المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمد الخضر بن الحسين - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌محمد الخضر بن الحسين

‌محمد الخضر بن الحسين

بقلم زين العابدين السنوسي (1)

"الأديب والصحفي والمؤرخ التونسي، ولد بسيدي بوسعيد من ضاحية تونس الشمالية عام 1318 هـ - 1901 م. وتوفي عام 1385 هـ - 1965 م.

مؤلفاته عديدة أهمها: الأدب التونسي في القرن الرابع عشر".

* نشأته:

ولد مترجمنا يوم 26 رجب 1293 هـ، بمدينة "نفطة" عاصمة الجريد التونسي، فنشأ في ظلال النخيل، وزقزقة (البوحبيبي) ذلك العصفور المتحبب الظريف، والمؤانس اللطيف، يرتل صلواته كل صباح على النوافذ وفوق الستائر، وقد يأنس فيقتحم سجف الفراش؛ حيث يقف على الوسائد نفسها، يقلب وجهه في النائمين، ويحييهم بأغنيته الرقيقة المبهجة، فيملي على الصغير من سيرة آبائه الثقات البررة ما يعلمه الصدق والدعة والأنس.

نشأ هناك على سلامة الطوية والصدق، وترعرع على مبادئ الورع، وفي وسط علمي، إلى أن انتقل والده إلى العاصمة التونسية سنة 1306؛ حيث أتم تعليمه الابتدائي، والتحق في العام الموالي بالكلية الزيتونية، يدرس الدين

(1) كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر".

ص: 16

واللغة إلى أن تخرج سنة 1316 بشهادة المعهد (التطوع) على أنه لم ينقطع عن حضور حلقات أكابر الأساتذة، مثل: الشيخ عمر بن الشيخ، والأستاذ محمد النجار، اللذين كانا يقرآن التفسير، والشيخ سالم بوحاجب في درسه "صحيح البخاري".

* قبل مهاجرته:

إلا أنه لم يكد يستقر على حاله هذا، ويرى تشابه يومه بأمسه، حتى عاف تلك الحياة المتماثلة، فعزم على الرحلة إلى الشرق؛ ليدرس حالته العلمية، ويعرف أحواله الاجتماعية. فسافر سنة 1317، إلا أنه لم يتم رحلته هاته، إذ اضطر للرجوع من طرابلس الغرب بعد أن أقام بها أياماً.

وهكذا رجع الأستاذ للمعهد الزيتوني الذي تخرج منه، يفيد ويستفيد إلى سنة 1321، حيث أنشأ مجلة "السعادة العظمى"، فكانت من أحسن مجلات عصرها العلمية، والمسرح الحر الذي تبارت فيه أقلام الكتاب الزيتونيين في مختلف المسائل الدينية والأدبية. وقد لقي صاحب هاته المجلة الإصلاحية ما يلاقيه كل مصلح من المحافظين، حتى قال له الشيخ سالم بوحاجب في أحد الأيام:"لا يهمك ما تلاقيه في سبيل ما أنت آخذ به، ولتكن لك بنبيك أسوة، إذ قال له ورقة بن نوفل: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي".

وفي سنة 1323 تقلد منصب القضاء بمدينة "بنزرت"، كما عهد له بالخطابة والتدريس بجامعها الكبير. على أن التوظف لم يكن بالمقيد له عن القيام بواجباته الاجتماعية -خلاف متوظفي الحكومة التونسية في العهد الأخير-، فلقد تعود الشعب أن لا يرى من المتوظف إلا مظاهر حكومية بحتة، بما يستعمله

ص: 17

الرؤساء من الضغط على المتوظف التونسي، فكل حركة يأتيها يرعد لها الرؤساء، حتى المشاركة في الجمعيات الأدبية، ولا غرو، فإن الجمعيات الأدبية إنما تقصد تعضيد اللغة العربية لا الفرنسية، الأمر الذي يعتقد أولئك الرؤساء أنهم لم يأتوا من وراء البحار لتأييده. نذكر من ذلك محاضرته "الحرية في الإِسلام" التي ألقاها بنادي (جمعية قدماء الصادقية)، فلقد كان لها تأثير كبير، وحضرها الطبقة العالمة والمفكرة، وحتى بعض المستعربين من الأجانب، ونُشرت فتناقلتها الصحف.

هذا، ولما كان الرجل حراً بطبيعته، وقد أحس بأن الحكومة -إذاك- تحاول أن تطفئ منه ذلك النور المشع، وتقتل روحاً نشيطة لا زالت متأججة بين جنبيه، ليكون على ما عودت به سائر موظفيها من السكون والاستسلام في ظل مرتب يأتي بانتظام، ويذهب بمثله.

لما أحس بذلك، أبى عليه حزمه أن يكون ذلك المستضعف المغبون، فقدم تسليمه، وأكده بإرادة قوية، حتى لما رأت عزمه، قبلته منه، فرجع للعاصمة متطوعاً بإلقاء دروسه المعتادة في الكلية الزيتونية، وعندها عينته نظارة الجامع لتنظيم خزائن الكتب. وفي سنة 1325 شارك مشاركة عملية في تأسيس جمعية زيتونية، وفي مدتها تولى وظيفة التدريس بالكلية بصفة رسمية، وفي سنة 1326 عين مدرساً بثانوية الصادقية، وانتخبته هيئة إدارة الخلدونية لإلقاء محاضرات في الإنشاء على تلامذتها، فقام بهاته الوظائف أحسن قيام، وكان لا يفتر عن إتحاف الشعب ببنات أفكاره بين الفترة والأخرى، كمحاضرته "حياة اللغة العربية".

ولما قامت الحرب الطرابلسية الإيطالية، كان من أعظم الدعاة لإعانة

ص: 18

المجاهدين في سبيل استقلالهم، والهلال الأحمر نفوذاً، وقد نشر بجريدة "الزهرة" الغراء قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

ردوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا

يكفي مضاجعنا نوم دها حقبا

ثم رحل إلى بلاد الجزائر، فزار قواعدها وأكثر مدنها، وكان يلقي المحاضرات العلمية أينما ارتحل ليلاً ونهاراً، وكان يلاقي التعظيم والتبجيل أينما حل، ثم رجع لتونس مستمراً على إلقاء دروسه في الكلية الزيتونية، والنشر في الجرائد من علميات وأدبيات.

وفي سنة 1330 انتقلت عائلته إلى الشام، ونزلت دمشق، فالتحق بهم صاحب الترجمة ماراً بمصر، ثم سافر إلى الآستانة، فدخلها يوم إعلان حرب البلقان، فزار أهم مكاتبها، واختلط بأهلها، فدرس من حالتهم الاجتماعية والعمومية ما مكنه من نشر رحلة مفيدة على صفحات بعض الجرائد التونسية بمجرد رجوعه، وذلك في ذي الحجة سنة 1330؛ حيث رجع لما كان عليه. وأول محاضرة اجتماعية ألقاها بعد رجوعه كانت في "مدارك الشريعة الإِسلامية وسياستها". وقد شاءت الحكومة التونسية أن تتعرف بعض الحقائق عن تاريخ تونس، فعينته في اللجنة المكلفة بذلك، فعمل فيها، إلا أنه في شعبان من هذه السنة عزم بتاتاً على مفارقة مسقط رأسه، والمهاجرة إلى حيث يهب النسيم من الشرق وإلى الشرق حراً.

* في المهجر:

سافر الأستاذ التونسي إلى الشرق، بعد أن ودّع أصدقاءه في الجزائر، حيث ركب من مدينة عنابة، فلما نزل مصر، تعرف بكثير من دعاة الرابطة العربية مثل: رفيق بك العظم صاحب "أشهر مشاهير الإِسلام"، والشيخ رشيد

ص: 19

رضا صاحب "مجلة المنار".

ثم سافر الأستاذ إلى الشام، فقابله عظماؤها بالترحاب، ونوهت الجرائد العربية هناك بمسامراته العلمية والأخلاقية. إلا أنه لم يقر له قرار حتى عزم على زيارة الإمبراطورية العثمانية، فنزل جنوباً حتى المدينة المنورة، ثم صعد شمالاً حتى الآستانة، فزار منها ما لم يزره في سياحته الأولى، ومن هناك تعين مدرسا للغة العربية والفلسفة بالمدرسة السلطانية بمدينة دمشق، فقام بوظيفته أحسن قيام، وكان مثابرًا على إلقاء المسامرات العلمية في المساجد الكبرى، ونشر المقالات الإصلاحية في الجرائد السيارة، وقد اهتم بوجه خاص بالمشكلة العربية التركية، محاولاً تجديد روابط الألفة، مهما أحس بتوترها بين مركز السلطنة، والأغلبية العظمى من رعاياها.

فلما أعلنت الحرب العالمية، وتولى جمال باشا حكم المقاطعة السورية، كاد أن يكون الأستاذ أحد ضحايا الصرامة التي استعملها القائد مع كل من ينتمي إلى النهضة العربية؛ حيث ألقي عليه القبض بدعوى اطلاعه على حركة المتآمرين، دون أن يحاول تنبيه السلطة لما يدبر لها من الأخطار، فاعتقلته ستة أشهر وأربعة عشر يوماً، ثم قدمته للمحاكمة، فظهرت براءته، فاعتذرت له، وأطلقت سبيله يوم الأربعاء من شهر ربيع الثاني 1335.

فمن شعره في حبسه يوم حيل بينه وبين أدوات الكتابة:

غلّ ذا الحبس يدي عن قلمٍ

كان لا يصحو عن الطرس فناما

هل يذوذ الغمض عن مقلته

أو يلاقي بعده الموتَ الزؤاما

أنا لولا همةٌ تحدو إلى

خدمة الإِسلام آثرتُ الحِماما

ليست الدنيا وما يُقسم من

زهرها إلا سراباً أو جَهاما

ص: 20

وقال في محاورة بعض الأدباء الذين كانت المجالس العسكرية تلقي عليهم القبض بين الفترة والأخرى مدة الحرب وولاية جمال باشا الحكم في القطر السوري:

رأى صاحبي في الحبس أن الحياة في الـ

ـحضارة أرقى ما يتم به الأنسُ

فقلت له: فضلُ البداوة راجحٌ

ويكفيك أن البدو ليس به حبسُ

قلت: إن الأستاذ أطلق سراحه سنة 1335، فرجع إلى التدريس بالمدرسة العثمانية، ثم نظم مسامرات علمية ودينية عالية، يلقيها على بعض طلبته المنتهين، واستمر على ذلك إلى أن استدعاه المركز سنة 1336 منشئاً عربياً بالوزارة الحربية، فلعب دوراً مهماً في ترويج سياسة الحكومة، كما عينته المشيخة الإِسلامية واعظاً بجامع الفاتح، فبقي في وظائفه إلى سنة 1337 التي جاءت فيها ارتباكات الآستانة، فبارحها الأستاذ عائداً إلى دمشق. فمن أدبياته في الموضوع قوله:

أنا كأس الكريم والأرض نادٍ

والمطايا تطوف بي كالسقاة

ربَّ كأس هوت إلى الأرض صدعاً

بين كف تديرها واللهاة

فاسمحي يا حياة بي لبخيل

جفنُ ساقيه طافحٌ بالسبات

وقال

كأني دينار ودمشق راحة

تعودت الإنفاقَ طول حياتها

فكم سمحت بي للنوى عقبَ النوى

ولم أقض حق الإنس بين سراتها

وما كاد يصل دمشق عاصمة الأمويين، حتى عين عضواً بالمجمع العلمي العربي، ومدرساً بكل من المدرسة العثمانية والمدرسة العسكرية والمدرسة

ص: 21

السلطانية، إلا أنه عزم على الذهاب إلى محور النهضة العربية اليوم، فلم يباشر وظائفه تلك، وقصد مصر بلاد الفراعنة، حيث يعرف الشعب قيمة الحرية والاستقلال، ومكانة اللغة من تكوّن الشعب ومستقبله.

وهناك في بلاد النيل، ولي التصحيح بدار الكتب المصرية، ثم صرح له جلالة ملك مصر في دخول شهادة العالمية، التي ما كاد يحرزها حتى انتدب للتدريس بقسم التخصص.

ثم في سنة 1347 هـ أضيف لدرس البلاغة الذي كان يلقيه لطالبي التخصص درسان آخران، أحدهما في الوعظ والإرشاد، والثاني في التاريخ، وهو مع ذلك لا ينقطع عن إلقاء المسامرات العلمية والاجتماعية المؤيدة بروح الدين، ومع ذلك فهو العضو النشيط في جمعيتي (الشبان المسلمين) و (الهداية الإِسلامية)، ولهاته الأخيرة مجلة يتولى رئاسة تحريرها.

* أدبه:

يذهب الأستاذ في أدبه مذهب الحقيقة والواقع، فأدبه غني بالحكمة، وغني بالوصف الدقيق، والبعيدِ عن كل شعوذة وكل خيال.

ولا غرو، فإن كثرة تنقلات الأستاذ، ووفرة محصوله العقلي، وسعة معلوماته واختباراته، لكفيلة بأن تغريه بذلك المذهب الذي لا تغويه عن العظة والفائدة غاوية، وهو على بينة من حقيقتها تلك، فيصفها:

أقول فلا أرتاد غير خصيب

وأنظم لكن لا أطيل نسيبي

أجدّ وإن رام النديم دعابة

فلم ترَ غيرَ الجد عينُ رقيبي

* ديباجته:

ومع أن تعلم الأستاذ كان زيتونياً بحتاً (نسبة لجامع الزيتونة)، ومع أن

ص: 22

نشأته كانت بين طبقة تحصر العلم بين شدقي الفقه ومحسنات البديع الذي كان في نظرهم الأدب كله، فقد منع الأستاذ بأدبه من تقعراتهم، وأسلس بيانه سائغاً سهلاً.

ص: 23