الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على مادة "بشار بن برد
"
بقيت جوانب من خصائص الحياة الأدبية عند بشار بن برد لم يتعرض لها الأستاذ بروكلمان.
وأظهر تلك الجوانب هو اهتمام بشار بالمحسنات البديعية، وهو لم يخلق فنون البديع خلقا: فقد كانت معروفة منذ العصر الجاهلى، ولها شواهد كثيرة في القرآن والحديث، ولكنه وجه إليها أنظار الشعراء والكتاب والخطباء، وقد كان بالفعل شاعرا وكاتبا وخطيبًا. وكان لذلك التوجيه تأثير شديد في تلوين الأذواق الأدبية عند شعراء العراق، فقد فتن مسلم بن الوليد بتلك الفنون فتنة شديدة شهدنا أثرها عند الطائيّ أبي تمام الذي حلف لا يصلى حتى يحفظ ديوان مسلم بن الوليد.
وكذلك يكون بشار مؤسس مدرسة البديع، ويكون مسلم وأبو تمام العمادين القويين لهذه المدرسة الأدبية.
وقد اختل بناء هذه المدرسة فيما بعد حين انتسب إليها من لا يفقهون شيئًا في هندسة الألفاظ والمعانى، ولكن يكفى أن يكون من تلاميذها بديع الزمان والحريرى اللذان أتيا بالأعاجيب في هندسة النثر الفني.
ولم تخل هذه المدرسة من فضل، حتى في أيام الانحطاط، فمن هذه المدرسة نشأ ناظمو البديعيات وشراح البديعيات، وهم قوم أبدعوا في نشر الثقافة الأدبية.
وهناك جانب آخر هو قدرة بشار على جعل الشعر مادة أساسية في الحياة اليومية. فقد استطاع أن يقدم إلى أهل عصره جميع ما يشتهون، فكانت أشعاره زاد اللاعبين واللاهين من الفتيان والفتيات، وكانت كذلك مسلاة للباكيات والنائحات، وساعده على ذلك افتقاره بسبب عاهته إلى الأنس بجميع الناس من عوام وخواص، ورجال ونساء، فدخلت إلى ذهنه صور كثيرة من حياة المجتمع، واستطاع أن يصور الأفراح والأتراح تصويرًا يمتزج بالنفوس والقلوب.
وقد راع معاصريه بهذه الألوان، فهم الذين أنكروا عليه أن يقول:
ربابة ربة البيت
…
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
…
وديك حسن الصوت
وقد أجاب بأن هذين البيتين قيلا في مدح امرأة عامية، وهما عندها أحسن من "قفا نبك" وهو جواب يدل على بصره بمقامات الكلام، فما يخاطب به العوام يختلف أشد الاختلاف عما يخاطب به الخواص.
وحيرة بشار بين المذاهب السياسية والدينية منحته القدرة على التصرف في تلوين الكلام بألوان مختلفات، فهو يمثل عصره أصدق تمثيل، وهو صورة للشاعر المرتاب الذي يصارع الأمواج، في خضم القرن الثاني حين التقى البحران: بحر البداوة وبحر الحضارة في محيط الحياة الإِسلامية.
وغرام الناس بمكايدته ومغايظته خلق منه داهية من الدواهى: فهو يواجه الناس بمخازيهم ومعايبهم بلا تحفظ ولا احتراس، وقد أمعن في ذلك وأسرف حتى انتهى إلى القتل.
وانغماس بشار في حمأة الحياة اليومية جعله من أقدر الناس على النكتة، فهو شبيه كل الشبه بظرفاء القاهرة في هذه الأيام، والدعابات الآتية تشرح مذهبه في ذلك:
مر برجل قد رمحته بغلته وهو يقول: الحمد لله شكرًا: فقال له بشار: استزده يزدك!
ومر به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون بها المشي فقال: ما لهم مسرعين؟ أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم!
ودخل يزيد بن منصور على المهدي وبشار ينشده قصيدة مدح، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد فقال: ما صناعتك يا شيخ؟ فقال: أثقب اللؤلؤ.
وهي كناية خبيثة لا يقدر عليها غيره في ذلك الموقف.
ورفع إليه غلامه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم فقال: والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم. والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم.
وعوتب على جمع الصلوات فقال: الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة.
ولبشار فكاهات كثيرة، وهي تشهد بأنه وصل إلى غاية عالية من دقة الحس وبراعة الذوق.
وكان بشار صلة بين القديم والجديد، القديم الذي يستمد قوته من الأخيلة البدوية، والجديد الذي يستمد قوته من الأخيلة الحضرية. ولكن أهل زمانه فيما يظهر لم يكونوا جميعًا راضين عما في أشعاره من طرافة الحديث، ومن هنا رأيناه يشكو وجوده في عصره.
والرواة الذين عاصروا بشارًا جعلوه آخر من يحتج بشعره، ويقوى هذا الشاهد إذا تذكرنا أنهم استثنوا بشارًا لينجوا من لسانه الخبيث.
والظاهر أن بلية بشار بفقد بصره جعلته شديد الشوق إلى مظاهر الحياة، فهو يلتمسها فيما يسمع وما يلمس. ومن أجل ذلك كان في تشبيبه ميالًا إلى الفتك، ولو حفظ شعره كله لكانت له منزلة بين كبار الماجنين.
ويظهر أن انحراف بشار صرف الناس عن تدوين شعره فضاعت منه ألوف القصائد، ويتضح ذلك إذا تذكرنا مصير المؤلفين والشعراء والكتاب الذين ضاعت مصايرهم في غمرة الفتنة الأثيمة فتنة الشعوبية.
وربما جاز أن يقال إن بشارًا لم يكن بفطرته خفيف الروح والذي يفقد خفة الروح يتناساه الناس عامدين.
وجملة القول في بشار أنّه استطاع بذكائه وإحساسه وجبروته أن يكون شخصية باقية في الأدب العربي، ولعل شهوده للانقلاب الهائل في الدولة العربية وانتقالها من عهد إلى عهد كان له فضل في تنبه قواه العقلية والذوقية، فما كان ذلك الانقلاب إلا رجة خطيرة مزعجة توقظ الغافيات من الأذواق والأحاسيس.
وأعظم الشعراء والكتاب والخطباء والمؤلفين هم الذين يشهدون عهود الانقلاب.
والشر قد يكون بابًا إلى الخير في كثير من الأحايين.
زكي مبارك
+ بشار بن بُرد؛ أبو معاذ: شاعر عربي عراقى مشهور، عاش في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي). وأسرته أصلًا من طخارستان أو شرقي إيران. وقد أسر جده، وأخذ إلى العراق أيام الحملة التي قام بها المهلّب أما أبوه، الذي أعتقته في آخر الأمر سيدة عربية من بني عقيل تقيم في البصرة، فكان طيانًا في تلك البلدة.
ولد بشار في البصرة، ولا يعرف تاريخ مولده على وجه التحقيق، ولعله كان حوالي عام 95 أو 96 هـ (714 - 715 م). وألحق نفسه ببنى عقيل وظل فترة طويلة من مواليهم، ولم يفته تمجيد ذكرياته عن إيران القديمة نظرا لميوله الشعوبية. وكانت هذه، ولا شك، وسيلة لا بأس بها لتحويل أنظار من نددوا به عن أصله الوضيع، الذي لم تستطع أن تخفيه القصة الخيالية التي ترددت عن نسبه الملكى (انظر ما ورد عن النسب الساذج الذي جعله كتاب الأغانى لبشار، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 135).
ويقال إن موهبة الشعر ظهرت على بشار وهو في العاشرة من عمره (انظر الأغانى، جـ 3، ص 143 و 144: عن رواية بصرية). وإذا لم يكن لبيئته البصرية الفضل في نمو هذه الموهبة، فإنها لا تستحق الذكر؛ ومحطة القوافل أو "المربّد" التي ظلت تحظى بهذه الأهمية حتى منتصف القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي؛ انظر Pellat: e Milien basrien ص 158 وما بعدها) كانت بالنسبة للفنان الشاب بمثابة مدرسة لا شك أنه قد استغرق في تراثها الشعرى الذي كان في عنفوانه في وسط الجزيرة العربية وشرقيها وقتذاك (انظر النادرة التي ذكرها كتاب الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 143 - 145، والتي تروى نبأ اللقاء الذي تم بين بشار وجرير التميميّ، وهو لا يزال بعد في أوج شهرته، ولا يمكن قبول رأى بروكلمان Brockelmann. قسم 1، ص 109 الذي يخط بينه وبين سميّ له يدعى جريرًا). وتجمع سيرة بشار بين آثاره في المدح والرثاء والهجاء. ومما يلفت النظر أن إصابته بالعمى منذ ولادته وقبحه الشديد لم يؤديا إلى،
الإعراض عنه فقد عرف كيف يؤثر في الناس ويجعلهم يخشونه بفضل مدائحه ونوادره الشعرية.
ويبدو لنا بشار من خلال الشذرات أو المقطوعات التي وصلتنا شاعرًا في بلاط عمال بني أمية من أمثال ابن هبيرة (الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 197 و 236) أو سلم بن قتيبة في وقت لا يتجاوز عام 132 هـ = 750 م، انظر المصدر السابق، ص 190) أو الأمير سليمان ابن الخليفة هشام (انظر الديوان، جـ 1، ص 291 - 303)، بل إن لدينا قصيدة نظمها في مدح مروان، آخر من تولى الحكم من بني أمية (انظر الديوان، جـ 1 ص 306 وما بعدها). والظاهر أن قيام العباسيين لم يحل دون ارتفاع مكانة الشاعر، وكان وقتذاك في السابعة والثلاثين من عمره. كان رجلًا شديد الفطنة فلم يتردد في أن يهيئ نفسه للظروف الجديدة. ومن الصعب أن نتتبع فعله هذا بالتفصيل، ولكن يقال إن قصيدة نظمها أصلًا في مدح إبراهيم بن عبد الله العلوى أنشدت آخر الأمر للخليفة العباسى المنصور (الأغانى، الطبعة الثالثة جـ 3، ص 213 في آخرها)؛ انظر العسكري: ديوان المعاني، جـ 1، ص 136 وإذا صحت هذه الواقعة فإنها تعد علامة مميزة.
وعاش بشار في بغداد منذ إنشائها عام 145 هـ (762؛ انظر المرزبانى: الموشح، ص 247 - 248). وكانت مدائحه من وقتها توجه إما إلى شخصيات بارزة في البصرة مثل سليمان العبسى (وكان عاملا عليها عام 142 هـ = 759 - 760) أو ابنه (وكان عاملا حوالي عام 176 هـ = 792 م؛ انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 165 - 7 و 207، Pellat، ص 166، 280) أو لشخصيات مثل عقبة ابن سَلْم (وكان عاملا عام 147 هـ = 764 م؛ انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 174 - 175، وانظر Pellat، الفهرس) أو ابنه نافع (وكان عاملا عام 151 هـ = 768 م؛ انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 230؛ وانظر Pellat، ص 281) وثمة نوادر عديدة تحملنا على القول بأن بشارًا كان يحظى
بالكثير من الرضا في عهد الخليفة المنصور، الذي اصطحبه فيما يرجح إلى مكة لأداء فريضة الحج (انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 153 و 159 و 188 و 212، 239 وبخاصة الديوان، جـ 1، ص 257 و 275 [قصيدة من 29 بيتا] جـ 2، ص 24)؛ وتوترت العلاقات أخيرا بين الخليفة والشاعر (انظر ما يلي). ونحن ندين لهذه الصلات الرسمية بالكثير من المعلومات الثمينة عن حياة الشاعر. ولكن ليس من شك في أنها لا تبلغ من الأهمية مبلغ صلات بشار بالنحاة في البصرة مثل أبي عمرو بن العلاء أو أبي عبيدة أو الأصمعيُّ أو برجال الدين في تلك البلدة مثل الحسن البصري المتوفى 131 هـ (748 م؛ انظر المصدر السابق، ص 170). ولا شك أن عباراته الساخرة التي تعرض فيها لهذين الرجلين السابقين تتفق مع ذوقة في مشاركة المنبوذين بسبب سلوكهم أو عقائدهم. وبين أيدينا "أدب" فيه من القصص الفكاهى أكثر مما فيه من روائع الكلم، يصور هذا المظهر من حياة بشار، ويحكى مغامراته وسقطاته التي يكاد يدنس فيها الحرمات (ومن هذا القبيل ما ورد في الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 185 - 86 وص 233، وإن قصائده التي هجا فيها حمّاد عجْرَد لتدل على مدى قوة هذه الأواصر أحيانًا (انظر المصدر السابق، جـ 3، ص 137 و 205، 223 في آخرها؛ الجاحظ: البيان، جـ 1، ص 30). وإن مزاج الشاعر الحاد، وطبعه، وفوق ذلك كله حساسيته من ناحية لعاهته وخلو وفاضه يفسر لنا إلى حد كبير تنديده اللاذع بخصومه أو أعدائه، ومع ذلك يجب ألا يفوتنا أن هناك أسبابا أخرى تفسر لنا ما تنطوى عليه هذه الخصومات على المستوى المثالى من ضغينة.
ومن هذه الأسباب الشعوبية (مثال ذلك ما ورد في الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 138 و 139، وبخاصة ص 174 - 175 فيما يتعلق بهجوه للشاعر البدوى عقبة بن رؤبة؛ انظر أيضًا المصدر السابق، ص 166، الفقرة الخاصة بهجوه لبدوي؛ وص 203 - 204 التي يلوم فيها أحد الأشراف
الشاعر لأنه أثار الموالى على سادتهم العرب). ثم إن موقف بشار من مذهب المعتزلة يعكس رأيه المتذبذب في عطاء ابن واصل المتوفى 131 هـ (748 - 749 م في البصرة)، إذ يهجوه بعد أن رأيناه يمتدحه من قبل (انظر الجاحظ: البيان، جـ 1، ص 16 أو ما بعدها؛ وانظر أيضًا الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 145 وما بعدها؛ وانظر قصائد الهجاء المقذعة التي تبادلها بشار وشاعر المعتزلة صفوان الأنصاري البصري، وفيما يختص بها انظر - Pel ، Milieu basrien: lat ص 175 - 177 مع ترجمة لأبيات صفوان).
أما آراء بشار الدينية فإنها لا تزال غير واضحة، ويبدو أنها قد تذبذبت، ثم إن بشارًا، كأى نهاز للفرص، قد أخفى رأيه الحقيقي. ولا شك أن التحفظات التي يبديها في الشعراء الذين يقدرهم مثل الكَميت أو السيد الحمْيَرى الذي عاش في البصرة من عامَ 147 هـ (764 م) إلى عام 157 هـ (773 - 774 م؛ انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 225، جـ 7، ص 237 بيد أن الحقائق غير مؤكدة) تصلح للدلالة على أنه لم يكن شيعيا (ولكن انظر Pellat، ص 178، الذي يرى أن بشارا جمع بين آراء الشيعة من الكاملية، وفي هذا الموضوع انظر المصدر نفسه، ص 201). يضاف إلى هذا أن اتهام بشار بالزندقة والنوادر التي تصورها أكثر مما تثبتها تشير إلى تشبثة بآراء غير متجانسة، والحق إن بين هذه الآراء عقائد مانوية تخالطها صبغة زرادشتية قوية (انظر الجاحظ: البيان، جـ 1، ص 16: ذكر البيت المشهور الذي جاء فيه أن الأرض في ظلام والنار تتألق وأن النار عبدت منذ وجودها (1)؛ انظر الإشارة إلى تأييد بشار لهذا في معارضة صفوان المعتزلى، المصدر السابق، جـ 1، ص 97، س 7؛ انظر أيضًا الفهرست، ص 338، س 10، الذي يسلك الشاعر بين الزنادقة المانويين في القرن الثاني الهجري الموافق الثامن الميلادي).
ولكن إلى جانب هذه الاعتقادات يبدو أن بشارًا كان دائما يطوى
(1) يشير الكاتب هنا إلى البيت الآتي لبشار:
الأرض مظلمة والنار مشرقة
…
والنار معبودة مذ كانت النار
جوانحه على تشكك عميق (انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 277، س 1 وما بعده؛ الديوان، جـ 2، ص 246) يمتزج بنظرة جبرية أدت به إلى التشاؤم والاعتقاد بمذهب اللذة (المصدر السابق ص 232، ورواية عن ابن قتيبة: عيون الأخبار، جـ 1، ص 40 في آخرها). واضطر بشار، مثل أقرانه، إلى أن يرجع إلى التقية وأن يقول بقول أهل السنة وأن يبدى غيرة الأتقياء مما يتعارض تعارضا تامًّا مع آرائه الحقيقية التي اقتنع بها (ومن هذا القبيل أبياته التي نظمها في هجاء ابن العوجاء الزنديق، الذي قتل في الكوفة: الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 147، وأخص من هذا كله البيت الذي ورد في الديوان، جـ 2، ص 36، س 3 فهو يدل على التزام صارم بالإِسلام السُّنى).
ولم يفلح حذره ذلك في إخفاء فضائح سلوكه ونوادره وزندقته. وأدت مؤامرة دبرت في البصرة إلى ضياع مكانته في نظر الخليفة المهدي (انظر أخبار نوادره في الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 243 وما بعدها)، إذ تجاوزت ذلك إلى أمور أعظم شأنًا، أي إلى اضطهاد كل من شملهم لقب زنديق في عهد هذا الخليفة (انظر المصدر السابق، ص 246 في آخرها وما بعدها، وبخاصة: Appunti Gabrieli، ص 158). وقبض على بشار وجلد، وألقى به في مستنقع في البطيحة (الطبري، طبعة القاهرة، حـ 6، ص 401؛ الأغانى، الطبعة الثالثة، حـ 3، ص 247 - 248)، حدث هذا عام 167 هـ أو 168 هـ (784 - 785 م) وكان الشاعر قد تجاوز السبعين من عمره وقتذاك (لا التسعين كما قيل بسبب خطأ في الرسم، انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، حـ 3، ص 247 و 249 ويورد الرقمين، ولا يظهر منهما إلا الثاني في كتاب الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، حـ 7، ص 118؛ ابن خلكان، حـ 1، ص 88).
واشتهر بشار في زمانه بأنه خطيب، وأنه يجيد كتابة الرسائل والنثر
(الجاحظ: البيان جـ 1، ص 49) ولكنه يدين بشهرته فوق كل شيء إلى مواهبه الشعرية. وكان إنتاجه من الشعر غزيرا متنوعا، ولكن مما يؤسف له أنه لم يصل إلينا في صورته الأصلية. ولما كان بشار كفيفا فإنه اعتمد على الرواة، الذين لا نعرف إلا أسماء أربعة منهم، وبخاصة خلف الأحمر (انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 137 و 164، وجـ 9، ص 189، 170، 112) بيد أن أحدا منهم لم يكبد نفسه عناء جمع ديوان شيخه. وسرعان ما ضاعت مقطوعات كانت تنشد من حين إلى حين وقصائد أنشدت على البديهة ونوادر شعرية، وفي الوقت نفسه نسبت إلى بشار قصائد يكتنف صحتها الشك إلى حد ما (انظر الشرح على الديوان، جـ 1، ص 309). ومن ثم لم تعرف آثار الشاعر، منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) إلا عن طريق مجموعات من أصحاب الدواوين أمثال هارون بن علي المتوفى عام 288 هـ - (900 - 901 م؛ انظر الفهرست، ص 144) أو أحمد بن أبي طاهر طيفور المتوفى عام 380 هـ (893 م) الذي جمع كتاب "اختيار شعر بشار"(انظر الفهرست، ص 147). ومن المعروف أن ابن النديم رجع، في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) إلى مجموعة من القصائد المختارة تشغل حوالي ألف صفحة (انظر الفهرست، ص 159 في آخرها). ومهما يكن من شيء فإنه يجب ألا يؤخذ في الإعتبار كتاب "الاختيار من شعر بشار" للأخوين الخالدين الموصليين فهو لم يذكر ضمن مصنفاتهما في كتاب ابن النديم (المصدر المذكور، ص 169) ، ونحن لا نعرف هذا المصنف إلا من مختارات زودنا بها التجيبى (القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، طبعة العلوى، عليكره سنة 1935). وثمة مخطوطة وحيدة من أصل شرقي (ترجع إلى القرن السادس الهجري - الثاني عشر الميلادى؟ )، تضم قصائد تنتهي بقواف من الألف إلى الياء، كانت الأساس الذي قامت عليه طبعة ابن عاشور (3 مجلدات، القاهرة سنة 1950 - 1957)، وهي طبعة بعيدة كل البعد عن أن تستأهل الثناء. ومن
هذا نرى أن آثار بشار لا يمكن أن تدرس إلا بحذر.
وينظم بشار قصائد ثلاثية متكلفة بأسلوب قوى، وعلى الرغم من أن قصائده قد تكون تقليدية في الشكل والمضمون فإنها تخالف القصائد التي نظمها الجيل السابق. وإن الصرامة التي تتسم بها نوادره الشعرية تضعه في مصاف الهجائين في عهد بني أمية (ومن هذا القبيل ما ورد في الديوان، جـ 2، ص 66، هجاء لحمّاد عجرد، وكذلك الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 188 و 202)، وهنا تجد أن ذوقه الجانح لزخرف الكلام أو سوق الجد في قالب الهزل يحمله على ابتداع أساليب جديدة (ومن هذا القبيل، قصيدته التي تحدث فيها بلسان حماره، الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 231 في آخرها). ولكن الراجح أنه حفر اسمه في ذاكرة الناس بمراثية. وكثيرا ما تجنح موضوعات قصائده الماجنة إلى أن تكون من قبيل شعر الغزل الذي يجب أن يعتبر تخليا عن تقليد تعد القصائد المنحولة المنسوبة إلى الأعشى ميمون نماذج مشكوكا فيها له، وتؤلف قصائده الغزلية جانبا هاما من هذا الإنتاج، وهي موجهة في الغالب إلى سيدة من البصرة تدعى عبْدة ولكنها موجهة أيضًا إلى بطلات أخريات لعل أسماءهن من وحى الخيال. وهذه القصائد تعبر حينا عن الواقع، (ومن هذا القبيل ما ورد في الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 155، 165، 182، 200 إلخ) وحينا تغلب عليها براعة ممزوجة بالكياسة والرقة، قد أن فيما يبدو إلى استجابتين مختلفتين للصراع الأبدى في أعماق النفس الشرقية. وهناك قصائد يطرح فيها آراءه وهي شائعة أيضًا؛ وعلى الرغم من أن بشارًا ليس في الواقع متعمقا فإنه يتحاشى التفاهة ويستطيع أن يبدى ملاحظات ذكية.
والتواؤم مع الظروف هو مفتاح أسلوب بشار، الذي يمكن أن يجمد على نمط بعينه ويصبح عتيقا في القصيدة (ومن هذا القبيل ما ورد في الديوان، جـ 1، ص 306 وما بعدها) ولكنه ينطلق ويصبح حرا يفيض بالبهجة في قصائد الغزل، وفيها يترخص الشاعر في استخدام اللغة بجرأة (ومن هذا القبيل ما ورد في
الديوان، جـ 2، ص 5، س 7؛ ص 10، س 3؛ ص 15، س 2). والحق أن التأثير الغالب على بشار كان دائما يعود إلى التقليد الذي ورثه من شعراء البادية، وهو، من كثير من الوجوه، قريب من "مدرسة" الحجاز كما نراها في شعر عمر بن أبي ربيعة. ولكنه نجح في أن يثرى هذا التقليد بما ينطوى عليه عالمه الداخلى من ثراء وبالتجربة القاسية التي نشأت من آفته الجثمانية واحتكاكه بعالم تسوده البلبلة والفتن.
وإن أهمية مكانة بشار في الفترة التي تحول فيها الشعر من مرحلة إلى أخرى في منتصف القرن الثاني الهجرى (الثامن الميلادي) لا يمكن المبالغة في تقديرها. وإن تأثير الرجل والفنان يؤكده ما أثاره من حماسة أو كراهية في قلوب معاصريه. وهو يعد على وجه الإجمال من مفاخر البصرة، بينما ينبعث رأى الخبراء من "الأحكام التقويمية" التي تنسب إلى أدباء من أمثال أبي عبيدة والأصمعى وخلف الأحمر وجمع من الآخرين (انظر الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، في مواضع مختلفة). ونحن نعرف من جهة أخرى حكم الجاحظ عليه (انظر البيان، الفهرس) وأخيرا فإن بشارًا كان له تأثير عميق في الجيل التالي من الشعراء، وهناك ما يثبت هذا الأثر في سير أبي العتاهية، والعباس بن الأحنف، وأبي نواس، وسلم الخاسر وكثير من الآخرين، وتؤكد هذه الحقيقة دراسة آثارهم. وقد أصبح في وسع النقاد الشرقيين أن يروا في بشار واحدا من أعظم الشعراء عند العرب.
المصادر:
(1)
ابن قتيبة: الشعر (طبعة ده غويه)، ص 476 - 479، والفهرس.
(2)
الجاحظ: البيان، طبعة هارون، ج 1، ص 49 والفهرس (24 إشارة إلى بشار).
(3)
الأغانى، الطبعة الثالثة، جـ 3، ص 135 - 249؛ جـ 4، ص 15 و 28 - 29، 33 - 34، 70 - 72؛ جـ 6 ص 227، 229، 237 والجداول.
(4)
الفهرست، ص 338.
(5)
الخطيب البغدادي: تأريخ بغداد، جـ 7، ص 112 - 118.
(6)
المرزبانى: الموشح، ص 246 - 250.
(7)
ابن خلكان، القاهرة سنة 1310 هـ، ج 1، ص 89 - 90، طبعة عبد الحميد (القاهرة)، جـ 1، ص 245، تعليق رقم 110.
(8)
بالنسبة للمصادر الثانوية عن السير انظر Brockelmann، رقم 1، ص 40.
(9)
بالنسبة لأساس الموضوع انظر Renaissance -A. Meg .
(10)
Les Zindiq
…
au debut de: G. Vadja la periode abbass. ، في RSO جـ 17 (سنة 1937)، ص 173 - 229.
(11)
Le milieu basrien et la: Ch. Pellat formation de Gahiz، باريس سنة 1953، ص 176 - 8 و 256 - 9 والفهرس.
(12)
دراسات خاصة عن هذا الشاعر قام بها La Poesie arab: Di Matteo e nel I secolo degli Abbasidi باليرمو سنة 1935، ص 9 - 124.
(13)
Appunti Su B.i.B: F. Gabrieli، في BSOS، جـ 9 (1937)، ص 51 - مقالات ورسائل باللغة العربية.
(14)
عباس محمود العقاد: مراجعات في الأدب، القاهرة سنة 1925، ص 119 - 158.
(15)
المغربي، في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق جـ 9 (سنة 1929)، ص 705 - 722.
(16)
طه حسين: حديث الأربعاء، جـ 1، ص 232 - 242.
(17)
حسين منصور: بشار بين الجد والمجون، القاهرة سنة 1930.
(18)
حنا نمر: بشار بن برد، حمص سنة 1933.
(19)
حمصى: بشار بن برد، في الرعد، دمشق سنة 1949، ص 47 - 76.
(20)
أحمد حسنين: بشار بن برد، شعره واخباره، القاهرة سنة 1925، ص 109.
(21)
النويهى: شخصية بشار، القاهرة سنة 1957، ص 280.
بالنسبة للنص وديوان بشار انظر المصادر الواردة في صلب المادة.
آدم [د. بلاشير R. Blachere]