المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تونس تفقد عبقريا من أبنائها بمصر - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌تونس تفقد عبقريا من أبنائها بمصر

‌تونس تفقد عبقرياً من أبنائها بمصر

بقلم علي الجندوبي

"كاتب وصحفي له نشاط واسع في التحقيقات، ولد في تونس عام 1909 م، وتوفي بها عام 1966"(1).

مساء يوم الأحد 4 فيفري 1957 وصلت الأنباء بنعي فضيلة العلامة الهمام، والعالم العامل المبرز في علم التفسير وأصول الدين، المرحوم الشيخ الخضر بن الحسين، أحد نوابغ تونس، والذي زان وجه بلاده في كل من ميدان العلم والسياسة والأدب. قضى نحبه عن سن عالية تبلغ (86) سنة قضاها في العمل المتواصل، لا لفائدة تونس فقط، بل لفائدة العروبة والإِسلام.

وهو فذ من أفذاذ الجامعة الزيتونية، وأحد أقطاب حركتها، فارق تونس منذ نصف قرن متجهاً نحو مصر، بعد أن غبن في حقه من جراء الحيف والظلم، وبعد أن شارك في سلسلة من المناظرات في العهد الماضي عهد المحسوبية والمحاباة.

والتجأ إلى الشرق عام 1912، وعلى أثر هجرته، أصدرت عليه المحكمة

(1) صحيفة "النداء" التونسية، العدد العاشر الصادر بتاريخ (21 رجب 1377 الموافق 10 فيفري شباط 1958).

ص: 80

العسكرية حكمها بالإعدام، والاستيلاء على مكاسبه بدعوى التعاون مع العدو، فلم تجد عند الشيخ إلا بعض كتب، وعمل مع رفقائه في الهجرة كل من العلامة الشيخ إسماعيل الصفايحي، وصالح الشريف في إسطنبول، واستقر في مصر بالقاهرة المعزية، وهناك اعترف له بمكانته العلمية وقدر نبوغه، ودرج في سلم العلم والتدريس، وزاول تدريس التفسير للقرآن الكريم، وأصول الدين، حتى أصبح بحق ضمن هيئة كبار علماء مصر، واحد رجال مجتمعها الأفذاذ، وهو الذي عمل لبلاده في الحقل الوطني من الرعيل الأول.

وهو مثل: جمال الدين الأفعاني، ورشيد رضا، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان، وعبد العزيز الثعالبي، ورفيقه وزميله العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور.

وكان ركناً من أركان الصحافة، فقد أسس بتونس مجلة "السعادة العظمى"، وكان داهية من أبرز الأفذاذ الذين دعوا إلى الوحدة العربية الإِسلامية في عدة مناسبات، وفي عدة هيئات.

ورغم عمله العلمي لفائدة مصر والأزهر، فقد كان دائماً يحن لبلاده، ويعلن زورته لتونس، له بها أهل وأقارب، وأخ هو الشيخ المكي بن الحسين، أحد رجالات الأدب والانقطاع إلى العلم، كما له أخ ثانٍ هو العلامة المبرز هو مثله في أعماله العلمية، وهو الأستاذ زين العابدين بن الحسين، مكون جيل كامل، وكان أكبر موجه ونبراس العلم في مدينة دمشق الشقيقة التي استقر بها نصف قرن أيضاً، وعمل بها للعلم وأهله -أطال الله عمره-.

ورجلنا هو الذي وقع عليه الاختيار في مبدأ الانقلاب المصري، والقضاء

ص: 81

على الملكية، فاختاره قائد الثورة إذ ذاك محمد نجيب للإشراف على إدارة الأزهر الشريف بفروعه، وقضى بهذه الخطة ردحاً من الزمن أبهر فيها مصر بما فيها من أهل العلم، وأحسن الإدارة والتوجيه المثمر.

وفارقها بمحض اختياره مكتفياً بصفته من كبار العلماء والمجمع اللغوي المصري، ومثله المجمع العلمي بدمشق، وهو الرجل الذي عرف مصر وأحبها، واختار أن يستوطنها ويعمل فيها ولها طول حياته، فهو رجل منقطع للعلم والعمل المتواصل، ولم يمنعه سنه العالي من الاستمرار في الإنتاج في ميدان الصحافة أيضاً والأدب. وقد كان راحلنا شاعراً ممتازاً في أطوار حياته المزدانة بالمفاخر والأعمال الجليلة، التي تشرف لا تونس فقط، بل العروبة والإِسلام.

هذا زيادة على توجيهاته للجالية التونسية المستقرة بمصر في الحقل التجاري، فهو أول سفير علمي سياسي اقتصادي لتونس بمصر في عهد منحتها هذه البلد التي كانت ولا زالت ملجأ لرجال الفكر من عهد عبد الرحمن بن خلدون، الذي يماثله في الاضطهاد والعقوق به، وأما اليوم، فإن تونس التي أصبح لها سفارة تونسية على رأسها الأستاذ الطيب السحباني، وثلة من رجال الفكر والأدب والعلم.

وآثار راحلنا تحت كل ورقة من المجلات الراقية العلمية، وعلى الأخص منها الدينية، المتمثل فيها أصول الدين، والمقاصد العليا التي أتى بها القرآن الكريم، والحديث الشريف، والسير على هدي السلف الصالح ممن وضّحوا الحقائق للبشر في هذه الأرض.

وبموته اليوم خسرت لا تونس فقط، بل العالم العربي، وأوساط الفكر

ص: 82

العلمي الذي كان الفقيد من رجاله الممتازين، وقد ترك مؤلفات ذات قيمة في الميدان العلمي والثقافي، أمثال:"ديوانه الشعري".

وقد علمنا أن هيئة المعهد الخلدوني فكرت في إقامة مهرجان لهذا العبقري المجاهد، والوطني الذي كافح الاستعمار بطريق العلم والسياسة معاً كلما دعت الحاجة لهذا، وفي أي ظرف من ظروف الحركة الوطنية، ولفائدة تونس ورجالها إلى آخر نفس من حياته.

العزاء للجامعة الزيتونية، ولبلد الجريد منبع النبوغ والعلم، وعزاء لآله وذويه وأشقائه، وزميله الشيخ الطاهر بن عاشور الذي يعتبره الفقيد أخاً له من عهد الدراسة، ولابنه الروحي الأستاذ الفاضل بن عاشور، ومحبيه، ولتونس طول البقاء.

ص: 83