الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتنة كرديه. ونجده في بداية خلافة المهدي في فارس، لظاهر أنه أبلى أيضًا البلاء الحسن كما فعل ابنه يحيى في نفس الوقت، وذلك في حصار صَمَالو بأرض الروم، ولو أنه توفي بعيد ذلك سنة 165 هـ (781 - 782 م) في الخامسة والسبعين من عمره تقريبا.
المصادر:
(1)
Les Barmecides: L. Bouvat، ص 37 - 43.
(2)
الطبري: الفهرس.
(3)
الجهشيارى: كتاب الوزراء والكتاب: الفهرس.
(4)
المسعودي: مروج الذهب، ج 5، ص 444.
(5)
ابن الفقيه، ص 314.
(6)
ياقوت، ج 1، ص 244.
(7)
ابن خلكان، طبعة القاهرة، سنة 1948، ج 1، ص 295 - 296.
(8)
Arab-Sassa nian Coins: J. Walker لندن سنة 706، 1946.
3 - الوزارة وسقوط البرامكة
عندما اختار هارون الرشيد يحيى بنَ خالد وزيرًا كان له رصيد من الشهرة لا بأس به. وقد عاون يحيى أباه في ولايته على أقاليم مختلفة، ثم أقيم هو سنة 158 هـ (775) واليا على آذربيجان. وكان لا يزال في صف خالد في فارس عند بداية عهد المهدي، وأصبح سنة 161 هـ (778 م) كاتب سر الأمير هارون ومؤدبه حالًا محل أبان بن صدقة، وقد صحب هذا الأمير في حملة صمالو، ووكل إليه بصفة خاصة مؤونة الجيش. وبعد ذلك بقليل بويع لتلميذه بأن يلي الخلافة بعد ولى العهد وأقيم واليا على الأقاليم الغربية وعلى آذربيجان وأرمينية، فكان يحيى يدير هذا الجزء من الإمبراطورية الإِسلامية. وثبت يحيى في منصبه بعد وفاة المهدي، إلا إنه وجد نفسه محل عداوة الخليفة الجديد الهادي، إذ اتهمه هذا الخليفة بنصرة هارون عليه وتشجيع هارون على تعزيز حقوقه في ولاية الخلافة، وهو أمر قدر له أن ينتهى بسقوط الهادي في وقت جد قريب. على أنه حدث في الليلة نفسها
التي ألقى فيها يحيى في السجن ليلاقى حتفه كما أخبرنا، أن وجد الهادي ميتا، وثمة أقوال تذهب إلى أن الخيزران أم الخليفة التي كانت تؤيد هارون كانت لها صلة بموته.
ومهما يكن من شيء فإن هارون الرشيد قد بادر بمجرد بيعته إلى استدعاء يحيى وعهد إليه تدبير الأمور وفوضه تفويضا عاما في ممارسة السلطة. وتلقى هذا الكاتب المقتدر لقب الوزير، وأشرك من أول الأمر ابنيه الفضل وجعفرا في مباشرة الواجبات الإدارية والحكومية. وكثيرا ما كانا يتوليان الرئاسة معه، وكانا يلقبان أيضًا بلقب الوزارة فيما يظهر. وظل يحيى في منصبه سبعة عشر عاما، من سنة 170 هـ (786 م) إلى سنة 187 هـ (803 م)، وقد أشار بعض الكتاب إلى هذه الفترة بعبارة "سلطان آل برمك". واشتغل يحيى برد المظالم باسم الخليفة. كما كانت له سلطة اختيار كتابه الذين باشروا العمل وكلاء عنه، وكان يحيى من حيث العمل رأس الإدارة. بل إن وظيفة الخاتم التي أمسكت عنه في أول الأمر، سرعان ما وضعت تحت إشرافه. وكذلك تقول الروايات بأن الرشيد قد أسلمه خاتمه الخاص، دليلًا على السلطة الجديدة التي كان يباشرها الوزير. وهذا الخاتم الذي عهد به إلى جعفر قد عاد إلى يحيى من بعد، ولكنه نزل عنه عندما رحل للإقامة بمكة، ثم رد إلى جعفر بعد أن كان قد استرده يحيى بعد عودته من مكة.
ولم يقنع ابنا يحيى -الفضل وجعفر- بمجرد مؤازرة أبيهما في تولى السلطة وإنما باشرا أيضًا مسئوليات هامة. فقد كان للفضل، وهو أكبرهما فضلا عن كونه أخا هارون في الرضاع، شأن خطير في السنوات الأولى. ذلك أنه أقيم سنة 176 هـ (792 م) ، أو ربما قبل ذلك، على رأس الولايات الغربية لإيران، وأنفذه الخليفة لقتال يحيى بن عبد الله العلوى الذي كان قد افتتن. واستطاع أن يحمل يحيى هذا على الخضوع بالمفاوضة. وفي العام التالي أقيم الفضل واليا على خراسان فقام فيها بدور الموّفق والبناء، فقد هدّا من ثائرة إقليم كابل وجنّد هناك جيشا محليا أرسل بعضه، كما قيل، إلى بغداد. فلما عاد الفضل إلى
البلاط ترك نائبا عنه يلي أمر ولايته التي ظل محتفظا بها حتى عام 180 هـ (796 م). والظاهر أنه كان سنة 181 هـ (797 م) يلي أمر الحكم في غيبة أبيه. على أنه كان أول متفقد حظوة الخليفة، فقد أغضبه غضبا شديدًا فجرده هارون من جميع مناصبه إلا قيامه بتأديب الأمير محمَّد الأمين، وكان الرشيد قد أخذ البيعة على العهد إليه بالخلافة من بعده سنة 178 هـ (794 م).
أما جعفر-الذي أغرم الكتّاب بتأكيد فصاحته وتضلعه في الفقه- فقد وكلت إليه سنة 176 هـ (792 م) ولاية الأقاليم الغربية مع أنه ظل مقيما بالبلاط، ولم يتركه إلا سنة 180 هـ (796 م) لإخماد الفتن التي نشبت في الشام، ثم أقيم بعد ذلك واليا على خراسان إلى حين، وعهد إليه حرس الخليفة كما عهد إليه منصب صاحب البريد وصاحب السكة والطراز (والحق إن اسمه يظهر على السكك التي ضربت في الشرق منذ سنة 176 هـ = 792 م، ثم على السكك التي ضربت في الغرب بعد ذلك). وكان إلى ذلك مؤدبا للأمير عبد الله المأمون الذي عهد إليه بالخلافة بعد الأمين سنة 182 هـ (798 م). وكان فوق ذلك كله صفيّ الخليفة، إن لم يكن ساقيه كما يزعم كثيرا.
أما وقد كان تأديب وليى العهد اللذين رتب لهما أن يقتسما بالفعل الإمبراطورية الإِسلامية موكلا إلى ابني يحيى، فإن السلطة كانت خليقة أن تبقى في يد آل برمك أمدا طويلا، لو أن الرشيد سمح بذلك. على أن الخليفة عندما عاد من الحج الذي أداه مع حاشيته سنة 186 هـ (802 م) قرر فجأة أن يتخلص من سيطرتهم. ففي ليلة السبت غرة صفر سنة 187 (28 - 29 يناير سنة 803) أمر بجعفر فقتل، وقبض على الفضل وإخوته، ووضع يحيى تحت المراقبة واستصفيت أملاك جميع البرامكة فيما عدا محمَّد بن خالد. وترك جثمان الفضل معروضا للناس في بغداد سنة. أما الفضل ويحيى نفسه -الذي كان قد أبدى الرغبة في أن يشارك ولديه مصيرهما- فقد حملا إلى الرقة سجينين. وهناك توفي يحيى في المحرم سنة 190
(نوفمبر 805) عن سبعين عاما، وتوفى الفضل في المحرم سنة 193 (نوفمبر سنة 808 م) بالغا من العمر خمسة وأربعين عاما.
وهذه النكبة التي حلت بالبرامكة فاجأت معاصريهم فلم يستطيعوا أن يجدوا لها تفسيرا مقنعا، فابتدعوا أسبابا خرافية مثل قصة العبّاسة التي ظلت مدة طويلة تعلو على جميع الأسباب. وقد ظل الأصل في سقوطهم خفيًّا في بعضه على المؤرخين المحدثين، ولكن من العسير أن يقال إنه كان نتيجة لنزوة أصابت الخليفة فجأة. وحتى إذا كان هذا السقوط "قد دبر من قبل" كما قال بارتولد، فإنه يكون قد دبر قبل سقوطهم بوقت طويل، دبره خليفة فرض عليه أن يحتمل وصاية وزرائه في ضيق متزايد، خليفه اتهمهم في بعض الأوقات بالجرى على سياسة تناقض مصالحه هو.
ولم تكن وزارة البرامكة حقا هي عهد الوئام الكامل كما صورتها القصص بعد ذلك. إذ بالرغم مما قيل في هذا الموضوع فإن أسباب الخلاف كانت قائمة بين الخليفة ومؤدبه السابق الذي لم تكن يده قط مطلقة كل الإطلاق في الحكم. ذلك أنه لم يكن في السنوات الأولى مضطرًا، كما قال بارتولد من قبل، إلى الرجوع إلى الخيزران فحسب، وقد كانت تنصره دائمًا وهي بقيد الحياة، بل كان أيضًا مضطرا في كثير من الأحيان إلى الانصياع إلى رغبات الخليفة والالتجاء إلى تلك البراعة التي اشتهر بها كثيرا. بل إنه كان في بعض الأحيان لا ينجح في فرض آرائه. ثم إن الرجل الذي أقيم على خراسان خلفا للفضل سنة 180 هـ (796) قد ولى على غير ما نصح. وكان الفضل يجد نفسه في أحيان أخرى مضطرا لأن يتذرع بحجج يأخذ فيها بأوساط الأمور إلى حد كبير. ومن ثم نجده يسرع بالخروج من بغداد إلى الرقة سنة 183 هـ (799 م) ليصرف النظر عن غضب الخليفة على الفضل ولا يفلح في ذلك إلا على حساب إنكار مسلك ابنه. وقد حدث في وقت متقدم عن ذلك كثيرا أن كان للدسائس شأن في إضعاف مركزه، فقد كان الخليفة عند وفاة أمه متطلعا إلى إسباغ آيات الشرف على رجل حاشيته المصقول
الفضل بن الربيع، وكان قد بدأ منذ وقت طويل يهتم به، ثم أقامه زيادة على ذلك حاجبا سنة 179 هـ (795 م) مكان محمَّد بن خالد البرمكى. وكان لهذا الوجيه الجديد نفوذ متزايد في البلاد، وقد أدرك بعين بصيرته أوجه قصور خصومه وأثار حنق الرشيد عليهم.
وكذلك لم تكن صلات الخليفة بأبناء يحيى على وئام في جميع الأحوال، ذلك أن الخليفة لم يكن يحبذ السياسة المنحازة إلى العلويين التي كان يسير عليها الفضل الذي لم يكن فيما يبدو قد رزق المرونة المأثورة عن أبيه. وأقصى الفضل عن السلطة سنة 183 هـ (799 م) قبل أن تحل النكبة بالبرامكة فتدول دولتهم بأربع سنوات. وحتى جعفر -الذي كان ينعم فيما يظهر بثقة الخليفة التامة وبقى سلطانه عليه مدة أطول من سائر البرامكة- لم يأمن شكوك مولاه الجموح وقد عنّف مرة على إساءة استخدام سلطته.
وكان من المألوف جدًّا بطبيعة الحال أن يتعدل موقف الرشيد من البرامكة أثناء السبعة عشر عاما من سيادتهم، فقد قنع الخليفة عند ولايته الخلافة في سن الثالثة عشرة بأن يسير على نصيحة والدته ويعفى نفسه من بعض المسؤوليات بإيكالها ليحيى. على أن هذا الموقف الذليل بدأ يثقل عليه، واشتد ذلك عليه منذ زادت رغبته في فرض إرادته بمرور السنين، على حين راح البرامكة يملئون معظم مناصب الدولة الجليلة بأقاربهم ومواليهم ويعدون العدة لإقامة ما يشبه الوزارة الوراثية، فأصبحوا بذلك دولة داخل الدولة، وهم قد جمعوا في الوقت نفسه ثروة ضخمة أثارت طمع مولاهم وأصبح كرمهم الذي صار مضرب المثل يستلفت الأنظار باستمرار. وإذا كانت الأسباب المختلفة كافية لتبرير سقوطهم، فإن وحشية المعاملة التي حلت بجعفر كانت بلا شك جزاء للحب الذي أفاءه عليه الخليفة والذي كان من شأنه أن يؤجل الخاتمة المحتومة التي نزلت به. على أن التهم التي رمت البرامكة أيام سطوتهم بالزندقة في بعض الأحيان، ليس لها فيما يبدو نصيب في النكبة التي حلت بهم، بل إن هذه التهم لم يكن لها فيما يظهر أي أساس من الحقيقة. صحيح
أن هؤلاء الكتّاب الإيرانيى الأصل قد أظهروا اهتمامًا خاصًّا بالروائع الأدبية التي وفدت من إيران والهند، وكذلك بالمباديء المختلفة في الفلسفة والدين وأبدوا الميل إلى الاستماع إلى مناقشتها، ولكن هذه الأمور كانت من الأذواق التي فشت في المجتمع البغدادي لهذا العصر ولم تلازمها بالضرورة آراء متزندقة. زد على ذلك أن البرامكة قد هيأوا أنفسهم تماما للأخذ بما جرى عليه عرف البلاط العباسى الذي كانوا يعيشون فيه. لقد كانوا يقدرون كل التقدير الشعراء والكتاب العرب، وأبدوا -شأن كثير جدًّا من الموالى- حبا للظهور بمظهر الكرم مستلهمين التقاليد البدوية. ومع أنهم اتخذوا في كثير من الأحيان موقف التراضى حيال سكان الولايات أو نحو بعض الدول الخاضعة للدولة، إلا أنهم لم يحاولوا فيما يظهر أن يؤثروا المأمون -ابن المرأة الفارسية- على أخيه. وهم فيما يبدو قد خدموا أولًا الخلافة في كفاية وإخلاص مهدئين خواطر الناس في إيران الشرقية، ومخمدين للفتن التي نشبت في الشام بل في إفريقية، محققين إخضاع المنتقضين بما فيهم العلويون، موجهين أداة الحكم في نظام وأمان، كافلين للدولة موارد هامة، ناهضين بالمرافق العامة (مثل قناة القاطول وقناة سيحان)، رافعين للمظالم بالعدل والقسطاس على هدى ما حكمت به الشريعة، معززين القضاء بإنشاء منصب قاضي القضاة. ولا شك أنهم بتصرفهم وسلوكهم قد عجلوا بصبغ البلاد بالصبغة الإيرانية التي بدأت تتضح منذ قيام العصر العباسى، نافثين في الوزارة طابعا لم يَن عن أن يجذب أنظار المقلدين الذين جاءوا بعدهم، على إنه بالرغم من الامتيازات الجديدة التي منحت لهم وهيبتهم الخارقة فإن سلطانهم كان مسألة شخصية إلى حد كبير، شأنها شأن المأساة التي أودت بهذا السلطان، ولا يبدو لنا أنهم سعوا بحال إلى تغيير الوزارة على نسق ساسانى نظرى.
ولم يكن نشاط البرامكة مقصورا على السياسة والحكم فحسب، فهم قد حققوا أيضًا أمورًا هامة في ميدانى الثقافة والفن. ذلك أنهم بلا شك سلكوا مسلك الرعاة للشعراء، يوزعون العطايا