المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين

‌المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين

بقلم محمد علي النجار

"كلمة ألقاها الكاتب الإِسلامي الأستاذ محمد علي النجار في حفل تأبين الإمام محمد الخضر حسين، في جلسة مجمع اللغة العربية بالقاهرة بتاريخ 13/ 3/ 1958 الدورة الرابعة والعشرون"(1).

كتب عليّ أن أؤبن أستاذي الأكبر والإمام الأجل الشيخ محمد الخضر حسين، فيتجدد عندي من الأسى والحسرة ما تجرعته عند نزول شَعُوب به، وجواره لربه. وكأنما هذا بديل بما تمتعت به في مجالسته، والاستماع إلى حديثه العذب ورأيه السديد وعلمه الغزير، والحظو بأدبه الجم، ومناقبة الغر.

وأذكر هنا فصلاً للأستاذ خليل مردم، من كتاب له إلى فقيدنا حين كان في دمشق، وأزمع مفارقتها:"إن من خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه: معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي، وإخوته الفضلاء، وصحبتي لهم. فقد صحبت الأستاذ عدة سنين، رأيته فيها الإنسان الكامل الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ. فما زلت أغبط نفسي على ظفرها بهذا الكنز الثمين حتى فاجأني خبر رحلته عن هذه الديار. فتراءت لي حقيقة المثل: "بقدر التواصل تكون حسرة التفاصل".

(1) مجلة "مجمع اللغة العربية" القاهرة - الجزء الرابع عشر.

ص: 61

والأستاذ خليل مردم يتوجع لمفارقة في الحياة يرجى بعدها اللقاء. فكيف تكون فجيعتنا فيه وهذا فراق لا لقاء بعده، إلا في يوم التلاق. وما أحرانا أن نتمثل بقول الشاعر يتوجع لفراق أخيه:

وكنت أرى كالموت من بين ليلة

فكيف ببينٍ كان ميعاده الحشر

وهوَّن وجدي أنني سوف أغتدي

على إثره يوماً وإن نفس العمر

أجل، كتب عليَّ هذا الموقف المحزن لأذكر حياة الأستاذ السيد الخضر الحافلة بالفضل والجهاد، وإعلاء كلمة الإِسلام والعروبة، والحفاظ على المجد الطارف والتليد، عملاً بسنة مجمع اللغة العربية المحمودة في تأبين من يرحل من أعضائه. وكان الشيخ رضي الله عنه يؤثر أن يُدعى له بعد موته، فذلك أحبُّ إليه من التأبين، وهو يقول:

تسائلني هل في صحابكَ شاعر

إذا متَّ قال الشعرَ وهو حزين

فقلت لها: لا همّ لي بعد موتتي

سوى أن أرى أخراي كيف تكون

وما الشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ

يلاقي جزاء والجزاء مهين

وإن أحظ بالرحمى فمالي من هوى

سواها وأهواءُ النفوس شجون

فخلّي فعولن فاعلاتٌ تُقال في

أناس لهم فوق التراب شؤون

وإن شئتِ تأبيني فدعوةُ ساجد

له بين أحناء الضلوع حنين

وبلى، والله! كان للشيخ فوق التراب شؤون وشؤون، فهو حقيق أن يرثيه الشعراء والكتاب، وأن تفيض عليه الشؤون. وإن شؤونه لتفتح عليهم أبواب الكلام، وتحوك لهم جياد القصيد.

ألم يكن علماً من أعلام الإِسلام والعربية ذاع أمره وطاب ثناه؟ ألم

ص: 62

يكن داعياً من دعاة الخير والهدى الحميد؟ ألم يكن المثل الأعلى في الخلق وطيب النحيزة؟ وقد تفضل الأستاذ الجليل محمد شفيق غربال، فأعطاني كتاباً لمستشرق كندي وصفه في تاريخ الإِسلام في العصر الحديث، تحدث في فصل منه عن مقالاته في مجلة "نور الإِسلام" -وهي مجلة الأزهر لأول نشأتها-، وعمق النظر فيها، وأثنى عليه أطيب الثناء، وهو يصفه أنه مثالي. ومن كلامه:"أما أنه رجل مثالي، فهذا ما يتبادر من كتابته. وهو مثالي من الوجهة النفسية والأخلاقية على حد سواء". ومن كلامه أيضاً في هذا المعنى: "ومثله في المشاركة الفعلية، وجهاده في إصلاح المجتمع، ومثله في الدماثة الشخصية -حتى مع أعدائه-، ولكن مع التحرر من معرة الملق والمداهنة، ومن نقيصة التظاهر والرياء، ومثله في الكمال العقلي الدقيق، واحترام النفس، والاعتدال، والبعد عن النقائص -مثل: الكبر والمهانة- هذه المثل وغيره يصورها الخضر بصورة واضحة خاصة به لرسم طابعها الخلقي".

أجل، ألم يبلغ أقصى ما يبلغه أمثاله، فكان شيخاً للجامع الأزهر، وإنما أتاه بهذا المنصب: العلم، والحلم، والحسب، والفضل الغزير، فحفظ للمنصب رونقه وجلاله؟!

والذي يتناول حياة الشيخ ينتشر عليه مجال القول، ولا يدري أي وجه يأخذ، فكل أمره بارع، وكل شأنه سامق. وهمّي في هذا المقام أن أذكر موجزاً بسيرته، وسيتناولها الناس بالبسط والتفصيل في مقاوم أخرى.

* نشأة الشيخ:

ولد الشيخ في "نفطة" من أعمال تونس، ويقول فيها ياقوت:"مدينة بأفريقية من أعمال الزاب الكبير. وأهلها شراة أباضية، وهبية متمردون".

ص: 63

وإفريقية هي إقليم تونس، وكأنما توارث أهل "نفطة" خلق الشراة -وهو العزة والأنفة من الجور-، فنشأ الشيخ على هذا الخلق، وحالفه طول دهره.

وكان مولد الشيخ في سنة 1294 هـ (يوافق 1877 م) من أسرة كريمة. ونرى في شعره الحديث عن والدته إذ يرثيها في سنة 1335 هـ (1916 - 1917 م)، وهي من بيت عريق في العلم والفضل: بيت عزوز، ويقول فيها:

بنت عزوز لقد لقنتنا

خشية الله وأن نرعى الذماما

كنت نوراً في حمانا مثل ما

نجتلي البدر إذا البدر تسامى

أفلم تُحْييه بالقرآن في

رقة الخاشع ما عشتِ لزاما

كنتِ لي روضةَ أنسٍ أينما

سرت أهدت نفحَ وردٍ وخزامى

ويذكر الشيخ كثيراً خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، وكان مدرس الحديث في دار الفنون بالآستانة. ورثاه الشيخ إذ مات في هذه المدينة في سنة 1334 هـ، ويقول فيه:

رب شمس طلعت في مغرب

وتوارى في ثرى الشرق سناها

هاهنا شمس علوم غربت

بعد أن أبلت بترشيش ضحاها

وترشيش: اسم قديم لتونس.

وقد حفظ القرآن، وشدا شيئاً من الأدب في بلدته. ونراه يقول في هذه الحقبة من حياته:"نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات تهب في مجالس علمائها. وكان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت -وأنا في سن الثانية عشرة- نظمَ الشعر. وفي هذا

ص: 64

العهد انتقلت أسرتي إلى مدينة تونس، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة". ويؤرخ الشيخ دخوله جامع الزيتونة بسنة 1307 هـ؛ أي: سنة 1899 م. ويذكر الشيخ أنه تلقى العلم عن جلة الشيوخ، وذكر منهم: الشيخ سالماً أبا حاجب، والشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ رضوان. . . وهو لا ينسى عهد طلبه العلم، ولا يفتأ يذكر شيوخه، ويرثي من مات منهم. ونراه يكثر الحنين إلى منازه تونس، ومعاهد صباه وشبابه. فهو يقول في كلمة بعث بها رداً على تحية له من تونس:

بعيشك حدثني عن المعهد الذي

قضيت به عهد الشبيبة رائدا

حظيت بأشياخ ملأت الفؤاد من

تجلتهم لما خبرت الأماجدا

بيان أديب يقلب الليل ضحوة

وفكرة نحرير تصيد الأوابدا

فلم يُرني أدرى وأنبلَ منهم

رحيلٌ طوى بي أبحراً وفدافدا

كان الشيخ يحن إلى تونس ومغانيها، ولكنه كان لا يرى العودة إليها إلا بعد تطهيرها من قذى الفرنسيين، ونراه يقول:

فأين ليالينا وأسمارها التي

تُبل بها عند الظماء كُبودُ

ليال قضيناها بتونس ليتها

تعود وجيشُ الغاضبين طريدُ

وكان الشيخ أبو حاجب أحب الشيوخ إلى أستاذنا، فكان يكثر ذكره والحديث عنه. فلقد عرف الشيخ قدر تلميذه، وتوسم فيه النجابة ونباهة الشأن. يقول الشيخ الخضر:"وكان شيخنا سالم أبو حاجب يحب من الطلبة البحث، ويلاقي السؤال المهم بابتهاج، ويدعو للطالب بالفتح. كنت يوماً في درسه "الجامع" للبخاري، وقرر الشيخ الفرق بين صبر على كذا، وصبر

ص: 65

عن كذا، فقال: صبرت عن المعصية؛ أي: تركتها، فقلت له: قد ترك الشاعر هذا الفرق إذ قال:

والصبر يحمد في المواطن كلها

إلا عليك فإنه مذموم

فمقتضى هذا الفرق أن يقول: إلا عنك فإنه مذموم. فاغرورقت عيناه، وظهر على وجهه ابتهاج، ودعا لي بخير. ولم يسعه إلا أن يقول: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. فالشاعر استعمل (على) موضع (عن) كما قال الآخر:

إذا رضيت عليَّ بنو قشير

لعمرُ الله أعجبني رضاها

فإن رضي يتعدى -بحسب الأصل- بـ "عن" كما قال الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]. ويقول أيضاً في شيخه هذا: "وممن لقيت من الأدباء العلماء: شيخنا الشيخ سالم أبو حاجب، فكان يقول الشعر مع كونه يغوص على المسائل العلمية بفكر ثاقب. سافر مع الوزير خير الدين التونسي إلى الآستانة، وخاطب السلطان بقصيدة، فأمر السلطان بإعطائه وسامًا، وقال له المكلف بإعطاء الأوسمة: هذا وسام براتب، فأبى قبوله، وقال: إن من العيب عندنا أن يحمل العالم وساماً، فلما عاد إلى تونس، قال له ملك تونس: لو قبلتَ الوسام، لغضبتُ؛ لأني كنت عرضتُ عليك مثل هذا، فأبيتَ".

ولقد تأثر الشيخ الخضر بشيخه في سمو النفس وظلفها عما لا يجمل بالكريم، وذلك أخص أخلاقه -عليه رحمة الله-، كان يحتذي من القدماء في هذا المعنى القاضي الجرجاني، وتراه يقول:"ومن خير الأدباء العلماء: القاضي عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه".

ص: 66

وحسبك في وصفه، والكشف عن أدبه أبياته التي يقول فيها:

يقولون لي فيك انقباض وإنما

رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

يقولون هذا مورد قلت قد أرى

ولكنّ نفس الحر تحتمل الظما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظّموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهان ودنسوا

محياه بالأطماع حتى تجهما

وأذكر هنا: أن التاج السبكي أورد أبيات الجرجاني في "معيد النعم"(70)، وقال عقبها:"فلقد صدق هذا القائل. لو عظموا العلم، لعظمهم. وأنا أقرأ قوله: لعَظما -بفتح العين-؛ فإن العلم إذا عُظِّم، يُعَظِّم، وهو في نفسه عظيم. ولهذا أقول: ولكن أهانوه، فهانوا. ولكن الرواية: فهان، ولعُظم -بضم العين-. والأحسن ما أشرت إليه".

* حياة الشيخ في تونس بعد تخرجه:

تخرج الشيخ في جامع الزيتونة في سنة (1316 هـ - 1898 م)، وهو فقيه كاتب شاعر أديب يستشعر المرارة من سوء الحال في بلده، وبسطة يد الفرنسيين فيه، ويتحرق إلى إعادة مسجد الإِسلام. ورأى أن خير ما ينفق فيه جهده: تنبيه الأفكار، وبعث اليقظة في نفوس الناس، وأن من أقوم السبل في ذلك: الصحافة الواعية الرزان. فأنشأ مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة ظهرت في المغرب، وأخاله كان فيها جسوراً، ينقد ما يراه في قومه من استسلام للأجنبي، ويرسم ما يرى من إصلاح في شتى النواحي، وينشر فيها نفثات الأفكار، ودرر الأخبار. ونراه يقول في شأن هذه المجلة: "وقد كنت -بعد أن نلت درجة العالمية من جامعة الزيتونة- أنشأت مجلة علمية أدبية، وهي أول مجلة أنشئت بالمغرب، فأنكر علي بعض الشيوخ، وظن

ص: 67

أنها تفتح باب الاجتهاد؛ لأني قلت في أول عدد منها؛ "ودعوى أن باب الاجتهاد مغلق لا تُسمع إلا مع دليل يبطل الدليل الذي انفتح به أولاً". وشجعني على إنشائها شيخنا أبو حاجب، وقال لي في باب الشفاء من جامع الزيتونة: أقول لك ما قاله ورقة بن نوفل: "ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي". وكان شجعني عليها كذلك الوزير محمد بوعتُّور. وشكا إليه بعض الشيوخ مما نشر في المجلة مما يتعلق بالخطابة، فأجابه الوزير -وكان من العلماء الأجلة، ورأيت له نسخة من "المفتاح" للسكاكي بخط يده الجميل-: إن ما تنشره المجلة لا يعارض الشرع ولا القانون".

ونراه فيها يبكي مسجد المسلمين الضائع، ويستنهض الهمم للصناعة والعلوم المادية، فيقول:

أبناء هذا العصر هل من نهضة

تشفي غليلاً حره يتصعد

هذه الصنائع ذللت أدواتها

وسبيلها للعالمين ممهد

إن المعارف والصنائع عُدَّة

بابُ الترقي من سواها موصد

وكان ينشر فيها شعره الحماسي أمير شعراء تونس السيد الشاذلي خازندار. وله يقول الشيخ الخضر:

ما زلت أذكر ما خطت يمينك في

سفر السعادة من آدابك الغرر

وأنفع الشعر ما هاج الحماسة في

شعب يقاسي اضطهاد الجائر الأشر

ولقد وضحت خطة الشيخ في حياته: إصلاح اجتماعي وديني، وإيقاظ النفوس لاستعادة مسجد الإِسلام، ونفض غبار الذل والاستكانة للأوربيين. وكان يسميهم تهكماً: المعمرين، وإنما هم المخربون، ودعوة للوحدة بين المسلمين، ونبذ للقوميات الوطنية التي فرقت المسلمين قِدَداً، وبددتهم عباديد

ص: 68

يتقسمهم المستعمرون الأجانب. ويقول في هذا:

نادوا بها قومية خرقاء أو

وطنية لا حبذا ذاك النداء

وإذا ذكرت الدين قالوا خلِّنا

من ذكره وعلى أُخوته العفاء

وتجلت مكانته، وعلا كعبه في هذه الحقبة، فولي القضاء في "بنزرت" في سنة 1905، ولكن لم ترقه حياة القضاء، إذ تحول دون ما يريد من الدعوة للجهاد، ومناهضة المستعمر. فترك هذا المنصب، وولي التدريس في جامع الزيتونة؛ حيث تخرج عليه الجلة الفضلاء. وكان مما درّسه إذ ذاك كتاب:"المثل السائر".

* هجرة الشيخ من تونس:

لبث الشيخ في تونس يحمل علَم الجهاد والإصلاح والاتجاه بالنقد على عسف الفرنسيين. ويقول في بعض حديثه: من يسمونهم بالمعمرين، فلهم في المظالم قصص تملأ أسفارًا، فلا أدري ما أذكر منها وما أدع، وخاطبتني المحكمة الفرنسية سنة 1325 هـ بإشارة من شيخ المدينة أن أكون عضواً في المحكمة لأحضر حكمها بين الوطني والفرنسي، فامتنعت من هذه العضوية، ولم أرض أن يصدر الحكم الجائر بحضوري.

وقد حدثت في هذه المدة في تونس ثورات وطنية، قمعت بالغلظة من الفرنسيين، والتنكيل بمن يهيِّج الناس عليهم، فأزمع الشيخ الرحيل من بلده المحبوب الذي عفَّى على محاسنه القومُ الظالمون، واتجه نحو الشرق عسى أن ييسر له في سبيل دعوته ما يجعلها مثمرة مجدية.

واستوطن دمشق إذ كانت لا تزال تحت سلطان العثمانيين لم يحتلها الأجنبي. وكان فضله قد سبقه إليها، فنصب للتدريس بالمدرسة السلطانية،

ص: 69

حيث درّس الإمام الشيخ محمد عبده، وكان ذلك سنة 1912.

ولقد أظلته الحرب العظمى وهو في دمشق. وكان جمال باشا سفاح الشام يناهض كل دعوة عربية، فوشي إليه بالشيخ، فاعتقله. ويقول الشيخ في اعتقاله:

جرى سمر يوم اعتقلنا بفندق

ضُحانا به ليل وسامره رمس

فقال رفيقي في شقا الحبس إن في الـ

ـحضارة أنساً لا يقاس به أنس

فقلت له: فضل البداوة راجح

وحسبك أن البدو ليس به حبس

ورحل بعد هذا إلى الآستانة، حيث أسند إليه التحرير بالقسم العربي بوزارة الحربية، ويقول في هذا:"ولما وليت التحرير بالقلم العربي في وزارة الحربية بالآستانة، قدموا إلي ورقة لأكتب فيها شخصيتي، وما أميل إليه من العلوم أكثر من غيره، وجهة تخصصي العلمي. فكتب أني مختص بعلوم البلاغة وأصول الفقه الإِسلامي. وكان بجانبي أحد علماء "شنقيط"، فقال لي: لم زدت وصف (الإِسلامي)؟ فلم يسعني إلا أن قلت له: كتبتها لزيادة الإيضاح. وقد سمعت من يسمي القوانين الوضعية: فقهًا، فيضعون بالطبيعة للقوانين الوضعية أصولاً، فتكون كلمة (الإِسلامي) للاحتراز عن غيره".

وقد سافر إلى ألمانيا مرتين. وكانت المرة الأخيرة حين احتل الحلفاء الآستانة، فرحل زعماء الحركة الإِسلامية؛ كالشيخ عبد العزيز جاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، والدكتور أحمد فؤاد -رحمة الله ورضوانه عليهم-، وقد عادوا -كما يقول هو- في الباخرة التي حملت العثمانيين من "همبرغ" إلى الآستانة، وكان ذلك سنة 1918 م.

وهو يتحدث عن ألمانيا في ذكريات كثيرة، يقول في جزء فبراير من

ص: 70

"لواء الإِسلام " 1957: "وأذكر أني حين كنت في ألمانيا لم آكل من لحوم حيوانهم؛ لأني عرفت أنهم لا يذبحون الحيوان بالطريق الشرعي، إنما يقتلونه بالضرب على رأسه، أو بالخنق. وأخذت في ذلك بقوله تعالى عند تعداد المحرم من الحيوان: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]، وهو ينطبق على ما كانوا يفعلون".

ويقول في "رسائل الإصلاح"(1/ 66): "أقمت في عاصمة ألمانيا وبعض مدنها وقراها زمناً غير قصير، فلم أر قط سائلًا سليم البنية، بل لم أر في تلك الديار متكففًا غير نفر قليل يتكفف، إذ لا يعدم سليم البدن أن يجد هناك عملاً حيوياً إذا شاء. والتعليم هناك -وهو إلزامي- يقبح لصاحبه أن يقف موقف الاستجداء".

ويقول في جزء نوفمبر سنة 1955 من "لواء الإِسلام": "وأذكر أني حين كنت في ألمانيا في أيام الحرب الأولى حضرت حديثاً يدور بين مدير الاستخبارات الألمانية وسكرتيره أثناء سفرنا إلى قرية "ويزندرف"، سألني المدير في نهايته، فقال: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟ قلت: وماذا يقرر؟ قال: إن العرب لا يصلحون للملك، ولا يحسنون حكماً للأمم. قلت: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية. وقرر أنهم في الإِسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام. وقد بين ذلك غاية البيان في فصل عقده في "مقدمته" ذكر فيه أن العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك، فقال: "فبعدت طبائع العرب لذلك كله عن سياسة الملك. وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طبائعهم، وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض. واعتبر ذلك بدولتهم في الملة،

ص: 71

لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم". وقد نظم في هذه الواقعة قطعة في ديوانه عنوانها:(العرب والسياسة).

وفي ديوانه قطعة دالية نظمها في ألمانيا حين زاره محمد بك فريد، وإسماعيل بك الأيوبي.

وقد ذكرت أنه عاد إلى دمشق في سنة 1918. وفي هذه المرّة وجد في الشام الحكومة العربية في عهد الملك فيصل الأول، وعهد إليه التدريس في المدرسة السلطانية كما كان أولاً. ولكن ما لبث أن بسطت فرنسا سلطانها على البلاد، فترك الشيخ دمشق إلى القاهرة؛ حيث استقر بها، وتأثل مجده، وانتشر علمه وفضله. وكان رحيله إلى مصر في سنة 1338 هـ (1919 م).

أقام الشيخ بمصر، وأحس الغربة في مبدأ أمره، ورضي بها، وآثرها على الرجوع إلى وطنه الذي لا يزال تحت حكم الأجنبي. ويقول في ذلك:

رضيت عن اغترابي إذ لحاني

فتى لا ينظر الدنيا بعيني

يقول: تقيم في مصر وحيداً

وفقدُ الأنس إحدى الموتتين

ألا تحدو المطية نحو أرض

تعيد إليك أنسَ الأسرتين

وعيشاً ناعماً يدع البقايا

من الأعمار بِيضاً كاللجين

وقوم أمحضوك النصح أمسوا

كواكب في سماء المغربين

فقلت له: أيحلو لي إياب

وتلك الأرض طافحة بغين

وما غين البلاد سوى اعتساف

يدنسها به خرق اليدين

فعيش رافه فيها يساوي

إذا أنا سمته خُفَّي حُنين

ص: 72

أحن إلى لياليها كصبٍّ

يحن إلى ليالي الرقمتين

ومطمح همتي في أن أراها

تساوي في علاها الفرقدين

وقد عرفت مصر قدر الشيخ، وكثر أصدقاؤه ومريدوه. وكان من آثرهم وأجلهم: أحمد تيمور باشا رحمه الله. فقد آزر الشيخ، وكان له خير رفيق ومعين. ويقول الشيخ حين استأثر الله بصديقه الوفي:

تقاسم قلبي صاحبان وددت لو

تمتلَّهما عيناي طول حياتي

وعللت نفسي بالمنى فإذا النوى

تعل الحشى طعناً بغير قناة

فأحمد في مصر قضى ومحمد

بتونس لا تحظى به لحظاتي

ويريد بمحمد: الشيخ الطاهر بن عاشور -مد الله في حياته-.

وقد قام الشيخ بأعمال جليلة، فاشترك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وأسس جمعية الهداية الإِسلامية، وأصدر مجلتها، وظلت سفر الهداية وعلم رشاد. وقول تحرير مجلة "نور الإِسلام"(وهي مجلة الأزهر) لأول عهدها. وكذلك ولي تحرير "لواء الإِسلام" فيما بعد حيناً من الدهر، ووضع الخطة القويمة لها، ونهج لها السنة الواضحة.

ولقد ضمه الأزهر إلى علمائه، وكان أستاذاً في كلياته، واختير عضواً في جماعة كبار العلماء. وكان أن وقع عليه الاختيار لمنصب مشيخة الأزهر في سنة 1952 لأول عهد حكومة الثورة المبجلة.

واختير عضواً في مجمع اللغة العربية لأول نشأته، فكان من الذين رفعوا سمكه، ومكنوا له. واشترك في وضع الخطط التي يسير عليها المجمع، وإصدار القرارات التي يسير في هداها. ومن هذه القرارات: قرار تكملة المادة

ص: 73

اللغوية، وغيرها، ومجلة المجمع ومحاضره تشهد بفضله وتبريزه. وله عدة قصائد في افتتاح دورات المجمع. وكان في آخر حياته يحرص على حضور حفلات المجمع على الرغم من سوء صحته، وإن علته كثيرة نالت منه.

وأحب الشيخ مصر، وأعجبه نهضتها وقوة جيشها. وكان يتمنى لو يتاح مثل هذا للمغرب، وهو يقول في استعراض الجيش المصري في سنة 1949:

دمعة كالثلج برداً مَجَّها

في المآقي فرطُ بشرٍ وارتياح

إذ شهدنا عرض جيش من بني

مصر في أسنى عتاد وسلاح

وتلتها دمعة صور لي

حرها أنفاس مكسور الجناح

إذ ذكرت المغرب الغارق في

لجج سود من العسف الصراح

نهضت مصر إلى المجد وما

نهضت إلا بعزم وكفاح

أترى المغرب يوماً ناهضاً

للعلا بين سيوف ورماح

وكان الشيخ يجهد دهره في تحرير المغرب، فكان رئيس جبهة شمال أفريقية، وكانت هذه الجبهة تضم علية الأحرار الذين يسعون إلى نجاء المغرب من حكم فرنسا الجائر. وقد يكون من ثمار هذه الجبهة: ثورة الجزائر، ونهضة تونس ومراكش. وعني بمسألة فلسطين، فأنشأ قصيدة يذكر فيها وعد بلفور، يقول:

ما وعد بلفورسوى الزبد الذي

يطفو ويذهب في الفضاء جُفاءَ

أفبعد فتح ابن الوليد وصحبه

للقدس وعدٌ يستحق وفاء

أننام عن إسعافهم والدين قد

عقد ائتلافاً بيننا وإخاء

لا تنجدوهم بالتحسر وحده

إن التحسر لا يزيل عناء

ص: 74

وكان يدعو -كما قلت- إلى وحدة العرب والمسلمين. وكأنما بلغت نفسه بعض أمنيته بوحدة مصر وسورية، فمات عقب إعلانها قرير العين.

وكان الشيخ رقيق القلب، يحفظ عهد الصديق، وفياً للعشير. ماتت زوجه عقب توليه منصب مشيخة الأزهر، فرثاها بقصيدة أسى ورقّة، يقول فيها:

أعاذل غضّ الطرف عن جفني البكي

لخطب رمى الأكباد مني بأشواك

ولي جارة أولى بها سقم إلى

نوى دون منآها المحيط بأفلاك

أيا جارتا عهد اللقاء قد انقضى

وصمتك إذ أدعوك آخر ملقاك

أجارة هذا طائر الموت جاثم

ليذهب من زهر الحياة بمجناك

وكيف يروم الصحب مني تصبراً

ومركبة حدباء أرست بميناك

وكنت ألاقي كلما جئت مؤنساً

فمالي ألاقي اليوم صيحة منعاك

حنانيك هل ساءتك مني خليقة

فأنكرتِ دنيانا وآثرتِ أخراك

وكنت أعزي النفس من قبل أنني

أموت قرير المقلتين بمحياك

ولم أدر ما طعم المنون فذقته

مساء لفظتِ الروح والعينُ ترعاك

هوى بك بَيْنٌ لست أرجو وراءه

زمانا يجود الدهر فيه بمرآك

فهيهات أن أنساك ما عشت والأسى

يموج بقلبي ما جرت فيه ذكراك

وهيهات لا أنسى مواطن كنت لي

مسلية لا أنس إلا بمغناك

ولولاك لم أقض اليراعة حقها

كأن نسيج الفكر حيك بيمناك

وأنت التي حببت لي العيش بعدما

سئمت فطيب العيش بعض مزاياك

ص: 75

وإن سامني يوم شكاة تدفقت

دموعك عن جفن يخال هو الشاكي

يجافي الكرى عيني إذا مسَّكِ الضنى

ويرتاح ما بين الحنايا لمنجاك

تمر بنا الأيام موصولة المنى

فما ضرنا ألا نكون كأملاك

أجارة لو شاهدت كيف وقفت في

مزارك لكن ما ظفرت بنجواك

إذاً لرأيت الحزن يصلى بناره

حشًى وكأن الحزن شد بأسلاك

وعدت إلى البيت الكئيب كأنني

خلقت فريداً لست أعرف إلّاك

أغص بشجو كلما مر موضع

حللت به والنفس مرآة سيماك

وجملة القول: أن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في الندرى؛ فقد كان عالماً ضليعاً، وكان مع ذلك عالماً بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشد عنه مقاصد الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظا على العربية والدين، يرد ما يوجه إليهما، وما يصدر من الأفكار منابذاً لهما، قوي الحجة، حسن الجدال. وكان عفَّ اللسان والقلم، لا يتناول المنقود بما يخزيه وما يثلم عرضه، وكان يكره ذلك لمجادله وخصمه. وهو يقول في بعض كلامه:"ووقع بيني وبين بعض العلماء نزاع في مسألة، فلم يقتصر على ما يراه صحة لرأيه، بل زاد على ذلك كلاماً لا يتعلق بالبحث، فأجبته بذكر الحقيقة والتاريخ، وقلت له: ما زاد على ذلك، فغير أهل العلم أقدر عليه من أهل العلم".

وإن مجال القول في الشيخ ذو سعة، ونواحي فضله تحتاج إلى كتب وكتب. وأحسب أن فيما ذكرت ما يجلي بعض هذه النواحي. وأختم هذا الحديث بالدعاء إلى الله أن يجزل ثوابه، وأن يجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

ص: 76