المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شيخ الأزهر محكوم عليه بالإعدام - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌شيخ الأزهر محكوم عليه بالإعدام

‌شيخ الأزهر محكوم عليه بالإعدام

(1)

بقلم أحمد لطفي حسونة

"صحفي وأديب، وأحد كبار المحررين في مجلة "آخر ساعة المصرية".

كان أصحابُ الفضيلة كبارُ رجال الأزهر يلعبون -طَوال الأسبوعين الماضيين- لعبة الكراسي الموسيقية حول كرسي شيخ الجامع الأزهر.

كانوا يتنافسون على ضجيج الحوادث حولَ الجلوس على الكرسي المرموق، وكان كلٌّ منهم يتحيَّن الفرصة للتربعُّ على المقعد الكبير دون الآخرين، إلى أن هبط من السماء عالِمٌ لم يكن في المباراة، بل ولم يكن من المتفرِّجين، ولا ممن يعلمون قليلاً أو كثيراً عن هذا السباق.

وجلس الأستاذ محمد الخضر حسين على كرسي المشيخة دون أن يدور حوله، أو ينافس غيره، أو يسعى ليقف بين صفوف المتسابقين.

وأصبح الصبح على مفاجأة كبرى لم تخطر لأصحاب الفضيلة ببال، فقد غدا الرجل المتواضع الذي يقف على أبواب الثمانين، المتوسطُ القامة، الخفيضُ الصوت، بحيث لا يكاد يُسمع وهو يتكلم، غدا الأستاذ الأكبر شيخ

(1) مجلة "آخر ساعة" المصرية - العدد 936 - تاريخ 1/ 10/ 1952 م.

ص: 31

الجامع الأزهر، وإمام المسلمين في العالم أجمع.

* قصة طويلة:

وقصة الأستاذ الأكبر طويلة شاقة، مليئة بالمفاجآت، وهو من بيت علم ودين، فوالده الأستاذ الحسينُ بن علي، من الجزائر، وكان متصوفاً لا يعرف إلا العبادة، وشيخاً للطريقة الخلوتية، وله جامع باسمه في بلدة "نفطة" آخر بلاد تونس من جهة الجزائر، وهي البلدة التي ولد فيها الأستاذ الأكبر.

* أول ليلة له في مصر:

ويروي الأستاذ الأكبر قصة إفلاته من أيدي الفرنسيين، فيقول: إنه غادر دمشق بعد أن احتلها الفرنسيون بعشرة أيام، وكانت الأداة الإدارية ما تزال في يد الإِنجليز، فتمكن من الحصول على جواز خروج من دمشق، ورحل بطريق البر إلى القاهرة، وقضى أول ليلة فيها في "لوكاندة دار السلام" قريباً من مسجد سيدنا الحسين، وبات ليلته حتى الصباح.

وأشرق الصبح على اللاجئ الغريب، فأخذ يفكر أين يذهب؟ وهو لا يعرف مكاناً يذهب إليه في القاهرة، ومن يقابل؟ وهو لا يعرف شخصاً واحد بين ملايين المصريين، وماذا يعمل؟ وهو لا يرى طريقاً واحداً يسلكه للحصول على عمل في مصر.

* إلى الرواق:

وهبطت الفكرة مع وحي لا يدري مصدره، وَحْيٍ يحثُّه على الذهاب إلى أحد الأروقة في الأزهر الشريف. ودخل الرواق، فلم يعرف أحداً، ثم اتجه إلى رواق المغاربة حيث لم يهتد إلى وجه يعرفه، ولكن المغاربة اشتبه عليهم أمره، ثم عرفوه، ورحبوا به، وزاملوه، وأكرموه.

ص: 32

* مسكن جديد:

ويقول الشيخ في تواضع وطِيبة: ثم بحثت عن مأوًى آوي إليه، حتى اهتديت إلى حُجرة في الربع قريبة من الجامع الأزهر، إيجارها الشهري 25 قرشاً، فاستأجرتها، وأقمت فيها، وظللت أتردَّد بين مسكني والرواق، وأقطع وقتي في القراءة والتأليف، وأُنفق من الدراهم التي أتيت بها إلى مصر.

* صحفي منذ نشأته:

وقد ولد الأستاذ الأكبر في سنة 1293 هـ بـ"نفطة"، وانتقل منها، وعمره إحدى عشرة سنة إلى تونس؛ حيث التحق بجامعة الزيتونة، ونال العالمية، وجذبته الصحافة، فأنشأ في تونس مجلة "السعادة"، وتفرغ لتحريرها وخدمتها إلى أن تولى القضاء في مدينة "بنزرت"، ثم عاد إلى جامعة الزيتونة مدرِّساً بها، وكان يقوم بتدريس النحو والفقه، والأصول والبلاغة، وكان في الوقت نفسه مدرساً بالمدرسة "الصادقية"، وهي المدرسة الوحيدة في تونس.

وقد تزوج الأستاذ الأكبر في هذه المرحلة من حياته خمس مرات، وكان الموتُ أو الطلاق يفرق بينه وبين زوجاته، وظل عزباً إلى ما بعد هجرته إلى مصر، حيث بنى بزوجته السادسة التي تقيم معه الآن، وهي من عائلة مدكور، ولم يرزقه الله أولاداً من زوجاته الست.

* هجرة إلى الشام:

وفي سنة 1331 هـ، وعمره 38 عاماً انتقل مع والدته وإخوته إلى الشام، وكانت بلاد الشام في هذا الحين دولة واحدة تضم سورية ولبنان وفلسطين. ومنذ ذلك التاريخ -أي منذ قرابة أربعين عاماً- لم يعد إلى تونس، وكانت

ص: 33

هجرته لخدمة الإِسلام، ولضيقه بالحياة في موطنه؛ نظراً لفظائع الفرنسيين، وسلوكهم المُعْوَجّ، ورغبةً منه أن يعيش في كَنَف دولة إسلامية.

وتولى التدريس في المدرسة العربية السلطانية في دمشق، ثم أرسلته الحكومة إلى ألمانيا لحثِّ أسرى الحرب من التونسيين والجزائريين والمراكشيين على الانضمام للجيش التركي ضد فرنسا، واستمرت رحلته في ألمانيا تسعة شهور، عاد بعدها إلى سورية، ثم الآستانة؛ حيث تولى التحرير بالقلم العربي في وزارة الحربية التركية سنة 1917 م.

* يعود مع الصلح:

وفي سنة 1918 م، في أثناء الهدنة، سافر الأستاذ الأكبر إلى ألمانيا مرة ثانية للدعاية لاستقلال البلاد العربية، وكان ممن سافروا معه على نفس الباخرة للغرض ذاته: المرحوم عبد العزيز جاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، واللواء يوسف مصطفى، وكان يوم وصولهم إلى ألمانيا هو يوم عقد معاهدة الصلح، فمكثوا فيها سبعة شهور، عاد بعدها الأستاذ الأكبر إلى تركيا؛ حيث اشتغل بالتدريس في المدرسة السلطانية، ثم سافر إلى دمشق، وكانت تحت الاحتلال الإِنجليزي، وظل فيها إلى أن نزل الإِنجليز عن احتلالها للفرنسيين.

* حكم الإعدام يتعقبه:

وشيخ الأزهر الحالي محكوم عليه بالإعدام، حكماً لم يصدر عنه عفو حتى الآن، ولولا هذا الحكم، ما كان لفضيلته نصيب في الجلوس على كرسي مشيخة الأزهر.

فقد أصدرت السلطات الفرنسية سنة 1916 م حكماً يقضي بإعدام الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ صالح الشريف من تونس؛ لاتهامهما بالتعاون

ص: 34

مع الدولة التركية ضد فرنسا.

وقد ظل هذا الحكم يطارد الرجل المجاهد، ويحول بينه وبين العودة إلى تونس، أو الإقامة في بلد يحتله الفرنسيون، ومن ثَمَّ هاجر الشيخ سنة 1919 م إلى مصر لاجئاً سياسياً بمجرد عودة الفرنسيين إلى احتلال دمشق.

* البحث عن عمل:

وظل الأستاذ الأكبر على هذه الحال قرابة السنتين، وهو ينفق من القليل الذي ادخره، ويجهد النفسَ في البحث عن مصدر من مصادر الرزق.

فاتجه التفكير إلى الحصول على الشهادة العالمية، وقدم طلباً إلى شيخ الجامع الأزهر الشيخ أبي الفضل؛ ليسمح له بدخول امتحان الشهادة العالمية الأزهرية، غير أن نفراً من العلماء وقفوا في وجهه، وقالوا عنه: إنه طريد سياسات مختلفة: ألمانية وتركية وعربية وفرنسية، فرفض طلبه، ولما تولى جعفر والي وزارة المعارف، وكان يعرف الشيخ محمد الخضر حسين عن قرب، عينه في دار الكتب بمرتب شهري قدره تسعة جنيهات، وكان مدير دار الكتب في ذلك الوقت أحمد صادق بك.

* بحر لا ساحل له:

وفي سنة 1922 م، شاء القدر أن يفتح أبوابه للاجئ الوحيد؛ ليدخره في جعبته، ويحمله بعد ثلاثين عاماً إلى كرسي المشيخة.

وشاء القدر أن يهيئ الفرصة أمامه، فيتعرف على المرحوم أحمد تيمور باشا، الذي كان حينئذ صديقاً للسراي، ومقرباً من المغفور له محمد توفيق نسيم باشا، واستعمل أحمد تيمور نفوذه القوي ليهيئ للشيخ فرصة الامتحان، وهي كل ما كان يطلبه.

ص: 35

وتم للشيخ ما أراد، ووافق الأزهرُ على أن يتقدم الشيخ محمد الخضر لامتحان العالمية، وتشكلت لجنة من قُساة الممتحِنين، ليؤدي امتحانه أمامها، وبهر الرجلُ الممتحنين بغزارة علمه، وفاض عليهم بما وهبه الله من معرفة.

ونال الشيخ شهادة العالمية من الأزهر، ونص في القرار على أن اللجنة "امتحنت الشيخ محمد الخضر، فوجدته بحراً لا ساحل له. . . ".

ثم عُين مدرساً بتخصص كلية أصول الدين، ورئيساً لتحرير مجلة "نور الإِسلام""وهي مجلة الأزهر الآن"، وظل يلقن دروس الدين والسياسة الشرعية في كليات الأزهر إلى أن أُحيل إلى المعاش.

* عضو في جماعة كبار العلماء:

وكانت الخطوة الباقية: أن يدخل الشيخ عضواً في جماعة كبار العلماء، وفي سبيل ذلك قدم رسالة موضوعها:"القياس في اللغة العربية"، حوت بحثاً لم يطرقه أحد من علماء الأزهر من قبل، وفي 29 أبريل من سنة 1951 م صدر أمر ملكي رقم 22 لسنة 1951 م بتعيين الشيخ محمد الخضر حسين عضواً في جماعة كبار العلماء. وكانت هذه العضوية هي سبيله إلى عرض اسمه على مجلس الوزراء، عندما أراد المجلس اختيار شيخ الأزهر من بين كبار العلماء.

* هل انتهى الصراع:

ويتساءلون في الأزهر اليوم: هل انتهى الصراع الذي عاش في الأزهر سنين وسنين، واتخذ أشكالاً ومظاهر ما كان يجوز أن يكون مصدرُها الأزهرَ الشريف، وعلماءه الأجلاء؟

إن الشيخ الجديد لا يعرف كيف يحب، ولا يعرف كيف يكره، والشيخ

ص: 36

الجديد ليس له في مصر أقرباء ولا محاسيب، والشيخ الجديد ليس من بَحْري ولا من قِبْلي، والشيخ الجديد ليس طرفاً في المنافسة والسباق حول الكرسي الكبير، والشيخ الجديد لم يفكر في المنصب العالي الخطير، ولم يحلم به. ولكن هل يَسْلَم من مناورات الذين سَعَوا للجلوس فوق الكرسي، فوجدوا أنفسهم فجأة يفترشون الأرض؟

نتمنى أن يسلم من هذه المناورات، فحياة الرجل كفاح طويل، وقصة كلها مفاجآت، والرجل مؤمن بالله، نقي القلب، طاهر السريرة، شريف القصد.

ص: 37