الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغة
" البلاغة: اسم معنى من بلغ، ومعناه لغة الوصول والانتهاء. وعلم البلاغة ثلاثة فروع هي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. والأول يبحث في أنواع الجمل المختلفة واستعمالها؛ والثاني يعلم الإنسان صناعة الكلام "الفصيح"، من غير إبهام. ومباحثه التشبيه والاستعارة والكناية! والثالث يبحث في محسنات الكلام، ويتناول عددًا كثيرًا من صور القول كالأطناب والقلب والاستخدام. والفرع الثالث، وهو علم البديع، أقدم هذه العلوم وأكثرها تداولا، ففي عام 274 هـ (887 - 888 م) أصدر الأمير عبد الله بن المعتز مصنفه "كتاب البديع" وضمنه سبعة عشر نوعًا من العبارات المحسنة مما ورد في القرآن والشعر القديم وما يعرف بالبديعيات، ثم ألفت المنظومات التي تبين مختلف الصور القولية إلى قرابة العصر الحديث.
وللسكاكى المتوفى 623 هـ (1226) أو - 626 هـ (1229 م) بحث منظم في علوم البلاغة كلها في الجزء الثالث من كتابه الشامل "مفتاح العلوم"، ثم جاء جلال الدين محمد القزوينى "خطيب دمشق" المتوفى عام 730 (1338 م) فاختصره وشرحه بعنوان "تلخيص المفتاح" الذي تُدوول بالشرح مرارًا، ونظمه السيوطي. وأورَد مهرن Mehren مقتطفات كثيرة من هذه المصنفات في كتابه Rhetorik der Araber. وقد اعتمدنا في كتابة هذه المادة على أبحاثه (انظر كذلك Brokelmann: Gesch d arah- BY - جـ 1، ص 80 وما بعدها، ص 294 - 296، جـ 2، ص 22).
[شاده Chaade]
تعليق علي مادة البلاغة
1 -
البلاغة- في اللغة "شيء بالغ. وأمر بالغ" أي جيد، ومن هنا كانت البلاغة في معنى جودة الكلام. ولعلهم لم يهتموا بالتفريق بينها وبين الفصاحة أولًا، كما يظهر من استعمال الجاحظ في البيان والتبيين، وكما يقول أبو هلال العسكرى- الصناعتين: ص 7، الآستانة سنة 1320 هـ "وإذا كان الأمر على هذا فالفصاحة والبلاغة
ترجعان إلى معنى واحد، وإن اختلفت أصلاهما، لأن كل واحد منهما إنما هو الأبانة عن المعنى والإظهار له". على أن اختلاف الأصل اللغوي كان سبب تفريق بينهما، ظل ينمو مع الزمن حتى استقر الإصلاح التعليمى الغالب، على أن الفصاحة توصف بها الكلمة والكلام والمتكلم، وأنها تكون بدون البلاغة، وأن البلاغة يوصف بها الكلام والمتكلم دون الكلمة المفردة، ولا تكون بدون الفصاحة وظلت الكتب المتأخرة تشير إلى إمكان التسوية بين الكلمتين، وإليها أميل الآن، تقليلًا للأقسام، فنقول بلاغة الكلمة وبلاغة الكلام، كما نستطيع أن نقول: بلاغة الألفاظ وبلاغة المعاني، أي جودة كل ذلك.
2 -
علم البلاغة: جاء الإسلام العرب بمعجزة بلاغية هي القرآن، الذي تحداهم أن يأتوا بمثله، فكان إيمان العربي إقرارا بالإعجاز، وتسليما بأنه إن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. وبتمادى الزمن، ودخول غير العرب في الإسلام احتاج المسلمون إلى أن يتعرفوا إعجاز القرآن، واضطروا إلى بحث ودراسة لذلك. فصارت معرفة البلاغة أمرًا كلاميًا، يقرر حجة الله في عقول المتكلمين، كما يقول عمرو بن عبيد في القرن الثاني الهجرى- البيان والتبيين 1: 90 و 91 الطبعة التجارية - ومن هنا اشتغل علماء الكلام بأبحاث بلاغية.
3 -
اعتمدت الحياة على القرآن، فكان مصدر التشريع، وأساس الأخلاق وما إلى ذلك، وفي سبيل استخراج هذا من القرآن، التزم أصحاب الدراسات الدينية أن يبحثوا أسلوب القرآن، وطرق فهمه ومراميه في القول، فكانت لعلماء أصول الفقه مثلًا أبحاث بلاغية تحتل المقدمة اللغوية لعلم الأصول، وهي مقدمة تضخمت مع الوقت حتى صارت مسائلها من أهم ما يبحث الأصوليون، ويشير السكاكى إلى استئثار علم أصول الفقه، بأبحاث علمي المعاني والبيان فيقول - المفتاح ص 179 طبعة الميمنية-:"بل تصفح معظم أبواب أصول الفقه من أي علم هي؟ ومن يتولاها؟ "
4 -
حين امتد الفتح الإسلامى
وبسطت الدولة جناحيها من حدود الصين إلى شاطن الأطلنطى استظل بظلها أخلاط من صنوف البشر، قويت حاجتهم إلى دراسة اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، والتفوق في أدبها ليظفروا بولاية أولة، في الكتابة التي كانت في درجة الوزارة، والتي هي ناحية عملية لها أثر جد خطير في الحياة الأدبية العربية وتاريخها. فكانت لبيئة الكتاب دراسات أدبية هامة، وقيل منذ القدم أن الكتاب دهاقين الكلام- العمدة 2: 84؛ 85 طبعة هندية - وصار عندهم من علم الأدب ما ليس عند غيرهم، حتى قال الجاحظ:"طلبت علم الشعر عند الأصمعى فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه. فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات"- العمدة 2: 84.
وهكذا بدأ بحث البيئة الكتابية في لغة القرآن نفسه مبكرًا، فتحدثنا الرواية أن رجلًا في زى الكتاب بمجلس الفضل ابن الربيع سال أبا عبيدة معمر بن المثنى- ت 206 هـ - عن قوله تعالى، "طلعها كأنه رءوس الشياطين" فقال: إنما يقع الوعد والإبعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يُعرف! ! "؛ فاعتقد أبو عبيدة أن يضع كتابًا عن القرآن في مثل هذا وأشباهه، وألف كتابه مجاز القرآن - ابن خلكان: وفيات الأعيان 2، 138. 139 طبعة بولاق.
وقد كان للكتاب بمؤلفاتهم أثر واضح في حياة البلاغة؛ فمن ابن المقفع بأدبيه، إلى قدامة ابن جعفر بنقديه، وابن شبت القرشي، صاحب كتاب معالم الكتابة ومغانم الإصابة، والشهاب الحلبى الكاتب صاحب حسن التوسل إلى صناعة الترسل، وابن الأثير بمثله السائر، والقلقشندى بصبح الأعشى في صناعة الإنشا. هؤلاء وغيرهم قد خدموا دراسة البلاغة العربية خدمات جليلة.
5 -
في هذه العظمة السياسية، وبسطة المال والنعيم، ترقى الفنون جميعًا، وقد كان للفن القولى نصيبه من النهوض واتجه شعراء المولدين إلى
الاختراع والإبداع - ابن رشيق: العمدة 1: 275 وما بعدها - وكان ذلك بأن نظر الشعراء ونقاد المتأدبين منهم، إلى محاسن الكلام وأوجه جماله، يلتمسونها في النثر والشعر، ليستكثروا منها في أشعارهم وسموها (البديع)؛ فاحتاج مثل هذا إلى درس بلاغى، استخرجوا به هذه المحاسن، وحاولوا ضبطها، ووضعوا لها الألقاب، وفيه وضع ابن المعتز الشاعر الأمير كتابه (البديع) سنة 274 هـ. فقسم هذه الأوجه قسمين: البديع، والمحاسن، وخص باسم البديع خمسة أبواب هي: الاستعارة، والتجنيس، والمطابقة، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها؛ والمذهب الكلامى، وقد نسب تسميته هذا القسم إلى الجاحظ. وذكر- ص 58 - أنه اقتصر بالبديع على هذه الخمسة اختبارًا، وإن لم يبين وجه ذلك، وعرض بعد ذلك لمحاسن الكلام والشعر فقال إنها كثيرة وذكر منها اثنى عشر نوعًا، وما ذكرناه من البديع والمحاسن خليط عدّ بعضه أخيرًا من علم المعاني، كالالتفات والاعتراض وتجاهل العارف؛ وبعضه من علم البيان كالاستعارة، وحسن التشبيه، والتعريض والكناية، وبعضها من البديع الاصطلاحى، وتتابعت تلك الدراسة البلاغية التي بدأها الشعراء والنقاد حتى نمت نموًا عظيمًا نراه في تاريخ البديع، وظلت تشمل مختلف الأبحاث البلاغية، التي توزعها التقسيم الأخير لعلومها.
6 -
وإلى جانب هذا كان من العاملين في الميدان الأدبى، أولئك الرواة الذين وصلوا ماضى العرب بحاضرهم، وحفظوا تراث اللغة والأدب الباقي بعدما اختلط العرب بغيرهم، ففسدت لغتهم، وخسروا شخصيتهم:
نقل هؤلاء الرواة عن البادية، التي أرزت إليها الفصحى، ما استطاعوا العثور به من متن اللغة وأحاديث الأدب. واشتغلوا بتدوين دلك ومدارسته. فكان لهؤلاء النفر من أصحاب اللغة حظ من التحدث في استعمال الألفاظ العربية، وخصائص الأسلوب العربي، وما إلى ذلك من دراسة بلاغية أيضًا، يشير إليها الجاحظ في البيان والتبيين-3: 242، فيقول بعد ما روى بيت الأشهب ابن رميلة:
هم ساعد الدهر الذي يتقى به
…
وما خير كف لا تنوء بساعد
قوله: هم ساعد الدهر، إنما هو مثل، وهذا الذي تسميه الرواة البديع (1)" وكما يشير عبد القاهر الجرجانى (في دلائل الإعجاز ص 328 طبعة الترقى) إلى ما نجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريق نقله التشبيه في الاستعارة كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة. فإنه ابتدأ بابا فقال (باب الاستعارات) إلخ"، وكالذي نجده متفرقًا في كتب الأمالى من هذا التناول البلاغى لأصحاب اللغة ودراستها. فأنت ترى في وادي الأدب العربي نهيرات تنبع من بيئات مختلفة، من البيئة الدينية: كلامية وأصولية. ومن البيئة الأدبية: بيئة الكتاب وبيئة الشعراء، وبيئة الرواة وأهل اللغة. وتلتقى تلك النهيرات جميعا في نقطة واحدة، هي معرفة طرق إدراك جيد الكلام، وكيف يكون التفريق بين كلام جيد، وآخر ردئ. أو الاقتدار على صنع كلام جيد، قصيدة منظومة أو نثرا مرسلًا، وتلك هي الدراسة البلاغية التي يتبين مؤرخها الدقيق تلك العناصر المختلفة في نشأتها وتدرجها ويتميزها واضحة في أبوابها ومسائلها.
7 -
بمضى الزمن تميزت الدراسات واستقرت واتخذت كل مجموعة من قواعدها اسمًا خاصًّا. ورتبت العلوم مجموعات، فكانت علوم العربية أو العلوم الأدبية أولًا تعد ثمانية- ابن الأنبارى: طبقات الأدباء، ص 117 طبعة مصر سنة 1294 هـ - هي: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافى، وأخبار العرب، وأنسابهم، وثامن هذه العلوم (علم صنعة الشعر) وهو اسم مجموعة الدراسات السابقة التي تعلم معرفة الجيد من القول وصناعته. كذلك سميت الفنون البلاغية قديمًا صنعة الشعر، كما سميت أحيانًا نقد الشعر أو نقد الكلام، ويعد القدماء مما ألف فيها كتاب الصناعتين لأبي هلال، ونقد الشعر
(1) هذا ما يقوله الجاحظ، لكن ابن المعتز بعده بنحو ربع قرن من الزمان يقول- البديع ص 58: فأما العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفون هذا الاسم "أي البديع، ولا يدرون ما هو". ولعل الشواهد تؤيد قول الجاحظ، كما نرى في إشارة عبد القاهر إلى عمل ابن دريد.
لقدامة بن جعفر (الإنبابى: على رسالة الصبان في البيان، ص 3، طبعة بولاق). وقبل ذلك عدّ أبو هلال نفسه، كتاب البيان والتبيين للجاحظ، أكبر وأشهر الكتب المصنفة في علم البلاغة.
ومن هنا نقدر كيف التقى النقد بالبلاغة واتحدا عندهم، فلم يفردوا النقد ببحث خاص، ولا سموا له علما.
8 -
مضت هذه الدراسة البلاغية، تتقلب بها المناهج، وتؤثر فيها البيئات، وتتأثر بالثقافة الإسلامية العامة، من أصيلة ودخيلة، وقد رأينا من قبل كيف اختلفت مناشئها، والتقت فيها موارد متعددة.
ومؤرخ البلاغة يجد من مذاهب هذه الدراسة ومدارسها ما يحسن تتبعه، وقد أدرك القدماء أنفسهم وجود بلاغتين، سموا أولاهما "البلاغة على طريقة العجم وأهل الفلسفة". وسموا الثانية "البلاغة على طريقة العرب والبلغاء" (السيوطي: حسن المحاضرة 1: 157، طبعة مصر سنة 1321 هـ).
ونجد الأولى تشيع غالبًا في المناطق الشرقية من الدولة الإسلامية حيث يقطن خليط من الفرس والترك والتتر ومن إليهم. ومن فحول هذه الطريقة جار الله الزمخشرى، وأبو يعقوب يوسف السكاكى، وسعد الدين التفتازانى وغيرهم.
وتسود الثانية غالبًا في المناطق الوسطى من الدولة الإسلامية، حيث مهد العربية الأول وما داناه من الأقاليم كالعراق والشام ومصر مثلًا. ومن رجال هذه الطريقة أمثال ابن سنان الخفاجى صاحب كتاب سر الفصاحة وابن الأثير والسبكى المصري وغيرهم.
ولكل مدرسة كتبها ورجالها مما يتسع لمؤرخ البلاغة مجال تتبعه وفحصه. وبلاغة العجم وأهل الفلسفة هي التي اشتهرت، ولا يزال طابعها هو الظاهر، والمتبادر اليوم حينما تطلق كلمة البلاغة.
9 -
ازداد تنسيق علوم الأدب أو علوم العربية، فوصلت التي اثنى عشر علمًا، لوحظت في ترتيبها اعتبارات خاصة. فقسمت مثلًا إلى أصول وفروع. ثم قسمت الأصول قسمين: ما يبحث في المفردات، وما يبحث في
المركبات. وقسم ما يبحث في المركبات قسمين: ما يبحث في الموزون منها فقط، وما يبحث في المركبات مطلقًا موزونة ومنثورة. وتحت هذا نجد العلوم التي استقر الأمر أخيرًا على اعتبارها علوم البلاغة ووقفت عندها جهود بلاغة الأعجام المتفلسفة، وهي: علم المعاني، وعلم البيان. ويتبعهما البديع.
هنا يلتزم التفريق بين الفصاحة والبلاغة على ما أشرت إليه أولًا. ويشتهر تعريف البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. ويبينون وجه انحصار دراسة البلاغة في هذه العلوم على طريقتهم المنطقية بأن: البلاغة في الكلام مرجعها التي أمرين: الاحتراز عن الخطا في تادية المعنى المراد، وتمييز الكلام الفصيح من غيره. والثاني منهما وهو تمييز الفصيح، منه ما يبين في علم من اللغة أو علم الصرف، أو النحو، ومنه ما يدرك بالحس. ثم منه ما ليس كذلك، وهو التعقيد المعنوى، لا يعرف بشيء من العلوم ولا يعرف بالحس فيبقى شيئان يحتاجان التي علم بتولى البحث عنهما، وهما: الاحتراز عن الخطا في تادية المعنى المراد والاحتراز عن التعقيد المعنوى، فاتخذوا علمين جديدين هما: علم المعاني الذي يحترز به عن الخطأ في تادية المعنى المراد؛ أي يعرف به مطابقة الكلام لمقتضى الحال. ثم علم البيان الذي يحترز به عن التعقيد المعنوى، أي يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة عليه. واحتاجوا لمعرفة توابع البلاغة التي علم آخر، فجعلوا لذلك علم البديع الذي يعرف به وجوه التحسين في الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال ورعاية وضوح الدلالة:
وبالطريقة المنطقية نفسها حصروا أبحاث هذه العلوم. فقالوا في المعاني: إنه ينحصر في ثمانية أبواب: لأن الكلام إما خبر أو إنشاء - والخبر لا بد له من مسند إليه ومسند وإسناد، فعقدوا لذلك باب أحوال الإسناد الخبرى، وباب أحوال المسند إليه، وباب أحوال المسند، ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلًا أو ما في معناه، فعقدوا باب متعلقات الفعل وكل من
الإسناد والتعلق إما بقصر أو بغير قصر فعقدوا باب القصر. ثم خصوا الإنشاء بباب مستقل والجملة مع الأخرى اما معطوفة أولًا وهذا باب الفصل والوصل. والكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد. وهذا باب الإيجاز والإطناب والمساواة.
وكذلك شرحوا وجه انحصار علم البيان في التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، وانحصار البديع في قسمى التحسين المعنوى، والتحسين اللفظى.
وفكرتهم في هذا الحصر صورة لما ساد دراسة تلك البلاغة من نزعات فلسفية، وكلامية ومنطقية، أقحم فيها كثير من أبحاث لا علاقة لها بالغرض الأدبى من البلاغة. وضيقت دائرتها الفنية، وأفاضت عليها جمودً وجفافًا أعجزاها عن أن تترك أثرًا أدبيًا في ذوق دراسها؛ وقصر غايتها على مسألة دينية بعينها هي مسألة الإعجاز حتى صار من تعاريف البلاغة: أنها علم يمكن معه الوقوف على معرفة أحوال الإعجاز- يحيى العلوى: الطراز، 1: 13، مصر.
واتبعت في دراستها الطريقة التقليدية، فاتخذ لها المتن الموجز المركز، يفسره الشرح، وتعلق عليه الحاشية، ويتبعها التقرير، في مناقشات لفظية مردها التي علوم مختلفة، تبعد عن الأدب والذوق وما التي ذلك كلما زاد عمقها وغوصها في تقدير متناولها.
10 -
البلاغة اليوم -في الشرق، ولا سيما مصر- حركات تجديدية بلا مراء. ومن هذه الحركات الموفق الرشيد، ومنها طائش غير مسدد. ودون أن نمس تفصيل ذلك في الحياة الأدبية بخاصة وما يتناولها من تجديد؛ ومع اجتناب ما يضيع الجهد ويثير الخلاف حول هذه المحاولات، نقول:
أن التجديد الأدبى يرمى التي غرضين: قريب، وبعيد.
فالغرض القريب: هو تسهيل دراسة المواد الأدبية" وتوفير ما يبذل فيها من جهد ووقت؛ مع تحقيق المطلوب من دراستها تحقيقا عمليًّا، بحيث يمكن كل دارس لها أن يظفر في وقت مناسب وبجهد محتمل بما يستطيع معه استعمال اللغة في حياته، ذلك الاستعمال الذي تطلب من أجله اللغات.
وهذا الغرض يحققه المنهج الصالح، والكتاب المنظم، والمعلم الكفء، وإن استلزم تغييرًا في ترتيب مسائل هذه العلوم، أو طريق تناولها وعرضها، فذلك أمر قريب المنال حين تصدق النية في طلبه.
وأما الغرض البعيد من التجديد في علوم الأدب أو علوم العربية، فهو أن تكون هذه الدراسات الأدبية مادة من مواد النهوض الاجتماعى تتصل بمشاعر الأمة، وترضى كرامتها الشخصية وتساير حاجتها الفنية المتجددة. فتكون اللغة في مصر مثلًا لغة الحياة في ألوانها المخللفة، وأداة التفاهم المرضية في البيت والمعمل. والجامعة والمسرح، والسوق والنادى وما إلى ذلك، فلا يعيش الناس بلغة، ويتعلمون لغة أخرى. ولا يفكر الناس بلغة ويدونون أفكارهم بغيرها؛ ولا يتعاملون بلغة، ويشعرون وينثرون ويمللون ويخطبون بغيرها؛ ولا تكون اللغة سببًا في فرض نظام من الطبقات على الأمة بحيث يتسع البعد بين خاصة الأمة وعامتهم في اللغة المتفاهم بها.
ولا يتحقق هذا الغرض إلا بتغيير قد يمس -أو لا بد أن يمس- الأصول والأسس البعيدة ويدخر له العزم والجهد حتى تصير اللغة ناحية من كيان الأمة، وجانبًا من وجودها العملى، ولا تفترق اللغة في حال عنها في أخرى إلا بقدر ما تتطلب الأناقة الفنية والعمل الأدبي.
وهذا المطلب شاق غير يسير في جوانب مختلفة من العلوم العربية؛ إلا أنه أقل مشقة في البلاغة ودرسها؛ لمرونة في فطرتها، وقابلية في منهجها الذي يعتمد على الذوق والوجدان؛ ويصل أبحاثها بالفن والجمال مهما أخفت ذلك اتجاهات خاطئة، وأعمال مؤقتة. ثم إلى هذا كله أمر آخر، يضيق الخلف، ويوفر المشادة بين الواقفين والسائرين، هو أن الأقدمين أنفسهم قد صرحوا بأن البلاغة من العلوم التي لم تنضج دراستها.
وإذا كان الأمر كذلك فإني أرى أن نعمد رأسًا إلى تحقيق الغرض البعيد في تجديد البلاغة العربية تجديدًا يمس الأصول والأسس فيغيرها، وينفى فيها
ويثبت؛ ونخالف مقررات كبرى -وبخاصة في البلاغة المتفلسفة- ونضيف إضافات جديدة، حتى نصل البلاغة بالحياة، ونمكنها من التأثير الصالح فيها، وإذا تم ذلك كان تسهيل الدرس أمرا هينًا يسير التحقيق، فلنا إذ ذاك أن نؤلف من الكتب ما نشاء، ونعرض الموضوعات ونتناول المسائل كما نشاء، بعد ما استطعنا التحكم في الأصول الكبرى.
على أنى حينما أحاول ذلك، أنتفع أولًا بكل ما يستطاع الانتفاع به من القديم، وأتجنب الإندفاع المضيع للجهد والوقت، والمفرق للقوى في غير ضرورة، وأوثر اتباعًا لهذه الخطة أن أقدم بيان ما يستجيب له التراث القديم من هذا التغيير:
1 -
فمن حيث وصل البلاغة بالحياة الأدبية، وجعلها دراسة ذات جدوى عملية، يكفى أن نأخذ برأى القدماء حينما كان أبو هلال العسكرى يقول: إن صاحب العربية يستطيع بعلم البلاغة أن يفرق بين كلام جيد وآخر ردئ، ولفظ حسن وآخر قبيح، كما يستطيع أن يصنع قصيدة وينشئ رسالة. وبهذا تحكم حاجة الحياة الأدبية، وينتفع بكل ما يجد في تلك الحياة من نافع، وتخدم الفنون القولية الرائجة.
2 -
ومن حيث إخضاع البلاغة للمنهج الأدبى الفني في الدراسة يكفى أن نحيى رسوم المدرسة الأدبية الأولى وآثارها وكتبها. وبهذا نحتكم التي كل ما في دراسة الفنون من أساليب مجربة ومناهج مستحدثة، ونهمل بتاتًا للك الدراسة الفلسفية المستعجمة.
وفيما نبتغى من تغيير وراء ذلك ننتفع بما قرروا من عدم نضج البلاغة؛ لنقرر ما يلي:
3 -
قد وضع القدماء هذه البلاغة في قسم المركبات من العلوم الأدبية؛ وقصروها على دراسة الجملة وأجزائها فحسب؛ لا ترى من أبحاثها شيئًا يزيد على ذلك؛ وقدموا مقدمة عامة للفصاحة والبلاغة ذكروا فيها شيئًا عن فصاحة الكلمة المفردة. والعمل الأدبى ليس في الجملة وجزئها لا غير، فتلك
لا تعطى إلا معنى أدبيًا جزئيًا ووراء ذلك الفقرة المنثورة، والقطعة المنظومة تأتلف من جمل عدة ومعان جزئية مختلفة، ثم وراء ذلك كله العمل الأدبى الكامل، قصيدة أو مقالة أو رسالة أو خطبة، يحتاج ذلك كله إلى النظر البلاغى، ثم اللفظة المفردة لا يكفى في درسها البلاغى هذا القدر اليسير الذي ألموا به.
وعلى هذا نبدأ البحث البلاغى المستوفى من اللفظة المفردة؛ ولا نجده بالجملة، بل نمده إلى الفقرة، والعمل الفني الكامل؛ فنبحث فيها الأسلوب واختلافه، وأوجه تفاوته ومزايا أنواعه المختلفة؛ وننظر النظرة الشاملة الجامعة في الأثر الأدبى كله.
4 -
قصر القدماء البحث البلاغى على الألفاظ من حيث أدائها للمعانى الجزئية بالجملة الواحدة أو الجمل المتصلة في معنى واحد؟ ولم يجاوزوا ذلك، فعلم المعاني: تعرف به أحوال اللفظ العربي من حيث مطابقته لمقتضى الحال؛ وعلم البيان يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة؛ والمعنى هو تشبيه أو مجاز أو استعارة أو كناية لا غير.
أما المعاني الأدبية، والأغراض الفنية التي هي روح الفن القولى ومظهر عظمة الأديب، وأثر ثقافته وشخصيته، فلم ينظروا فيها.
ولابد أن نفرد المعاني بالبحث المستقل بعد بحث الألفاظ، مفردة وجملا وفقرأ .. فنعلم الدارس كيف يوجد هذه المعاني، وكيف يصححها وكيف يرتبها، ويعرضها؛ وما إلى ذلك.
5 -
وإذا اتسع البحث البلاغى فشمل مع الألفاظ المعاني جزئية وكلية، وشمل مع الجملة اللفظة المفردة، ثم جاوزهما إلى الفقر والقطع الأدبية والأساليب، فقد صار التقسيم القديم للبلاغة إلى المعاني والبيان والبديع لا أساس له ولا غناء فيه؛ ولزم أن يوضع التقسيم على أساس غير الأول: كان نقتصر على كلمة "البلاغة" وصفًا لجمال الكلمة والكلام ونوفر كلمة الفصاحةح ونقسم الدرس إلى بلاغة الألفاظ وبلاغة المعاني، وفي بلاغة الألفاظ نبحث عنها من حيث أن للك الألفاظ أصوات ذات جرس. ثم من حيث هي دوال على المعاني مفهمة لها؛ ونبحث ذلك في المفرد، والجملة والفقرة؛ والقطعة؛ ونقسم المعاني بما يناسبها حتى تنتهي بها إلى دراسة
فنون القول الأدبى المنظوم والمنثور فنًا فنًا، وما به قوام كل فن وحسنه، متخطين الفنون القديمة من المقامة والرسالة والخطبة إلى الفنون الحديثة من المقالة والقصة على اختلاف أنواعها.
وحين نستبعد ما حشدته طريقة العجم وأهل الفلسفة في البلاغة من مقدمات منطقية، واستطرادات فلسفية مختلفة، نضم إلى البلاغة مقدمات جديدة لا بد منها لدراسة فنية تقوم على الإحساس بالجمال، والتعبير عنه، دراسة تتصل بالحياة وتحدث عن خلجات النفوس وأسرار القلوب؛ وتسعد آمال الجماعة وأمانيها، وتغنى نصرها، وتغذى طموحها كما هو شأن الفن الصحيح في الحياة الجادة، وبذلك:
6 -
نضم إلى البلاغة مقدمة فنية؛ نعرف الدارس فيها بمعنى الفن، وطبيعته، ونشأته، وغايته، واقسامه، متحرين في ذلك بيان الفن القولى بخاصة؛ ثم:
7 -
نضم إلى تلك البلاغة مقدمة نفسية لا بد منها، ما دام شأن الفن الأدبى ما أسلفنا وما دمنا نريد وصل البلاغة بالحياة. فنعرف الدارس بالقوى الإنسانية ذات الأثر في حياته الأدبية كالوجدان والذوق، والخيال؛ وتزيد فهمه للاعتبارات التي أجملها القدماء تحت كلمة "مقتضى الحال" وذكروا منها في أسباب الحذف والذكر والتقديم والتأخير اعتبارات نفسية محضة.
كما تلم المقدمة النفسية بدراسة أمهات العواطف الإنسانية التي هي مادة المعاني الأدبية؛ ومثار الفنون القولية نثرًا وشعرًا؛ وهي في الجملة دنيا الأدب والفنون كلها.
تلك معالم التجديد البلاغى في إجمال؛ وبعض الأهداف التي أجاهد من أجلها.
المصادر:
فوق ما في صلب المادة - الخولى:
(1)
البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها؛ بحث في صحيفة الجامعة المصرية سنة 1931.
(2)
البلاغة وعلم النفس؛ بحث في مجلة كلية الآداب سنة 1939.
(3)
مصر في تاريخ البلاغة؛ بحث في مجلة كلية الآداب سنة 1934.
(4)
من تاريخ البلاغة، محاضرات في كلية الآداب.
أمين الخولى