المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاحتفال بعودة الإمام محمد الخضر حسين من سورية - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌الاحتفال بعودة الإمام محمد الخضر حسين من سورية

‌الاحتفال بعودة الإمام محمد الخضر حسين من سورية

(1)

بقلم محمود حافظ

"أقامت جمعية "الهداية الإِسلامية" بالقاهرة حفلة تكريم للإمام بمناسبة عودته من سورية، وذلك مساء الجمعة 16 شعبان 1356 الموافق 22 أكتوبر تشرين الأول 1937. وتحدث عدد كبير من العلماء والأدباء عن فضله وعلمه وجهاده.

وقد ألقى فضيلة الأستاذ محمود حافظ أحد أعضاء الجمعية كلمة في المناسبة".

سادتي!

لئن حق علينا أن نكرم بعض الرجال، فأَولى هؤلاء بالتكريم هم العاملون المخلصون الذين يكرسون حياتهم في خدمة العلم والدين وإعلاء شأنه، ويبذلون الثمين والغالي في تثبيت قوائمه، وتدعيم أركانه.

وما المحتفل به في هذه الليلة إلا أحد هؤلاء الرجال الأبطال، الذين كان لهم من ماضيه المجيد، وله من حاضره السعيد، خير شاهد على تضحيته وجهاده، وأنصع دليل على خدماته الجليلة في شتى النواحي، ومختلف الميادين.

نشأ المحتفى به في تونس، ودأب على الدرس والبحث والاستقصاء

(1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الأول من المجلد العاشر.

ص: 24

حتى أحرز شهادة العالمية، وأقبل على التدريس في جامع الزيتونة متطوعاً، وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، وكانت حافلة بالفوائد ومباحث الإصلاح، إلى أن رأت الحكومة في ذلك الوقت الانتفاع بمواهبه في القضاء، فعين قاضياً شرعياً في مدينة "بنزرت"، ولما كان فضيلته من ذوي النفوس التي تريد الدأب على البحث وطلب المزيد من العلم، لم يرض أن يحصر نفسه في ذلك المحيط الضيق، والدائرة المحدودة، فاستقال من منصب القضاء طائعاً مختاراً، وعاد إلى الحاضرة، فعين أستاذاً في جامع الزيتونة، ومدرساً بالمدرسة الصادقية، وهي لأكبر مدرسة للحكومة في تلك البلاد، وانتخبته الحكومة عضواً في لجنة تنظيم كتب المكتبة الصادقية، والمكتبة الزيتونية، وعضواً بلجنة وضع التاريخ التونسي العام، وعضواً بمجلس النظر في شؤون المدارس، وأصبح التونسيون مجمعين على الاعتراف بفضله وخدماته، ويحملون له أطيب الذكريات.

وألقى في (نادي جمعية قدماء الصادقية)، و (المدرسة الخلدونية) محاضرات طبع منها:"الحرية في الإِسلام"، و"حياة اللغة العربية"، و"مدارك الشريعة الإِسلامية وسياستها"، وطبعت له في تونس رسالة "الدعوة إلى الإصلاح".

ثم شدّ رحاله إلى بلاد الشام، فاستقبلت فيه عالماً جليلاً، وباحثاً مدققاً، رأت أن تنتفع بعلمه وعرفانه، فعين أستاذاً لآداب اللغة العربية بالمدرسة السلطانية بدمشق.

انظر ماذا يقول أحد أعضاء المجمع العلمي في دمشق (1) عن فضيلة المحتفى به:

(1) هو فضيلة علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار -رحمه الله تعالى-.

ص: 25

"أستاذنا الجليل الشيخ محمد الخضر حسين، علم من أعلام الإِسلام، هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشام: الشيخ البيطار، والشيخ القاسمي، فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنا نلقاه ونزوره معهما، فأحكمت بيننا روابط الصحبة والألفة والود من ذلك العهد، ولما توفي شيخنا القاسمي سنة 1332 هـ، لم نجد نحن -معشر تلاميذه- من نقرأ عليه أحبَّ إلينا ولا آثرَ عندنا من الأستاذ الخضر؛ لما هو متصف به من الرسوخ في العلم، والتواضع في الخلق، والبر بالإخوان- إلى أن قال:

وأخذنا في ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الروضة الأُنُف، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتقوى، ولم يكن طلاب المدارس العالية في دمشق بأقل رغبة في دروسه، وإجلالًا لمقامه، وإعجابًا بأخلاقه من إخوانهم طلاب العلوم الشرعية، بل كانوا كلهم مغتبطين في هذه المحبة والصحبة، مجتمعين حول هذا البدر المنير".

واستمر كذلك في بلاد الشام يخدم الدين وأبناءه، وينشر العلم ولواءه، حتى إذا نشبت الحرب العالمية العظمى سنة 1914، ودارت رحاها، اتصل بالمرحوم أنور باشا وزير الحربية، ورحل إلى ألمانيا، وقضى بها نحو تسعة أشهر، تعلم في خلالها اللغة الألمانية، وانتهز هذه الفرصة، فدرس الشيء الكثير عن حالة المجتمع في "برلين" في ذلك الوقت، وعن عادات الناس وأخلاقهم هناك، وعنّ له في تلك الآونة أن يدرس علوم الكيمياء والطبيعة، فدأب على درسها بالألمانية على يد البرفسور (هاردر) أحد العلماء الألمان المستشرقين.

ثم عاد إلى دمشق، حتى إذا قاربت الحرب أن تضع أوزارها، نزح إلى

ص: 26

إسطنبول، وعين محرراً بالقلم العربي في إدارة الأمور الشرقية، واستمر ينشر العلم ويرفع راياته، إلى أن قارب عقد الهدنة، فاضطر إلى الرحيل إلى ألمانيا مرة أخرى، فمكث بها نحو سبعة أشهر، عاد خلالها إلى درس الحالة الاجتماعية الألمانية، ولما انتهت الحرب، وانقشعت سحبها المظلمة، انتقل فضيلته إلى إسطنبول، وعاد إلى الشام في عهد الدولة العربية، وعين مدرساً للعلوم الدينية بالمدرسة التجهيزية، وقبل أن يباشر وظيفته انقلبت الحالة السياسية العامة في ذي القعدة سنة 1338 هـ، فنزح إلى مصر التي شاء الله أن تضم بين جنبيها عَلَماً من أعلام الدين، وقُطباً من أقطابه العاملين، فاستطاب العيش تحت سمائها، واستمرأ الحياة بين ظَهْرانَي أهلها، ولمَّا يمض عام على وصوله حتى عُيِّن مُصحِّحاً بدار الكتب المصرية، فلم تشغله وظيفته عن الاطلاع، ومواصلة البحث والتحقيق.

حتى أقبل عام 1344 هـ فظهر كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"، فعكف فضيلة الأستاذ الخضر على تأليف كتابه المشهور الذي يرد فيه على كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"، ويقوض كل ما جاء فيه من دعاوى باطلة، ويَدْحَض كل شُبهه بسَعَة علمه، وقوة حجته، وما هي إلا أشهر حتى ظهر الكتاب، وتلقاه رجال العلم على اختلاف طبقاتهم بالاستحسان، أحق فيه الحق، وأزهَق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً.

وما أقبل ربيع سنة 1345 هـ حتى ظهر كتاب "في الشعر الجاهلي"، فاستقبله الناس بعاصفة هائلة من السخط والإنكار على هذه الطائفة التي جعلت نُصْب عينيها -في ذلك الوقت- النَّيْل من هداية الإِسلام، والغضَّ من رجال جاهدوا في سبيله بحجة وعزم وإقدام. فانبرى لهم فضيلة الأستاذ، وألف كتابه

ص: 27

الغنيَّ عن التعريف، نقضَ فيه كلَّ ما حوى كتاب "في الشعر الجاهلي"، وحلله تحليلاً علمياً نزيهاً، ردَّ فيه ما انتحله إلى أهله، وعاد به إلى أصله، وأبان عن مواطن ضعفه، ودحض أباطيلَه بالأدلة الواضحة. وفي أثر ذلك باشر فضيلته التدريس بالأزهر الشريف.

وما حل رجب سنة 1346 هـ حتى لمس طلاب العلم بالجامعة الأزهرية والمعاهد الدينية: أن مصر فقيرة في جمعياتها الإِسلامية: لم يكن في ذلك الوقت سوى (جمعية مكارم الأخلاق) و (جمعية الشبان المسلمين)، وأنَّ تأخر المسلمين في أغلب شؤونهم الحيوية، ونزولَهم من مكان عزتهم، إلى ما هم عليه اليوم من ضعف وانحلال، وتفكك في الوحدة، لا علة له سوى نكث أيديهم من تعاليم دينهم الحنيف، وانصرافهم عن هدايته السامية، فدعوا إلى تأليف جمعية تضع نُصْبَ عينيها بيان حقائق الإِسلام، وبث آدابه العالية، وتمد نظرها إلى أحوال الاجتماع، ومقتضيات المدنية؛ لتعرف مواقع الصلاح والفساد، وليمكنها أن تساهم في نهضة الأمة الأدبية والاجتماعية، كما تعمل على رقي اللغة العربية، وإحياء آدابها، وقد وجدوا في ذلك الوقت من إقبال إخوانهم ما شد عزمهم، فألّفوا جمعية (الهداية الإِسلامية) وانتخب الأعضاء فضيلة الأستاذ السيد محمد الخضر حسين رئيساً لها.

وسارت الجمعية على بركة الله بقدم ثابتة، ونفس مطمئنة، نحو الرقي والتقدم، ولا يفوتني أن أذكر الجهود الجبارة التي كان يبذلها سعادة المغفور له أحمد تيمور باشا في تدعيم أركانها، وتثبيت قوائمها، فقد نالت الجمعية من عطفه وعنايته ما يجعلها حتى اليوم تُشيد بذكره وفضله. وستظل أعماله الجيدة، وخدماته الجليلة ماثلة في العقول والأذهان، لا يمحوها مر السنين، ولا كرُّ الأعوام -طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه-.

ص: 28

بدأت الجمعية في تحقيق رسالتها، يشد أَزْرها فضيلُة رئيسها، ويغذيها بعلمه واطلاعه، يتعهدها كما يتعهد الزارع الحَبَّ بالسقي والإرواء، حتى نمت وترعرعت، وشبّت وزكت، بين عناية الله ورعايته، وتدلَّت أُولى قُطوفها، فأصدرت مجلتها الشهرية في جمادى الأولى سنة 1347 هـ حافلة بشتى الموضوعات الدينية والأخلاقية، والعلمية والأدبية، يقوم برئاسة تحريرها فضيلة رئيس الجمعية، فازدادت المجلة رَواجاً في داخل القطر وخارجه، ولما رأت وزارة المعارف أنها خيرُ عون لطلاب العلم، قررت الاشتراكَ فيها لمدارسها.

ودَأَبت الجمعية في العمل على تحقيق رسالتها، فأخذ رجالها ينشرون نور العلم والعرفان. بجانب رئيسها الذي يضحي بوقته الغالي وراحته في سبيل النهوض بالجمعية، ورفع مستواها، فأخذت تقوم بالمحاضرات والمناظرات المختلفة بوساطة نُخبة من العلماء ومشاهير المحاضرين، أذكر منهم: سعادة جاد المولى، والدكتور عبد العزيز نظمي بك، كما حاضرها في السنين الماضية المغفور له فضيلة الشيخ بخيت، والشيخ يوسف الدجوي، وسعادة زكي باشا، وغيرهم كثيرون.

وسارت الجمعية قُدُماً، وانتقلت من حَسن إلى أحسن، حتى أصبحت -بحمد الله- في مقدمة الجمعيات الإِسلامية التي ذاعت دعوتها، وعُرف جهادها في مصر والأقطار الشقيقة بفضل رئيسها المخلص، ورجالها الأبرار.

وجعلت الجمعية نُصب عينيها غرضاً سامياً، وهو السعيُ لتعارف الشعوب الإِسلامية، وتأكيد رابطة الإخاء والائتلاف بينها، فكلما وفد إلى مصر عالم، أو كبير من كبراء المسلمين، سارعت الجمعية إلى إقامة الحفلات ترحيبًا وتكريمًا، فيتم بذلك التعارف والائتلاف، وتتبادل الأفكار والمنافع،

ص: 29

كما حدث في العام الماضي، يوم كرمت الجمعية الزعيمَ الأندونيسي الدكتور سوتومو، وزعيم المسلمين في الصين الشيخ عبد الرحيم ماسونتين، كما حرصت الجمعية على تكريم البعثات العلمية المختلفة الموقَّرة من شتى الأقطار الإسلامية.

وكلما حانت المناسبة، وسنحت الفرصة، شاطرت الجمعية الشعوب الشقيقة -كفلسطين وغيرها- مِحْنتها، وظروفها العصيبة، باحتجاجاتها الصارخة لدى أولي الأمر حتى يُنصَف المظلوم، ويعود الحق إلى نصابه.

ولا ننسى للجمعية جهادها العنيف، وحملاتها المتواصلة، يوم حاولت شِرْذمة فاسقة من المبشرين المضلِّلين أن تحيك الشِّباك للدين، وتنصب الشراك للإسلام والمسلمين {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25].

وأختم كلمتي بأن الجمعية بفضل رئيسها ورجالها العاملين، مع ما قامت به من جهود في سبيل تحقيق رسالتها وأغراضها، وبفضل ما تجده من مؤازرة أعضائها وأصدقائها أمثال: سعادة عبد العزيز محمد باشا وزير الأوقاف السابق، الذي يعطف على الجمعية كثيراً، ويغمرها بخيره ومعونته، بفضل هؤلاء جميعاً أصبح الأمل بمستقبل زاهر، وحياةٍ أحفلَ من ذي قبل بجلائل الأعمال، يمر طيفه بالجمعية، ويجول بخاطرها، وهي جِدُّ موقنة -بإذن الله- أن سيتحقق رجاؤها وأملها، فتعمل على تنفيذ مشاريع جديدة أخرى؛ كإنشاء مدارس لتعليم الفقراء، وإصدار مجلة أسبوعية.

أسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والفلاح.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 30