الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المستنصرية الشهيرة ومراقد معروف الكرخى ومنصور الحلاج وجنيد والشيخ عبد القادر الكيلانى وأبي حنيفة النعمان بن ثابت والشيخ عمر السهروردى وغيرها.
ومن مبانى بغداد الفخمة الحالية قصر الزهور والمطار المدني والبلاط الملكى والمستشفى الملكى ودور الحكومة وقصور الوزراء والأمراء وبيوت المتمولين ومحطات البث اللاسلكى ودور السينما وبعض الفنادق الكبرى.
وبغداد فضلا عن كونها عاصمة العراق ومقر البرلمان فهي مركز لواء بغداد الذي تتبعه عدة أقضية، فالعراق يقسم الآن إلى (14) لواء، ولكل لواء أقضيته ولكل قضاء نواحيه. ورأس الإدارة في اللواء هو المتصرف، وكان هذا يعين بإرادة ملكية بناء على اقتراح وزير الداخلية ومصادقة مجلس الوزراء، أما رأس الإدارة في القضاء فهو القائمقام وكان هذا يعين بإرادة ملكية أيضًا بناء على ترشيح الوزير المختص. وأما رأس الإدارة في الناحية فهو المدير وهذا يعين من قبل وزارة الداخلية فقط.
السيد عبد الرزاق الحسيني
+ بغداد: تقع بغداد على ضفتى نهر دجلة على خط عرض 33 ْ 26 18 َ شمالا، وخط طول 44 ْ 23 9 َ شرقا. وقد ظلت هذه المدينة -منذ إنشائها في القرن الثامن الميلادي- مقرا للخلافة العباسية حتى سقوطها، والعاصمة الثقافية للعالم قرونًا؛ وأصبحت بعد عام 1258 هـ قصبة لولاية، وظلت تحت الحكم العثمانى حاضرة ولاية بغداد، ثم أصبحت عام 1921 م عاصمة العراق الحديثة.
التاريخ
بغداد من الأسماء الجاهلية، ولاسمها صلة بالمحلات السابقة في هذا الموضع. ولقد أدرك هذه الحقيقة كتاب العرب، فاخذوا يبحثون، كما هي العادة، عن أصوله الفارسية (انظر المقدسي: البدء جـ 4، ص 101؛ ابن رسته، ص 108). وتتضارب آراؤهم في تفسير هذا الاسم، وأشيع هذه الآراء أنه يعني "عطية الله" أو "هبة الله" (أو الوثن، انظر تاريخ الخطيب البغدادي: جـ 1، ص 58 - 59، طبعة القاهرة؛ ياقوت: ج 1، ص 678 - 679؛ أبو الفداء،
ج 1، ص 292؛ ابن الجوزي: المناقب، ص 6؛ البكرى، جـ 1 ص 169؛ ابن الفقيه، مخطوطة مشهد، ورقة رقم 29 ب). ويميل الكتّاب المحدثون بوجه عام إلى تفضيل هذا الاشتقاق الفارسى (انظر ، Introduction: Salmon ص 23 - 24؛ Baghdad: Le Strange، ص 10 - 11؛ Landschaft: Streck جـ 1، ص 49 - 50، Paikuli: Harzfeld، ص 153؛ W. By Nile and Tigris: Budge جـ 1، ص 178؛ JRIA، جـ 1 ـ، ص 46 - 94). ويميل آخرون إلى القول بأن الاسم من أصل آرامى ومعناه "بيت الأغنام أو حظيرتها"(ى. غنيمة، وأ. الكرملى في لغة العرب، جـ 4، ص 27؛ جـ 6، ص 748. لاحظ إشارة الطبري إلى سوق البقر في موضع بغداد، جـ 3، ص 277). ويفضل دلتش Delitzsch الرأى القائل بأن الاسم من أصل آرامى دون أن يفسر المعنى (Paradies: Delitzsch. ص 206، 238). وثمة وثيقة شرعية ترجع إلى عهد حمورابى (1800 ق. م) يرد فيها ذكر مدينة بكدادو (Schorr: Altbabylonische Rechtsurkunden تعليق رقم 197، س 17). وهذا يدل على أن الاسم كان يستعمل قبل حمورابى، وعلى وجه التحديد قبل أن يتعرض لأى تأثير فارسى محتمل. والحق إن كلمتى "بَك" و "حُو" كان يعبر عنهما بالرسم نفسه. ومهما يكن من شيء فإن هناك حجرا من معالم الحدود يرجع إلى عصر الملك الكَسى (1) نزيماروتاش (1341 - 1316 ق. م) يرد فيه ذكر مدينة بيلارى Pilari على ضفة "نهرشَرّى" في ناحية بكدادى (- De Mor Delegation en perse: gan، ج 1، ص 86 - 92) ، هذا بالإضافة إلى أن ذكر بكداثا هرارا عديدة في التلمود يجعل كلمة "بك" أرجح في القراءة (- Ober Landschaft Babylonien: meyer، سنة 1929، ص 147 وما بعدها، Jewish En- cyc، مادة Baghdad). وهناك حجر آخر من معالم الحدود يرجع إلى عهد الملك البابلى مردخ أبالدين (1208 - 1195 ق. م) يتردد فيه ذكر مدينة بغداد (Delegation en perse، جـ 3، ص 32 - 39).
(1) ينتمي إلى شعب غير سامى غزا بابل 1749 ق. م.
ولقد قام الملك أداد -نيرارى الثاني 911 - 891 ق م) بنهب محلات من بينها بكدا (دو) Synchronistic History 200 K BI = L 12 ، جـ 3.
وأصبحت بغداد في القرن الثامن ق. م محلة آرامية، ويذكر تكلات بلَصر - tiglatpilas ser الثالث (745 - 772 ق. م) بكدادو في معرض حديثه عن قبيلة آرامية (Paradies: Delitzsch، ص 238)
ومن الإنصاف، والحالة هذه، أن نسلم بأن اصول الاسم يكتنفها الغموض. ولا يغير من الموقف معرفة أن الإيرانيين استعملوا كلمة "بك" حوالي القرن الثامن ق. م للدلالة على "رب" وانها كانت تظهر في أسماء الأشخاص) Reallexiknn. جـ 1، ص 341).
وأطلق المنصور على مدينته اسم مدينة السلام تيمنًا بجنة الخلد (القرآن: سورة الأنعام، آية 127؛ سورة يونس، آية 25). وكان هذا هو الاسم الرسمى الذي يكتب في الوثائق والسكة والأوزان الخ. واستعملت من الاسم صيغ مختلفة وبخاصة بغدان وتسميات مثل مدينة أبي جعفر، ومدينة المنصور، ومدينة الخلفاء، والزوراء (ابن الفقيه، ورقة رقم 29 ب، ياقوت، جـ 1، ص 678؛ ابن رسته، ص 108). ويبدو أن الزوراء اسم قديم كما يقول الفخرى (الفخرى، ص 145، انظر المستوفى: نزهة القلوب، ص 41)، ومن شاء الاطلاع على التفسيرات المتأخرة فلينظر المسعودى (كتاب التنبيه والأشراف، طبعة القاهرة، ص 312 ياقوت، جـ 2، ص 954). ويروى المصنفون العرب أن المنصور شيد مدينته في موضع كانت تقوم فيه محلات جاهلية أهمها قرية بغداد (انظر الطبري، جـ 2، ص 277. جـ 1، ص 2067، ابن الجوزي: المناقب، ص 7، اليعقوبى: البلدان، ص 237)، على الضفة الغربية لنهر دجلة شمالي قناة الصراة (الطبري جـ 3، ص 277). ويرى البعض أنها قرية بادورَيا، ويشيرون إلى سوقها السنوية (الخطيب، جـ 1، ص 25 - 27، ابن الجوزي: المناقب، ص 6، اليعقوبى: البلدان، ص 275). وسوف يعيننا هذا على أن نفسر لم أصبحت الكرخ من بعد حيا للتجار، ولقد كانت هناك محلات قديمة، جلها آرامية، على
الجانب الغربي في جوار الكرخ، ومن بين هذه المحلات: الخَطابية (بجوار باب الشام) والشَرفانية، وشماليها الوردانية التي أصبحت في نطاق ربع الحربية، ومنها سونايا قرب ملتقى قناة الصراة بنهر دجلة (أصبح اسمها فيما بعد "العتيقة") وقَطفْتا عند الطرف الذي تصب فيه قناة رفَيل في نهر دجلة، وبراثا حيث تتفرع قناة كرخايا من قناة عيسى، وكانت تقوم ثلاثة محلات صغيرة بين قناة كرخايا وقناة الصراة وهي: سال، وورثالا (ربع القلاعين فيما بعد) وبَنَاوْرَى أما الكرخ نفسها وكلمة كرخا الآرامية معناها بلدة حصينة) فتتخذ اسمها من قرية أقدم منها تنسبها الروايات الفارسية إلى سابور الثاني (309 - 379 م، المستوفى، ص 40، وانظر الطبري، جـ 3، ص 278 - 279 الخطيب البغدادي، ص 27، 33، ابن الأثير حـ 2 ظظظ، ص 242، ص 343 ياقوت، جـ 3، ص 613، ابن الجوزي المناقب، ص 7).
ويقول إكسنيفون إن الإكمينيين كانوا يملكون بساتين فسيحة في ناحية بغداد (عند سِتاكَة Sittake) ويشير المصنفون العرب إلى بستانين منها (انظر الخطيب البغدادي، ص 28، المستوفى، ص 40) وكان قرب مصب نهر عيسى قصر بناه الساسانيون (قصر سابور)، وشيد المنصور فيما بعد قنطرة في موضعه، أما القنطرة العتيقة القائمة فوق قناة الصراة، جنوبي غرب باب الكوفة فقد بناها الساسانيون، وعلى الجانب الشرقي سوق الثلاثاء ومقبرة الخيزران، ويرجعان إلى العصر الجاهلى وكان في المنطقة نفسها أديرة شيدت في الجاهلية ملو دير مارفثيون (الدير العتيق) حيث شيد قصر الخلد، ودير بستان القسس، ودير الجاثليق الذي دفن بالقرب منه الشيخ معروف (الطبري، جـ 3، ص 274، 277، ابن الفقيه، ورقة رقم 36 - 37 أ: الخطيب البغدادي، ص 46 - 48 المسعودى، التنبيه والإشراف، ص 312. الذهبي: دول الإسلام، جـ 1، ص 76، المستوفى، ص 40).
ولم يكن لأى محلة من هذه المحلات القديمة شأن من الناحيتين السياسية أو التجارية، وعلى هذا الأساس يمكن أن
تعد مدينة المنصور منشأة جديدة، وما أكثر ما خلط الرحالة الأوربيون في القرون الوسطى بين بغداد وبابل، كما خلطوا في بعض الأحيان بينها وبين سلوقية، وترد في أخبارهم باسم بابل وبابلّونيا إلخ، والتسمية الأخيرة الخاطئة لبغداد شائعة كذلك في التفاسير التلمودية لشيوخ العشائر البابلية (في العصر العباسى)، وفي مصنفات اليهود المتأخرين، وكان يبتروده لا فالة الذي عاش في بغداد (1616 - 1617 م) أول من دحض هذا الخطأ الذي فشا في عهده، وكان الناس في الغرب حتى القرن السابع عشر يعرفون بصفة عامة اسم بغداد بالصيغة المحرّفة بلدخ - Bal dack (بَلْدَكو Baldcco) وربما كانت مشتقة من الصيغة الصينية للاسم (انظر Medieval Re-: neider Bretsch searches جـ 1، ص 138، جـ 2، ص 124، رحلات ماركوبولو Travels Morco Polo " طبعة فرامبتون Frampton، ص 29، 126).
وحول العباسيون أبصارهم إلى الشرق، وأخذوا يبحثون عن عاصمة جديدة ترمز لدولتهم، فانتقل السفاح أول خلفاء بنى العباس من الكوفة إلى الأنبار، وانتقل المنصور إلى الهاشمية بالقرب من الكوفة، بيد أنه سرعان ما أدرك أن الكوفة النزاعة للشغب والمتعصبة للعلويين لها أثر سيئ على جيشه، وفي الوقت نفسه كان من السهل اقتحام الهاشمية كما ثبت من فتنة الراوندية (انظر ياقوت، جـ 1، ص 680 - 681، الطبري، جـ 3، ص 271 - 272، الفخرى، طبعة القاهرة، ص 143)، ومن ثم أخذ يبحث عن موقع استراتيجى.
ووقع اختياره على موقع بغداد بعد استقصاء دقيق، لاعتبارات عسكرية واقتصادية ومناخية، فهو يقوم في سهل خصب صالح للزراعة على ضفتى النهر كلتيهما، وعلى طريق خراسان، وعند ملتقى عدة طرق للقوافل، وفيه تقام أسواق شهرية، مما يوفر المبرة للجيش والناس. وكانت هناك شبكة من القنوات تفيد منها الزراعة، ويمكن أن تكون بمثابة تحصينات للمدينة، وهذا الموضع في وسط بلاد الجزيرة، وينعم بجو صحى معتدل، وهو خال من
البعوض إلى حد لا بأس به (اليعقوبى، ص 235 - 238، الطبري، جـ 3، ص 271 - 275، ياقوت، جـ 1، ص 679 - 280، المناقب، ص 7 - 8، المقدسي، أحسن التقاسيم، ص 119 - 120، ابن الأثير، جـ 5، ص 426 - 7، ابن الجوزي، ص 7، اليعقوبى، جـ 2، ص 449، الفخرى، ص 143 - 145)، وثمة قصص موضوعة عن فضائلها، وكيف أن القدر اختار المنصور لبنائها، ووجدت هذه القصص رواجا فيما بعد (انظر اليعقوبى، البلدان، ص 237. الفخرى، ص 144 الطبري، طبعة القاهرة، جـ 6، ص 234 - 235، ابن الجوزي: المناقب، ص 7 - 8).
وقدر لبغداد أن ترث بابل وسلوقية وطيسفون وأن تخملها جميعًا.
ويصف اليعقوبى (278 هـ = 891 م) وابن الفقيه (290 هـ = 903 م) بغداد في عصر متقدم وصفًا تفصيليًا، بينما يصف سهراب (حوالي عام 900 م) شبكة القنوات في المنطقة، وتبدو المدينة بتحصيناتها وتخطيطها الداخلى كأنها حصن كبير، فقد كان هناك أولًا خندق عميق، عرضه 40 ذراعًا (= 20.27 مترًا)، يحيط بالمدينة، ثم رصيف من الآجر، ثم السور الأول، وارتفاعه 18 ذراعًا (9 أمتار) عند القاعدة، يليه رحبة عرضها 56.9 مترًا (= 100 ذراع، وفيما يختص بالمقاييس انظر كتاب الخراج للريس) تركت خالية لأغراض الدفاع، ويليها السور الرئيسى من الآجر وارتفاعه 31.14 مترًا وسمكه عند قاعدته 50.2 مترًا وعند القمة 14.22 مترًا، وبه أبراج عظيمة يبلغ عددها 28 برجا بين كل بابين ما عدا الأبراج الواقعة بين بابى الكوفة والبصرة ففيها 29 برجا، وبنيت، على كل باب، قبة تطل على المدينة، تحتها مساكن للحراس، ثم تليها رحبة عرضها 170.70 مترا شيدت فيها بيوت، ولم يكن يسمح فيها بالبناء إلا للقواد والموالى المخلصين، ومع ذلك فقد كان لكل طريق بابان وثيقان يمكن إغلاقهما، وكان يلي ذلك سور ثالث بسيط يحيط بالرحبة الداخلية الفسيحة، حيث لم يشيد فيها سوى قصر الخليفة (باب الذهب)، والمسجد الجامع، والدواوين، ودور لأولاد الخليفة،
وسقبفتين، إحداهما لصاحب الحرس والأخرى لصاحب الشرطة، وقسمت المدينة إلى أربع مناطق متساوية، يقسمها طريقان يبدآن من أبوابها المتساوية الأبعاد، وذلك لضمان الإشراف على المدينة وتيسير حركة المواصلات في الداخل، ومع طرق القوافل في الخارج، وكان باب خراسان (ويسمى أيضًا باب الدولة) جهة الشمال الشرقي، وباب البصرة جهة الجنوب الغربي، وباب الشام جهة الشمال الغربي، وباب الكوفة جهة الجنوب الشرقي، وكان على من يريد أن يصل إلى الدائرة الداخلية أن يعبر خندقا وأن يمر بخمسة أبواب، اثنان منها في السور الخارجى، وبابان ضخمان في السور الكبير وباب في السور الداخلى (انظر اليعقوبى: البلدان، ج 1، ص 238 - 242، الطبري، جـ 3، ص 322 - 323 ابن الجوزي: المناقب، ص 9 - 10؛ الخطيب البغدادي، ص 9 - 12 ابن الأثير، جـ 5، ص 427 - 428، ص 439، اليعقوبى، جـ 2 ص 449 ابن الفقيه، مخطوطة، ورقة رقم 133).
وروعيت في التخطيط أيضًا التقاليد الإمبراطورية القديمة، يؤيد ذلك وجود حجاب بين الخليفة وبين شعبه، والتخطيط الفخم للقصر والمسجد لإظهار عظمة الدولة الجديدة، وتوزيع الناس على ربوع منفصلة يمكن إغلاقها وحراستها بالليل.
ووزع المنصور على بعض مواليه وقواده المخلصين قطائع بجوار الأبواب خارج المدينة، ومنح جنوده الأرباض لكى يبنوا عليها دور، لهم، ووهب لبعض آل بيته أطراف المدينة (اليعقوبى، جـ 2، ص 449. 450، انظر ابن حوقل، ج 1، ص 240).
وكانت القبة الخضراء تحفة تفخر بها المدينة المدورة، وارتفاعها 48.36 مترًا، وكانت تنهض شامخة فوق القصر، وعلى قمتها تمثال على شكل فارس يمتطى صهوة جواده. وقد خرت هاوية عام 329 هـ (941 م) في ليلة عاصفة، وربما نزلت عليها صاعقة (الصولى: الراضى، ص 229، ابن الجوزي: المنتظم، جـ 6، ص 317 - 318، المناقب، ص 11؛ أبو المحاسن، جـ 3،
ص 270، الخطيب، ص 11)، ومهما يكن من شيء فإن أسوارها ظلت قائمة فترة أطول، ثم تهدمت آخر الأمر عام 653 هـ (1255 م؛ ابن الفوطى، ص 303؛ سبط ابن الجوزي؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 67). واستخدم في بناء باب الذهب الرخام والحجر وموه بابه بالذهب، وظل المقر الرسمى زهاء نصف قرن، ومع أن الرشيد انصرف عنه فإن الأمين اضاف إليه جناحا جديدا، وأنشأ حوله "ميدانا" وتعرض للكثير من الدمار إبان حصار بغداد عام 198 هـ (814 م)، ثم بطل استعماله مقرًا رسميًّا وأهمل (انظر ابن القوطى، ص 303).
وشيد جامع المنصور بعد القصر ولهذا انحرف قليلًا عن القبلة (انظر الطبري، طبعة القاهرة، جـ 6، ص 265، ابن الأثير، جـ 5، ص 439)، وهدمه الرشيد عام 191 هـ (807 م) وأعاد بناءه بالآجر، ووسع عام 260 - 261 هـ. (875 م) وزيدت مساحته أخيرًا عام 280 هـ (893 م)، وأضاف المعتضد إليه صحنا آخر وجدد منه أجزاء (المنتظم، جـ 5، ص 21، 143)، وكان للمسجد مئذنة (الخطيب، جـ 5، ص 125) احترقت عام 303 هـ (915 م، المنتظم، جـ 6، ص 130)، ثم أعيد بناؤها انظر ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 284)، وقد ظل المسجد الجامع في بغداد في عهد الخلافة، وغمره الفيضان عام 653 هـ (1255 م)، وقدر له أن يبقى بعد هذا الفيضان وغزوة المغول.
ويعكس تخطيط بغداد أفكارا اجتماعية، فقد كان لكل ربع شخص مسؤول، وكانت تقيم به بصفة عامة جماعة متجانسة، من الناحية العنصرية (فرس، وعرب، وخوارزمية)، أو من الناحية المهنية، وكان للجنود منازل خارج الأسوار، تقوم بصفة عامة شمالي المدينة وغربيها، بينما كان التجار والصناع يتركزون جنوبي قناة الصراة في الكرخ (انظر ابن الفقيه، مخطوطة، ورقة رقم 37 ب، 33 ب، 29 ب).
وللأسواق شأن كبير في تخطيط بغداد، ولقد كانت تقوم في مبدأ الأمر طاقات في كل طريق من الطرق الأربعة
من السور الكبير إلى السور الداخلى، وفيها أقيمت حوانيت، ومن ثم قامت أربعة أسواق (انظر الطبري، جـ 3، (ص 322). يضاف إلى هذا أن الخليفة أمر بأن يكون لكل منطقة من المناطق الأربع خارج السور رحبة تسمح بإقامة الأسواق فيها بحيث يكون في كل منطقة سوق كبيرة (اليعقوبى: البلدان، ص 242). ودفعت اعتبارات الأمن المنصور إلى أن يأمر بإزالة الأسواق من المدينة المدورة عام 157 هـ (773 م) ونقلها إلى الكرخ، فقد أراد أن يبعد العامة من المشاغبين عن المدينة وأن يتأكد من أن أبواب الأحياء لا تترك مفتوحة خدمة للأسواق بالليل، كما أمر باتخاذ الحيطة حيال آية جواسيس يمكن أن يتسربوا إلى المدينة. ورسم خطة لبناء الأسواق بين قناة الصراة وقناة عيسى (الطبري جـ 3، ص 324 - 325، ابن الجوزي، المناقب، ص 13 - 14، ياقوت، جـ 4، ص 254).
وكان لكل حرفة أو تجارة سوقها المنفصلة أو دربها، وكانت بين أسواق الكرخ سوق للفاكهة وسوق للقماش، وسوق للطعام، وسوق للصيارفة، وسوق للوراقين، وسوق للأغنام (اليعقوبى: البلدان، ص 241، 245، 246، 253، الإصطخري، ص 241، ابن حوقل، ص 242، الخطيب، ص 22، 31، 67، ابن الجوزي: المناقب، ص 26 - 28). ومع نمو المدينة نسمع عن تجار أتوا من خراسان وما وراء النهر ومرو وبلْخ وبُخارى وخوارزم، وكانت أسواقهم في حي الحربية، ولكل جماعة من هؤلاء التجار نقيب وشيخ (اليعقوبى: البلدان، ص 246 - 248)، ويبدو أنه كان لكل حرفة شيخ تختاره الدولة (انظر الدورى: تاريخ العراق الاقتصادى، ص 81).
وثمة رواية تذهب إلى أن المنصور أراد أن يهدم جانبا من القصر الأبيض في طيسفون لاستخدام الآجر في مبانيه، ولكنه كف عن ذلك لأن النفقات لا تبرر القيام به. وهناك خبر آخر ينسب إلى المنصور أنه صاحب فكرة ترميم ذلك القصر، بيد أنه يقول إن الوقت لم يتسع أمامه لإنجازه، وكلتا الروايتين من آثار مناظرات الشعوبية، فقد شيدت المدينة خاصة بالآجر.
ويقول اليعقوبى إن الخطة وضعت عام 141 هـ (755 م)، اليعقوبى: البلدان، ص 238) بيد أن العمل لم يبدأ إلا في غرة جمادى عام 145 هـ (2 أغسطس عام 762 م) خبر الخوارزمى الوارد في كتاب الخطيب البغدادي، ص 2، انظر Wiet، واليعقوبى، ص 11، تعليق رقم 4)، واشترك في وضع خطة المدينة أربعة من المهندسين المعماريين، وكان حجاج بن أرطاة المهندس المعمارى للمسجد (الطبري، طبعة القاهرة، جـ 6، ص 265، 237، اليعقوبى، ص 241).
وحشد المنصور 100.000 عامل وصانع للعمل في إنشائها (اليعقوبى، ص 238، الطبري، جـ 3، ص 277). وشقت قناة من نهر كرخايا إلى الموقع لتزويد الناس بالماء للشرب ولأغراض البناء (اليعقوبى، ص 238)، ويبدو أن القصر والمسجد والدواوين على الأقل قد تم بناؤها عام 146 هـ (763 م). وأن المنصور انتقل إلى بغداد (الطبري، جـ 3، ص 313، الخطيب البغدادي، ص 2). وما إن حل عام 149 هـ (766) حتى اكتمل بناء المدينة المدورة (الطبري، جـ 3، ص 353، الخطيب، ص 2 - 3).
والمدينة المدورة التي شيدها المنصور نموذج فريد في تخطيط المدن، فقد كانت مدورة، قلبها على أبعاد متساوية من المناطق المختلفة ومن اليسير التحكم فيها أو الدفاع عنها، ويعد هذا التخطيط في نظر الروايات العربية فريدًا في بابه (اليعقوبى، ص 238، ابن الفقيه، ورقة رقم 33 ب، الخطيب البغدادي، ص 67، الذهبي: دول الإسلام، جـ 1، ص 76). ومهما يكن من شيء فإن الخطة المدورة ليست من الخطط غير المألوفة في الشرق الأدنى، فتخطيط أرُك يكاد يكون مدورًا) (Altertumskunde: V. Christian جـ 2، جدول رقم 13). والمعسكرات الحربية الآشورية أحيار مدورة يحيط بها سياج، ويحصى كرزويل Creswell إحدى عشرة مدينة كانت بيضاوية الشكل أو مدورّة، من بينها حران أكبتانا وهتره، ودار بجرد، وهناك شبه عجيب بين داربجرد ومدينة المنصور في تخطيطهما (Early Muslim: Creswell Arch الموجز، ص 171 - 173، Meissner
Babylonien and Assyrien جـ 1، جدول رقم 161).
من المحتمل أن المهندسين المعماريين للمدينة المدوّرة كانوا يعرفون مثل هذه الخطط، ويشير ابن الفقيه إلى أن اختيار التخطيط انحصر بين المربع والدائرة وأن الأخيرة أقرب إلى الكمال (البلدان، مخطوطه، ورقة رقم 33 ب)، ومهما يكن من شيء فإن فكرة الحصن المدور هي التي أدت، على الأرجح، إلى هذا التخطيط، ويقول الطبري:"وجعل (المنصور) أبوابها أربعة، على تدبير العساكر في الحروب"(الطبري، طبعة القاهرة، جـ 6، ص 265).
وهناك أخبار متضاربة عن أبعاد مدينة المنصور، فيذهب خبر إلى أن المسافة بين باب خراسان وباب الكوفة 800 ذراع (= 405.12 مترًا) ومن باب الشام إلى باب البصرة 600 ذراع (303.12 مترًا، الخطيب البغدادي، ص 9 - 11، ابن الفقيه، مخطوطه، ورقة رقم 33 ب). وفي خبر آخر عن وكيع أن المسافة بين كل بابين 1200 ذراع (608.28 مترًا، الخطيب، ص 11). والحق إن كلا الخبرين يقدر حجم المدينة تقديرًا أقل من الواقع، وفي خبر ثالث أورده رباح، أحد من شيدوا المدينة، أن المسافة بين كل بابين ميل واحد أو 4000 ذراع مرسلة أو 1848 مترًا: د الريس، ص 278، الخطيب البغدادي، ص 8، وقد أورد ابن الجوزي هذا التقدير في كتابه: المناقب، ص 9، ياقوت، جـ 1، ص 235، أبو المحاسن، جـ 1، ص 341، الإربلّى: التبر، ص 54). ويؤكد هذا التقديرَ القياس الذي نفذ تلبية لأوامر المعتضد وورد في خبر لبدر المعتضدى (الخطيب البغدادي، ص 5، أبو المحاسن، جـ 1، ص 341) ، وطبقا لهذا القياس يكون قطر المدينة 2352 مترًا، أما اليعقوبى فإنه يقدر المسافة بين كل بابين خارج الخندق بمقدار 5000 ذراع أسود (أو 2534.5 مترًا)، وهذا التقدير هو الأرجح في ضوء هذه المعلومات (البلدان، ص 238 - 239).
وتضاربت الأخبار عن نفقة المنصور على بناء المدينة، فخبر يقدر النفقات بمبلغ ثمانية عشر ألف ألف، والمفهوم
أنها من الدنانير (الخطيب البغدادي، ص 5، ابن الجوزي: المناقب، ص 34، ياقوت، جـ 1، ص 863، الأربلى: التبر، ص 543). وفي خبر ثان أنها مائة ألف ألف درهم أبو المحاسن، جـ 1، ص 341). ومهما يكن من شيء فإن البيان الرسمى الذي يستند إلى وثائق الخلافة يقرر أن المنصور أنفق على المدينة المدورة أربعة آلاف ألف درهم وثمانمائة وثلاثة وثمانين درهما (الطبري، جـ 3، ص 326، المقدسي، أحسن التقاسيم، ص 121، الخطيب البغدادي، ص 5 - 6، انظر أيضًا ابن الأثير، جـ 5، ص 419، ابن الجوزي: المناقب، ص 34)، وفي وسعنا أن نصل إلى هذا التقدير إذا أخذنا في الحسبان انخفاض أجر العمل وأثمان الميرة ودقة المنصور في الإشراف على حساباته.
وفي عام 157 هـ (773 م) شيد المنصور قصرًا على نهر دجلة أسفل باب خراسان، تحيط به بساتين فسيحة، وأطلق عليه اسم قصر الخلد، وكان الموضع الذي أقيم به خاليا من البعوض مشهورًا بطيب هوائه، ولقد أطلق عليه هذا الاسم تيمنا بجنة الخلد (الطبري، جـ 3، ص 379، الخطيب، ص 14، ياقوت، جـ 2، ص 783، ابن الجوزي: المناقب، ص 12، ابن الأثير، جـ 6، ص 72، ابن الفقيه، ورقة رقم 37 ب).
ولم تلبث الاعتبارات الاستراتيجية والسياسية التي انتهجها المنصور بتقسيم الجيش، والافتقار إلى الأرض الفضاء أن حملت الخليفة على إقامة معسكر لولى عهده المهدي على الضفة الشرقية لنهر دجلة. وكان معسكر المهدي - وقد أطلق عليه فيما بعد الرصافة تيمنا باسم قصر بناه الرشيد- حيث شيد القصر والمسجد، بمثابة النواة تحيط بها بيوت القواد والأتباع، وسرعان ما وجد الجانب التجارى مجالا له في أسواق باب الطاق، أما الجانب العسكرى فيبدو بوضوح في قيام سور وخندق يحيطان بمعسكر المهدي، وقد بدأ العمل فيه عام 151 هـ) وانتهى عام 157 هـ (773)، وكانت الرصافة في موضع يكاد يكون مقابلا لمدينة
المنصور (اليعقوبى: البلدان ص 251 - 253 الإصطخري، ص 83 - 84، الخطيب البغدادي، ص 23 - 5، ابن الجوزي: المناقب، ص 12 - 13، المقدسي، ص 121، أبو المحاسن، جـ 2، ص 16، ياقوت، جـ 2، ص 78).
واتسعت رقعة بغداد بسرعة فزادت مبانيها ونشطت فيها الحركة التجارية وازدادت ثروة وسكانًا، وتكالب الناس على السكنى في شرقي بغداد، فقد اجتذبتهم هبات المهدي ثم عطايا البرامكة الذين كان لهم حي خاص عند باب الشماسية (اليعقوبى: البلدان، ص 251، الأغانى، طبعة بولاق، جـ 6، ص 78، جـ 5، ص 8، ابن خلكان طبعة بولاق، جـ 2، ص 311)، وشيد يحيى البرمكى قصرًا فخمًا وأطلق عليه الاسم المتواضع قصر الطين (الأغانى، جـ 5، ص 8). وشيد جعفر قصرًا عظيمًا فاخرًا أسفل شرقي بغداد، أصبح فيما بعد من نصيب المأمون، وامتدت رقعة الجانب الشرقي في عهد الرشيد من باب الشماسية (المواجه لباب قطربل) إلى المخرم (وحدها الجنوبي قنطرة المأمون الحديثة، اليعقوبى: البلدان، ص 253 - 254)، ومن جهة أخرى فإن الأمين عاد من قصر الخلد، حيث كان يقيم الرشيد، إلى قصر باب الذهب، وجدده وأضاف إليه جناحًا، وأحاطه بمربع (انظر الجهشيارى، طبعة القاهرة، سنة 1938، ص 193، ابن الأثير، جـ 11، ص 152). وشيدت الملكة زبيدة مسجدًا على نهر دجلة (نسب إليها) قرب القصور الملكية ومسجدًا رائعا آخر في قطيعتها شمالي المدينة (ياقوت، جـ 4، ص 11 ابن خلكان، ص 188، المستطرف، طبعة بولاق، جـ 1، ص 289) وشيدت أيضًا قصرًا أطلقت عليه اسم القرار قرب قصر الخلد (انظر الخطيب، جـ 1 ص 87).
وامتدت رقعة الجانب الغربي بين باب قَطْرَبُّل في الشمال وحى الكرخ، الذي اتسعت رقعته بدوره حتى وصل إلى قناة عيسى الكبرى (وتصب هذه القناة في نهر دجلة عند تلول خَشْم الدورة)؛ ووصلت جهة الغرب إلى المُحَوَّل تقريبًا (المشرق، سنة 1934، ص 89؛ انظر القصيدة التي في كتاب
ياقوت، جـ 1، ص 686؛ المسعودى، جـ 6، ص 454؛ الطبري، جـ 3، ص 874، 876). ويتغنى الشعراء بجمال بغداد، ويصفونها بأنها "جنة الله في أرضه". وقد اشتهرت ببساتينها الرائعة وريفها النضير، وقصورها الفخمة الشامخة المزينة بزخارف فاخرة على الأبواب وفي القاعات، ورياشها البديعة الثمينة (انظر الطبري، جـ 3، ص 873، 874؛ القال: الأمالى، جـ 2، ص 237؛ ياقوت، جـ 1، ص 686).
وتلقت بغداد ضربة قاسية إبان النزاع الذي اشتجر بين الأمين والمأمون. ووصلت الحرب إلى المدينة عندما ضرب عليها حصار دام أربعة عشر شهرًا. (المسعودى، جـ 6، ص 456). وأحنق صمود المدافعين طاهرًا فأمر بهدم دورهم، ودمرت أحياء كثيرة "ما بين دجلة ودار الرقيق (شمالي باب خراسان)، وباب الشام وباب الكوفة إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حُمَيد ونهر كرخايا والكُناسة"(الطبري جـ 3، ص 887). وشملها الخراب على يد الغوغاء والخارجين على القانون والعيارين. وتعرض للتدمير الشديد قصر الخلد وقصور أخرى، وهي الكرخ وبعض الربوع الواقعة على الجانب الشرقي. ويعبر عن ذلك الطبري والمسعودى فيقولان:"وكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد"(انظر الطبري، جـ 3، ص. 925 - 496؛ المسعودى جـ 6، ص 454 - 459؛ ابن الأثير، جـ 6 ص 188 وما بعدها). وظلت الفوضى والقلاقل تضرب أطنابها في بغداد إلى أن عاد المأمون من مرور عام 204 هـ (819 م). وأقام المأمون في قصره ووسع رقعته حتى لقد أضاف إليه حلبة للسباق وحيرًا للوحوش (حديقة للحيوان) وأحياء لمواليه المخلصين (ياقوت، جـ 1، ص 807). ثم وهب هذا القصر للحسن ابن سهل - ليصبح اسمه الحسنى - الذي أوصى به لابنته نوران. وانتعشت بغداد من جديد في عهد المأمون. وشيد المعتصم قصرًا في الجانب الشرقي (اليعقوبى، ص 225؛ انظر الخطيب، ص 74). ثم قرر أن يبحث عن عاصمة جديدة لجيشه التركى الجديد، فقد كانت بغداد شديدة
الازدحام لا تتسع لجنوده، وكان الأهلون وفرق الجند القديمة يكنون العداء لجنود الأتراك، وخشى أن يحدث ما يكدر صفو الأمن. وفقدت بغداد أيام سامراء (836 - 892 م) اهتمام الخلفاء بها (انظر اليعقوبى، جـ 2، ص 208؛ الإربلّى، ص 161) ولكنها ظلت أكبر مركز للتجارة والنشاط الثقافى.
وعانت بغداد أيضًا من القلاقل التي أثارها الأتراك، عندما انتقل إليها المستعين من سامراء، وحاصرتها قوات المعتز طوال عام 251 هـ (865 - 866 م). وامتدت رقعة الرصافة في هذه الفترة إلى سوق الثلاثاء (حتى شارع السموأل الحديث). وأمر المستعين بالله بتحصين بغداد ومد السور القائم على الجانب الشرقي من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء، والسور القائم على الجانب الغربي من قطيعة أم جعفر حول الربوع حتى قناة الصراة وحُفر حولها خندق طاهر المشهور (الطبري، جـ 3، ص 1851). ودمرت أثناء هذا الحصار منازل وحوانيت وبساتين خارج السور الشرقي لضرورات الدفاع (الطبري، جـ 3، ص 1571) وتعرضت للدمار الشديد الأحياء الشرقية من الشماسية والرصافة والمخرم.
وعاد المعتمد أخيرًا إلى بغداد عام 278 هـ (892) وكان قد طلب من بوران قصر الحسنى، بيد أنها جددته وأثثته ليليق بخليفة، وسلمته له (انظر ابن الجوزي: المنتظم، جـ 5، ص 144). ثم قام المعتضد بإعادة بناء القصر عام 820 هـ (893 م) ووسع رقعة أراضيه وأضاف إليه أبنية جديدة وشيد سجونا فوق مطاميره. وأضاف حلبة سباق ثم أحاط المنطقة بسور خاص وقدر له أن يصبح دار الخليفة، وظل بعد إضافة بعض المبانى إليه، مقره الرسمى (الخطيب البغدادي، ص 52؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 6، ص 53؛ المناقب، ص 15؛ التَّنوخى: نشوار المحاضرة، جـ 8، ص 15، أبو المحاسن، جـ 3، ص 85؛ الإربلَى، ص 173).
ثم وضع أساس قصر التاج على مقربة من نهر دجلة، بيد أنه رأى فيما بعد أنه يتعرض للكثير من الدخان من
ناحية المدينة، فقرر أن يشيد قصرًا آخر على بعد ميلين ناحية الشمال الشرقي. وشيد قصر الثريا الشاهق العظيم ووصله بقصر (الحسنى) بنفق، وأحاطه ببساتين، وجلب إليه الماء من قناة موسى (انظر وصف ابن المعتز له في ديوانه) طبعة بيروت سنة 1913، ص 138 - 139) وأمر أيضًا بألا يزرع حول بغداد أرز أو نخيل ليبقى الهواء نقيًا خالصًا (انظر ابن الجوزي: المنتظم، جـ 5، ص 142). وبقى قصر الثريا في حالة جيدة حتى عام 469 هـ (1073 - 1074 م) وهنالك اكتسحته مياه الفيضان ودمرته (ابن الجوزي المناقب، ص 15؛ ياقوت، جـ 1، ص 808).
وبدأ الخراب في المدينة المدورة وقتذاك. وأمر المعتضد بهدم سور المدينة، ولكن ما إن هدم قسم صغير منه حتى علت أصوات الهاشميين بالشكوى، لأنه كان يرمز إلى مجد العباسيين، فتوقف المعتضد عن هدمه. ومهما يكن من شيء فإن الناس وسعوا بيوتهم شيئًا فشيئًا على حساب السور، وأدى هذا، آخر الأمر، إلى هدم السور وخراب المدينة (التنوخى: نشوار المحاضرة، جـ 1، ص 74 - 75).
وشيد المكتفى (289 - 295 هـ = 901 - 907 م) قصر التاج وزوده بأبهاء وقباب ورصيف على نهر دجلة. وبنى قبة شامخة نصف دائرية على أراضيه بحيث يستطيع أن يبلغ قمتها ممتطيا ظهر حمار (الخطيب البغدادي، ص 48، الأربلّى، ص 175؛ ياقوت، جـ 1، ص 80؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 5، ص 144). وفي عام 289 هـ. (901 م) هدم المكتفى السجون الملحقة بالقصر وبنى "جامع القصر" الذي أصبح ثالث مسجد جامع في المدينة حتى عهد المقتدر (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 6، ص 3؛ الخطيب البغدادي، ص 62).
ولقد أضاف المقتدر (295 - 320 هـ = 908 - 932 م) مبانى جديدة إلى القصور الملكية وزينها على نحو يفوق الوصف، ووجه عناية خاصة لـ"حير الوحوش" أي حديقة الحيوان (انظر الخطيب البغدادي، ص 48، 53). وقد
أورد الخطيب وصفًا تفصيليًّا مدهشًا لعام 305 هـ (917 - 918 م). وكان السور المتين الذي يحيط بالقصور والممر السرى الذي يصل ديوان المقتدر بأحد الأبواب من الوسائل الدفاعية الضرورية (انظر الخطيب، ص 51). ومن عجائب بغداد "دار الشجرة"، وفيها شجرة من الفضة في بركة واسعة لها 18 فرعًا وأغصان متعددة، عليها طيور وعصافير من الفضة أو مموهة بالذهب، تغرد في أوقات. وعلى كل جانب من البركة 15 تمثالًا لفرسان يمتطون صهوات جيادهم ويتحركون في اتجاه واحد وكأنما يطارد بعضهم بعضًا (ص 54). وهناك بركة أخرى من الزئبق مساحتها 30 × 20 ذراعًا تسبح فيها أربعة قوارب مموهة بالذهب وحولها بستان يفوق الوصف. وكان حير الوحوش يضم كل أنواع الحيوان، ففيه بيت الأسود ويضم مائة أسد. وهناك قصر الفردوس بأسلحته الشهيرة. وقد أحصيت القصور فكانت ثلاثة وثلاثين قصرًا داخل نطاق الأراضي الملكية (انظر الخطيب، ص 53 - 55؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 6، ص 144).
وبلغت بغداد أوج ازدهارها في ذلك العهد؛ فقد امتد الجانب الشرقي منها خمسة أميال (الميل الواحد = 1848 مترًا) من الشماسية إلى دار الخلافة في القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي؛ الاصطخرى، ص 83). ويقول طيفور المتوفى عام 893 م إن الموفق أمر بقياس أبعاد بغداد قبل عام 279 هـ (892 م)، فوجد أن مساحتها 43.750 جريبا منها 26.250 جريبا في شرقي بغداد و 17.500 جريب في غربي بغداد (ابن الفقيه، ورقة رقم 44 ب). انظر ابن حوقل، جـ 1، ص 243). وتذهب رواية أخرى لطيفور أن مساحة شرقي بغداد في عهد الموفق كانت 16.750، جريبا (الجريب الواحد = 1366 مترًا مربعًا) وأن مساحة غربي بغداد كانت 27.000 جريب؛ وهذا التقدير هو الأرجح لأن غربي بغداد ظل حتى ذلك الوقت أهم من شرقيها. وفي رواية أخرى أن المساحة قدرها 53.750 جريبا منها 26.750 جريبا في الشرق و 27.000 جريب في
الغرب (الخطيب، ص 74). والراجح أن الرقم الأخير يمثل المساحة في عهد المقتدر عندما اتسعت رقعة بغداد في الشرق اتساعًا كبيرًا، ويكاد يكون طول بغداد من ناحيتيها في كل هذه الأخبار واحدًا. وبالنسبة للرقم الأول يقدر طول بغداد كما أورده الإصطخري وطيفور، عام 279 هـ (892 م). بنحو 7 كيلو متر وربع وعرضها بنحو، 6 كيلو متر ونصف، بينما كان طولها في عهد المقتدر (320 هـ - 932 م) حوالي 8 كيلو متر ونصف وعرضها حوالي 7 كيلو متر وربع.
وهذا الموقع الجغرافي لبغداد ونشاط سكانها (انظر الجاحظ: البخلاء، ص 39؛ التنوخى: الفرج بعد الشدة، جـ 2، ص 11) وتشجيع الدولة للتجارة (انظر اليعقوبى، ص 590) وهيبة الخلافة، كل ذلك لم يلبث أن جعل بغداد مركزًا عظيمًا للتجارة (انظر الدورى: تأريخ العراق الاقتصادى، ص 143 - 157). وأصبحت الأسواق معلما جوهريا من معالم الحياة فيها، في الرصافة وفي الكرخ بصفة خاصة. وكانت لكل تجارة سوقها الخاصة بها، ومن بين للك الأسواق: سوق الفاكهة، وسوق القماش، وسوق القطن، وسوق الوراقين -وكان بها أكثر من مائة حانوت- وسوق الصيارفة، وسوق العطارين في الكرخ. وكانت هناك أسواق للتجار الأجانب في سوق باب الشام. وعلى الجانب الشرقي كانت تقوم أسواق شتى تضم سوق الطب لبيع الأزهار، وسوق للطعام، وسوق الصاغة، وسوق الغنم، وسوق الوراقين، وسوق التجار من الصين (اليعقوبى: البلدان، ص 241، 246، 248، 254؛ الإصطخري، ص 48، الخطيب البغدادي، ص 22، 65 وما بعدها ، 36، 69؛ ابن الجوزي: المناقب، ص 26، 27 - 80؛ ابن حوقل، ص 242). وأقيم منذ عهد المنصور محتسب لمراقبة الأسواق ومنع الغش ومراجعة المكاييل والأوزان (انظر الخطيب ص 20؛ الصابى: الرسائل، ص 141 - 142). وكان المحتسب أيضًا يراقب الحمامات وله أن يلاحظ المساجد (الخطيب، ص 78). كما كان يمنع أوجه النشاط المخزية.
وكان لكل تجارة أو حرفة شيخ تعينه الدولة ولكل حرفة صانع وأستاذ (انظر إخوان الصفا، جـ 1، ص 255؛ وانظر مقالات الجاحظ، طبعة السندوبى، ص 126). وكانت بغداد تصدر الأقمشة القطنية، والمنسوجات الحريرية، وبخاصة المناديل والميدعات والعمائم والبلورات المخروطة والفخار المزجج والزيوت المختلفة والأشربة والمعاجين (حدود العالم، ورقة 11 أ؛ المقدسي، ص 128) كانت تصنع أيضًا قمصانا مختلفة الألوان، وعمائم من نسيج رقيق وفوطا مشهورة (الدمشقي: التجارة، ص 26). وكانت قمصانها القطنية الرقيقة البيضاء لا نظير لها (ابن الفقيه، ص 254)، وكانت منسوجات السَقْلَطون (قماش حريرى) والملْحَم والعتابى (من الحرير والقطن) هما اشتهرت به بغداد (حدود العالم، ص 38؛ النويرى، جـ 1، ص 369؛ أبو القاسم، ص 35؛ المقدسي، ص 323، ابن حوقل، ص 261). وكانت سيوف ممتازة تصنع في باب الطاق (عريب، ص 50). واشتهرت بغداد أيضًا بمصنوعاتها الجلدية وبصناعة الورق (انظر ابن الفقيه، ص 251).
وكان تطور النظام المصرفى في بغداد -كما يتضح من الأعمال التي كان يقوم بها الصرافون والجهابذة- حافزا كبيرًا للتجارة والصناعة وكانت للصرافين أسواق خاصة، ولا سيما في الكرخ (انظر الجهشيارى، ص 228)، وكانوا في مبدأ الأمر يقدمون خدماتهم للأهالى، على حين كان الجهابذة يعملون غالبا في خدمة الحكومة وموظفيها.
وأصبحت بغداد دولية من حيث سكانها، فقد كان أهلها أخلاطًا من شتى الأمم والألوان والنحل، ممن وفدوا إليها من أجل العمل والتجارة، ومن المجندين والأرقاء، أو ممن جاءوا لممارسة مهن أخرى. وجدير بالذكر أن عامة الناس بدأوا في القيام بدور هام في حياة بغداد (انظر ابن الأثير، جـ 8، ص 85 - 86؛ مسكويه، جـ 1، ص 74 - 75؛ الإصفهاني: تأريخ، طبعة برلين، ص 130). أما عن ثورتهم على ارتفاع الأسعار عام 307 هـ (919 م)
وجهودهم للحفاظ على النظام عام 201 هـ (816 م) إبان الاضطرابات التي حدثت عقب مصرع الأمين فانظر الطبري (جـ 3، ص 1009 - 1010) وابن الأثير (جـ 6، 288 - 229؛ جـ 7، ص 13 - 14). (وبدأ نشاط العيارين والشطار في هذا العهد (انظر الطبري، جـ 3، ص 1008، 1586؛ المسعودى، جـ 6، ص 457، ص 461 وما بعدها).
وليس من اليسير تقدير عدد سكان بغداد؛ ومن الواضح أن هناك مبالغات في تقدير عدد المساجد والحمامات (300.000 مسجد و 600.000 حمام في عهد الموفّق، و 27.000 حمام في عهد المقتدر، 17.000 حمام في عهد معز الدولة، و 5.000 في عهد عضد الدولة، و 3.000 حمام في عهد بهاء الدولة (الخطيب، ص 74 - 76؛ ابن الفقيه، ورقة رقم 59 ب؛ هلال الصابى: رسوم دار الخلافة، مخطوطة، ص 27 - 30). وقد أخصيت الحمامات عام 383 هـ (993 م) فوجد أن عددها 1.500 حمام. وتؤكد الروايات أن كل حمام كان يكفى حوالي 300 بيت (ابن الفقيه، ورقة رقم 59 ب، 60 أ؛ هلال الصابى، مخطوطة، ص 29). وإذا كان متوسط عدد الأفراد في كل بيت خمسة، فإن عدد سكان بغداد يكون وقتذاك قد بلغ حوالي المليون ونصف المليون من النسمات. وأمر المقتدرُ سنانَ بن ثابت باختبار الأطباء، وألا يمنح الإجازة بمزاولة المهنة إلا لمن يصلح لها. وكانت النتيجة منح الإجازة لثمانمائة وستين طبيبًا (ابن الأثير، جـ 8 ص 85؛ ابن أبي أصيبعة، جـ 1، ص 221 وما بعدها ، 224، 310؛ القفْطى، ص 149 وما بعدها). فإذا أضَفنا إلى هؤلاء، من يعملون من الأطباء في البيمارستانات الحكومية والذين لم يحصلوا على إجازة بالعمل، فإن عدد الأطباء يصل -فيما يرجح- إلى الألف طبيب. وقد بلغ عدد المصلين يوم الجمعة الأخيرة من الشهر في مسجد المنصور ومسجد الرصافة 64.000 مصل مقدرا بالمساحة المخصصة للصلاة (ابن الفقيه، ورقة 62 أ؛ انظر أيضًا الطبري، جـ 3، ص 1730). وقد أحصى عدد القوارب حوالي نهاية القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادي)
فوجد أنه 30.000 قارب (ابن الجوزي: المناقب، ص 24). ونستطيع من هذه الأرقام ومن مساحة بغداد أن نقدر عدد سكان بغداد في القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي) بمليون ونصف المليون من النسمات، ويتفق هذا الرقم مع ما يذكره الأتليدى، أحد المعاصرين.
وكانت في بغداد أحياء أرستقراطية مثل الظاهر، والشمّاسية، والمأمونية، ودرب عون؛ وأحياء فقيرة مثل قطيعة الكلاب ونهر الدَّجاج (أبو القاسم البغدادي، ص 23، 106). وكانت البيوت من طابقين، أما بيوت العامة فمن طابق واحد. وكانت بيوت الأغنياء لها حمامات وتقسم عادة إلى ثلاثة أقسام يحيط بها سور: قسم للسيدات، وحجرات للضيفان، وقسم للخدم. وكانت البساتين تحظى بعناية خاصة (الأغانى، جـ 2، ص 73؛ جـ 3، ص 31؛ جـ 9 ص 144؛ جـ 5، ص 38؛ جـ 17، ص 129؛ هلال الصابى: رسوم دار الخلافة، ص 32). وكانت السجاجيد والأرائك والستائر والوسائد عناصر ملحوظة في الأثاث (أبو القاسم، ص 36). وكانت المراوح والبيوت المبردة خاصة والسراديب تستخدم في الصيف (انظر ج. مدور: حضارة الإسلام، ص 117، 130). وكانت النقوش ورسوم الحيوان والنبات أو الوجوه الآدمية تزين المداخل (المصدر المذكور، ص 29؛ أبو القاسم، ص 36، 7).
وثمة سمة خاصة من سمات الحياة في بغداد، هي العدد الضخم من المساجد والحمامات كما سبق أن أوضحنا.
وكانت بغداد المركز العظيم للثقافة، فقد كانت موئلًا للمذهبين الحنفي والحنبلى، وكانت مركزا للترجمات، في بيت الحكمة وخارجه، وموطنًا لبعض التجارب العلمية. وكانت مساجدها، وبخاصة جامع المنصور، مراكز كبيرة للدرس والتحصيل. وإن العدد الكبير من مكتبات الوراقين التي كانت تتحول أحيانًا إلى "صالونات أدبية" ليدل على مدى النشاط الثقافى.
وشعراؤها ومؤرخوها وعلماؤها أكثر من أن نحصيهم. وفي وسعنا أن نشير
إلى تاريخ بغداد للخطيب لنرى العدد الكبير من العلماء، في ميدان واحد، الذين يرتبطون ببغداد. وكان العلم لا يلقى كل تشجيع من الخلفاء فحسب بل كان يلقاه من الوزراء والكبراء أيضًا. والحق إن فترة الإبداع في مجال الثقافة الإسلامية تقترن بمدينة بغداد. فقد أسست فيما بعد إبان هذه الفترة دور كتب عامة كانت مراكز للدرس والتحصيل، وأشهرها دار العلم التي أنشاها أبو نصر سابور بن أردشير. وعندما ظهر نظام المدرسة عقد لبغداد لواء الزعامة بمدرستيها النظامية والمستنصرية، وأثرت في نظام المدرسة، من جهة المناهج العلمية والهندسة المعمارية على السواء.
وحظيت البيمارستانات بالكثير من العناية، وبخاصة في القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادي) والقرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي). واشتهر من بينها بيمارستان السيدة (306 هـ = 918 م) والبيمارستان المقتدرى (306 هـ = 918 م) والبيمارستان العَضُدى 372 هـ = 982 م). كذلك أنشأ الوزراء وغيرهم البيمارستانات. وكان الأطباء يخضعون في بعض الأحيان لإشراف.
وكانت في بغداد ثلاث قناطر في عهد الرشيد (اليعقوبى، جـ 2، ص 510). وكانت القنطرتان الشهيرتان تقومان قرب باب خراسان وفي الكرخ (انظر اليعقوبى، جـ 2، ص 542، الجهشيارى، ص 254؛ الطبري، جـ 3، ص 1232). وبنى الرشيد قنطرتين في الشماسية، ولكنهما دمرتا إبان الحصار الأول لبغداد (ابن الجوزي: المناقب، ص 20؛ ابن الفقيه، ورقة رقم 42 أ). وظلت القناطر الثلاث قائمة حتى نهاية القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادي؛ ابن الفقيه، ورقة رقم 42 أ). ويبدو أن القنطرة الشمالية دمرت، ويتحدث الإصطخري عن قنطرتين فحسب (ابن الجوزي: المناقب، ص 20، الإصطخري، ص 84). وفي عام 387 هـ شيد بهاء الدولة قنطرة عند سوق الثلاثاء (مشْرعة القطانين) لتصبح القنطرة الثالثة. وهذا يدل على تحول الاهتمام من شمالي
بغداد إلى سوق الثلاثاء (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 171؛ وانظر ابن الجوزي: المناقب ص 20؛ الخطيب، ص 71 - 72).
وكانت الحياة في بغداد تنعم بالاستقرار حتى عهد الأمين. وأظهر الحصار الأول لبغداد وجود عناصر مشاغبة بين العامة. وبدأ الفيضان والحريق أيضًا يقومان بدورهما اعتبارًا من الربع الأخير من القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادي). وأتى الفيضان عام 270 هـ (883) على 000 ر 7 بيت في الكرخ. وعانت بغداد كثيرا من الفيضان عام 292 هـ (904 م) وعام 328 هـ (929 م؛ الطبري، جـ 3، ص 2105 ابن الأثير، جـ 8، ص 371؛ أبو المحاسن، جـ 3، ص 157، 266) وفي عام 373 هـ (983 م) اكتسح الفيضان ما وراء باب الكوفة ووصل إلى داخل المدينة (الصولى: الراضى، ص 278؛ الخطيب البغدادي، ص 16). ولا شك أن إهمال القنوات وبخاصة في عهد "أمير الأمراء"(324 - 334 هـ = 935 - 945 م) أدى إلى حدوث فيضانات كما أدى إلى خراب ناحية بادوريَا (مسكويه، جـ 2، ص 1 - 9؛ الصولى: الراضى، ص 106، 225، 137 - 138) ومن ثم فإننا نجد الندرة في الحاجيات الضرورية والطاعون في حكم النادر قبل عام 320 هـ) (932 م) إلا أنهما تكررا بعد ذلك (انظر ابن الأثير، جـ 7، ص 177، 187، 338).
أما ندرة هذه الحاجيات التي سادت عام 307 هـ (919 م) فكانت نتيجة الاحتكار، وسرعان ما تُغُلبَ عليها. وقد حدث ذلك في الأعوَام 323 هـ (934 م) و 326 هـ (937 م) و 329 هـ (940 م) مع طاعون) و 330 هـ (941 م) و 331 هـ (942 م؛ مع طاعون) و 332 هـ (943 م) و 337 هـ (948 م) وأصبحت الحياة لا تطاق (الصولى: الراضى، ص 61، 104، 236، 251؛ ابن الأثير جـ 8، ص 282، 311؛ الإصفهانى: التأريخ، ص 125؛ أبو المحاسن، جـ 3، ص. 270، 274). وفي عامي 308 هـ (920 م) و 309 هـ (921 م) عانت الكرخ كثيرًا من الحرائق (ابن الأثير، جـ 8، ص 89، 95). وامتدت نيران الكرخ عام
323 هـ (934 م) إلى أحياء العطارين وباعة المروخ والصاغة وغيرهم، وكان في الوسع مشاهدة آثارها بعد ذلك بسنين عديدة (الصولى: الراضى، ص 68).
وكان عهد بنى بويه شديد الوطأة بعض الشيء على بغداد. وأصلح معز الدولة عام 335 هـ (946 م) أول الأمر بعض القنوات في بادوريّا، وأدى هذا إلى تحسين أحوال المعيشة (مسكويه، جـ 2، ص 165). وأعقبت هذا فترة من الإهمال، وأصبح كثير من القنوات التي كانت تروى غرب بغداد خرابًا. وقام عضد الدولة (367 - 372 هـ = 977 - 982 م) بتطهيرها، وأعاد بناء القناطر والأهوسة (مسكويه، جـ 2، ص 406؛ جـ 3، ص 69؛ ابن الأثير، جـ 8، ص 518)، ولا نسمع بعد ذلك شيئًا عن مثل هذه الجهود.
وكانت أعمال البناء محدودة. وفي عام 350 هـ (961 م) شيد معز الدولة قصرًا كبيرًا عند باب الشماسية وجعل أمامه ميدانًا فسيحًا وبه رصيف ميناء وبساتين جميلة. واستولى على الأبواب الحديدية السبعة للمدينة المدورة من أجل هذا القصر، وأنفق حوالي مليون دينار ((11 مليون درهم). ومهما يكن من شيء فإن هذا القصر هدم عام 418 هـ (1027 م؛ التنوخى: نشوار المحاضرة، جـ 1، ص 70 - 71؛ ابن الأثير، جـ 8، ص 397 - 398؛ جـ 9، ص 256). وأعاد عضد الدولة بناء بيت سَبُكْتَكين، حاجب معز الدولة في المخرم العليا، وأضاف إليه بساتين واسعة، وجلب إليه الماء بشق قنوات من نهر الخالص، وأنفق على ذلك أموالا طائلة، وأصبح دار الإمارة أو المقر الرسمى لبنى بويه (الخطيب البغدادي، ص 58 - 59؛ ابن الجوزي، المنتظم، جـ 7، ص 77 - 78؛ مسكويه، جـ 3، ص 124).
ووجد عضد الدولة أن بغداد قد أصبحت شائهة المنظر، فأمر بتجديد بيوتها وأسواقها وأنفق الكثير من الأموال لأعادة بناء مساجدها الجامعة، ورمم الأرصفة على ضفاف نهر دجلة وأمر الأثرياء بترميم بيوتهم على نهر دجلة، وغرس البساتين في الخرائب التي لا مالك لها. ووجد أن القنطرة
الوسطى ضيقة واهنة فجددها ووسعها (ابن الأثير، جـ 8، ص 558؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 114؛ مسكويه، جـ 2، ص 404 - 406). وشيد عام 372 هـ (982 م) البيمارستان العضدى، وعين له الأطباء والمشرفين وأمناء المخازن، وزوده بكميات كبيرة من الأدوية والأشربة والآلات والأثاث. وحبست عليه الأوقاف للإنفاق منها على صيانته (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 112 - 114).
ومع ذلك فإن بغداد تدهورت في عهد بنى بويه (التنوخى: نشوار المحاضرة، جـ 1، ص 66، وفيه يقول إن بغداد انكمشت عام 345 هـ الموافق 956 م إلى عشر ما كان عليه حجمها في عهد المقتدر). وأهملت مدينة المنصور ولم يعد فيها حياة وقتذاك (المقدسي، ص 120). وكان معظم الأحياء في غربي بغداد على هيئة زرية، كما كانت قد تقلصت، . وكانت الكرخ أعظم الأحياء ازدهارًا في غربي بغداد، وفيها كان التجار يتخذون حوانيت للتجارة. ولهذا فإن الجانب الغربي عرف آنئذ باسم الكرخ (ابن حوقل، جـ 1، ص 241 - 242؛ المقدسي، ص 120).
وأما الجانب الشرقي من المدينة فكان أكثر ازدهارًا، وكان الكبراء يقيمون فيه عادة (انظر ابن حوقل، ص 240). وكانت المناطق المزدهرة في هذا الجانب هي باب الطاق حيث السوق الكبرى ودار الإمارة في المُخرَم وقصور الخليفة في الطرف الجنوبي (انظر المقدسي، ص 120؛ ابن حوقل، جـ 1، ص 240 - 141؛ الإصطخر ى، ص 84). ووصلت بعض الدور الصغيرة الشأن إلى كلواذَى. ورأى ابن حوقل أربعة مساجد جامعة هي: مسجد المنصور، ومسجد الرصافة، ومسجد براثا، ومسجد دار السلطان (ص 241). ثم أصبح مسجد القطيعة ومسجد الحربية عام 379 هـ (989 م) وعام 383 هـ (993 م) مسجدين جامعين (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 671؛ الخطيب البغدادي، ص 53 - 54؛ ابن الجوزي: المناقب، ص 21 - 22؛ ابن الأثير، جـ 9، ص 48).
وشاهد ابن حوقل قنطرتين، إحداهما في حالة سيئة (جـ 1، ص 241). ويبدو أنه كانت هناك ثلاث قناطر في عهد معز الدولة، إحداهما عند باب الشماسية (قرب قصره) والثانية عند باب الطاق والثالثة عند سوق الثلاثاء، ونقلت الأولى إلى باب الطاق، وأصبح هناك قنطرتان، ثم ساءت حال إحداهما (انظر ابن الجوزي: المناقب ص 20).
وعانت بغداد كثيرًا من شغب العامة، ومن الخلافات الطائفية التي شجعها بنو بويه، ومن العيارين. وتتحدث مصادرنا كثيرًا عن جهل العامة واستعدادهم لتلبية أي دعوة، وفطرتهم الخيّرة وعدم احترامهم للقانون (انظر المسعودى، جـ 5، ص 81، 82 - 83، 85 - 87؛ الغزالى: فضائح، ص 53؛ ابن الجوزي. المناقب، ص 31 - 32؛ البغدادي: الفرق، ص 141). وفي عام 279 هـ (892 م) حظر المعتضد على القصّاص والعرّافين أن يجلسوا في الطرقات أو في المساجد ومنع الناس من أن يتجمعوا حولهم أو أن يدخلوا معهم في جدل (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 5، ص 122، 171).
وكان الحنابلة مصدر القلاقل قبل عهد بنى بويه، فقد حاولوا في بعض الأوقات أن يهذبوا الأخلاق بالقوة (انظر ابن الأثير، جـ 8، ص 922 - 230 - 84 - 85، 157 - 158؛ الصولى: الراضى، ص 198). وازدادت في هذه الفترة الاضطرابات الطائفية، وتسببت في كثير من الخسارة في الأموال والأرواح. وأعلن بنو بويه أن العاشر من المحرم يعد يوم حداد عام وأمروا بإغلاق الأسواق، وشجعوا العامة على السير في مواكب مع النساء وهم يلطمون وجوههم (انظر ابن الجوزي، جـ 7، ص 15). ومن جهة أخرى جُعل الغدير في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عيدًا تقام فيه الاحتفالات. وأدى هذا إلى أن يختار أهل السنة يومين مختلفين، يقع كل منهما بعد ثمانية أيام من اليومين المذكورين، (انظر ابن الأثير، جـ 9، ص 110). وأصبح من الحوادث المألوفة في هذا العصر، نشوب معارك بين الشيعة وأهل السنة، ابتداء من عام 338 هـ (949 م) حين تعرضت الكرخ للسلب والنهب (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 6، ص 363).
وفي عام 348 هـ (959 م) نشبت معارك بين الفريقين أدت إلى التخريب وإشعال النار في باب الطاق (المصدر المذكور، ص 390). وفي عام 361 هـ (971 م) أدت القلاقل في الكرخ إلى إحراقها وهلاك 17.000 من أهلها وتخريب 300 حانوت، وكثير من المنازل بفعل النيران (ابن الأثير، جـ 8، ص 207؛ انظر ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 60) وأحرقت النار عام 363 هـ ـ (973 م) جانبًا كبيرًا من الكرخ (مسكويه، جـ 2، ص 327).
ونشبت الفتن في كثير من الأحياء وشبت فيها النار مرارًا عام 381 هـ (991 م؛ ابن الأثير، جـ 9، ص 31). وفي عام 1016 م احترق حيًّا نهر طابق وباب القطن وجانب كبير من حي باب البصرة (ابن الأثير، جـ 9، ص 102؛ انظر أيضًا جـ 8، ص 184، جـ 9، ص 25 - 26، 32، 58). ودمرت أسواق كثيرة عام 422 هـ (1030 م) إبان الفتن (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 55). وألحق العيارون- الذين نشطوا للعمل بصفة خاصة طوال الربع الأخير من القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي) حتى نهاية هذا العهد- بالمدينة دمارًا أكبر وأشاعوا فيها البلبلة والاضطراب (فيما يختص بفعالهم أثناء الحصارين اللذين ضربا حول بغداد، انظر الطبري جـ 3، ص 877، 1008 - 1010، 1552، 1556 - 1557؛ المسعودى، جـ 6، ص 450 وما بعدها). ويسئ المؤرخون فهم طبيعة فعالهم ويظهرونهم بمظهر اللصوص والسرّاق، بيد أن فتنتهم إنما كانت وليدة الأحوال المعاشية القاسية التي كانوا يعانون منها إلى جانب الفوضى السياسية، وكانت ثورتهم موجهة ضد الأغنياء والحكام، وهذا يفسر لنا لمَ كان نشاطهم موجهًا أولًا ضدَ الأغنياء والأسواق والشرطة والأعيان (انظر التنوخى: الفرج بعد الشدة، جـ 2، ص 106، 107 - 108؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 174، 220؛ ابن الأثير، جـ 9، ص 115). ولقد تمسكوا بمباديء أخلاقية لم يحيدوا عنها مثل الشرف وإغاثة الفقراء والنساء والتعاون والصبر والجلد. وارتبط نظام الفتوة من بعد بحركتهم إلى حد ما (انظر ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ص
392؛ القُشيرى: الرسالة، ص 113 - 114؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 77، التنوخى: الفرج بعد الشدة، جـ 2، ص 180).
وكان لهم نظام في القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي)، ومن الألقاب التي كانت تطلق على زعمائهم، المتقدم والقائد والأمير، وكانوا يقيمون حفلات خاصة عند دخول أحد في زمرتهم (انظر المنتظم، جـ 8، ص 49، 151، 178؛ مسكويه، جـ 2، ص 306؛ القشيرى: المصدر المذكور، ص 113؛ التنوخى: الفرج، جـ 2، ص 109). وعلى كل حال فقد انقسموا إلى شيعة وسنية (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 78 - 79).
وحرص العيارون على أن يبقى الناس في فزع مستمر على حياتهم وأموالهم. وفرضوا مكوسًا على التجار في الأسواق وعلى المارة في الطرقات وسلبوا عابرى السبيل ودأبوا على اقتحام البيوت بالليل ونشروا يد التخريب بحد السيف والنار، وأحرقوا كثيرًا من الأحياء والأسواق وبخاصة باب الطاق وسوق يحيى (في شرقي بغداد) والكرخ، لأنها كانت وقفًا على الأثرياء. واضطر الناس إلى اغلاق بوابات حاراتهم، ولزم التجار جانب الحذر بالليل. وأدى الإخلال بالنظام والسلب والنهب إلى ارتفاع الأسعار (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 151، 220؛ جـ 8، ص 21 - 22، 44، 47 - 50، 54 - 55، 60، 72 - 75، 79، 87، 142، 161). ودعا واعظ ربه عام 421 هـ (1030 م) فقال: رباه! خلّص البلاد من الدهماء والرعاع. (ابن الجوزي: المنتظم جـ 8، ص 44). وكان البُرْخمى، وهو مقدم عيارين قبيح الصيت، يحكم بغداد في الواقع أربعة أعوام من سنة 422 - 225 هـ (1030 - 1033 م). وأعمل فيها يد السلب والنهب (المصدر السابق، ص 75 - 76). وكانت الحكومة حيالهم لا حول لها ولا طول (انظر ص 49)، وتركوا وشأنهم، يفرضون الإتاوات والمكوس اتقاء شرهم (المصدر المذكور، ص 78) وهجر خلق كثير أحياءهم ورحلوا عنها طلبًا للنجاة (المصدر المذكور، ص 142). وظل العيارون ينشرون الرعب
والفزع حتى قيام السلاجقة (المصدر المذكور، ص 161).
وفي عام 447 هـ (1055 م) دخل طُغْرِل بك بغداد. وانتهج السلاجقة السيَاسة تخالف على طول الخط السياسة التي سار عليها بنو بويه، وشجعوا أهل السنة (انظر كتاب أبي المحاسن، جـ 5، ص 59). واستولى البساسيرى، أحد العصاة، على بغداد عام 450 هـ (1058 م). باسم الفاطميين (انظر كتاب أبي الفداء، جـ 2، ص 186؛ ابن القلانسى، ص 87)، وهزمته قوات السلاجقة ولقى حتفه على يديها عام 451 هـ (1059 م؛ أبو الفداء، جـ 2، ص 187 - 188). واتخذت بغداد في هذا العهد، صورة لم تتغير بعد ذلك إلا قليلا.
ووسع طُغْرل بك عام 448 هـ (1056 م) رقعَة دار الإمارة، وهدم الكثير من المنازل والحوانيت، وأعاد بناء الدار وأحاطها بسور (ابن الجوزي، جـ 8، ص 169). وأحرقت عام 450 هـ (1058 م) عن آخرها وأعيد بناؤها (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 7، ص 778) واصبحت تعرف باسم دار المملكة.
وأعيد بناؤها عام 509 هـ (1115 م) بيد أنها احترقت قضاء وقدرًا عام 515 هـ (1121 م) وشيدت بدلا منها دار جديدة (ابن الجوزي: المناقب، ص 16: المنتظم، جـ 9، ص 223). ووسع ملكشاه مسجد المخرم القريب من القصر وأعاد بناءه عام 484 هـ 1091 م) وأطلق عليه منذ ذاك اسم جامع السلطان؛ ورمم عام 502 هـ (1108 م؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 9، ص 159). وتم بناؤه آخر الأمر عام 524 هـ (1129 م؛ أبوالفداء، جـ 2، ص 211، ابن الجوزي المناقب، ص 23؛ أبو المحاسن، جـ 5، ص 135).
وتركزت الحياة في شرقي بغداد حول قصور الخليفة. وشجع المقتدى (467 - 487 هـ = 1074 - 1094 م) البناء؛ وازدهرت الأحياء الواقعة حول القصور- مثل البَصليَّة والقطيعة والحلبة والأجمة إلخ. كما شيد أيضًا دار الشاطئية بجوار قصر التاج القديم (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 293؛ ابن الأثير، جـ 10، ص 156؛ انظر le Strange، ص 253؛ ابن الفوطى، ص
21). وهدم قصر التاج عام 524 هـ (1129 م) وأعيد بناؤه (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 10، ص 14). وكانت هذه الأحياء غير مسورة وتعرضت كثيرًا للفيضان عام 1070 م. وبنى المستظهر عام 488 هـ (1095 م) سورًا حول ما يسمى بحى الحريم. ثم أعاد المسترشد عام 517 هـ (1123 م) بناءه، وأقام به أربعة أبواب وجعل عرضه 22 ذراعًا. وأحاط الفيضان بالسور عام 554 هـ (1159 م) وأحدث فيه صدعًا ودمر كثيرًا من الأحياء. ورئب الصدع وشرع في حفر سد، أكمل فيما بعد حول السور (انظر ابن الجوزي: المناقب، ص 34؛ الكاتب نفسه: المنتظم، جـ 10، ص 189، 190). وحد ثت محاولات أخرى لإعادة بناء السور أو ترميمه في عهدى الناصر والمستنصر (ابن الفوطى، ص 16، 111). وحدد هذا السور تخوم شرقي بغداد حتى نهاية العصر العثمانى.
وكانت بغداد في حالة ضعف وانحلال أثناء هذا العصر، وعاشت على مجدها الماضي. وطرأت تغيرات كثيرة على تخطيطها اعتبارً من النصف الثاني للقرن الخامس الهجرى (الحادي عشر الميلادي) فقد تخربت أحياء كثيرة في غربي بغداد، وأصبحت البساتين والبيوت السابقة خرابًا بلقعا (انظر الخطيب البغدادي، ص 67؛ التنوخى: نشوار المحاضرة، جـ 1 ص 74 - 75).
ولعل هذا يفسر لنا الزيادة في عدد المساجد الجامعة. وأهملت الأحياء القديمة: الشماسية والرصافة والمخرم (انظر ابن حوقل، ص 241).
ويتحدث بنيامين التطيلى Benjamin of Tudela، الذي زار بغداد حوالي عام 567 هـ (1171 م) عن عظمة قصر الخليفة، بسوره وبساتينه وحير وحوشه وبركته. ويمتدح البيمارستان العضدى وأطباءه الستين ومصحته الخاصة بالمجانين. ووجد 40.000 يهودى في بغداد، لهم عشر مدارس (رحلة بنيامين Itinerary، طبعة وترجمة Asher .A، نيويورك، سنة 1840 - 1842 جـ 1، المتن ص 54 - 64؛ الترجمة ص 93 - 105؛ الترجمة العربية بقلم أ. حداد. E.H. Haddad، بغداد سنة 1945، ص 131 - 138). ووصف ابن جبير بغداد عام 581 هـ
(1185 م)، ولاحظ ما هي عليه من انحلال شامل وانتقد صلف أهلها (ص 218). وكان جزء كبير من الجانب الشرقي قد أضحى خرابا، ومع ذلك فقد كان فيه سبعة عشر حيا منفصلًا، كلها تضم حمامين أو ثلاثة أو ثمانية (ص 225). وكان مقر الخليفة بما فيه من قصور فخمة وبساتين رائعة يشغل نحو ربع المساحة تقريبًا أو أكثر (ص 226 - 227). وكان هذا الجانب آهلا بالسكان وفيه أسواق عامرة (ص 228). وكان القُرَيَّة أكبر الأحياء (من المحتمل جدًّا أنه كان بين قنطرة الأحراس الحديثة ورأس القرية) وعلى مقربة منه ربض المربعة (ولعله كان بالقرب من سيدى سلطان على الآن). وكان به ثلاثة مساجد جامعة هي جامع السلطان شمالي السور، ومسجد الرصافة على مسيرة ميل شمالي الأخير (ص 228 - 229) وجامع الخليفة. وكان به أيضًا حوالي ثلاثين مدرسة كلها تشغل مبانى رائعة، وحبست عليها أوقاف كثيرة وقدمت لها هبات للإنفاق منها على صيانتها ولمواجهة نفقات الطلاب. واشهرها مدرسة النظامية التي أعيد بناؤها عام 1110 م (ص 229).
ويصف بنيامين السور الذي بناه المسترشد، والذي كان يحيط بالشرقية، بأن له أربعة أبواب:
1 -
باب السلطان جهة الشمال (سمى فيما بعد باب المعظم).
2 -
باب الظفرية (في الشمال الشرقي وسمى فيما بعد الباب الوسطانى.
3 -
باب الحلبة (في الشرق) وأصبح اسمه فيما بعد باب الطلسم.
4 -
باب البصيلة (في الجنوب) وعرف فيما بعد باسم الباب الشرقي. وأحاط السور بالشرقية على هيئة نصف دائرة يصل إلى نهر دجلة من الطرفين (ص 229). ويتحدث عن حي ابى حنيفة الآهل بالسكان، بينما كانت الأحياء القديمة: الرصافة والشماسية والمعظم والمخرم خرابا بلقعا (انظر ص 226؛ ابن حوقل، ص 241). وانتشر الخراب في غربي بغداد بكل مكان. ويتحدث بنيامين هنا عن حي الكرخ على اعتبار أنه مدينة مسورة وعن حي باب البصرة الذي كان يضم مسجد المنصور
الجامع وما بقى من المدينة القديمة (ص 225). وكان بجانب نهر دجلة حي الشارع الذي كان يؤلف هو والكرخ وباب البصرة والقرية أكبر أحياء بغداد (ص 225). وبين حي الشارع وحى باب البصرة، حي سوق المارستان، وهو أشبه بمدينة صغيرة، وفيه البيمارستان العضدى المشهور، المزود بما يكفى من الأطباء والموظفين والمؤن (ص 225 - 226). ونوه بين الأحياء الأخرى بحى الحربية، بأعتباره في أقصى الشمال، وحى العتابية، المشهور بقماش العتابى، وهو نسيج من القطن والحرير (ص 226). ويتحدث ابن جبير (ص 229) عن 2000 حمام وأحد عشر مسجدًا جامعًا في بغداد.
وكانت هناك قنطرة واحدة قرب قناة عيسى، في عهد المسترشد (512 - 529 هـ = 1118 - 1134 م) ونقلت فيما بعد إلى باب القرية، وأقيمت قنطرة جديدة في باب القرية أيام المستضئ (566 - 575 هـ = 1170 - 1179 م)، وأعيدت القنطرة القديمة إلى موضعها قرب قناة عيسى. ولم يشهد ابن جبير إلا القنطرة الأولى، ولكنه يؤكد أنه كانت هناك عادة قنطرتان ويؤكد هذه الحقيقة ابن الجوزي، الذي كتب مصنفه قبل سقوط بغداد مباشرة (ابن الجوزي: المناقب، ص 20، ابن جبير، ص 225).
ويسوق ياقوت) (623 هـ = 1226 م) بعد ذلك بنصف قرن، بعض المعلومات المفيدة. فهو يصور غربي بغداد على أنه مجموعة من الأحياء المنعزلة، لكل منها سور وتفصله عن غيره أرض خراب بلقع. والأحياء المعروفة هي الحربية والحريم، والطاهرى في الشمال، وجهارسوج مع الناصرية والعتابين ودار القز في الجنوب الغربي، والمحول جهة الغرب، وقصر عيسى جهة الشرق، والقرية والكرخ في الجنوب. أما في شرقي بغداد فقد تركزت الحياة في الأحياء الواقعة حول "حريم دار الخليفة" الذي كان يشغل حوالي ثلث المساحة المحصورة بين الأسوار. وكان بين الأحياء الكبيرة المزدهرة حي باب الأزج باسواقه، والمأمونية التي تليه، وسوق الثلاثاء، ونهر المعلى والقُرية (ياقوت، جـ 1، ص 232، 441، 444، 534، 655؛ جـ 1، ص 88،
167، 234، 459، 512، 783؛ 917؛ جـ 3، ص 193 - 194، 197، 231، 279، 291، 489؛ جـ 4، ص 117، 252، 255، 285، 432، 457، 713، 714، 786، 481، 485).
وازدادت المساجد الجامعة في الغربية (غربي بغداد) في هذا العصر، مما يدل على أن الأحياء كانت أشبه بالأحياء المستقلة. ويتحدث ابن الجوزي عن ستة منها عامي 530 هـ (1135 م) و 572 هـ (1176 م) علاوة على جامع المنصور (ابن الجوزي: المناقب، ص 23؛ وانظر أيضًا ابن الفوطى). ورمم المستنصر مساجد الكرخ (ابن الفوطى، ص 15). وجدد جامع القصر عام 475 هـ (1082 م)، وجدده المستنصر مرة أخرى عام 673 هـ (1235 م؛ ابن الجوزي: المنتظم. جـ 9، ص 3؛ Le Strange، ص 269). وشيد جامع القمرية (لا يزال قائمًا) عام 626 هـ (1228 م؛ ابن الفوطى، ص 4).
ويتضح سلطان الصوفية من العدد الكبير من الرباطات التي شيدت في القرن الأخير من عهد الخلافة. وقد بناها الخلفاء أو أقاربهم (انظر ابن الفوطى، ص 2، 74، 75، 79، 80، 87، 117 و 261؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 9، ص 11؛ ابن الأثير، جـ 11، ص 77، 123، جـ 12، ص 27 و 67 - 68).
وحظى تأسيس المدارس (الكليات) بالكثير من العناية. ويمكن تفسير هذه الحركة باديء ذي بدء بالنهضة الدينية التي قامت بين الشافعية وبالحاجات السياسية والإدارية، بيد أنها استمرت حركة ثقافية. وشيد ابن جبير ثلاثين مدرسة في شرقي بغداد (ابن جبير، ص 229؛ انظر أيضًا م. جواد، في مجلة كلية المعلمين العليا، بغداد، المجلد الخامس ص 110 وما بعدها، والمجلد السادس ص 86 وما بعدها). وأنشئت مدارس أخرى بعد زيارة ابن جبير (انظر ابن الفوطى، ص 24 - 25، 53، 128، 308؛ ابن الأثير، جـ 11، ص 211). وأشهرها مدرسة النظامية التي أنشئت عام 459 هـ (1066 م) ومدرسة أبي حنيفة التي أنشئت في العام نفسه (ابن الجوزي: المنتظم،
جـ 8، ولا تزال موجودة باسم كلية الشريعة)، والمستنصرية التي أنشأها المستنصر عام 631 هـ (1233 م) وظلت قائمة حتى القرن السابع عشر. وتخصصت كل هذه المدارس في مذهب من المذاهب الأربعة ما عدا مدرستى المستنصرية والبشيرية (أنشئت عام 653 هـ = 1255 م) فقد كانتا تعنيان بتدريس فقه المذاهب الأربعة (انظر ابن الفوطى، ص 308، ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 245 - 246، 246 - 247؛ ابن الأثير، جـ 10، ص 38؛ ابن الفوطى، ص 53 - 54، 58 - 59؛ انظر عواد في Sumer، جـ 1، سنة 1945). وكان هناك مكتب للأيتام، أنشأه شمس الملوك (ابن نظام الملك؛ الإصفهانى: السلاجقة، ص 124 - 125). وشيدت دور ضيافة عام 606 هـ (1209 م) في جميع أحياء بغداد لتقديم الطعام للفقراء في رمضان (ابن الأثير، جـ 12، ص 286؛ إشارات أخرى في المصدر نفسه، ص 184؛ ابن الفوطى، ص 94).
وعانت بغداد أثناء هذه الفترة من الحريق والفيضان والفتنة. ففي عام 449 هـ (1057 م) أحرق حيا الكرخ وباب المحول ومعظم أسواق الكرخ عن آخرها. وفي عام 451 هـ (1059 م) أحرق حي الكرخ وبغداد القديمة (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 81؛ ابن الأثير، جـ 10، ص 5). وأحرقت الأحياء والأسواق القريبة من قناة المُعلَّى ودار الخلافة أكثر من مرة (ابن الأثير، جـ 10، ص 35، 67، 318؛ ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 241؛ جـ 9، ص 61، 148، 184؛ جـ 10، ص 35). وانتشر الحريق عام 551 هـ (1156 م) من أحياء مجاورة إلى دار الخلافة والأسواق المجاورة له (ابن الأثير، جـ 11، ص 143) ، وشبت حرائق أخرى في تلك الأحياء عام 560 هـ (1164 م) وعام 569 هـ (1173 م) وعام 583 هـ (1187 م؛ ابن الأثير، جـ 11، ص 270، 372؛ المنتظم، جـ 10 ص 212).
وكان نشاط العيّارين كبيرًا إلى حد ما أيام السلاجقة. فقد أخذوا ينهبون الحوانيت والبيوت ويعبثون بالأمن (بالنسبة للفترة بين عامي 449 هـ =
1057 م و 537 هـ = 1142 م، انظر ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 139. 234: ابن الأثير، جـ 10، ص 204 و 383؛ جـ 11، ص 29، 36، 59، 63). ولم تنقطع فتن العامة ومعاركهم الطائفية (الحنابلة ضد الشافعية، وأهل السنة ضد الشيعة) وكانت سببًا في إزهاق الكثير من الأرواح وخراب الممتلكات. ويتحدث ابن الأثير عن صلح مؤقت عام 502 هـ (1108 م) ويضيف قائلًا: "الشر منهم أي العامة) على طول الزمان". (جـ 10، ص 329 انظر أيضًا جـ 10، ص 80، 259، 104، 108، 109، 112، 117، 118). ولم تدم هذه الهدنة طويلًا، واستمرت المنازعات والمعارك وأصبحت مروعة في عهد المستعصم (ابن الأثير، جـ 10، ص 360، جـ 11، ص 271، 344، جـ 12 ص 133، 216). وفي عام 640 هـ (1242 م) نشبت معارك بين حي المأمونية وحى باب الأزج الذي يضم سوق النظامية، وبين حي المحتارة وحى سوق السلطان، وبين حي قَطُفْتا وحى القُرَيَّة (في غربي بغداد)؛ وقتل كثيرون ونهبت حوانيت (ابن الفوطى، ص 175 - 177؛ انظر ابن أبي الحديد، جـ 2، ص 554). وما إن حل عام 653 هـ (1255 م) حتى كانت الأمور قد ساءت إلى حد كبير ونشبت معارك بين حي الرصافة (وسكانه من أهل السنة) وحى الخضيريين (وسكانه من الشيعة) وسرعان ما أيد أهالى حي باب البصرة حي الرصافة بينما أيد حي الكرخ الآخرين (ابن الفوطى، ص 298 - 299) وتدل هذه المعارك على نزعة التنافس بين الأحياء التي ازدادت بسبب ضعف هيمنة الحكومة. ولما تجددت المعارك بين حي الكرخ وباب البصرة قام الجند الذين أرشلوا لقمعها بنهب الكرخ فازداد الموقف سوءًا (المصدر المذكو ر، ص 267 - 277). وبلغت المعارك ذروتها عام 654 هـ (1256 م) عندما قتل أهالى الكرخ بعض خصومهم، وانضم الجند، الذين أرسلوا لحفظ النظام، إلى جماهير العامة ونهبوا الكرخ وأحرقوا بها عدة حوانيت وقللوا خلقا كثيرًا وسبوا النساء. وأعقب هذا الأخذُ بالثأر، ولكن أحدًا لم ينس المأساة (المصدر نفسه، ص 314 - 315). ونشط العيّارون
نشاطًا كبيرًا في هذا العهد فنهبوا الحوانيت وسطوا على البيوت بالليل، بل إن مدرسة المستنصرية سرقت مرتين (ابن الفوطى، ص 378، 254، 260، 262).
وكانت الحكومة أضعف من أن تستطيع حفظ النظام. وتكرر حدوث الفيضان مما يدل على ضعف الحكومة وإهمال الري. وفي عام 641 هـ (1243 م) وصلت مياه الفيضان إلى النظامية والأراضى المجاورة لها وخربت بعض الأحياء. وأحدق الفيضان بشرقى بغداد عام 646 هـ (1248 م) وهدمت مياهه جزءًا من السور ونفذت إلى أجنحة الحريم. وغمرت مياه الفيضان أيضًا الرصافة وسقط الكثير من بيوتها. وأغرق غربي بغداد وسقطت معظم المنازل اللهم إلا في جانب من باب البصرة والكرخ. وانهارت البيوت الواقعة على النهر ودخلت مياه الفيضان إلى بغداد عام 651 هـ (1253 م) ثم دخلت مرة أخرى عام 653 هـ (1255 م) وهنالك انهار عدد كبير من المنازل وأتلف الزرع. وحدث أسوء فيضان عام 654 هـ (1256 م) عندما أحدقت مياه الفيضان بكلا الجانبين ووصلت إلى داخل الأسواق في شرقي بغداد ودار الخلافة والنظامية (ابن الفوطى ص 186 - 187، 267، 229، 233، 277، 304، 317، 319). وهكذا تحالفت الطبيعة والإنسان على اضمحلال بغداد.
وغزا المغول بغداد بعد عامين. واستسلم الخليفة المستعصم يوم 4 صفر عام 656 هـ (10 فبراير عام 1258 م) بلا قيد ولا شرط. وظل السيف يعمل في رقاب أهلها بلا تمييز ما يربو على أسبوع. وشاركتهم في هذا المصير المحزن أعداد كبيرة من أهالى الريف الذين تقاطروا إلى بغداد قبل الحصار. ويتراوح عدد من قتلوا بين 800.000 ومليونى نسمة، وأخذ عدد القتلى يرتفع بمضى الزمن (الفخرى، ص 130؛ ابن الفوطى، ص 281؛ الذهبي: دول الإسلام، جـ 2، ص 121؛ ابن كثير: البداية والنهاية، جـ 13، ص 202). ويقول الرحالة الصينى تشأنغ ته سنة (1259 م) إن
عشرات الألوف من الناس قتلوا، ومن الواضح أنه استقى معلوماته من مصادر مغولية (Medie-: Bretschneidez val Researches، جـ 1، ص 138 - 139). ومن ثم يصعب تحديد أي رقم، ولكن الراجح أن عدد القتلى يتجاوز مائة ألف. وتخربت أحياء كثيرة بسبب الحصار أو السلب والنهب أو الحريق، ولم حرق مسجد الخلفاء وضريح الكاظميين (ابن الفوطى، ص 327 - 330؛ ابن العبرى، ص 27). ومهما يكن من شيء فإن بغداد نجت من الدمار التام، ولعل الفتوى التي أكره العلماء على إصدارها بان كافرا عادلا خير من إمام ظالم قد ساعدت على النجاة من هذا الدمار التام. وقد أمر هولاكو قبل أن يغادر بغداد بإصلاح بعض المبانى العامة. فأعاد ناظر الوقف بناء جامع الخلفاء وعنى بإعادة فتح المدارس والرباطات (ابن العبرى ص 475؛ ابن الفوطى، ص 337). وعانت الثقافة كثيرًا ولكنها لم تقتلع من جذورها. وأصبحت بغداد حاضرة ولاية من جميع الوجوه.
وظلت بغداد حتى عام 740 هـ (1339 - 1340 م) خاضعة لحكم الأيلخانية، يدير أمورها وال ومعه شحنة وحامية عسكرية (انظر ابن الفوطى، ص 331). وأحصى المغول سكان بغداد بالعشرات والمئات والآلاف لفرض الضرائب عليهم. وفرض على الجميع أداء ضريبة رءوس ما عدا المسنين والأطفال، وظلت هذه الضريبة تجبى نحو عامين (ابن الفوطى، ص 339؛ انظر الجويني [ترجمة بويل Boyle]، جـ 1، ص 34). وبدأت بغداد تنتعش شيئًا فشيئًا بعد أن عهد بإدارتها في الغالب للفرس؛ ويرجع الكثير من هذا الانتعاش إلى السياسة التي اتبعها عطاء ملك الجويني، وقد ظل واليا عليها فترة تقرب من 23 عامًا (657 هـ = 1258 م -681 هـ = 1282 م). وفي عهده أعيد بناء مئذنة جامع الخلفاء وسوق النظامية، ورممت مدرسة المستنصرية وأضيف إلى ذلك نظام مائى جديد (ابن الفوطى، ص 371). ورمم مسجد الشيخ معروف والقمرية (المصدر
المذ كور، ص 408؛ العزّاوى: تأريخ العراق، جـ 1، ص 267، 296).
واستأنفت العمل بعض المدارس القديمة، وبخاصة مدارس النظامية والمستنصرية والبشيرية والتَتَشيَّة ومدرسة الأصحاب (انظر ابن بطوطَة، طبعة القاهرة سنة 1918، جـ 1، ص 140 - 141؛ ابن الفوطى، ص 182، 385، 396؛ العزّاوى: تأريخ، جـ 1، ص 318) وأنشات زوجة الجويني مدرسة العصمتية لتعليم الفقه على المذاهب الأربعة ورباطا بالقرب منها (ابن الفوطى، ص 377). وبعث الإيلخان تكُودار برسالة إلى بغداد يطلب فيها إعادة الهبات إلى المدارس والمساجد كما كانت الحال في عهد العباسيين، ولعلها رغبة منه أملتها التقوى (الكَرْملى: الفوز، ص 12). وأدت السياسة التي انتهجها الإيلخانية إلى شبوب فتن في وجه غير المسلمين، فقد أسبغوا حمايتهم على المسيحيين وأعفوهم من الجزية، وأعادوابناء الكنائس وفتحوا لهم المدارس. وأدى هذا إلى نشوب فتنة في وجههم عام 665 هـ (1263 م). وارتفع اليهود إلى مكان الصدارة في عهد أرغون (683 - 690 هـ = 1284 - 1291 م) بفضل سعد الدولة اليهودى القائم على بيت المال، وهو الذي عين أخاه واليًا على بغداد. وفي عام 690 هـ (1291 م) قُتل سعد الدولة وانقض العامة في بغداد على اليهود. وعانى غير المسلمين في عهد غازان من الالتزام بارتداء زى معين لتمييزهم ومن إعادة فرض ضريبة الرءوس عليهم وسلوك الغوغاء، فاعتنق كثير منهم الإسلام (انظر عمرو ابن متى: كتاب المَجْدَل، ص 120 - 122، 125؛ ابن الفوطى، ص 354، 465 - 466، 483؛ وصاف، جـ 2، ص 238، الكرملى: المصدر المذكور، ص 14 - 15؛ 21؛ العزاوى، جـ 1، ص 349، 513). وأثار ألجايتو القلاقل عندما تذبذب بين مذهبى الشيعة والسنة. وحاول الإيلخانية أن يفرضوا "الجاو"(أوراق النقد) ولكنها كانت مكروهة جدًّا في بغداد فألغاها غازان آخر الأمر عام 697 هـ (1297 م؛ ابن الفوطى، ص 477 و 492).
ولدينا روايات ثلاثة من الجغرافيين عن هذه الفترة وهم: ابن عبد الحق (حوالي
700 هـ = 1300 م) وابن بطوطة (727 هـ = 1327 م) والمستوفى (740 هـ = 1339 م).
ويقول صاحب كتاب المراصد إنه لم يبق شيء من غربي بغداد سوى بضعة أحياء منعزلة، أكثرها سكانًا حي الكرخ (ص 201). ويتحدث عن حي القُرَيَّة وحى الرَّمْليَّة الآهل بالسكان وسوق دار الرقيق، وَدار القزّ التي تقف وحدها حيث كان يصنع الورق، وحى باب المُحَوَّل الذي يقف وحده كأنه قرية منعزلة (المراصد، [طبعة القاهرة]، ص 146، 201، 507، 773، 1088).
ويشير إلى البيمارستان العَضُدى ويقول إنه لم يبق شيء من أحياء الحريم الطاهرى، ونهر طابق والقطيعة على حين كان حي توثة يبدو كأنه قرية منعزلة (المراصد، ص 280، 837، 397، 1403). ويقول كتاب المراصد عن شرقي بغداد: "حتى جاء التتر إليها فخرب أكثرها وقتلوا أهلها كلهم فلم يبق منهم غير آحاد، كانوا أنموذجًا حسنًا وجاءها أهل البلاد فسكنوها". ص (201). ويقول إن الحلَبَة والقُرَيَّة والقطيعة كانت أحياء مزدحمة بالسكان (المراصد، ص 417، 1088، 1110). ويسير ابن بطوطة على نهج ابن جبير ولا يكاد يختلف عنه. ومع ذلك فإنه يتحدث عن قنطرتين في بغداد ويورد تفاصيل جديدة عن الحمامات الممتازة في المدينة (طبعة القاهرة سنة 1908، جـ 1، ص 140 - 141). ويقول إن المساجد والمدارس كانت كثيرة بيد أنها كانت خرابًا بلقعا (المصدر المذكور، جـ 1، ص 140).
وللمعلومات التي أوردها المستوفى دلالتها، فهو يتفق في وصفه لسور شرقي بغداد مع ابن جبير. ويقول إن السور كان به أربعة أبواب ويحيط بالمدينة على هيئة نصف دائرة محيطها 18.000 خطوة. أما غربي بغداد، ويسميه الكرخ، فكان يحيط به سور محيطه 18.000 خطوة. ووجد أن الحياة سهلة ميسورة في بغداد وأن أهلها لطاف المعشر، ولكن لغتهم العربية محرفة. ووجد أن السيادة في بغداد للشافعية والحنابلة على الرغم من أن أتباع المذاهب الأخرى كثيرون. وكانت
المدارس والرباطات عديدة، ولكنه نوه قائلًا إن النظامية كانت أعظمها جميعًا، على حين شغلت مدرسة المستنصرية أجمل مبنى (نزهة القلوب، ص 40 - 42). وقد يُردّ ضريح الست زبيدة إلى هذا العهد، والسيدة التي أطلق اسمها عليه قد تكون زبيدة، حفيدة أكبر أبناء المستعصم (العزاوى، جـ 1، ص 406).
وفي عام 740 هـ (1339 م) مكّن حسن بُزرْك لنفسه في بغداد وأسس الدولة الجلائرية التي ظلت في الحكم حتى عام 813 هـ (1410 م). ويرجع مسجد مرجان إلى هذا العهد. ونعلم من نقوشه أن مرجان، وهو من قواد أويس، شرع في بناء المدرسة ومسجدها في عهد حسن بزرك وأتم بناءها في عهد أويس عام 758 هـ (1337 م). وكانت المدرسة وقفًا على الشافعية والحنفية (نص النقوش وارد في كتاب الآلوسى: المساجد، ص 45 وما بعدها؛ Mission: Massignon، جـ 2، ص 1 وما بعدها). ولم يبق الآن من المدرسة -أو المسجد فيما بعد- إلا الباب.
ونسمع فيما عدا ذلك عن فيضان أو حصار أو فتن أحدثت ضررًا بليغًا وخسارة فادحة.
وقد استولى تيمور على بغداد مرتين، أولاهما عام 795 هـ (1392 - 1393 م) وفيها نجت المدينة ولم يلحقها إلا ضرر قليل، والثانية عام 803 هـ (1401 م) عندما أُعمِلَ السيف في رقاب أهلها بلا تمييز وخرب الكثير من مبانيها العامة (العباسية) وأحيائها. وكانت هذه ضربة قاضية على الثقافة في بغداد. وعاد أحمد الجلائرى إلى بغداد عام 807 هـ (1405) وأصلح الأسوار التي دمرها تيمور وحاول ترميم بعض المبانى والأسواق ولكن حياته كانت قصيرة.
وانتقلت بغداد عام 813 هـ (1410 م) إلى أيدى التركمان القره قويونلى الذين احتفظوا بها حتى عام 872 هـ (1467 - 1468 م)، وجاء بعدهم التركمان الآق قويونلى. واستمرت بغداد تنحدر إلى هوة أعمق في عهد التركمان وعانت كثيرًا من فساد الحكم، وهجر المدينة عدد كبير
من سكانها. ولا شك أن تكرار حدوث الفيضان وما ترتب عليه من دمار إنما يرجع إلى ما أصاب نظام الري من خراب .. ويتحدث المقريزى في حوادث عام 841 هـ (1437 م) فيقول: "إن بغداد تخربت، فلم يبق فيها مسجد ولا زاوية ولا سوق. وجفت معظم المياه من قنواتها حتى يصعب القول بانها مدينة (المقريزى: السلوك، جـ 3، ص 100؛ انظر العزاوى، جـ 3، ص 79 وما بعدها؛ الكرملى، ص 61 وما بعدها). يضاف إلى هذا أن العصبية القبلية سادت وأن أحلاف القبائل بدأت تقوم بدورها في إثارة الفتن في حياة البلاد. وفي عام 914 هـ (1507 - 1508 م) انتقلت بغداد إلى حكم الشاه إسماعيل الصفوى، وبدأت فترة تنازع فيها الفرس والعثمانيون على امتلاك بغداد، وجدت صداها في أغنية بغداد "بين العجم والروم ياويلنا ياويلنا". وهدمت أضرحة الكثيرين من أهل السنة وبخاصة ضريحا أبي حنيفة وعبد القادر الجيلانى، وقتل الكثيرون من كبار أهل السنة بناء على أوامر الشاه إسماعيل. ومهما يكن من شيء فإنه قد شرع في بناء ضريح لموسى الكاظم. وأقام واليا منحه لقب خليفة الخلفاء (العزاوى، حـ 3، ص 336 - 343) وأقبل عدد كبير من التجار العجم إلى بغداد وكانوا سببًا في رواج التجارة. وبعد فترة قصيرة من استيلاء الأمير الكردى ذي الفقار على بغداد، واعلان ولائه للسلطان سليمان القانونى، غلب على المدينة مرة أخرى الشاه طهماسب عام 936 هـ (1530 م)، ودخل السلطان سليمان بغداد عام 941 هـ (1534 م)، وبنى قبة لضريح أبي حنيفة ومسجدًا ومدرسة وأعاد بناء المسجد والتكية وضريح الجيلانى وأمر بإقامة خان للفقراء في كل من المسجدين. وأمر أيضًا بتكملة بناء ضريح ومسجد الكاظمين، الذي كان الشاه إسماعيل قد شرع فيه (سليمان- نامه ص 119، أوليا جلبى، جـ 4، ص 426، الآلوسى: المساجد، ص 117؛ العزاوى، جـ 4، ص 28 وما بعدها). وأمر بمسح الأراضي المملوكة وتسجيلها ونظم إدارة الولاية (أوليا جلبى، جـ 4، ص 41). وعهد بها
إلى والٍ (باشا) ودفتر دار (للمالية) وقاض. وأقيمت حامية في بغداد، قوامها الإنكشارية.
وشيدت مبان قليلة في الفترة التالية. ففي عام 978 هـ (1570 م) شيد مراد باشا مسجد المرادية في حي الميدان. وأعيد بناء مسجد الجيلانى. وشيد جالزاده خانًا، ومقهى وسوقًا شهيرة. كما شيد جامع الصغا، أو جامع الخفافين، وأعاد بناء تكية المولوية المعروفة الآن باسم مسجد الآصفية (العزاوى، جـ 4، ص 116، 128 - 132؛ انظر الآلوسى: المساجد، ص 30 - 31 و 62 - 64). وشيد حسن باشا المسجد المعروف باسمه، والمسمى أيضًا بجامع الوزير (كلشن خلفا، ص 66؛ أوليا جلبى، جـ 4، ص 419). كما أقام حصنًا وحفر خندقا حول الكرخ لحمايتها من البدو.
ويبدأ الرحالة الأوربيون زيارة بغداد في هذا العهد. ويتحدثون عنها بوصفها ملتقى للقوافل ومركزًا كبيرًا للتجارة مع الجزيرة العربية وبلاد فارس وتركية. ورأى سيزار فردريكو Caesar Fredrigo (عام 1563 م) الكثيرين من التجار الأجانب في المدينة. وشهد سير أنتونى شيرلى Sir Anthony Sherley(عام 1590 م)"سلعًا جيدة من جميع الأنواع رخيصة جدًّا"(Purchas. جـ 8، ص 384). وكان فيها قنطرة من القوارب، تربطها سلسلة كبيرة من الحديد، وعندما تعبر بعض القوارب النهر جيئة أو ذهابا، ترفع بعض القوارب التي تتألف منها القنطرة حتى تنتهي حركة المرور بالنهر. (Ralph Fitch في سنة 1583، مجموعة (Hakluyt، جـ 3، ص 282 - 283). ورأى راوولف Rauwolf (عام 1574) شوارع ضيقة وبيوتا زرية البناء. وكان الكثير من المبانى أطلالًا خربة. وكانت بعض العمائر العامة- مثل مقر الباشا والسوق الكبيرة أو سوق المبادلات التجارية - في حالة جيدة. أما حماماتها فكانت حقيرة. وكان الجانب الشرقي منها جيد التحصين بسور وخندق، أما الجانب الغربي فكان مكشوفا أدنى إلى القرية الكبيرة في هظهره) Travels: Rauwolf، في مجموعة راى Ray، لندن سنة 1605، جـ 1، ص 179 وما بعدها). أما
أسوار المدينة فكانت من الآجر وكانت لها ملحقات، تضم أربعة أبراج بارزة ركبت عليها مدافع ثقيلة من البرونز في حالة جيدة (TraveLs: Texeira، مجموعة Hakluyl، ص 31). وقيل إن محيط الأسوار يتراوح بين ميلين وثلاثة أميال. ولاحظ جون إلدرد Eldred John (عام 1583)(أن الناس كانوا يتحدثون بثلاث لغات في بغداد وهي العربية والتركية والفارسية (مجموعة Hakluyt، جـ 3، ص 325).
ووجد رالف فتش Ralph Fitch(عام 1583) أيضًا أن بغداد لم تكن مدينة كبيرة جدًّا ولكنها كانت مزدحمة بالسكان. وقدر الرحالة البرتغالى يدرو تكسيرا Pedro Texeira(عام 1604) عدد المنازل في شرقي بغداد بما يتراوح بين عشرين ألف وثلاثين ألف منزل. وكانت في بغداد دار لسك النقود، تضرب فيها العملات الذهبية والفضية والنحاسية. وكانت بها مدرسة لتعليم الرمي بالسهام وأخرى لتعليم الضرب بالبنادق، حافظت عليها الحكومة (Travels مجموعة هكلويت Hakluyt ص 31).
وعلى إثر الفتنة التي قام بها بكر الصوباشى، فتح الشاه عباس الأول بغداد عام 1032 هـ (1623 م).
وتعرضت للدمار مبانى المدارس وأضرحة أهل السنة، ومنها مسجدا الجيلانى وأبي حنيفة. وقتل ألوف أو بيعوا كالأرقاء وعُذب آخرون (كاتب جلبى: فذلكه، جـ 2، ص 50؛ خلاصة الآثار، جـ 1، ص 383؛ العزاوى، جـ 4، ص 178 - 182). وشيد صفى قُلى خان، الوالى الفارسى في هذا العهد، السراى (مقر الحكومة).
واسترد العثمانيون بغداد عام 1048 هـ (1683 م) بقيادة السلطان مراد الرابع نفسه. وأمر بإعادة بناء الأضرحة وبخاصة ضريحى أبي حنيفة والجيلانى. وسَور، عند رحيله، باب الطلسم وظل قائمًا حتى هدمه الأتراك عند انسحابهم 1917. وقام صدره الأعظم بترميم القلعة ترميما جيدًا. ووصلت إلينا حقائق أخرى من الرحالة في هذه الفترة، مثل تافرنييه Tavemier (عام 1652) وأوليا جلبى (عام 1655) وتيفينو Thevenot(عام 1663). وكان السور المحيط بشرقى
بغداد يكاد يكون دائرى الشكل، وارتفاعه 60 ذراعًا وعرضه من 10 - 15 ذراعا وفيه فتحات للمدافع؛ وبه أبراج عظيمة في الأركان الرئيسية، منها أربعة اشتهرت في هذه الفترة - وأبراج أصغر تبعد كل منها مسافة قصيرة عن الأخرى. وثبتت مدافع من النحاس الأصفر على الأبراج الكبرى. وأكمل السور على ضفة النهر للدفاع عنها بحق (وتبين خريطة نصوح الصلاحى التي رسمت للسلطان سليمان عام 1537 هذا السور؛ Atlas: Asousa of Baghdad، ص 12). وكان في السور الذي على البر 118 برجا وفي السور الذي على ضفة النهر 45 برجا (حاجى خليفه [عام 1657]: جهاننما ص 457 وما بعدها) ويتحدث كربورتر Ker Porter [عام 1819] عن برجا، منها 17 برجا كبيرا (Travels ص 265؛ انظر Travels: Buckingham، ص 372). وكان للسور ثلاثة أبواب في الجانب الواقع على البر (لأن باب الطلسم مسوَّر) وهي: باب الإمام الأعظم في الشمال على بعد 700 ذراع من نهر دجلة، وقرا نلق قابى (باب كلوادى) أو الباب الأسود في الجنوب على بعد 50 ذراعًا من نهر دجلة، وآق قابى (الباب الوسطانى) أو الباب الأبيض في الشرق. أما الباب الرابع فكان عند القنطرة. وقاس أوليا جلبى طول السور فوجد أنهِ 800 ر 28 خطوة بالسير البطئ أو سبعة أميال (الميل الواحد = 4000 خطوة) بينما يذهب حاجى خليفة إلى أن طوله 200 ر 12 ذراع أو ميلان (يرى نيبور Niebuhr وأوليفييه Olivier أن طول شرقي بغداد ميلان). ومن رأى ولستد Wellsted أن محيط الأسوار سبعة أميال. ويقول فلكس جونز Felix Jones الذي قام بمسح بغداد عام 1853 أن محيط أسوار شرقي بغداد، وتضم واجهة النهر، 10.600 ياردة أو حوالي ستة أميال (Olivier: Voyage، جـ 2، ص 379 - 80؛ - Well Travels: sted جـ 1 ص 255؛ Felix Jones ص 318؛ انظر Rousseau، ص 1 Tavemier ص 84). وكان يحيط بالسور خندق، عرضه ستون ذراعًا، يجلب له الماء من نهر دجلة. وتقوم القلعة (القلعة الداخلية)
في الطرف الشمالي الغربي من السور، من باب المعظم إلى نهر دجلة؛ ويحدق بها سور واحد به أبراج صغيرة ركبت عليها المدافع. وكانت هناك ثكنات ومخازن للذخيرة الحربية والمؤن العسكرية وكذلك الخزانة ودار سك النقود. أما السراى، التي يقيم بها الباشا، فكانت أسفل القلعة، وبها بساتين فسيحة وجواسق جميلة. وعلى الطرف الآخر من القنطرة كانت هناك قلعة تسمى قوشلر قلعه سى أو قلعة الطيور، ولها باب على القنطرة (أوليا جلبى، جـ 4، ص 416؛ حاجى خليفة: جهاننما، ص 457 - 460؛ Tavernier ص 64؛ : Thevenot Voyage جـ 2 ص 211). ويشير أوليا جلبى إلى مساجد بغداد الكثيرة ويتحدث عن تسعة مساجد هامة منها. أما المدارس فأكبرها مدرستان هما المَرْجانية ومدرسة الخلفاء (المستنصرية). وكان بين الخانات الكثيرة اثنان صالحان. ويتحدث عن ثماني كنائس وثلاثة معابد لليهود، ويورد أرقامًا مبالغًا فيها لعدد التكايا (700) والحمامات (500). وكان جسر القوارب من 37 إلى 40 قاربًا حسب ارتفاع مياه النهر، وفي الإمكان رفع بعض القوارب في الوسط إما لدواعى الأمن بالليل أو لتيسير حركة المرور بالنهر أولمجرد الاحتياط الذي تقتضيه الضرورة العسكرية. وكانت اللغات الكبرى التي يتحدث بها الناس في بغداد هي العربية والتركية والفارسية. وكان ببغداد أجود أنواع الحمام الزاجل.
ومهما يكن من شيء فإن بغداد كانت لا تزال تسير في طريق الاضمحلال، فقد بلغ عدد سكانها أقل رقم وصل إليه وهو 15.000 نسمة (Travels: Tavernier، لندن سنة ص 85 - 86؛ أوليا جلبى: سياحت نامة، جـ 4، ص 420 وما بعدها؛ : voyage: Thevenot، جـ 2، ص 211).
وحكم بغداد 42 باشا بين عامي 1048 هـ (1638 م) و 1116 هـ (1704 م) ولم يكن هناك مجال لأى تقدم حقيقى. ولقد تمتع الباشوات بشبه استقلال ذاتى، وكانت قوة الإنكشارية عظيمة. واشتد بأس القبائل وأصبح شيئًا فشيئًا يهدد الحياة في المدينة.
وإذا استثنينا ترميم أسوار المدينة أو المساجد فإننا لا نجد من الإصلاحات إلا القليل. فقد شيد كوجوك حسن باشا ثلاثة أبراج بالقرب من برج العجم. وأعاد خاصَّكى محمد باشا بناء طابية الفاتح، ورمم الأسوار بعد فيضان عام 1657. ورمم أحمد بُشْناق الأبراج، وبخاصة برج الجاويش (جاووش) وشيد برج الصابونى (عام 1687). ولقيت المساجد بعض العناية فقد أعاد دلى حسين باشا (عام 1644) بناء مسجد القمرية. وشيد مسجد الخاصكى في رأس القرية. وأعاد سلحدار حسين باشا (عام 1671) بناء مسجد الفضل الذي أصبخ يعرف باسم جامع حسين باشا، وأحاط ضريح عمر السُهْرَوردى بسور وجلب إليه الماء بشق قناة. ورمم عبد الرحمن باشا (عام 1674) جامع الشيخ معروف وأكمل السد الذي شرع في بنائه سلفه لحماية الأعظمية من مياه الفيضان. وأعاد قبلان مصطفى (عام 1676 م) بناء جامع الشيخ القدورى الذي أصبح يعرف باسم جامع القبلانية. ورمم عمر ياشا (عام (1678) مسجد أبي حنيفة وحبس عليه أوقافًا جديدة. وجدد إبراهيم باشا (عام 1681) جامع السيد سلطان على وجامع السراى. وأعاد إسماعيل ياشا (عام 1698) بناء جامع الخَفَافين (العزاوى، جـ 4، ص 27، 64، 109، 116، 143، كلشن خلفا، ص 102، 103، 106.105 الألو سى: المساجد، ص 37، 57 - 58)، وشيَّد أحمد بشناق (عام 1678) خان بنى سعد المشهور على حين شيَّد السلحدار حسين باشا سوقا جديدة بالقرب من المستنصرية.
وشهد مطلع القرن الثامن عشر الفوضى تضرب أطنابها بصورة مروعة في إيالة بغداد، فالأنكشارية يصبحون سادة الموقف في المدينة، والقبائل العربية تسيطر على أرض الريف المجاورة والسلام والأمن لا وجود لهما بالنسبة للتجارة. وكان تعيين حسن باشا عام 1704 ثم تعيين ابنه أحمد بعده، ايذانًا ببدء عهد جديد لبغداد. فقد استعانا لأول مرة بالمماليك (كوله من) لكبح جماح الإنكشارية ووضعا الأساس لسيادة المماليك التي دامت حتى عام 1831. وأصبح من الميسور السيطرة
على الإنكشارية والقبائل العربية، واستتب النظام كما أمكن توقى التهديد الفارسى. وأعاد حسن باشا بناء مسجد السراى (جديد حسن باشا). وألغى المكوس على الوقود والمأكولات، وأغاث الأحياء وخلصها من المظالم واغتصاب الأموال الذي كان يحدث عقب جرائم القتل (Gazetteer of the Persian Gulf مجلد 1، القسم الأول، ص 1193 - 1194؛ سليمان فائق: حروب الأيرانيين، مخطوطة، ورقة رقم 18 - 19؛ الكاتب نفسه: تأريخ الممالك، مخطوطة، ورقة رقم 4؛ حديقة الزوراء [مختصرة]، مخطوطة، ص 9؛ كلشن خلفا، ص 225). واستمر أحمد باشا يسير على نهج أبيه ورفع إلى حد كبير هيبة بغداد. وحاصر نادر شاه بغداد مرتين عامي 1737 و 1743، على الرغم من أن المدينة قاست كثيرًا من الحصار الأول فإن أحمد باشا صمد وأنقذ المدينة. فلما مات أحمد باشا عام 1747 حاولت الآستانة أن تفرض سلطانها من جديد على بغداد ولكنها فشلت بسبب معارضة المماليك. وكان سليمان باشا أول مملوك ينصب واليا على بغداد عام 1749. وهو يعد المؤسس الحقيقي لنظام الحكم المملوكى في العراق. واضطر السلطان مذذاك إلى أن يعترف بوضعهم وأن يصدق بوجه عام على تعيينهم في مناصب الولاة.
وأراد حسن باشا الذي تربى في البلاط العثمانى (بيت الرقيق) أن يحذو حذوه، فشيد بيوتا وشرع في تدريب المماليك الجراكسة والكرج وأبناء أقطاب القوم في هذه البيوت. وتوسع سليمان وقتذاك في هذا التدريب، وكان هناك على الدوام نحو 200 مملوك يتلقون التدريب في المدرسة، لإعدادهم ليكونوا ضباطا وموظفين. وكانوا يتلقون تعليما أدبيا ويتدربون على استخدام الأسلحة، وفن الفروسية والألعاب الرياضية، ويتلقون آخر الأمر شيئًا من التربية الخاصة بالقصور، ليخرج منهم صفوة يتولون الحكم (سليمان فائق: تأريخ الممالك؛ دوحة الوزراء، ص 8)، وتكونت طبقة من الحكام تجمع بين الدربة والمقدرة والحصافة. ولكن الضعف تسرب إلى صفوفهم بسبب مشاعر الحسد والدسائس. وأخضع سليمان شوكة القبائل واستتب في عهده النظام
والأمن وشجع التجارة. وخلفه على باشا عام 1175 هـ (1762 م) وتلاه عمر باشا عام 1177 هـ (1764 م؛ تأريخ جودت، الطبعة الثانية، جـ 1، ص 339 - 340) واعتمدت بومباى عام 1766 إقامة دار للمعتمد البريطانى في بغداد (Gazetteer، جـ 1، ص 1225). وتفشى طاعون وبيل في بغداد عام 1186 هـ (1772 م) واستمر ستة شهور، وهلك آلاف وهاجر آخرون وتوقفت الأعمال التجارية (Gazetteer. جـ 1، ص 324).
وقد أدى استتباب الأمن إلى أن تصبح بغداد مركزًا تجاريًا عظيمًا. وقد كتب شاهد عيان سنة 1774 يقول: "هذه هي السوق الكبرى لمنتجات الهند وبلاد فارس والآستانة وحلب ودمشق؛ وصفوة القول إنها المستودع العظيم للشرق"(Gazetteer، جـ 1، ص 1233). وأدى الشقاق بين المماليك وضعف قيادتهم إلى قيام عهد انتشرت فيه الفتن والمنازعات القبلية وإلى غزو البصرة على يد الفرس. وانتهى هذا العهد عندما أصبح سليمان باشا الكبير واليًا (1193 هـ = 1779 م) وجمع بين بغداد وشهرزور، والبصرة وكبح جماح القبائل واستتب السلام وانتعشت قوة المماليك (تاريخ جودت، جـ 2، ص 146، 157، 158؛ الصوفى: تاريخ المماليك، ص 19 وما بعدها، ص 54 وما بعدها؛ س. فائق: تاريخ المماليك، ورقة رقم 16 - 17).
ورمم سليمان باشا أسوار شرقي بغداد، وشيد سورًا حول الكرخ وأحاطه بخندق. وأعاد بناء السراى، وبنى مدرسة السليمانية، وجدد مسجد القيلانية والفضل والخلفاء. وعلاوة على هذا فإنه بنى سور السَرّاجين. وشرع مولاه (الكخيا) في بناء مسجد الأحمدية (جامع الميدان) ليكمله شقيق الكخيا (عثمان بن سند [الطبعة المختصرة]، ص 70 - 73، 76 - 77). وشهد آخر عام من حياته (1802) طاعونًا يتفشى في بغداد (Gazetteer. جـ 1، ص 1285؛ ياسين أفندى العمرى: غرائب الأثر، ص 64). وألغى كوجوك سليمان (عام 1808) عقوبة الإعدام إلا إذا حكمت بها المحاكم الشرعية. ومنع مصادرة الأموال وألغى
الرسوم المفروضة على رفع القضايا في المحاكم، وخصص مرتبات للقضاة (س. فائق، تأريخ المماليك، ورقة رقم 16 دوحة الوزراء، ص 250).
وولى داود باشا الحكم (عام 1816) بعد فترة سادتها القلاقل. وأخضع شوكة القبائل واستعاد النظام والأمن. وطهر بعض قنوات الري وأنشأ مصانع لانتاج القماش والأسلحة وشجع الصناعة المحلية. وشيد ثلاثة مساجد كبيرة أهمها مسجد حيدر خانه. وأنشا ثلاث مدارس وبنى سوقًا بجوار القنطرة. ونظم جيشا قوامه حوالي 000 ر 20 جندى واستقدم ضابطًا فرنسيًا لتدريبه. وعادت إدارته القديرة الذكية بالرخاء على المدينة. ومهما يكن من شيء فإنه اضطر إلى فرض مكوس باهظة في بغداد. وكان سقوط حكم داود ونهاية عهد المماليك نتيجة سياسة محمود الثاني التي اتسمت بالمركزية والإصلاح، وإلى جانب الطاعون الوبيل، والقحط، والفيضان التي تأثر بها معظم سكان المدينة (1247 هـ = 1831 م؛ حديقة الزوراء، [الطبعة المختصرة]، مخطوطة، ورقة رقم 43 - 44، 55 - 56؛ ا. ر. سويدى: نزهة الأدباء، مخطوطة، ورقة رقم 41 - 42؛ مرآة الزوراء، ص 59؛ س. فائق: تأريخ المماليك مخطوطة، ورقة رقم 39 - 52؛ Gazetteer جـ 1، ص 1316 Frazer: TraveLs، جـ 1، ص 224 - 5؛ Hand book of Mesopotamia، جـ 1، ص 80 - 81).
وقد نقل النظام الإدارى ببغداد على نطاق صغير من نظيره في الأستانة. واحتفظ الباشا بالسلطة العسكرية والإدارية العليا. وكان الكتخدا (أو الكخيا) وهو أشبه بالوزير، على رأس الإدارة، يعاونه الدفتر دار الذي كان مديرًا للمالية وديوان أفندى سى أو رئيس الحجاب. وكان ثمة رئيس لحرس القصر وأغا للإنكشارية. وكان القاضي على رأس السلطة القضائية. وكان الباشا يدعو الديوان الذي يضم الكخيا والدفتر دار والقاضي والقائد والشخصيات الكبيرة الأخرى لمناقشة المسائل الهامة، وكان في القصر بيتان بهما مدرسون ومعلمون (لالات) لتعليم المماليك (جودت، جـ 2، ص 287؛
جـ 3، ص 204. عثمان بن سند، ص 31 - 32، 56، 39؛ Rousseau، ص 25 وما بعدها). وكان قوام جيش المماليك 12500 جندى ويرتفع عددهم في حالة الضرورة إلى 30.000 بتجنيد الأهالى وبالمجندين من باقي أرجاء الولاية (س. فائق: المماليك، ص 51 - 52).
إن موقع المدينة المدؤرة قد حددته القنوات القديمة، وبخاصة قناة عيسى وقناة الصراة. ولا يزال مجرى قناة عيسى يعرف بالعيساوى أو الداودى، ويمكن مشاهدة القناة التي تنساب في المدينة وتتبعها حتى قناة الخرَ، بيد أن الجزء الأدنى منها قد أزيل. غير أننا نعرف أن القنطرة الرئيسية في القرن الخامس الهجرى (الحادي عشر الميلادي) كانت عند مَشْرَعة الرَوَاية بجانب قناة عيسى. وأن هذه المشرعة كانت مقابلة لسوق الثلاثاء تحت قنطرة المأمون الحديثة (ابن الجوزي: المنتظم، جـ 8، ص 169؛ الكاتب نفسه: مناقب بغداد، ص 20؛ انظر Mis-: Massignon sion، جـ 2، ص 104 - 105). ومع ذلك فإني لجأت إلى استخدام آلة "السبكتروغراف" لعمل مسح لمنطقة بغداد ووجدت أن مجرى قناة عيسى حتى نهر دجلة كما هو موضح على الخريطة (عند الشَّوَاكة الحديثة) يتفق مع ما أشرت إليه فيما سبق.
وكانت قناة الصراة تصب في نهر دجلة بالقرب من باب الشعير. ويقول ابن الفقيه (مخطوطة مشهد) إن باب الشعير كان بالقرب من نهر الشريعة الذي كانت تتوقف عنده المراكب القادمة من الموصل. ونهر الشريعة المشار إليه لا يمكن أن يكون موضعه اليوم إلا القمرية.
وكان الحد الجنوبي للمدينة المدورة بالقرب من قناة الصراة، عند ملتقى هذه القناة بنهر دجلة. وكانت قرية سونايا خارج سورها، بالقرب من القسم الشمالي [انظر ابن الجوزي: المناقب، ص 24). وكانت هذه القرية، على الأرجح، في موضع المنطقة الحالية، ومن ثم فإن المنطقة هي الحد الشرقي للمدينة المدورة التي كانت لا تقع مباشرة على نهر دجلة. وقد حدد أحمد بن حنبل موقع مدينة بغداد بين
قناة الصراة وباب التبن، وبهذا يرى أن خندق طاهر هو الحد الشمالي لها. وكان هذا الخندق يضم الحريم الطاهرى ولا يترك وراءه إلا قطيعة أم جعفر (الخطيب، ص 79؛ المناقب، ص 28). ولما كان جناح الحريم الطاهرى قد اكتسحت معظمه مياه نهر دجلة أثناء تغيير مجراه (كما يقول صاحب كتاب المراصد)، فإن حده لا يمكن أن يتجاوز خط عرض 33 ْ 22 َ شمالًا، ومن ثم فلا ريب أن الحد الشمالي للمدينة المدورة كان عند خط عرض 33 ْ 21 َ.
وكان معسكر المهدي (الرصافة) يكاد يقابل المدينة المدورة، وكان حي الشماسية في الجهة المقابلة لحى الحربية، بينما كان باب الشماسية يكاد يقابل باب قَطْربُّل (الإصطخري، ص 83؛ الطبري، جـ 3، ص 1576).
وكانت الشماسية شمالي حي أبي حنيفة وشرقيه، وأسفل حي أبي حنيفة تقع مقبرة الخلفاء ويليها مسجد الرصافة. ويدل الحفر وتحليل التربة على أن هذه المقبرة كانت فوق النادى الرياضى الملكى السابق بقليل. وكان مسجد الرصافة على مسيرة نحو ميل شمالي جامع السلطان عند المخرم العليا التي لا يمكن أن تكون فوق العيواضية الحديثة، وعلى هذا فإن المسجد كان عند الحد الشمالي لساحة عنترة.
وكانت المستنصرية هي الحد الجنوبي للمخرم وبداية سوق الثلاثاء التي كانت تنتهي عند جامع الخلفاء (ويمكن اقتفاء أثرها بمئذنة سوق الغزل) وعلى هذا فإن القصور الملكية (حريم دار الخلافة) تبدأ وتمتد عبر القُرَيَّة- التي لا تزال تحتفظ باسمها - وتنتهي عند الرَبْض في المُرَبَّعَة - التي لا تزال تحتفظ أيضًا باسمها، (انظر ابن جبير). وهذا يحدد موضع حريم دار الخلافة بين شارع السمؤل تقريبًا وجامع سيد سلطان على. وعند حفر أساسات المبنى الجديد لمصرف الرافدين، على مسيرة حوالي خمسين ياردة من شارع السمؤل اصطدمت المعاول بمطبخ، يرجح أنه كان مطبخ دار الخلافة (الجهشيارى، طبعة القاهرة سنة 1938، ص 189، 195؛ ابن الأثير، جـ 10، ص 73؛ ياقوت، جـ 2، ص 587؛ جـ 3، ص 195، انظر Mission: Massignon ص 89؛ سومر،
جـ 2، ص 197). وينطبق حد سور المستعين شرقًا على سدّ ناظم باشا تقريبًا كما يتضح من حفر أساسات المنازل الجديدة.
انظر الخريطة المرفقة
(1)
الكاظمين
(2)
قطيعة أم جعفر
(3)
دجلة القديم
(4)
الحريم
(5)
حي الحربية
(6)
باب الشام
(7)
الخندق الطاهرى
(8)
المدينة المدورة
(9)
قصر ومسجد باب الذهب
(10)
باب الكوفة
(11)
قناة الصراة
(12)
حي الكرخ
(13)
ربع الكرخ
(14)
قناة عيسى
(15)
المحول
(16)
مدينة المنصور الحديثة
(17)
باب البصرة
(18)
الشماسية
(19)
ربع أبي حنيفة
(20)
الرصافة
(21)
سور المستعين
(22)
السد الشرقي
(23)
سد نديم باشا
(24)
المخرم
(25)
باب السلطان (الباب الشمالي)
(26)
سوق الثلاثاء
(27)
باب الخلافة
(28)
ربع الظفرية
(29)
باب الظفرية (الباب
الوسطانى) (آق قابى)
(30)
باب الطلسم (باب الحلبة)
(31)
سور المستظهر وما بعده
(32)
قصر المعلى
(33)
المأمونية
(34)
باب الأزج
خريطة
(35)
سوق الثلاثاء
(36)
باب البصلية (قرا نلق قابى)
(البوابة الجنوبية)
(37)
معسكر الرشيد
(38)
بغداد الجديدة
(39)
مقياس الرسم
صفر - 400 - 800 - 1200 - 1600 - 2000
ويقدم لنا الرحالة الأوربيون في هذا العهد بعض المعلومات عن بغداد. وينوه البعض بأن الأسوار بنيت ورممت في عهود كثيرة مختلفة، وأن الأجزاء القديمة هي الأفضل (Travels: Buckingham ، سنة 1827، ص 332؛ انظر Memoir: Felix Jones ص 309). وكانت المنطقة المحصورة داخل الأسوار (شرقًا) تبلغ مساحتها طبقًا لتقدير فيلكس جونز Felix Jones 591 فدانًا (انظر Journey: Dr. Lves لندن سنة 1778، ص 20؛ Rousseau: Description ص 5). ويبدو أن السور القائم على النهر قد أهمل وأن بيوتًا شيدت على الضفة (Voyage: Olivier، سنة 1804، جـ 2، ص 379). ولم يشغل أحد قسمًا كبيرًا من المدينة داخل الأسوار، وبخاصة في الجانب الشرقي. أما القسم القريب من النهر فكان آهلًا بالسكان، ولكن حتى هناك كانت البساتين من الكثرة بحيث بدا هذا القسم كأنه مدينة تقوم وسط حرج من النخيل (Niebuhr، جـ 2، ص 239؛ Buckingham، ص 373؛ Wellsted: Travels، سنة. 1840، جـ 1، ص 255). وكانت السراى فسيحة وفيها بساتين جميلة ومجهزة بأثاث ثمين (Rousseau، ص 6؛ Ker Porter، ص 263).
أما الجانب الغربي وهو الكرخ، فكان بمثابة ضاحية فيها بساتين عديدة. وكان في مبدأ الأمر خاليًا من وسائل الدفاع (Rousseau، ص 5؛ Lves، ص 28) إلى أن جاء سليمان باشا فبنى السور الكبير وفيه أربعة أبواب: - باب الكاظم (شمالًا) وباب الشيخ معروف (غربًا)، وباب الحلَّة (في الجنوب الغربي) وباب الكريماتَ (جنوبًا). وكان طول الأسوار 5.800 ياردة. وتحيط بمنطقة مساحتها 246 فدانًا (Jones.F، ص 309). ووجد كر بورتر Ker Porter (سنة 1818) أنها
تضم حوانيت في شوارع عديدة واسعة (Ker Porter، جـ 2، ص 255؛ المنشئ البغدادي: الرحلة، ص 31). وفضلًا عن ذلك فإن هذا الجانب لم يكن آهلا بالسكان مثل الجانب الشرقي، وكان يسكنه عادة عامة الناس (Niebuhr، جـ 2، ص 244، Rousseau، ص 4)، وكان عرض جسر القوارب ست أقدام؛ وعليه كان الناس يعبرون النهر أو يستخدمون القفف لعبوره (Ker Porter، جـ 2، ص 255؛ Niebuhr، جـ 2، ص 243؛ المنشئ البغدادي ص 243). وزاد عدد السكان بالتدريج في هذا العهد. ويقدر روسو Rousseau (حوالي عا م 1800) عددهم بـ 45.000 نسمة، أما أوليفيه فيرى أنهم 80.000 نسمة، بينما يذهب السكان إلى أن عددهم 100.000 (Rousseau، ص 8؛ Olivier، جـ 2، ص 380)؛ ويقدر بكنجهام Buckingham (1816) أن عددهم يبلغ 80.000 نسمة (Travels جـ 2، ص 380). أما كريوتر Ker Porter (سنة 1818) فيرى أن العدد يبلغ 100.000 نسمة (Travels، ص 265). ويردد المنشئ البغدادي أصداء آراء محلية بقوله إنه كان في بغداد 100.000 بيت، منها 1.500 بيت لليهود و 800 للمسيحيين (الرحلة، ص 24). وما أن يحل عام 1830 حتى يصل التقدير ما بين 120.000 - 150.000 نسمة (Frazer، جـ 1، ص 224 - 225؛ Wellsted) . وكان هناك خليط من الأجناس والملل. وكانت طبقة الموظفين من الأتراك (أو المماليك) أما التجار فكانوا أولًا من العرب، وكان هناك أعجام وكرد وبعض الهنود (am Buckingh، ص 387؛ - Nie buhr، جـ 2، ص 250؛ Ker Porter، جـ 2، ص 265؛ Mellsted، جـ 1، ص 251). وكانت في بغداد أسواق كثيرة، وبخاصة بالقرب من القنطرة، وكانت الأسواق الكبرى مغطاة بقباب من الآجر، أما بقية الأسواق فمغطاة بجذوع النخيل. وبها كثير من الخانات و 24 حمامًا وخمس مدارس كبيرة وعشرون مسجدًا كبيرًا، وكثير من المساجد الصغيرة (am Buckingh، ص 378 - 9؛ Lves، ص 273؛ المنشئ البغدادي، ص 31؛ Niebuhr، جـ 2، ص 230، Well
Sted، جـ 1، ص 257؛ جـ 2، ص 382).
وكانت الطرقات ضيقة، ينتهى بعضها ببوابات تغلق في الليل لحماية السكان. وكانت البيوت مرتفعة، فيها نوافذ قليلة تطل على الشوارع. ويتألف البيت في الداخل من سلسلة من الحجرات تفضى إلى فناء داخلى مربع به بستان عادة. وكان الناس يلجأون إلى السراديب لاتقاء الحرارة في الصيف، وإلى الأسطح المكشوفة للجلوس بعد العصر. وكانوا ينامون فوق السطح في فصل الصيف (انظر Buckingham، ص 380). ولم تخل بغداد من بعض الصناعات وبخاصة دباغة الجلود ونسيج القطن والحرير والأقمشة الصوفية (Rousseau. ص 9 - 10).
وكانت بغداد خاضعة مباشرة لحكم الآستانة من عام 1831 حتى نهاية العصر العثمانى. وحاول بعض الولاة أن يقوموا بإصلاحات. وكان محمد رشيد ياشا (سنة 1847) أول من حاول تحسين الأحوال الاقتصادية، فأنشأ شركة لشراء سفينتين للنقل تعملان بين بغداد والبصرة وأدى نجاحها إلى قيام مشروع بريطانى مماثل. وأسس نامق باشا (1853) الدمير خانه التي كان في استطاعتها إصلاح السفن (شيحه، ص 54، 58 - 59؛ Gazetteer، جـ 1، ص 1360، 1365 - 1366، 1372). وأدخل مدحت باشا (1869 - 1872) نظام "الولاية" الحديث. فكان للوالى معاون ومدير للشئون الخارجية ومأمون أو كاتب سر. وقسمت الولاية إلى سبع سناجق، يرأسها متصرفون، وكانت بغداد إحداها (Gazetteer، جـ 1، ص 1442، 1447 - 1448). وألغى المكوس المكروهة: الاحتساب (الرسم) على كل إنتاج يجلب إلى أسوار المدينة للبيع، والطالبية، وهي مكس كان يُفرض على أصحاب الحرف النهرية، و"خُمس حطب" أو 20 % على الوقود، و"روس أبكار" على دواليب الري للزراعة، وحلت محلها ضريبة العُشْر على الإنتاج الزراعى (Gazetteer، جـ 1، ص 1442) وأنشأ مدحت عام 1870 ترامًا يصل بغداد بالكاظمية وظل يعمل
70 عاما (على حيدر مدحت: Life ص 51). وأسس (عام 1869) أول دار للنشر، وهي دار نشر الولاية، في بغداد وأسس الزوراء وهي أول جريدة تظهر في العراق، وتنطق رسميًا باسم حكومة الولاية. واستمرت تصدر حتى شهر مارس عام م 1917 جريدة أسبوعية (العزاوى، حـ 7، ص 241؛ على حيدر مدحت: Life of Midhat Pasha، لندن سنة 1903، ص 47 وما بعدها؛ طرازى: الصحافة العربية، حـ 1، ص 78؛ Handbook of Mesopotamia، حـ 1 ص 81). ولم تكن في بغداد مدارس حديثة اللهم إلا بضع مدارس لبعثات التبشير الفرنسية. وأنشأ مدحت بين عامي 1869 و 1871 مدارس حديثة ومدرسة صناعية ومدارس عسكرية رشدية وإعدادية ومدارس ملكية رشدية وإعدادية (الزوراء عدد رقم 182؛ العزاوى، جـ 8، ص 21؛ سالنامه بغداد [1900]، ص 454؛ Chiha، ص 100 - 102). وهدم مدحت أسوار المدينة متخذًا من ذلك خطوة أولى في سبيل إسباغ صفة العصرية عليها. وأكمل بناء السراى التي بدأها نامق باشا) Chiha، ص 66).
واستمرت حركة التعليم التي بدأها مدحت بعد إنتهاء حكمه. وافتتحت أول مدرسة رشدية للبنات عام 1899 (سالنامه، ص 1318). وافتتحت أربع مدارس إبتدائية عام 1890 ومدرسة لمعلمى القسم الابتدائى عام 1900 (سالنامه معارف، إستانبول سنة 1900؛ س. فيضى: نضال، ص 58 - 59). وما إن حل عام 1913 حتى كانت في العراق 103 مدارس: 67 مدرسة ابتدائية، 29 مدرسة رشدية، 5 مدارس إعدادية، وكلية واحدة هي كلية الشريعة (لغة العرب، سنة 1913، ص 335). وأنشئت خمس مطابع بين عامي 1884 و 1907. وظهرت جرائد في بغداد بعد عام 1908، وعند حلول عام 1915 كانت هناك 45 جريدة يصدرها أناس مختلفون.
وخلف مدحت ولاة تعاقبوا على الحكم فترات قصارًا، ولم ينجز في عهدهم إلا القليل. وفي عام 1886 فرض نظام الخدمة العسكرية الإجبارية
(على المسلمين فقط). وفي عام 1879 افتتحت أخيرًا المستشفى التي بناها مدحت (الزوراء، عدد رقم 810). وفي عام 1902 أقيم جسر جديد من القوارب، اتساعه يكفى لمرور العربات، وبه مقهى على الجانب الجنوبي (الآلوسى، ص 25؛ ، Handbook، حـ 2، ص 374). وأرسلت بغداد ثلاثة نواب يمثلونها في المجلس النيابى العثمانى (العزاوى، حـ 8، ص 165). وشيد ناظم باشا عام 1910 سدًا يحيط بشرقى بغداد لحمايته من الفيضان (العزاوى، حـ 8، ص 200 - 201). وكان ناظم باشا آخر الولاة الأقوياء.
ولقد كان الوالى يرأس الإدارة، ويعاونه مجلس، يتألف حوالي نصفه من أعضاء منتخبين، ويعين الباقون (بحكم وظائفهم). وكان بين الأعضاء المنتخبين اثنان من غير المسلمين، . ويعاون الوالى قائم مقام (الزوراء، عدد رقم 1369؛ سالنامه سنة 1292 هـ). وكانت بين الوظائف الهامة مديرية المعارف ومديرية الطابو، ومكتب التسجيل والمحاكم المدنية (سالنامه، سنة 1300 هـ ص 82 - 96). وكانت بغداد، حتى عام 1861، قصبة الإيالات الثلاث: الموصل والبصرة وبغداد. وانفصلت الموصل عام 1861، والبصرة عام 1884، وأصبحت بغداد قصبة المتصرفلقيات الثلاث (Chiha: Province، ص 85).
وترك الطاعون والفيضان عام 1831 آثارا مروعة في بغداد. وأضحت معظم المنازل في شرقي بغداد أطلالا خربة، وثلثا الأرض الفضاء المحصورة داخل الأسوار خالية، بينما كان معظم حي الكرخ خرابًا بلقعًا، وكان في الأسوار القائمة على كلا الجانبين فجوات كبيرة نفذ منها الفيضان، وكانت المدينة في حالة يرثى لها إذا قورنت بما كانت عليه أيام داود باش (Travels: Frazer، جـ 1، ص 269، 233 - 234 ، 252).
ولاحظ سوثكيت Southgate (سنة 1847) أن المدينة أخذت تفيق ببطء من هول الكارثة، وقدر عدد السكان بأربعين ألف نسمة، ولكنه رأى المدارس مهملة ولا تنفق مخصصاتها على الوجه الرشيد (Narrative: Southgate، مجلدان،
سنة 1851، ص 11، 180، 165 - 166، Handbook of Mesopotamia، جـ 1، ص 80 - 81)، وعندما قام فليكس جونز Felix Jones بعمل مساحة لمدينة بغداد (1853 - 1854) كانت الأمور قد تحسنت، وهو يتحدث عن 63 حيًّا في شرقي بغداد، و 25 حيًّا في الكرخ، معظمها لا تزال تحتفظ بأسمائها (Memoir، ص 339، انظر Frazer، ص 233 - 234).
وأخذ عدد السكان يزداد إزديادًا مطردًا بعد منتصف القرن التاسع عشر، وكانوا حوال 60.000 نسمة عام 1853 Felix Jones) ، ص 315، 329). وقدر عدد الذكور من سكان بغداد عام 1867 بـ 67.273 (لغة العرب، سنة 1913)، وفي عام 1877 قدر عددهم جميعًا بما يتراوح بين 70 و 80 ألفًا (Persian Gulf Gazetteer، ص 8، Through Astatic Turkey: Geary، سنة 1878، جـ 1، ص 126). وفي عام 1890 قدر عددهم بما يتراوح بين 80، 100 ألف From Batum to: Harris Baghdad، ص 299؛ Through: Cowper Asiatic Turkey.، ص 270) وقدر عددهم عام 1900 بمائة ألف (Province: Chiha ص 165، انظر سالنامه، سنة 1320 هـ ص 136 - 137، 181).
وفي تقدير آخر أن عددهم بلغ 140.000 نسمة عام 1904 (Handbook of Mesopotamia، جـ 1، ص 89)، وعند حلول عام 1918 بلغ عدد السكان 200.000 نسمة (Handbook، جـ 2، ص 334، الآلوسى: أخبار بغداد، ص 280 - 281، انظر R.Coke بالنسبة لرقم 180.000 عام 1918، Baghdad، ص 298) ، وتأثر الرحالة بخليط الأجناس الهائل واختلاف لغة الكلام، والحرية النادرة التي يتمتع بها غير المسلمين والتسامح العظيم السائد بين الجماهير (Jones، ص 339، Olivier، جـ 2، ص 388 - 389)، وترك هذا الخليط طابعه على اللهجة في بغداد (عبد اللطيف: قاموس لهجة بغداد، مخطوطة). ومهما يكن من شيء فإن اللغة العربية كانت هي اللغة الشائعة، وازداد السكان العرب بظهور عناصر قبلية (Geary: المصدر المذكور، جـ 1، ص 136، 214). وكان الأهالى الذين
يتبعون ملة واحدة أو يمتون لجنس واحد يحتشدون عادة في حي خاص (انظر Memoir: F. Jones، ص 339)، وكان الأتراك يحتلون الأحياء الشمالية من المدينة، على حين كان اليهود والمسيحيون يقيمون في أحيائهم القديمة شمالي سوق الغزل وغربيه. ومعظم العجم يعيشون في الجانب الغربي، أما سكان الكرخ فكانوا في الغالب من العرب (Memoir: F. Jnnes، ص 339؛ Persian Gulf، ص 9، 79 - 80، Handbook. جـ 2، ص 381، Southgate، جـ 2، ص 182). وعلى الرغم من أن السكان الذين يعتنقون الأديان الثلاثة كانوا يتحدثون باللغة العربية فإن لهجاتهم كانت تختلف (لغة العرب، سنة 1911، ص 69 - 71).
وفي دورة القرن كانت لا تزال فيها بعض الصناعات، ومن المنسوجات في بغداد، الأقمشة الحريرية والأقمشة القطنية، والأقمشة المصنوعة من مزيج من الصوف والحرير، وأقمشة قطنية مخططة، وقماش قطنى خشن تصنع منه طيلسانات للرأس وعباءات وثياب خارجية للنساء، واشتهرت الأقمشة الحريرية في بغداد بلونها وجودة صناعتها، وكانت هناك صناعة للصباغة ممتازة، وكانت دباغة الجلود من الصناعات الرئيسية، وفي حي المعظم نحو أربعين مدبغة، والنجارة وصناعة السيوف من الصناعات المتقدمة، وكان هناك مصنع حربى للنسيج (Handbook. جـ 1، ص 231، سالنامه سنة 1300 هـ، ص 79، 136).
وكانت أسواق بغداد إما مغطاة وإما مكشوفة مثل سوق الغزل، وفي رأس الجسر الشرقي كانت الساحة الرئيسية للتجارة في أسواق السراى والميدان والشرجة وسوق القماش الذي أعاد داود باشا بناءه، وكانت في بعض الأسواق حرف لها نقابات خاصة بها، وتسمى السوق عادة باسمها مثل، سوق الصفافير (النحاسين) وسوق السراجين وسوق الصاغة وسوق الخفافين (صانعى الأحذية) إلخ. (أوليا جلبى، جـ 4، ص 22؛ M.G.T.B. جـ 1، ص 22 - 23).
وكان هناك شارعان مهمان، أحدهما يتجه من الباب الشمالي إلى
قرب القنطرة، والآخر يسير من الباب الجنوبي التي نهاية السوق الرئيسية. وفي عام 1915 كان الباب الشمالي يتصل بالباب الجنوبي بطريق يعرف باسم شارع الرشيد (Handhnnk، جـ 1، ص 377؛ سالنامه سنة 1318 هـ، ص 599 - 600).
وحاول نامق باشا عام 1922 إصلاح بعض الشوارع (سالنامه سنة 1318 هـ، ص 60). وحوّل سرّى باشا سنة 1307 هـ (1889 م) الميدان إلى ساحة مكشوفة بها بستان (انظر سالنامه سنة 1321 هـ، ص 76).
وأنشأ مدحت عام 1285 هـ (1869 م) مجلسًا بلديا يختار أعضاؤه بطريق الانتخاب، وصدرت أوامر بتنظيف الشوارع. وأنشئت بلديات عام 1879، وصدرت أوامر بتحقيق النظافة والنزح (الزوراء، أعداد رقم 231 ورقم 878 ورقم 817 ورقم 1774؛ لغة العرب، جـ 1، ص 17، سالنامه سنة 1300 هـ، ص 136). وأدخلت الإضاءة بمصابيح الغاز وعهد بها إلى مقاول، ولكن لم يحظ بالإضاءة في الواقع إلا الشوارع التي يقيم بها سكان من علية القوم (الزوراء، عدد رقم 490 وعدد رقم 837.
وكانت مدينة بغداد في مستهل القرن العشرين تستوعب مساحة قدرها حوالي أربعة أميال مربعة. وبقايا سور المدينة على الجانب الشرقي الذي هدمه مدحت قد أصبح هو والنهر على شكل معين تقريبى طول ضلعه حوالي ميلين ومتوسط عرضه يزيد على الميل. وكان حوالي ثلث هذه المساحة خاليًا أو تشغله مقابر أو أطلال، وفي المنطقة الواقعة تجاه الجنوب أرض فضاء شاسعة تكسوها أحراج من النخيل. وبدأت الكرخ تنمو نحو منبع النهر أكثر مما تتجه نحو شرقي بغداد، ولكنها كانت أصغر في الطول والعمق (، Handbook جـ 2، ص 276). وفي عام 1882 كان هناك 303 و 16 بيتًا و 600 خان و 21 حمامًا و 46 مسجدا جامعًا و 36 مسجدًا و 34 مكتبًا للأطفال و 21 مدرسة دينية و 184 مقهى و 3.244 حانوتًا (سالنامه سنة 1300 هـ، ص 136). أما في عام 1884 فكانت الأرقام كما يلي: 16.426 بيتًا و 205 خانات و 39 حمامًا و
93 مسجدًا جامعًا و 42 مسجدًا و 36 مكتبا للأطفال (سالنامه سنة 1302 هـ، ص 335).
وفي عام 1903 كان في بغداد 4000 حانوت و 285 مقهى و 135 بستانًا و 145 جامعًا و 6 مدارس أولية و 8 مدارس لغير المسلمين و 20 تكية و 12 حانوتًا للوراقين، ومكتبة عامة، و 20 مكتبًا للصبيان و 8 كنائس و 9 مدابغ ومصنع للصابون و 129 ورشة للنسج و 22 مصنعًا للنسيج (سالنامه سنة 1321 هـ، ص 179) وعند حلول عام 1909 بلغ عدد المنازل 90.000 منزل. وكانت هناك ثلاث مطابع خاصة و 6 كنائس و 6 معابد لليهود (سالنامه سنة 1324 هـ، ص 223).
ويصف شكرى الآلوسى 44 مسجدًا في شرقي بغداد و 18 مسجدًا في الكرخ (الآلوسى: مساجد؛ Massignon: Mission جـ 2، 63 - 5).
وتترواح درجة الحرارة في بغداد بين 114 و 121 فهرنهيت في الصيف وبين 26 و 31 فهرنهيت في الشتاء، ولكنها ترتفع أحيانًا إلى 123 فهرنهيت في الصيف، ويهبط إلى 20 فهرنهيت في الشتاء.
وأنجبت بغداد بعض الشعراء البارزين إبان العصر العثمانى مثل فضولى، وذهنى، وأخرس، وعبد الباقي العمرى، كما أنجبت مؤرخين مثل مرتضى، وغُرابى، ومحمود شكرى الآلوسى، وفقهاء مثل عبد الله السويدى وأبي الثنا الآلوسى (انظر الآلوسى: المسك الأذفر، بغداد سنة 1930).
وقد تغيرت بغداد الحديثة إلى حد كبير وبخاصة منذ الثلاثينات، فقد اتسعت رقعتها لتتصل بالأعظمية والكاظمية من جهة الشمال، وبالشاطئ الشرقي من جهة الشرق، وبثنية نهر دجلة العظيمة من جهة الجنوب، وبالمطار المدني والضواحى القريبة مثل مدينتى المنصور والمأمون. وهناك 76 حيًّا في الكرخ والرصافة و 8 أحياء في الأعظمية، و 4 في كَرَّذ الشرقية و 6 في الكاظمين (At-: Sousa las of Baghdad، ص 21 - 25). وكان
عدد سكان مدينة بغداد 466.733 نسمة سنة 1947، وقد ارتفع الرقم إلى 735.000 عند حلول عام 1957.
وهجرت طرز البناء التقليدية وحلت محلها مبان على الطرز العصرية في مناطق وراء المدينة القديمة، على حين تتغير الأقسام القديمة شيئًا فشيئًا. وقد زال جسر القوارب وشيدت أربع قناطر دائمة.
والأخذ بالأساليب العصرية، من الناحية المادية والاجتماعية، يسير بخطى أسرع من أن نحصيها هنا.
المصادر:
لقد ذكرت المصادر في صلب المادة. وعلاوة على الكتب الكبرى للمؤرخين أمثال الطبري والمسعودى واليعقوبى وابن الأثير، والجغرافيين مثل ابن رسته وابن الفقيه (مخطوطات مشهد) وابن حوقل واليعقوبى والمقدسى وياقوت، وكتابى مراصد الاطلاع وحدود العالم والمستوفى، والرحالة أمثال ابن جبير وابن بطوطه وبنيامين التطيلى Benjamin of Tudela، نرى لزامًا علينا أن نذكر المصادر التالية:
(1)
ابن الساعى: الجامع المختصر، طبعة مصطفى جواد، بغداد سنة 1943.
(2)
ابن الجوزي: مناقب بغداد، بغداد سنة 1921.
(3)
الكاتب نفسه: المنتظم، حيدر آباد الدكن، سنة 1357 - 1359 هـ.
(4)
مسكويه: تجارب الأمم، مجلدات 1 - 7 (نشره وترجمه أمدروز وماركوليوث Amedroz and Margolioutlh، سنة 1920 - 1921).
(5)
سهراب: عجائب الأقاليم السبعة، طبعة هانز فون مزيك Hans Mzik von، ليبسك سنة 1930.
(6)
الشابشتى: كتاب الديارات، طبعة كوركيس عواد، بغداد سنة 1951.
(7)
هلال الصابى: رسوم دار الخلافة، مديرية الآثار، المكتبة، مخطوطة رقم 2900.
(8)
ابن الفوطى: الحوادث الجامعة، طبعة مصطفى جواد، بغداد سنة 1351 هـ.
(9)
الصولى: أخبار الراضى والملتقى بالله، القاهرة سنة 1935.
(10)
التنوخى: نشوار المحاضرة، مجلد 1، القاهرة سنة 1921؛ مجلد 8، دمشق سنة 1930.
(11)
م. س. الآلوسى: المسك الأذفر، جـ 1، بغداد سنة 1930.
(12)
أوليا جلبى: سياحت نامه، مجلد 4، الآستانة سنة 1314 هـ.
(13)
المنشئ البغدادي: الرحلة، ترجمة عباس عزاوى، بغداد سنة 1948.
(14)
سالنامات بغداد عن الأعوام 1299 و 1300 هـ، 1301 هـ، 1312 هـ، 1317 هـ 1318 هـ 1321 هـ، 1324 هـ.
(15)
(From Batum to: W.B. Harris Baghdad ، إدنبرة سنة 1896.
(16)
الحسينى: أخبار الدولة السلجوقية، طبعة محمد إقبال، لاهور سنة 1932.
(17)
La Province de Baghdad: Chiha القاهرة حوالي عام 1900.
(18)
حاجى خليفة: جهاننما، الآستانة سنة 1145 هـ
(19)
يس العمرى: غرائب الأثر، نشرة م. س. جليلى، الموصل سنة 1940.
(20)
عباس العزاوى: تأريخ العراق بين احتلالين، 8 مجلدات، بغداد سنة 1936 - 1958.
(21)
عثمان بن سند البصري: مطالع السعود في أخبار الوالى داود، "مديرية الآثار" المكتبة، مخطوطة رقم 233 (اختصره 1، هـ مدنى، القاهرة سنة 1371 هـ).
(22)
سلمان فائق: تأريخ المماليك في بغداد (مخطوطة، بمكتبة مديرية الآثار رقم 1227)
(23)
سلمان فائق: حروب الإيرانيين في العراق (مكتبة مديرية الآثار ببغداد رقم 1952).
(24)
حديقة الزوراء، اختصره عبد الرحمن السهروردى (مخطوطة).
(25)
عبد الرحمن السهروردى: نزهة الأدباء في تراجم علماء ووزراء بغداد (مخطوطة).
(26)
أ. م. الكرملى: الفوز بالمراد في تأريخ بغداد، سنة 1329 هـ
(27)
فريدون بك: منشآت السلاطين، إستانبول سنة 1274 هـ
(28)
كاتب جلبى: فذلكه، جـ 2، إستانبول سنة 1297 هـ
(29)
مرتضى: كلشن خلفا.
(30)
محمد أمين: بغداد وصون حادثه ضياعى: إستانبول سنة 1338 - 1341 هـ
(31)
جودت باشا: تأريخ، إستانبول، الطبعة الثانية سنة 1301 - 1309.
(32)
الأزدى: حكاية أبي القاسم البغدادي، طبعة أ، متز A.Mez. هيدلبرغ سنة 1920.
(33)
الزوراء (الجريدة الرسمية، مكتبة مديرية الآثار).
(34)
أ. ق. شهربانى: تذكرة: الشعراء، طبعة أ. م. الكرملى، بغداد سنة 1936.
(35)
الآلوسى: مساجد بغداد، بغداد سنة 1346 هـ
(36)
ابن طيفور: تأريخ بغداد، جـ 6 ليبسك سنة 1908.
(37)
dad dans les temps moderns، باريس سنة 1904.
(38)
Travels in the J. R. Wellsted City of the Caliphs " مجلدان، لندن سنة 1840.
(39)
Description du: Rousseau de Baghdad Pachalik. باريس سنة 1809.
(40)
Archace-: Sarre and Herzfeld -ologische Reise im Euphrat and Tigris Gebiei برلين سنة 1900.
(41)
Tour: Rev H. Southgate Kurdistan، Persia and برول ، through Armenia Mesopotamia مجلدان، لندن. 1850.
(42)
Relation d'un: M. de Thevenoi Voyage fait au Levanti مجلدان.
(43)
Travels in: J.S. Buchkinghamia Mesoipotamia لندن سنة 1827.
(44)
Memoir on: Felix Jonoes: Baghdad بومباى سنة 1857.
(45)
Voyage en Arabie: C.Niebuhr مجلد 2، سنة 1780.
(46)
Travels in Syria،: Ker Porter Babylonia Persia Armenia، Ancient مجلدان، لندن سنة 1817 - 1820.
(47)
Gazetteer of the: J. G. Lorimer persian Gulf: مجلد 1، جـ 2، 1، كلكتة سنة 1925.
(48)
Handbook of Mesopotamia أربع مجلدات لندن سنة 1917.
(49)
Voyages: Olivier. مجلدان، باريس سنة 1804.
(50)
Four centu-: S.H. Longrigg ries of Modern Iraq أكسفورد سنة 1925.
(51)
Reallexikon der Assyriologie. برلين سنة 1928.
(52)
Mission en Mes-: L. Mossigno opotamie مجلد 2، القاهرة سنة 1912.
(53)
Journey from persia to: E. Ives Baghdad، لندن سنة 1778.
(54)
خريطة المجمع العلمي العراقي، رسمها A. Sousa وم. جواد مع دليلها المفصل، بغداد سنة 1958.
(55)
Baghdad dur-: G. Le Strange ng the Abbaside Caliphate أكسفورد سنة 1924.
(56)
A Baghdad Chronicle: R. Levy كمبردج سنة 1929.
(57)
Les Marches de: A. Abel 'Baghdad Bulletin de la Societe Belge d geographiques سنة 1949، ص 148 - 164.
(58)
History of the: D.S. Sassoon Jews in Baghdad لتشورث سنة 1949.
(59)
إسلام أنسيكلوييدياسى، مادة بغداد (بقلم. م. جاويد بايصون).
(60)
Baghdad the City of: R. Coke Peace . لندن سنة 1927.
(61)
Die Alte Land-: M. Streck . schaft Babylonien، جـ 1، ليدن سنة 1900.
(62)
: A. Sousa Atlas Baghdad، بغداد سنة 1952.
د. يونس [عبد العزيز الدورى A.A. Duri]