبهم ولرد كيدهم في نحورهم.
ولقد ساقت السورة الكريمة من الآيات التي ترغب في الجهاد في سبيل الله، ما يجعل المؤمنين يقبلون عليه بقلوب منشرحة، وبعزائم ثابتة، وبأرواح غايتها الشهادة في سبيل الله.
وباتباع المسلمين السابقين لهذا التوجيه الحكيم الذي اشتملت عليه هذه السورة الكريمة، نالوا ما نالوا من مجد وسؤدد، وظفروا بما ظفروا به من عزة وسعادة، وأصابوا ما أصابوا من خير وفلاح.
وأخيرا، فإنى أحمد الله- تعالى- حمدا كثيرا على توفيقه لي لخدمة كتابه، وأضرع إليه بإخلاص أن يعينني على إتمام ما بدأته من خدمة كتابه، إنه أعظم مسئول وأكرم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر