المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمد الخضر حسين عالم فذ ومجاهد من الرعيل الأول - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌محمد الخضر حسين عالم فذ ومجاهد من الرعيل الأول

‌محمد الخضر حسين عالم فذ ومجاهد من الرعيل الأول

بقلم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (1)

"ولد في مدينة "بوطان" بتركيا عام (1348 هـ - 1929 م)، وطلب العلم في صباه بدمشق، ثم درس في الأزهر، وعمل أستاذاً رئيس قسم في كلية الشريعة بجامعة دمشق. له مؤلفات غزيرة: من الفكر والقلب - من روائع القرآن - مسألة تحديد النسل وقاية وعلاجاً - اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية - تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث - قضايا فقهية معاصرة - مدخل إلى فهم الجذور - وغيرها".

منذ أيام نعي إلى العالم الإسلامي في معظم أقطاره، وفاةُ أحد أعلامه الخالدين، هو فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين المغربي التونسي.

ومن الطبيعي أن يحدث صدى هذا النبأ المؤسف هزة قوية بين الأوساط، وأسى عميقاً في النفوس، وفراغاً بيناً في عالمنا الإسلامي الشاسع، فلقد كان الشيخ الجليل من أولئك القلة الذين لا يجود بهم الدهر إلا نادراً.

كان كأنما يستشعر دائماً أنه لم يخلق لنفسه، وإنما للإسلام. والروح التي تخفق بين جنبيه لم يكن يشعر أنها شيء آخر غير روح الإسلام التي يجب

(1) كتاب "من الفكر والقلب" الطبعة الأولى عام (1389 هـ -1969 م ".

ص: 156

أن تظل خفاقة في عالمه الذي يعيش فيه.

ولذا، فقد كان يلتمس في الدعوة إلى الحق والثورة على الباطل، وإنارة سبل الإسلام، غذاء حياته، وراحة نفسه، تماماً كأي شخص يبحث عن هذه الراحة في لقمة الطعام، وجرعة الشراب، وأسباب الدنيا. .

ويبدو أنه رحمه الله لم يكن ليشفي غلة نفسه أن يخدم الإسلام من الطريق التي يسلكها معظم أمثاله من الشيوخ والعلماء فقط، فشق أمامه كل طرق الفكر والفنون، وجندها كتلة واحدة مجتمعة لخدمة الإسلام والعالم الإسلامي. فلقد خدم الإسلام أديباً لامعاً، وجاهد في سبيله كاتباً مبدعاً، وتصدى لنصرته عالما من أفذاذ علماء التشريع وأصوله، وكان أروع قرين له في كل ذلك إخلاصه القوي الغريب.

لقد تناوبته مراحل مختلفة متتالية من صور الحياة، وهو عند كل مرحلة منها لا يلقي عصاه إلا ليتخذ منها ميداناً للجهاد الدائب في إخلاص راسخ لا يميله عنه شيء من زعازع الحياة ورياحها.

ابتدأت أولى مراحل جهاده على صفحات مجلة "الأزهر"، وكانت تلك المجلة إذ ذاك صوتاً إسلامياً مدوياً في شتى أطراف العالم، يخشع له العدو والصديق، ويهتز بتأثيره القاصي والداني، وكانت روح تلك المجلة متمثلة في شخصين عظيمين، لا يذكر أحدهما إلا وذكر معه الآخر، هما: الشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد الخضر حسين. والذي استعرض شيئاً من كتابات هذين العظيمين في تلك المجلة يستطيع أن يتخيلهما في وقفتهما المناضلة المكافحة عن حوزة الإسلام وقدسيته ضد قوى كثيرة متألبة تهدف إلى خدشه والنيل منه.

ص: 157

وكانت المرحلة الثانية من حياته الدائبة المجاهدة هي تدريسه في كلية الشريعة بالأزهر. كان رحمه الله يحاول جاهداً أن يدخل إلى قلوب طلابه مع العلم روحه، وكان يجاهد أن يلصق الوسائل بالغايات؛ لكيلا يقف الأزهريون بعد تخرجهم في نهاية الوسائل ودون الغايات وإذا بهم أعضاء أشلاء، لها صورة الثمرة أمام الأبصار، وليس لها حقيقتها وطعمها.

وكان يأبى أن يوقع على الساعة التي يدرسها إذا امتلأت من أول دقيقة فيها إلى آخر لحظة بالتعليم والإفادة. ومعنى ذلك: أن الساعات التي كانت تذهب ببعضها فوضى الطلاب بسبب بعض الشؤون العامة أو الخاصة لم يكن يرضى أن يأخذ عليها أي أجر.

ثم أقلته الدولة بعد ذلك إلى منصب مشيخة الأزهر، فضرب أكبر مثل للتاريخ بالإخلاص والتفاني في العمل لمصلحة الأزهر والإسلام. وراح يضع المشاريع الإصلاحية لنهضته وتقوية دعائمه. . ولما لم يمكن لكل ما أراد أن يطبق، أبى إلا الاستقالة عن منصبه، معتذراً بأنه ليس من الوفاء للحق أن يملأ منصباً دون أن يملك أن يعطيه حقه.

ولكنه لم ينزل ليستريح، ولم يترك مشيخة الأزهر ليخلد إلى السكون، بل ظل واقفاً نفسه لخدمة الإسلام، والدفاع عنه في كل ما يمكنه من مجال.

عمل رئيساً للتحرير في مجلة "لواء الإسلام"، ولما تملكته الشيخوخة، ودبّ إلى أطرافه الضعف، ولم يعد يستطيع الدوام في مركز المجلة، استأذن من مؤسسها أن يتولى الكتابة لها، والإشراف على موادها في مكتبه في البيت، ولم يرض أن يأخذ بعدئذ لقاء عمله أي شيء، كان يرى أن رئيس التحرير

ص: 158

ليس له أن يقعد في بيته، ثم يأخذ فوق ذلك أجراً.

وظلّ مثابراً على الكتابة، وظل ماضياً في طريقه إلى الدعوة والجهاد الفكري، رغم ما آل إليه جسمه من الضعف، والحاجة إلى الراحة والسكون، ولكنه -كما قلت- لم يكن يفرق بين ألم روحه التي في جسمه، وألم الروح الإسلامية في هذه الأرض. لقد كان عليه لكي يستريح أن يرى المجتمع الإسلامي من حوله سعيداً هادئاً مستقيماً.

ولا أزال أذكر يوم عُدته في السنة الماضية في بيته في القاهرة، رأيته جالساً على مقعد إلى جانب مكتبه، وقد ذوى منه الشكل، وذابت معظم ملامح وجهه، وامتزجت -من الضعف- الكلمات بعضها في بعض على شفتيه، ورأيت -رغم هذا - قلماً يرتجف في يده، وأوراقاً مبعثرة على (طربيزة) بين يديه.

ولقد سألته -إذ ذاك- عن هذه الأوراق، فأجاب بصوت خافت، وكأنه يتجاهل العجز المتشبث به: بأنه مقال يكتبه للواء الإسلام.

فقلت: ولكن ألا تشعرون أن هذا يتعبكم، وأنكم بحاجة إلى شيء من الراحة في هذه الفترة؟

فأجاب رحمه الله بلهجة متواضعة لا أزال أذكرها:

- قلما أشعر بالراحة ساكناً بلا عمل. .

لا أحسب أن مثل هذا الإنسان يبعثه الله في العالم إلا عبرة للكسالى الخاملين الذين تلويهم النسمات، ويقعدهم التثاؤب؛ كي يؤوبوا إلى رشدهم، وتنخسهم مشاعر الخجل والحياء إن كانت فيهم مشاعر. .

ص: 159

رحمه الله. . كان أهم ما يشتاق إليه في عالمنا هذا هو أن تعود إليه وحدته الإسلامية ليلتقي بقوته الجبارة التي رُكنت منذ دهر طويل في مخزن التاريخ.

وإني لأرجو أن يحقق الله عزاءنا فيه، وأن يأذن لهذا العالم أن يهب إلى وحدته ليستردها، وإلى قوته ليستعيدها.

ص: 160