المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمد الخضر حسين ذلك الجندي المجهول - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌محمد الخضر حسين ذلك الجندي المجهول

‌محمد الخضر حسين ذلك الجندي المجهول

بقلم عبد القادر سلامة

"الأستاذ عبد القادر بن عمر سلامة، عالم، فاضل، حافظ لكتاب الله. ولد عام (1325 هـ - 1908 م) في "قصبة المديوني" التابعة لولاية "المنستير" في تونس.

تلقى علومه في جامع الزيتونة، وحصل على شهادة التطويع عام (1345 هـ - 1928 م)، وعمل في التجارة طيلة حياته مع المواظبة على المطالعة، والدعوة إلى الله بالحسنى. أصدر مجلة "المعرفة" في تونس عام 1960 م، وهي إسلامية شهرية" (1).

تسائلني: هل في صحابك شاعر

إذا متَّ قال الشعر وهو حزين؟!

فقلت لها لا هم لي بعد موتتي

سوى أن أرى أخراي كيف تكون

وإن شئت تأبيني فدعوة ساجد

له بين أحناء الضلوع حنين!!

(من ديوان "خواطر الحياة" طبعة ثانية، ص 177)

كان رحمه الله علماً من أعلام الإسلام، وكان تعريفاً وتشريفاً للتونسيين وجامع الزيتونة، ومفخرة للمغرب الإسلامي كله، كان خلقه قبساً من شمائل النبوة، ومشكاة من هدي القرآن.

(1) بحث منشور في مجلة "المعرفة" التونسية، العدد السادس من السنة الخامسة.

ص: 180

عرفته، وعجبت منه وهو يخف لزيارة كل تونسي يقدم القاهرة في طريق الحج، أو لأمر خاص، فيسأل عن أحوال تونس صغيرها وكبيرها:

هات الحديث فإنني أصبو إلى

أنباء تونس من صميم القلب جدا

"خواطر 72"

كان يحب تونس وأهلها حباً جماً، وحب الوطن من الإيمان:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة

وأهلي وإن شَحُّوا عليّ كرام

كان نعم المشير والوزير، شديد الحفاظ على المودة والإخاء، واصل كل من وصل مصر من علماء تونس وقادة حركة تحريرها، وجمع العاملين لتحرير المغرب، واتصل بمن يزور القاهرة من أكابر وعظماء العالم الإسلامي. كان لا يجاهر بالسوء، ولكن سرعان ما يسل ثيابه من كل عمل أو زعيم يتبين له أنه داع لضلالة، أو مسرف على نفسه، أو عدو لله.

كان شديد الاستمساك بمذاهب أهل السنة والجماعة، لا يجامل في انحراف، ولا يماري في خلاف، ولا يطعن مخالفاً من خلاف، مجلسه مجلس علم وحلم، ودين ووقار، سمته سمة الصالحين.

يغضي حياءً ويغضى من مهابته

فلا يكلم إلا حين يبتسم

ذو همة عالية، وطموح كبير، وأمل واسع، يجاهد لإعلاء كلمة الله، وقد حفظت منه هذه الآية وكأني لم أقرأها في كتاب الله:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

يهتم بشؤون جميع المسلمين، ويسعى لجمعهم على العمل لطاعة الله وطاعة رسوله، متحركاً لا يسكن، ولا يشكو رهقاً ولا ضنى ولا غربة.

ص: 181

إن الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله لم يعتمد في خدمة قضيته الكبرى قضية الإسلام والمسلمين على الطبقة العامة، قاعدة الشعوب، كما يحلو لهم أن يقولوا، بل أوكل ذلك إلى كفاءة أعضاء الجمعية، ومجلس إدارتها، وكثرهم علماء من الأزهر، يتناوبون الخطابة والوعظ والدروس على المنابر، وعقب الجمعة في الجوامع، وفي مراكز فروع الجمعية بمصر والعراق وسوريا، أما جمعية الهداية الإسلامية، والتي أنشأ لها مجلة باسمها ترأس الشيخ إدارتها ورئاسة تحريرها أكثر من ربع قرن، فقد رزقه الله بسطة في العمر والعلم أحسب أنه عمل فيهما بما يرضي الله، وبما لا يلحقه في ذلك غيره.

الغرض من تأسيس جمعية الهداية الإسلامية ومجلتها (1346 - 1928): القيام بما يرشد إليه الدين الحنيف من علم نافع، وأدب رفيع، وخلق كريم، وتعتمد في تحقيق هذا الغرض على الوسائل الآتية:

1 -

السعي لتعارف الشعوب الإسلامية، وتوثيق الرابطة بينها، ورفع التجافي بين الفرق الإسلامية، والتعاون مع كل جمعية تسعى لهذه الغاية.

2 -

نشر حقائق الإسلام بأسلوب يلائم روح العصر.

3 -

مقاومة الإلحاد والدعايات غير الإسلامية في الأوطان الإسلامية بالطرق العلمية.

4 -

الجهافى في إصلاح شأن اللغة العربية وإحياء آدابها.

وقد كان همّ الشيخ وسعيه منصباً على توجيه وتثقيف المثقفين والواعين من الأمة، وتجميعهم، وهم قليل جداً في ذلك العهد السحيق في أول هذين القرنين، وابتدأ عمله المبارك بتونس، ثم بسوريا، ثم بتركيا في الحرب العالمية

ص: 182

الكبرى الأولى، وسوريا ثم بمصر بين الحربين العالميتين، ثم بعد الحرب الثانية إلى أن توفاه الله بالقاهرة (1378 - 1958).

سيذكرني قومي إذا جد جدهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

كنا ونحن صغار يحدثنا شيوخنا عن فضائله ومآثره، ويقولون: هو رجل سبق زمانه، وكانوا يصفونه بالعلم الغزير، والجواب الحاضر، والنكتة اللطيفة، والملاحظة الدقيقة، مع الجسارة في الدعوة إلى الإصلاح، ورفع هذه الأمة من كبوتها، فكان يدرس ويحاضر، وينشئ القصائد، وجرى أترابه ومن بعده على ذلك؛ كزميله الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور، وأصدر مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية في المغرب، وإن ذلك التحرك والنشاط لخدمة الإسلام والعربية في ذلك العهد السحيق ليعد بحق من العجائب والنوادر، وكلما زاد إعجاب الناس بأعماله، وإكبارهم له، وتأثرهم به، كلما زاد حنق المستعمرين عليه، وغضبهم منه، فضاقوا به ذرعاً، وضاق بهم، وهاجر إلى معقل آمال المسلمين في ذلك العهد دار الخلافة الإسلامية إسطنبول، وقد سبقه إليها وإلى الشرق علماء وفضلاء كثيرون، منهم: العلامة الرحالة محمد بيرم الخامس، صاحب "صفوة الاعتبار"، والشيخ صالح الشريف، وخال الشيخ العلامة محمد المكي بن عزوز، المتوفى بإسطنبول سنة 1334، وقد رثاه الشيخ بقصيدة في ديوان "خواطر الحياة"(ص 180).

وقد ترى أن النوابغ في المغرب تشرق من المغرب، وتغرب بالمشرق. وأقام وأهله وإخوته بدمشق، وكان لهم فيها مآثر محمودة لا تزال جاربة إلى الآن، وقد كانت سورية بعد الحرب الأولى عند قسمة تركة الرجل المريض من نصيب فرنسا، فلجأ الشيخ إلى مصر، وقد كانت مصر ملجأ

ص: 183

الأحرار، وقلب الإسلام الحنون، إليها يلجأ المستجيرون والعاملون لعز الإسلام وتحرير الأوطان:

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما سر يوماً بالإياب المسافر

هناك، وقد سبقه صيته العلمي والحركي، أحاط به خبرة من علماء الجامع الأزهر وأهل الفضل ولا يعرف الفضل إلا ذووه، فانتضى قلمه المتبحر في العلوم الإسلامية، ليظهر ويحبط كيد المستشرقين والمعجبين بهم في محاولاتهم الإجهاز على المسلمين في عقائدهم وثقافتهم، بعد أن أجهزوا عليهم عسكرياً، واحتلوا أرضهم، واقتسموها بين الأقوياء منهم، فصمد إليهم الشيخ للرد على شبهاتهم واتهاماتهم، ونقض غَزْلهم أنكاثاً بما كان ينشره من المقالات والمحاضرات، وألف كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، و"نقض كتاب الشعر الجاهلي" لطه حسين، وفي كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" كشف زيغ المذاهب الهدامة؛ كالبهائية، والقاديانية، ووجدت فيه الجماعة الإسلامية بمصر نعم المعين على نوائب الحق، فوقروه، وعزرّوه، أمثال: المرحوم أحمد تيمور باشا، والشيخ علي محفوظ، واقتدى به وغبطه كثير من علماء الأزهر، فأسسوا هم بدورهم المجلات والجمعيات؛ كجمعية مكارم الأخلاق، ومجلتها، وكان بينهم نشاط محمود، وتنافس وتسابق إلى الوعظ والإرشاد والتعليم والدعوة إلى الله وإلى محاسن الأخلاق.

نزلتُ القاهرة سنة (1931 - 1348)، وزرت الشيخ في دار جمعية الهداية الإسلامية، ومجلتها بهذا الاسم، وسألني الشيخ المشوق لمعرفة أخبار تونس عما جد في مشروع التجنيس، وهو المشروع الذي فتح للتونسيين الحصول

ص: 184

على الجنسية الفرنسية، فيكون للمتجنس الوعد بالمساواة مع الفرنسيين الممتازين بزيادة الثلث على مرتباتهم، والدخول إن أمكن للوظيف العمومي، والقروض لإحياء الأرض الدولية التي توزع على الفرنسيين، ونقل قضايا الخصام إلى المحكمة الفرنسية في الأحوال الشخصية وغيرها، إلى آخر ما هنالك من الامتيازات للمستعمرين الذين يريدون إذابة الجنسية التونسية والملة الإسلامية، وكان قد أشيع بتونس أن شيوخ المجلس الشرعي قد أفتوا بجواز التجنيس وبقاء المتجنس على إسلامه، وسارت في الشعب فورة استنكار وغضب، وقصصتُ الإشاعة كما هي للشيخ، فاستفهمني عن هذه النقطة بالذات، فقلت له: إنها شائعة في البلاد، فظهر في نبرات السؤال الألم لهذا الاتهام، والإنكار له، فعلمت أني أخطأت في قول الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وإنا كنا ولا زلنا نشيع في الناس ما يوحى به إلينا من تحطيم المخالف في الرأي بكل الوسائل، وكان الواجب على المسلم أن يرفض ما يرمى به أخوه من السوء، وأن يحفظ لسانه من قول الزور {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

واستشرت الشيخ في أمر مرة، فقال بصراحة المؤمن: لا أستطيع ذلك، فكان الرد جميلاً، لا يعد فيخلف، واستشرت مرة أخرى آخر، فوعد وأخلف، ووصل الحديث مرة إلى التعليم في الأزهر والزيتونة، فقلت له: ما تركته ورائي بجامع الزيتونة أحسن مما وجدته هنا بالأزهر، فصادق على قولي، وقال: هو كذلك. وحضرت محاورة بينه وبين عضده في الجمعية المرحوم علي محفوظ

ص: 185

في دقاقة الأعناق، وهي العشر سنين التي بين الستين والسبعين، وقد وصلها، وكل عشر سنين من العمر لها اسم خاص، وقد رأيت له في ذلك أبياتاً في ديوانه "خواطر الحياة" (ص 182) طبعة ثانية منها:

قضيت ستين عاماً في الحياة وهل

قضيت يومين منها في رضا الله؟

فلا يغرنك أقلام وألسنة

تقول إنك ذو علم وذو جاه

وما أبرئ نفسي والهوى يقظ

بين الجوانح وهو الآمر الناهي

وكان يأمر باستدعائي لحضور المآدب التي يحضرها ويقيمها للمشايخ التونسيين المنتسبين للجامع الأزهر في بيت صديقنا الحاج محمد أبو شعالة، وممن حضرها من الأحياء الذين أذكرهم: الأستاذ عبد السلام خليف، وابن عمه الشيخ البشير، وحدّث على ما كان يحدث في تلك المجالس من تعارف وود، وعلم وسياسة، وأدب وفكاهة، وقد كنت أتصل بالشيخ عبد العزيز الثعالبي، وعرفت اتجاه الشيخين والبعد ما بينهما، وكذلك ما يفصل بين الشيخ والشيخ رشيد رضا، وسبب انفصال الشيخ عن جمعية الشبان المسلمين بعد أن كان من أعضاء إدارتها، ومن المؤسسين لها، حتى آل أمرها إلى الانضواء تحت مظلة الناصرية أخيراً.

كانت لي مع الشيخ رحمه الله مراسلات، وكان لي مع أخيه الشيخ محمد المكي بن الحسين لقاءات، وكان آخر لقاء لي مع الشيخ الخضر حسين مرتين سنة (1375 - 1955): مرة بالقاهرة، ومرة بدمشق في دار أخيه الأستاذ زين العابدين، وكانت بحضرة ابن أخيه المحامي الآن الأستاذ علي الرضا الذي كان له الفضل الأكبر في جمع ونشر تراث عمه في كتب قيمة أثرت المكتبة الإسلامية، وعرّفت الناشئة ببعض مآثر ومفاخر هذه العائلة النبيلة،

ص: 186

ولولاه لضاع هذا التراث العظيم الذي لا زال مغموراً، ولم يكشف عن محاسنه بالدراسات والمناقشات الجامعية، ولم يدرس، ولم ينتفع به، فعسى الله أن يهيئ لهذا العالم المسلم المخلص من يكتب عنه، ويعرف به، وينشر كتبه وشعره وعلمه بين الشباب المسلم الناهض الذي كان عمل الفقيد العظيم من أجله، وأختم هذه الكلمة بفقرات من كلامه تيمناً وذكرى.

ختم كلمته في حفلة تأبين الدكتور ستومو الأندونيسي:

حقاً إن أرضنا لا تنبت من المجاهدين إلا قليلاً، ولا يغرنا كثرة أسماء الزعماء؛ فإن فيهم المرائي والجبان، وصاحب الذمة التي تباع بثمن بخس، ومن هؤلاء من ترونه ينوح على الإسلام علانية، ويقتل دموعه، ولكن بأنامل تبيت تطعن في مقاتله خفية، ولا عجب أن تروا الأنامل الملطخة بدم الجريح مبتلة بدموع البكاء عليها؛ فإن الذي يستطيع أن يلاقي الناس بوجهين، ويحدثهم بلسانين، يستطيع أن يتخذ دموعاً ليست من نوع الدموع التي تبعثها حرارة الإيمان على الحق.

في الزعماء ناصح للأمة يجاهد لسلامتها ورفعة شأنها، وفي الزعماء مخادع للأمة يتخذ زعامتها حبالة يصطاد بها مطمعاً لذيذاً، أو ملبساً أنيقاً، بل يتخذ زعامتها معولاً يهدم به الباقي من صرح سيادتها، وفلاح الأمة في ممايزتها بين المخلص الأمين، والمداهن الأثيم، ولا تطمح الأمة أن تسير سيرة رشيدة، أو ترقى في عزة راسخة إلا أن يكون في صدر سائسها إيمان بخالقها، وغيرة على حكمة شريعتها الإسلامية.

وقاوم الإلحاد وجمعيات التبشير ومدارسها، ونبه إلى أخطارها، ودعا إلى مقاطعتها:

ص: 187

إن المبشرين لم يأخذوا أبناء المسلمين وبناتهم بالقوة من بيوت آبائهم، وإنما الذي قذف بهؤلاء البنات والأبناء إلى هذه المدارس هم آباؤهم وولاة أمورهم، فجنوا بذلك على الوطن، وعلى الدين، وعلى رجال المستقبل وأمهات المستقبل أعظم جناية.

ومن ذلك ما كتب به لوزير المعارف على طه حسين الذي يسميه: عدو الله: "عرف الناس منذ سنين أن الدكتور طه حسين يعمل لهدم العقائد الإسلامية، وإفساد الأخلاق الكريمة، فكانوا يأسفون أشد الأسف على طائفة من شبابنا، يدخلون الجامعة ليتغذوا بالعلوم الصافية، والتربية الصحيحة، فيقعدون بين يدي هذا الرجل الذي يعمد إلى تلك الفطر السليمة، فينفخ فيها زيغاً، ويثير فيها أهواء. . . إلخ".

ص: 188