الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع العلامة محمد الخضر حسين في جهاده
بقلم سعدي أبو جيب
"ولد في مدينة دمشق عام (1351 هـ - 1932 م)، وحصل على الإجازة في الحقوق، وعمل في القضاء والمحاماة.
مؤلفاته: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي - الوجيز من المبادئ السياسية في الإسلام -الماسونية - المعوق والمجتمع في الشريعة الإسلامية - القاموس الفقهي - التأمين بين الحظر والإباحة - مروان بن محمد وأسباب سقوط الدولة الأموية- دراسة في منهاج الإسلام السياسي- سحنون" (1).
من علماء أمتي من سفح على القرطاس عمره، وعاش في كهف العلم، حتى غدت الكلمة لا تخرج منه إلا على محفة من الكتب، في موكب من الأعلام ..
ومنهم من أتاه الله بسطة في القلب والفكر، فعاش مع العلم، وعاش حياة الأمة، ومتاعبها، وآلامها .. حتى غدت لا تبرح ضميره، ولا تفارق فكره .. فهو يقلب طرفه في سماء المجد، والسؤدد، والصلاح، يبحث عن أقصر سبيل يوصل أمته إلى كل ذلك.
(1) مجلة "حضارة الإسلام" بدمشق - العدد الرابع - السنة 18 (جمادى الآخرة 1397 - حزيران 1977).
هؤلاء هم صفوة الصفوة من أهل العلم، بل هم العلماء الحق في قول علامتنا الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين - عليه رحمة الله ورضوانه-. . .: (من وظيفة العالم مراقبة سير الأمة، حتى إذا اعترضها خلل، أرشد إلى إصلاحه، أو ضلت عن حق، قادها إلى مكانه. ومن تصدى لتقويم الخاطئين، ورد جماح المبطلين، يلاقي بالطبيعة أذى، ويجد في طريقه عقبات لا يقتحمها إلا ذو عزم ثابت، وإقدام لا يتزلزل. وكم من عالم يفوقه أقرانه علماً وألمعية، ولكن ينهض لإحياء سنة، أو إماتة باطل، ويلاقي في جهاده شدائد، فيجتازها بنفس مطمئنة، ولا يلبث أن يرجح وزنه، ويبعد في حلبة السباق شأوه. ولو كشف لنا الغطاء عن حياة العلماء الذين أوذوا في سبيل الدعوة إلى الخير، ولم ينحرفوا عن خطتهم فتيلاً، لرأينا كيف ارتفعت منزلتهم، وتجلى وقارهم، حتى في عين من كان يسومهم سوء الأذية، أو يشفي غليل صدره أن يصرعوا في مصارع الاضطهاد.
الرجال الذين أحرزوا هذه المزايا، واستحقوا لقب العالم المصلح ليسوا بكثير. فلو قلبت نظرك في السنين الماضية، وصعدت به إلى عهد قريب، رأيت المعاهد العلمية إنما تبعث في العصر الواحد الرجل أو الرجلين. . ." (1).
هل ترى إمامنا الأكبر من هذه النخبة المختارة التي قلما يجود بمثلها الزمان؟
سنسير معه في درب الحياة خطوة خطوة؛ علّنا نهتدي إلى الجواب ..
(1)"الدعوة إلى الإصلاح"(ص 146).
* مولده ونشأته:
أدرك علامتنا النور في يوم خير من سنة (1293 - 1873) في بلدة "نفطة"، واحة النخيل في جنوب تونس، البلدة التي أنبتت عدداً مباركاً من العلماء، حتى وصفوها بالكوفة الصغرى. . .
ولقد رضع علومه الأولى من بيته، من فكر أمه السيدة حليمة السعدية بنت العلامة الكبير مصطفى بن عزوز -رحمة الله عليه- التي قامت بتدريسه، مع إخوته العلوم الدينية واللغوية، حتى إنه أخذ عنها كتاب الكفراوي في النحو، وكتاب السفطي في الفقه المالكي. . .
هكذا الأم، وإلا فلا. . .!
وحين أشرف هذا الألمعي على المراهقة انتقلت أسرته إلى مدينة تونس العاصمة، واستقرت بها
…
* في الزيتونة:
وفي جامعة تونس العتيدة: الزيتونة، الدوحة المباركة بالعلم وأهله، التي لا ينضب نورها الدافق من الإسلام، ترعرع علامتنا الكبير، وزكا فكراً وأدباً، حتى حاز الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية.
ولما أصبح في واحة العلم نخلة باسقة، ضمته الزيتونة أستاذاً ومربياً. وفي أيلول من عام 1912 غادر تونس وزيتونتها، وفي نفسه حرقة، وفي ضميره ثورة، وفي العين عبرة. . .
* الرحيل:
لماذا يرحل هذا الطود الشامخ من العلم؟
أملَّه الأهل والأحبة؟ أم ملّ هو من الأهل والأحبة. . .؟
لا. . . كل هذا لم يكن. . .
لقد لوثت أقدام الغزاة الفرنجية التراب التونسي العبق في يوم حزن من عام 1881، كما فعلوا قبل خمسة عقود من السنين في القطر الجزائري الحبيب.
هب عالمنا الكبير للجهاد، لا بالسلاح، ولا بالدم، فالاستعمار قد أناخ بكلكله السمج على بلاده الجريحة، وإنما بالقلم والفكر يبعث الروح، والأمل المتشوف إلى فجر مشرق لابد أن يأتي بعد الليل المدلهم. . ولذلك فقد أصدر مجلة "السعادة العظمى"، وأسس بنيانها على العلم، والعقل، وجعل رسالتها الدعوة إلى الدين الحنيف؛ بتفسير آيات التنزيل العزيز، وشرح الحديث الشريف، وترسيخ العقيدة الصحيحة لرد كيد الضالين المضلين، وإرساء قواعد التشريع العظيم في الحياة بكل أبعادها، ونشر الأخلاق والفضيلة، كل ذلك بلسان عربي مبين (1).
كانت هذه المجلة صرخة عنيفة في ضمير الأمة كي تنهض من كبوتها، وتدرك التخلف الذي أدى بها إلى أن تقع مهيضة العزة تحت الاحتلال.
وكانت وخزة مُرَّة في جنب العدو المستعمر تنخر في حياته، ولا بد أن تأتي عليه ..
وزاد في أثر هذه المجلة الغراء: أن بيت صاحبها غدا دار ثورة للفكر
(1) مقدمة العدد الأول من المجلة الذي صدر في 16 محرم 1322 هـ. تحدد رسالة المجلة ومنهجها. وعندي أن هذه المجلة، ومجلة "العروة الوثقى" التي أصدرها في باريس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده قد أحدثتا ثورة فكرية -على قصر حياتهما- لم تعرفها الصحافة العربية.
والأدب، والثقافة والوعي الاجتماعي.
لكل هذا وذاك عمد المحتل الغاشم إلى المجلة، فأغلقها بعد أقل من عام من صدورها، وكان العدد الأخير يحمل الرقم الحادي والعشرين، وقد صدر قي ذي القعدة 1322 هـ ..
فهل يسكن الثائر المجاهد، ويستكين؟
…
ها هو ذا بعد سنتين من وأد المجلة يقف بشمم وإباء في عام 1324 يلقي محاضرة في تونس بدعوة من جمعية (قدماء تلامذة الصادقية) بعنوان: "الحرية في الإسلام"(1) قبض فيها قبضة من أثر الدين الخالد، ونثرها على الحاضرين، بل على مجتمعه بأسره، جواهر تصف الحرية ومعناها، والمشورة ومبناها، والمساواة بين السيد والمسود، والأمير والمأمور، وتحدث عن حرمة الدماء والأعراض والأموال ..
في مستهل كلمته حمل على المستعمر، ووصف الأمم التي تبيح لنفسها استعباد الأمم الأخرى، فقال:"الأمم المتوحشة يستهوي بها الاستئثار بالمنافع والنفيس من الفوائد أن ينسل أولو القوة منها نحو أموال الذين استضعفوا، ويصولوا عليها صيال الوحوش الضارية، ثم ينصرفوا بها إلى مساكنهم غير متحرجين من أوزارها، كأنما انصرفوا بتراث آبائهم وأمهاتهم، أو خصهم الله بما خلق في الأرض جميعاً".
وأخيراً طفح الحقد من قلب المستعمر، وكل إناء بالذي فيه ينضح، فأحكم التضييق على علامتنا الكبير حتى حمله على الرحيل عن الوطن، وأهداه
(1)"محاضرات إسلامية".
بعد حين وسام العز الرفيع: حكم الإعدام، الذي يزين عنق المجاهدين.
أعلمتم إذن سبب الرحيل .. ؟
فإلى أين سيتجه يا ترى
…
؟
* في دمشق:
إنه في دمشق، عاصمة المجد العربي الخالد، لا يعرف أحداً، ولا يعرفه أحد ..
ولكن هل تخفى الشمس؟
وفي عصامية عجيبة انطلق وراء رزقه، ورزق عياله، يعمل في مدارسها، حتى اندفعت إليه نخبة مختارة من كرام أبناء هذه المدينة العتيدة، تنهل من نمير علمه العذب، ومن شخصيته الفذة، ومنهم: أستاذي الكبير علامة الشام محمد بهجة البيطار - عليه رحمة الله ورضوانه - .. ومن حديث شيخي وقعت في نفسي الهمة الشماء، والعصامية الأبية التي كان يتحلى بها الشيخ الكبير ..
ومرت الأيام .. حتى كان يوم نحس من عام 1920 حين دخل الفرنسيون دمشق على جماجم أبطالنا في ميسلون، إنهم نفس الغزاة، حملة رائحة الاستعمار والاستعباد التي تلوث جو الكون، الذين احتلوا المغرب العربي وشطراً من أرض الشام ..
فإلى أين يذهب العلامة المجاهد
…
؟
إلى أين
…
؟
* في مصر:
إلى القاهرة يمم وجهه، وذلك في عام 1922، كما فعل العديد من
كرام رجال الوطن السوري.
وهنا ندخل في طور جديد، وسعيد في حياة الجهاد التي عاشها علامتنا الجليل
…
في دنيا العلم أحرز قصب السبق، ها هو في الأزهر الشريف يدرّس الفقه في كلية أصول الدين، ثم يقدم رسالة علمية رائعة "القياس في اللغة العربية" ينال بها عضوية هيئة كبار العلماء.
وفي عام 1952 م تم اختياره شيخاً للأزهر، ولقي وجه ربه سنة 9581 م. أما في دنيا الجهاد، التي عنها نتحدث، فهل خبت جذوته في نفسه الكبيرة، وفي القاهرة ما فيها من علوم وعلماء، ومن دراسات وأبحاث، ولا سيما بعد أن أصبح عضواً في "المجمع اللغوي فيها، وفي المجمع العربي بدمشق؟
لا .. لن يكل السيف المشرع تحت راية الجهاد الحق حتى تتحرر بلاده، أو يهلك دون ذلك.
هو في القاهرة، وقلبه يحمل وطنه، وما يعاني .. أتريد أن تلمس وهج حب تونس في هذا الفؤاد العامر؟
…
ترنم معي إذن بهذه الأبيات التي انتقيتها لك من شعره (1):
وطني علمتني الحب الذي
…
يدع القلب لدى البين عليلا
لا تلمني إن نأى بي قدر
…
وغدا الشرق من الغرب بديلا
عزمة قد أبرمتها همة
…
وجدت للمجد في الظعن سبيلا
(1) ديوان "خواطر الحياة".
أنا لا أنسى على طول النوى
…
وطناً طاب مبيتاً ومقيلا
بل هو يعجب من شعراء عكفوا على اللهو والمجون، ووطنهم يعاني ما يعاني:
وأنفع الشعر ما هاج الحماسة في
…
شعب يقاسي اضطهاد الجائر الأشر
من ذا يقيم على أرض يظللها
…
ضيمٌ، ويحسن وصف الدلِّ والحور
وتعاوده ذكريات صباه في تونس، فيجد شيئاً من حلوها، إلا أنه ينقلب علقماً في نفسه حين يرتد إليه طرفه مشمئزاً من صورة جيش الاحتلال، فيقول:
ليال قضيناها بتونس ليتها
…
تعود وجيش الغاصبين طريد
نعم .. لقد عاد لتونس أريج الحرية، بفضل الله سبحانه؛ لأنه أقدرك يا سيدي العلامة على النضال الذي كنت تغذي به رجال السياسة والعلم والأدب، حين كانوا يتوافدون إلى دارك العامرة، وإلى رابطة (تعاون جاليات أفريقيا الشمالية) التي أسست، والتي قامت بعقد المؤتمرات والندوات لشرح قضية المغرب العربي للعرب، وللمسلمين، وللعالم (1)، وإلى (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) التي لعبت دوراً رائعاً في وحده النضال عند شباب المغرب العربي الأحرار.
كيف ينسى تونس الخضراء، وهو الذي ألقى المحاضرات، وكتب الدراسات المستفيضة عن الحالة العلمية في ذلك الوطن، وقدم بأدب وفخر
(1) رفع علامتنا الكبير مذكرة إلى دول العالم شرح فيها مساوئ الاحتلال الفرنسي، وقد نشرت في كتاب:"تونس وجامع الزيتونة"(ص 128).
واعتزاز للمجتمع المصري أعلاماً من تونس لم يكن لاسمهم ولسيرتهم من ذكر في مصر (1)، فأي تعبير عن حب الوطن، والوفاء له، أصدق من ذلك؟.
هو في القاهرة بين إخوته العرب، فعليه إذن أن يؤدي شرف الأمانة الذي يحمل، وأن يقدم لهم كل ما يمليه عليه ضميره من واجب النصح، والعمل البناء الهادف ..
ولذلك كان المعلم الأمين، وكان المرشد الصالح، والمربي الصدوق ..
وجد في مدارس الدولة تقصيراً في التعليم المديني، فوجه المذكرات للسلطة لإصلاح ذلك (2).
وسمع بانحراف بعض أساتذة الجامعة عن أصالة الفكر العربي، فحذر من ذلك وزارة المعارف، ونبه على الخطر الذي ينزل بالأمة بسبب التهاون، والتغاضي عن ذلك .. وصدق؛ لأن النار من مستصغر الشرر.
هو في القاهرة، وما يشغله حب وطنه، ولا خدمة المجتمع الذي يعيش فيه عن خدمة دينه وشريعته.
ولذلك فقد اشترك في تأسيس (جمعية الشبان المسلمين) التي كانت في طليعة الجمعيات الهادفة إلى تربية الشباب المسلم تربية صالحة قويمة.
ومن فكره البنّاء ولدت (جمعية الهداية الإسلامية)، وكان هدفها: "أن تعرض حقائق الدين الحنيف، وحكمة تشريعه في صورتها الخالصة النقية، وأن تبحث في تاريخ رجال الإسلام من العرب وغير العرب، وأن تنبه على
(1)"تونس وجامع الزيتونة".
(2)
"الدعوة إلى الإصلاح"(ص 148، 159).
ما كان لهم من عبقرية في العلم، أو فضل في البيان، أو شرف في الأخلاق، أو رشد في السياسة .. " .. وأن تعمل على رفع التجافي بين الفرق الإِسلامية، ولعلها تستطيع بتأييد الله وبوسيلة مجلتها (1) الضاربة في الشرق يميناً وشمالاً أن تضع مكان التجافي إلفة وسلاماً، وإذ عز على زعماء هذه الفرق الوصول إلى تقليل مواقع الاختلاف في الآراء، فلا يعز عليهم أن يخففوا وقعه في القلوب، ويكفوه عن أن يشيع فيها فاحشة التقاطع والقصد إلى الأذى
…
وحين طلع على العرب طه حسين بآراء في الشعر الجاهلي، استقاها من مدرسة الاستشراق، من (مرجليوث، وسانتيلانا) على وجه الخصوص، وفيها ما فيها من نيل يمس الإسلام في كتابه الكريم، هبّ علامتنا الكبير للرد على ذلك بعنف، وصدق لهجة (2)، وكذلك فعل أديب العروبة والإسلام مصطفى صادق الرافعي في كتابه الرائع "تحت راية القرآن"، وأكرمْ بها من راية! .. وحين طلع علي عبد الرازق على العرب بكتاب "الإسلام وأصول الحكم"، وفيه يجعل ديننا -الذي اختاره الله سبحانه ليكون نوراً للبشرية في مسيرة حياتها- مجردَ عبادات وأذكار فحسب، نهد أستاذنا الكبير -وهو فارس هذا الميدان- للرد على ذلك، وإظهار ما في هذا الدين الخالد من نظام شامل لشؤون الحياة في السياسة وأصول الحكم، وفي الفقه والمعاملات، وفي تنظيم أمور المجتمع على أقوم نظام، وأعدل تشريع (3).
(1) مجلة "الهداية الإسلامية".
(2)
"نقض كتاب في الشعر الجاهلي".
(3)
"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم".
وبعد:
إنها سيرة مجاهد لتحرير الوطن من العبودية، ولتحرير فكر الأمة من الجهل والتخلف، ولإعمار ضميرها بالعقيدة "الصحيحة" والخلق القويم، والرجولة، والشهامة، ولجعل لسانها عربياً مبيناً لا عوج فيه، ولا أمتاً ..
إنها مسيرة عالم عاش في ضمير أمته، وعاشت أمته في ضميره .. أليس كذلك؟