المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شيخ الأزهر السابق السيد محمد الخضر حسين - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌شيخ الأزهر السابق السيد محمد الخضر حسين

‌شيخ الأزهر السابق السيد محمد الخضر حسين

(1)

(1293 - 13 رجب 1377 هـ)

بقلم محب الدين الخطيب

"الكاتب والصحفي والمجاهد. ولد بدمشق (1303 هـ - 1886 م) وتوفي بالقاهرة (1389 هـ 1969 م).

أصدر: مجلة "الزهراء"، و"الفتح" له مؤلفات، منها:"الحديقة" - "اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب" - "الدولة والجماعة" - "الزهراء".

هذا رجل آمن بالإِسلام ودعوته، وأحبَّ من صدرِ حياته أن يكون من الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].

إن الاستقامة على طريق الله بعلم وحزم، وحكمة ويقين، هي الولاية، فإذا تعارضت مصلحة الدين ومصلحة الدنيا أمام الرجل المسلم، فآثر مصلحة الدين على مصلحة الدنيا، ومضى على ذلك في تصرفاته كلها مدى الحياة، فهو من أولياء الله؛ أي: من أنصاره. والولاية هي النصرة، وقد جرت سنة الله أن يأخذ بأيدي أوليائه، وينصرهم ما نصروا دعوته وسنته في الأرض، وهذه المرتبة في متناول يد كل من رامها من شبابنا وكهولنا وشيوخنا، إذا آلى أن

(1) مجلة "الأزهر" القاهرة - الجزء الثامن من المجلد التاسع والعشرين.

ص: 48

يجعلها وِجْهَته في مراحل الحياة. وسأتحدث في هذه الصفحات إلى إخواني من شباب المسلمين وكهولهم وشيوخهم عن مراحل حياة هذا الرجل المؤمن بالإِسلام؛ كما راقبتها فيه، أو علمتها منه من سنة 1330 هـ إلى أن اختاره الله إليه.

ولد السيد محمد الخضر حسين عام 1293 في بلدة "نفطة" من بلاد الجريد في الوطن التونسي. وأبوه من أسرة شريفة أصلها من الجزائر، وقد حدثني قبل ولايته مشيخة الأزهر عن ظهير من أحد ملوك المغرب الأدارسة إلى جد من جدود الشيخ يتعلق بنسبهم. وأرجو ممن صارت إليهم أوراقه أن يُعْنَوا بما فيها من أمثال ذلك؛ ليستعان بها في تدوين سيرته، وإرسال شعاع من نور على الأزمان التي عاشها في مراحل حياته.

وكانت أمه من صالحات النساء، وله فيها قصيدة "بكاء على قبر" لما بلغه خبر وفاتها سنة 1335 م. وكان أبوها الشيخ مصطفى بن عزوز، من أهل العلم والفضل، له ترجمة في "تاريخ الوزير أحمد بن أبي الضياف"، وأبو جده لأمه محمد بن عزوز، من الأفاضل -أيضاً- وله ترجمة في كتاب "تعريف الخلف برجال السلف" للشيخ الحفناوي بن عروس. وخاله السيد محمد المكي بن عزوز، من كبار العلماء الصالحين، وكان موضع الإجلال والاحترام من رجال الدولة العثمانية في العهد الحميدي، وقضى الشطر الأخير من حياته في الآستانة برغبة من السلطان، وله مؤلفات معروفة. ولفقيدنا قصيدة في تأبينه ووصفه لمناسبة وفاته سنة 1334 م أثبتها في (ص 180) من "ديوانه" في طبعته الثانية.

وفي سنة 1305 هـ انتقلت أسرتهم من "نفطة" إلى العاصمة التونسية،

ص: 49

وكان فقيدنا في الثانية عشرة من حياته، وقد تأدب قبل ذلك بأدب الإِسلام، وتلقى كتاب الله، ومبادئ العلوم الشرعية والعربية. فلما نزلوا تونس، التحق بجامعها الأعظم "جامع الزيتونة"؛ وأخذ يتنقل في مراحل التعليم، وكان من أبرز شيوخه: العلامة الكبير الشيخ سالم بو حاجب، المتوفى سنة 1339 هـ رحمه الله. ولفقيدنا أبيات في وصفه ورثائه هي في "ديوانه"(ص 101).

وحوالي سنة 1321 هـ حصل على شهادة العالمية من جامع الزيتونة، وما لبث أن أصدر مجلة "السعادة العظمى"، وأخذ يساهم في النهضة العلمية والأدبية، ويباري رجالها لإحراز قصبات السبق طمعاً في مرضاة الله. وفي "ديوانه"(ص 73) قصيدة نظمها في هذه الحقبة انطوت على روح الدعوة التي أنشأ هذه المجلة للقيام بها.

وفي سنة 1324 هـ تولى قضاء "بنزرت" ومنطقتها.

وفي مساء 17 ربيع الآخر من تلك السنة ألقى محاضرة عنوانها: "الحرية في الإِسلام" في نادي (قدماء خريجي المدرسة الصادقية) بلغت 64 صفحة، ودلت على نزعته المبكرة إلى الحرية، وفهمه السليم لرسالة الإِسلام من هذه الناحية.

ولم تطل مدة ولايته القضاء، لأن الجمع بينه وبين انطلاقه الفكري في بلد محتل بالاستعمار الملعون كان محاولة للجمع بين الضدين، لذلك رأيناه في سنة 1373 هـ عاد مدرساً في جامع الزيتونة، ولعله فارق القضاء قبل تدريسه في الزيتونة، فتولى التدريس قبل ذلك في المدرسة الصادقية، وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة في الوطن التونسي كله.

وفي مساء السبت 11 شوال 1327 هـ ألقى في نادي (الجمعية الخلدونية)

ص: 50

بتونس محاضرة عنوانها: "حياة اللغة العربية"، تحدث فيها عن أطوار هذه اللغة، وفصاحة مفرداتها، وحكمة تراكيبها، وتعدد أساليبها، وما تفردت به من إعجاز الإيجاز، وبدائع التشبيه، وارتقاء مستوى اللغة بارتقاء التمدن العربي. وتحدث عن العامية والعربية والفصحى.

وفي "ديوانه"(ص 23) قصيدة نظمها سنة 1328 هـ بعد ولايته القضاء والتدريس، يوجه بها أنظار القائمين على جامع الزيتونة إلى ضرورة العناية بتدريس الإنشاء، وتمرين الزيتونيين عليه؛ ليكون للوطن من علماء هذا المعهد الإِسلامي كتّاب بارعون، يؤدون مهمة الدعوة، ويقودون الأمة إلى أهدافها.

وفي تلك السنة مرت بتونس بعثة الهلال الأحمر العثماني قاصدة طرابلس الغرب بعد حملة البغي الإيطالي عليها، فنظم قصيدة يدعو فيها إلى معونة هذه البعثة وإعانتها، وهي في "الديوان"(ص 33).

وفي السنة التالية (1329 هـ) وجهت إليه التهمة ببث روح العداء للغرب، ولا سيما سلطة الحماية الفرنسية، فسافر إلى الآستانة متذرعاً بزيارة خاله السيد محمد المكي بن عزوز، ولما ظن أن الزوبعة هدأت، عاد إلى تونس بطريق نابولي. انظر:"ديوانه"(ص 115 و 164)، ولما استقر به المقام، رأى أنه لن يطيق البقاء في ذلك الجو الخانق، فأزمع الهجرة منه نهائيًا، ووقع اختياره على دمشق ليتخذها وطناً ثانياً له، وقد مر بنا في مصر هذه المرة (سنة 1330 هـ)، وسعدت بالتعرف به، واجتمع عندي بشيخنا الشيخ طاهر الجزائري، وأحمد تيمور باشا، والسيد رشيد رضا، وأضرابهم، وكثت وقتئذ أعمل في قلم تحرير "المؤيد".

ولما وصل إلى دمشق، كانت الحركة العربية في بدايتها، وكانت الأمة

ص: 51

تطالب الحكومة العثمانية بإعطاء اللغة العربية حقها من التعليم في المدارس الرسمية، فعين السيد محمد الخضر حسين مدرساً للغة العربية في المدرسة السلطانية بدمشق، وكانت سكة الحجاز الحديدية متصلة فيما بين دمشق والمدينة المنورة، فزار المسجد النبوي سنة 1331 هـ.

وله في هذه الزيارة قصيدة في "الديوان"(ص 106).

وفي هذه الفترة زار تونس، وفي "ديوانه" من ذكريات هذه الزيارة أبيات في (ص 126 و 134).

وذهب في هذه المدة إلى الآستانة، ولقي وزير حربيتها أنور باشا، واختير الشيخ محرراً عربياً في وزارة الحربية.

كان في هذه الحقبة قد عرف دخيلة الحال في الدولة، وأصيب بخيبة أمل بين ما كان يتصوره بعين الخيال، وبين ما رآه بعين الحقيقة، فنظم في سنة 1332 هـ أبياتاً بعنوان:"بكاء على مسجد ضائع" تجدها في "ديوانه"(ص 61) ومنها:

أَدْمَى فُؤادي أَنْ أَرَى الـ

أقلامَ تَرْسُفُ في قُيودِ

فَهَجَرْتُ قوماً كنتُ في

أنظارِهم بيتَ القَصيدِ

وَحَسِبْتُ هذا الشرقَ لم

يبرحْ على عهدِ الرشيدِ

فإذا المجالُ كأنه

من ضِيقه خُلُقُ الوليدِ

وفي سنة 1333 هـ أرسله أنور باشا إلى "برلين" بمهمة رسمية، فقضى في ألمانيا تسعة أشهر، اجتهد في خلالها أن يتعلم الألمانية، وفي "ديوانه" قطع كثيرة مما نظمه هناك.

ومن ذلك: أنه كان في قطار بضواحي برلين يرافقه مدير الأمور الشرقية

ص: 52

بوزارة الخارجية الألمانية، وكان يتحدث مع شاب ألماني باللغة الألمانية، ثم أقبل مدير الأمور الشرقية على الشيخ: وقال له: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعدُ الناس عن السياسة؛ فنظم الشيخ في هذه الحادثة أبياتاً يقول فيها:

عَذِيريْ منْ فَتًى أَزْرَى بقَومي

وفي الأهواءِ ما يَلِدُ الهُذاءَ

سلوا التاريخَ عن حُكْم تَمَلَّتْ

رَعاياهُ العدالةَ والرَّخاءَ

هو الفاروقُ لم يُدْرِكْ مَداه

أميرٌ هَزَّ في الدُّنيا لِواءَ

وأدركه عيدُ الفطر في "برلين"، فقال:

يَوْمَ عيدٍ وما تَفتّقَ كِمٌّ

عن أَنيسٍ ولا كَسَمِّ الخياطِ

أينَ جيرانُنا وأينَ المُصَلَّى

وخَطيبٌ يَهدي لخيرِ صِراطِ

لو تقاضيتُ في اغترابيَ أَمْراً

نهضَتْ همَّتي له ونَشاطي

لأَدَرْتُ العِنانَ نحوَ دمشقٍ

وحَمِدْتُ السُّرى على الأشواطِ

وعاد إلى الآستانة، فوجد أن خاله المكي قد توفي بها قبل قدومه بنحو شهرين، فرثاه بما في "الديوان"(ص 180)؛ ثم ضاقت به العاصمة العثمانية على سعتها، وصرفه عنها وعن عظمتها يومئذ ما كان يشعر به من الشوق إلى دمشق، حتى تمكن من الوصول إليها، والاستقرار فيها. غير أنه ما لبث أن ناله شُواظ من شرور السفاح الجنكيزي أحمد جمال باشا، الذي لم يسلَم فاضلٌ من شره، فاعتقل في رمضان سنة 1334 هـ وكان في زنزانة واحدة هو والأستاذ سعدي بك الملا، الذي تولى رئاسة الوزراء اللبنانية بين الحربين العالميتين، وكانت جريرة سعدي بك الملا: أنه كان سكرتيراً لشكري باشا

ص: 53

الأيوبي، من كبار رجال الجيش العثماني الذين أنجبتهم الشام، أما شكري باشا، فكان تحت التعذيب الأليم الذي يذكر الناس بديوان التفتيش الكاثوليكي في إسبانيا، ومن شعر السيد محمد الخضر حسين في هذا الاعتقال:

جَرَى سَمَرٌ يومَ اعتُقِلْنا بفُندقٍ

ضُحانا به ليلٌ، وسامِرُنا رَمْسُ

فقالَ رَفيقي في شَقَا الحَبْسِ: إِنَّ في الـ

ـحَضارَةِ أُنْساً لا يُقاسُ به أُنْسُ

فقلتُ لهُ: فَضْلُ البَداوةِ راجِحٌ

وَحَسْبُكَ أنَّ البدَو ليسَ بهِ حَبْسُ

وأكبرُ ظني أنه كان لأنور باشا دخل في إنقاذ شيخنا من قبضة جمال باشا، فما كاد يفرج عنه، ويخرج، حتى أزمع السفر إلى الآستانة، وما كاد القطار يسير به حتى قال، وهي في "الديوان" (ص 126):

أُرَدِّدُ أَنفاساً كذاتِ الوقودِ إذْ

رَمَتْني من البَيْنِ المُشِتِّ رواشِقُ

وما أنتَ مثلي يا قطارُ وإن نَأَى

بِكَ السيرُ تغشى بلدةً وتُفارقُ

فما لكَ تُلْقي زَفْرَةً بعدَ زفرةٍ

وشملُكَ إذْ تَطْوي الفَلا متناسِقُ

ولما بلغ الآستانة، أوفده أنور باشا سنة 1335 هـ للمرة الثانية إلى ألمانيا، فقضى فيها زمناً طويلاً، وعاد إلى الآستانة، ثم إلى دمشق، فتولى التدريس بالمدرسة السلطانية مرة أخرى بقية سنة 1335 هـ ثم في سنة 1336، وفي هذه المدة شرع في دراسة كتاب "مغني اللبيب" في علم العربية لجمال الدين بن هشام (706 - 761 هـ) بمحضر جماعة من أذكياء طلاب العلم بدمشق، وكان يرجع في تقرير المسائل المتصلة بالسماع والقياس إلى تلك الأصول المقررة والمستنبطة، فاقترح عليه أولو الجِدِّ من الطلبة جمعَ هذه الأصول المتفرقة؛ ليكونوا على بَيِّنة منها ساعة المطالعة، فألف مقالات

ص: 54

تشرح حقيقة القياس، وتفصل شروطه، وتدل على مواقعه وأحكامه، ومن هذه المقالات تألفت رسالة "القياس في اللغة العربية" التي أعاد عليها نظره بمصر، ونال بها عضوية جماعة كبار العلماء وقمنا بطبعيها سنة 1353 هـ.

وفي سنة 1337 هـ ذهب إلى الآستانة، وكانت الحرب العالمية الأولى في نهايتها، والحالة في دولة الاتحاد والترقي مؤذِنَة بالزوال، فتوجه إلى ألمانيا، وقضى هناك سبعة أشهر؛ وكانت عودته منها في هذه المرة إلى دمشق رأساً. وهو يقول "الديوان" (ص 200):

سئمتُ، وما سئمتُ سوى مُقامي

بدارٍ لا يَروجُ بها بَياني

فأزمعتُ الرحيلَ، وفَرْطُ شوقي

إلى بَرَدى تَحَكَّمَ في عِناني

هَلُمَّ حَقيبتي لأَحُطَّ رَحلي

فَنَفْح زهورِ جِلَّقَ في تَداني

ووافقت عودةُ الشيخ إلى دمشق دخولَ الجيش العربي، وولاية فيصل ابن الحسين على سورية، وفيها اجتمعتُ بالشيخ مرة أخرى بعد عودتي من الحجاز لأتولى الجريدة الرسمية للحكومة السورية، وكنت أقوم بتأسيس المعهد العلمي، وأدير اللجنة الوطنية العليا مع المجاهد الكبير العلامة الشيخ كامل القصاب رحمه الله فكنت ألقى الشيخ الفقيد مراراً، ومن شعره يومئذ متضجراً من كثره أسفاره السابقة، ومتمنياً الاستقرار في دمشق المدينةِ التي أحبها، والأبيات في "الديوان" (ص 41):

أَنا كأسُ الكريم والأرضُ نادٍ

والمَطايا تطوفُ بي كالسُّقاةِ

كَمْ كؤوسٍ هَوَتْ إلى الأرض صَرْعى

بَيْنَ كفٍّ تُديرُها واللَّهاةِ

فاسْمَحي يا حياةُ بي لبخيلٍ

جفنُ ساقيهِ طافِحٌ بِسُباتِ

ص: 55

وأراد الله أن يقع الاحتلال الفرنسي، فعدت أنا إلى مصر على الإبل بزي أعرابي، وبقي الشيخ في دمشق على أمل أن يعود إلى تونس فيكمل حياته فيها، ولكن الله أراد له اللحاقَ بنا إلى مصر في العام التالي (1339 هـ). وله في ذلك موشحة لطيفة في "الديوان" (ص 245). وقال عند سفره من دمشق "الديوان" (ص 160):

كَأَنِّيَ دينارٌ وجِلَّقُ راحَةٌ

تُنافِسُ في الإنفاقِ راحَةَ حاتمِ

فكَمْ سَمَحَتْ لي بالرحيلِ، وليتني

ضربتُ بها الأوتادَ ضربةَ لازمِ

وفي مصر أخذ يشتغل بالكتابة والتحرير والدرس. وفي سنة 1340 هـ ألف رسالته "الخيال في الشعر العربي". وبعدئذ كسبته دار الكتب المصرية، فالتحق بقسمها الأدبي عدة سنين، ثم تجنس بالجنسية المصرية، وتقدم للامتحان في الأزهر، فقام على امتحانه لجنة برئاسة العلامة الشيخ عبد المجيد اللبان، وكانت اللجنة كلما اكتشفت آفاق علمه، زادت في التعمق بمناقشته، واستخراج كنوز فضله، وأصبح بعدئذٍ من أكمل أساتذة هذا الصرح العلمي العظيم في عصور الإِسلام الطويلة، وإن تلاميذ الشيخ صاروا فحول العلماء، وأطواد التحقيق في الشريعة وعلوم العربية. وإن كثيرين منهم كانوا يرغبون في القيام بواجب الكتابة عن فضله وأياديه الكريمة في التحقيق وتخريج الرجال، فلما علموا أني ساكتب عنه، تخلوا لي -حفظهم الله- عن هذه المهمة؛ لما يعلمونه من طول خلطتي به، وقديم صداقتنا التي أعتز بها، وطالما أفدت منها.

وفي سنة 1342 هـ أسس (جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية)، وسَنَّ لها قانوناً قمت أنا بطبعه.

ص: 56

وفي سنة 1343 هـ مرض مرضاً شديداً ردد صداه في شعره "الديوان"(26)، ومنه:

أَطَلَّ عليّ الموتُ من خَلَل الفنا

فآنستُ وجَه الموتِ غيرَ كئيبِ

ولو جَسَّ أحشائي لَخِلْتُ بَنانَهُ

وإنْ هالَ أقواماً بنانَ طَبيبِ

فلا كانَ من عيشٍ أرى فيه أُمَّتي

تُساس بِكَفَّيْ غاشمٍ وغريبِ

وفي سنة 1344 هـ ظهر كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"، وكان السيد محمد الخضر صديقاً حميما لآل عبد الرازق ويزورهم، ويسر بلقائهم، فلما كاد الكتاب ينتهي طبعه، وكان لا يعرف مذهب مؤلفه فيه، طلبوا منه أن يمدهم بعناوين كبار العالم العربي والإِسلامي؛ ليهدوا الكتاب إليهم، فطلب الشيخ هذه العناوين مني، وكتبت له بها قائمة طويلة، ثم صدر الكتاب، وأهدوا نسخة منه إلى الشيخ، ونسخة أخرى لمجلة "الزهراء" التي كنت أصدرها، فراعنا من الكتاب أنه ينكر كونَ الإِسلام دينَ حكم، فانتقدته أنا في مجلة "الزهراء"، وكتب الشيخ علي مقالة افتتاحية في جريدة "السياسة" يجيب بها على نقدي، وتفرغ فقيدُنا لنقد الكتاب فقرةً فقرة، وفي أقرب وقت صدر كتاب "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"، وفي شهر واحد نفدت طبعته؛ لشدة الإقبال عليها.

وفي السنة الثانية (1345 هـ) افتضحت رسالة "في الشعر الجاهلي"، فعكف الشيخ على نقض كل ما فيها من باطل، وصدر كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، وبقيت بقية من آخر أقلام استعملها في تأليفه، فأهداها إلى خزانة العلامة أحمد تيمور باشا.

ص: 57

وكتب -أيضاً- في بطاقة ربطها ببقية القلم، وهي في "الديوان"(ص 81)، وهي:

سَفَكَتْ دمي في الطِّرسِ أَنْمُلُ كاتب

وطَوَتْني المبراةُ إلا ما تَرَى

ناضَلْتُ عن حَقٍّ يحاول ذو هَوًى

تصويرَه للناسِ شيئاً مُنْكَرا

لا تَضْرِبوا وجهَ الثَّرى ببقيةٍ

مني كما تُرمى النواةُ وتُزْدَرَى

فخزانةُ الأستاذِ تيمورَ ازدَهَتْ

بِحُلًى من العرفان تَبْهَرُ مَنْظَرا

فأنا الشهيدُ وتلكَ جنّاتُ الهُدى

لا أبتغي بسِوَى ذُراها مَظْهَرا

وفي سنة 1346 هـ أسسنا المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، وكان الفقيد مع تيمور باشا -رحمهما الله- ركنين ركينين في تأسيسه، وقد عُبِّئَت لذلك يومئذ كل الشخصيات المناصرة للإسلام من شباب وكهول، فكان تأسيس تلك الجمعية نقطةَ تحولٍ بين تيار العداء للإسلام باسم التجديد، وبين قيام كيان مرموق للإسلام في وادي النيل.

ولما تم النجاح في هذا العمل الحميد، تفرغ فقيدنا لتأسيس (جمعية الهداية الإِسلامية)، فضمت أهل الغيرة والنشاط من شباب الأزهر وشيوخه، ومن نَهَجَ منهجَهم من المثقفين ثقافة مدنية. وكما صدرت لجمعية الشبان مجلة، صدرت لجمعية الهداية مجلة. وكما قامت لجمعية الشبان فروع في الأقطار، قامت للهداية فروع مثلها.

وفي محرم سنة 1349 هـ صدرت مجلتنا هذه "الأزهر"، وكان عنوانها يومئذ:"نور الإِسلام"، فتولى فقيدُنا رئاسة تحريرها من جزئها الأول إلى ربيع الآخر سنة 1352 هـ، وفي سنة 1350 هـ عاوده مرض مزعج أثار فيه خواطر شعرية تراها في (ص 42) من "ديوانه".

ص: 58

وواصل رحمه الله السنين المباركة في حياته بعد ذلك في التدريس بكلية أصول الدين على طريقة العلماء الأقدمين في التحقيق، والرجوع بقضايا العلم إلى أصولها، والغوص في أعماقها. ويقضي الليالي في محاضرة جماهير الشباب وأهل الفضل بدار جمعية (الهداية الإِسلامية) داعياً إلى تجديد حيوية الإِسلام في نفوس أهله، وتقرير حقائقه بأساليب بليغة كانت موضع الحرمة والتقدير من جميع الطبقات، وقد نشر بعضها مستقلاً، أو على صفحات مجلة "الهداية الإسلامية"، ثم جمع الكثير منه في كتابه "رسائل الإصلاح" الذي طبع في ثلاثة أجزاء.

وعندما أسس المجمع اللغوي، كان من أقدم أعضائه، وله فيه بحوث وقصائد ودفاع عن الفصحى، وتبيان لأسرارها، وعرض لجواهرها.

وما زال مستمراً في التأليف والخطابة والوعظ في "الهداية الإِسلامية"، والتدريس في الحلقات العليا بالأزهر. وفي سنة 1366 صدرت مجلة "لواء الإِسلام"، وعهد إليه برياسة تحريرها، وظل يواصلها ببحوثه إلى آخر حياته المباركة.

وفي سنة 1370 نال عضوية هيئة كبار العلماء برسالة "القياس في اللغة العربية" التي ألف أصلها وهو في دمشق أيام الحرب العالمية الأولى.

وفي يوم الثلاثاء (26 من ذي الحجة 1371 هـ - 16 سبتمبر 1952 م) خرج من مجلس الوزراء أثناء انعقاده ثلاثة من أعضاء ذلك المجلس، فتوجهوا إلى المنزل الذي كان يسكنه الشيخ في شارع خيرت، وعرضوا عليه مشيخة الأزهر باسم حكومة الثورة، وجاء الشيخ إلى مشيخة الأزهر، وللأزهر في ذهنه رسالة يتمنى لو اضطلع بها الأزهر؛ ليتم له بها حمل أمانة الإِسلام.

ص: 59

وكان هذا الاختيار تحقيقاً للأخوة الإِسلامية في الدستور الإِسلامي، وبرهاناً من الله عز وجل على أن من كان مع الله، كان الله معه، وعلى أن من عاش يؤثر الآجلة على العجلة عند اختلافهما، فإن الله يكافئه بخير مما يطمع فيه الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة.

ولما أضعفته الشيخوخة عن مواصلة الاضطلاع يحمل هذه الأمانة، عاد إلى منزله يواصل العكوف على الكتب والكتابة والتفكير، حتى لقد نظم ديواناً آخر كله مقطعات في الحكمة والخواطر التي تحوم حول الحق والخير.

وفي يوم 13 رجب مساء اختاره الله إليه، وهو لا يزال على عهده الأول من {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، فكان جديرًا بما وعد الله به أمثاله أن {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. وفي ظهر اليوم التالي صُلي عليه بعد الفريضة في الجامع الأزهر، ومشى في موكب جنازته علماء الأزهر، وأعيان الأمة، والمنتسبون إلى العلم، حتى بلغ النعش باب الخلق والموكب متصل فيما بينه وبين الأزهر، ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، رحمهما الله وصالحي المسلمين، وتغمدهم برحمته.

ص: 60