الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاضرات الندوة
المرحلة السورية في حياة الإمام محمد الخضر حسين
(1)
الأمم الماجدة العظيمة، تلك التي تعتز وتفاخر بمسيرة عظمائها، وتعقد الملتقيات والندوات بين الفينة والفينة؛ لتكون عبرة ومنهجاً لمن يريد أن يسلك مسلك العزة والشرف، وليكون بهما عظيماً في علمه وعلو همته.
وفي الندوات درْس إلى أفراد الأمة -وخصوصاً شبابها وطليعتها المتنوّرة المثقفة- ليستدلوا به إلى سبيل العمل الصادق الجاد لرفعة شأن الأمة وصلاح حالها، وارتقائها إلى أسمى درجات الكرامة ومراتب المجد.
في هذه الندوة التي تحتضنها مدينة "نفطة"، والتي تؤكد استمرارها لما سمّيت به آنفاً (بالكوفة الصغرى). تقدم ابناً لها، غزيرَ العلم والمعرفة، رائع الأدب، كامل الخلق، أودع الله تعالى فيه من المواهب ما لا نجدها في الكثير من أهل عصره، وممن لا يجود بهم الدهر إلّا قليلاً في النادر، في هذه الندوة يشرق فيها وجه الإمام الخضر حسين.
ومن حق تونس أن تفاخر بوليدها، ومن حق الجزائر أن تتباهى بأصيلها، ومن حق دمشق أن تعتز بمعلّمها وعالِمها، ومن حق مصر أن ترفع الرأس
(1) محاضرة علي الرضا الحسيني.
بشيخها وإمامها في مشيخة الأزهر، بل من حق أي بلد إسلامي أن يحتفل بالرجل العظيم.
فهو المصلح الاجتماعي، والمفسّر، والمحدث، والمناضل، والمدرّس، والقاضي، والإعلامي، والرّحالة، واللغوي، والشاعر، والأديب، وأكرمه الله أن يكون شيخاً للأزهر، وهكذا يكرّم الله رجاله في الحياة الدنيا قبل ثواب الآخرة.
والإمام محمد الخضر حسين من الرجال الذين صبروا وصابروا ورابطوا من أجل الدعوة إلى الإسلام، وإصلاح المجتمع، والدفاع عن حال الأمة، برغم ما لاقاه في سبيل ذلك من أذى، وترحال من بلد إلى بلد، وملاحقة من قبل المستعمر، إلا أنه كان عظيماً في علمه، عظيماً في خلقه، عظيماً في تقواه.
والمرحلة السورية في حياة الإمام محمد الخضر حسين تنحصر من تاريخ الرابع من شعبان (1331 هـ - الموافق ديسمبر 1912 م) عندما أقلعت الباخرة من مرساها في تونس إلى دمشق، حتى عام (1939 هـ -1920 م) خروجه من سورية إلى مصر.
غادر التراب التونسي وهو ينشد:
حادِي سَفينتِنا اطْوَحْ مِنْ حُمولَتِها
…
زادَ الوقودِ فَما في طَرْحهِ خَطَرُ
وخُذْ إذا خمدَتْ أنْفاسُ مِرْجَلِهَا
…
مِنْ لَوْعةِ البَيْنِ مِقْباساً فَتَسْتَعِرُ
عندما أخذ الحنو إلى الوطن يتزايد، وحر الآسف لمفارقة الأصحاب يتصاعد.
وفي هذه المرحلة نميز ثلاث ومضات هامة من حياته:
أ - نشاطه العلمي الغزير، ومكانته السامية في الأوساط السورية.
ب - دخوله السجن في عهد السفاح جمال.
ج - نضاله السياسي في ألمانيا من أجل المغرب العربي والإسلام.
هاجر الشيخ الخضر إلى دمشق وفي صدره أسى، وفي نفسه لوعة على فراق وطنه تونس. وتجمعت عدة أسباب لديه لاتخاذ هذه الخطوة:
1 -
رغبته في الالتحاق بأسرته التي انتقلت بكامل أفرادها إلى دمشق، بعد أن أرتأت والدته السيدة حليمة السعدية بنتُ مصطفى بن عزوز ضرورةَ الانتقال إلى بلد آمن، والمغاربة يعتقدون أن الشام بلد شريف.
2 -
أضف إلى هذا: عامل التضييق والمراقبة والملاحقة من قبل السلطة الاستعمارية الفرنسية، ووجد أن ميدان العمل أصبح ضيقاً لا يتناسب مع روحه الوثّابة، وطموحه وآماله الكبرى في العمل الإسلامي. وفي انتقاله إلى الشام فسحة من المكان، يجد فيه المجال الأوسع لرسالته العظمى.
* نشاطه العلمي الغزير، ومكانته السامية في الأوساط السورية:
دخل إلى دمشق على القطار القادم من بيروت، وعند مدخل مدينة دمشق حيث الغوطة الغربية الجميلة، والوادي الضيق بين جبلين، ونهر بردى يقطع الوادي عند (الربوة)، فاضت شاعريته ببيتين هما من أجمل ما قاله شعراً:
لجَّ القطارُ بنا والنارُ تَسْحَبُه
…
ما بَيْنَ رائق أشْجارِ وأنهارِ
ومِنْ عجائبِ ما تَدْريهِ في
…
سَفَرِ قَوْم يُقادوُنَ للجَنَّاتِ بالنّارِ
سبقته شهرته العلمية إلى الوسط الثقافي بدمشق، فبادر العلماء والأدباء
للترحيب به في المجالس والنوادي، كما التف حوله طلبة العلم في حلقات الدرس والبحث، فأعطى كل فريق حقه، ووزّع أوقاته للتدريس بين الجامع الأموي، ونوادي دمشق - والمدرسة (السلطانية)، وفي مجالسه الخاصة التي كانت تُقصد على مدار الأسبوع.
يقول الإمام الخضر في إحدى رسائله إلى الشيخ محمد الصادق النيفر في تونس، والمؤرخة في 20 محرم 1331 هـ:"لقينا من أهل دمشق حفاوة واحتراماً فوق ما نستحق، لاسيما الناشئة المتأدبة، وكثير من أهل الفضل والعلم، حتى ظهر منهم الاستبشار، وأقبلوا على تهنئتها عندما بلغهم تعيننا لتدريس آداب اللغة العربية والفلسفة في المدرسة السلطانية بدمشق".
والإمام -من خلال هذه الاحتفالات والمسامرات التي تتصل حلقاتها يوميا- لم ينسَ وطنه تونس، ولم يغب عن باله الأصحاب، ولاسيما صديق الوفاء والمحبة الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وها هو ذا يرسل له تحية شعرية:
أيَنْعمُ لي بالٌ وأَنتَ بَعيدُ
…
وأَسْلو بطَيْفٍ والمنامُ شَريدُ
بَعُدْتُ بِجثماني ورُوحي رهينةٌ
…
لَدَيْكَ وَلِلْودّ الصّميمِ قُيودُ
إلى أن يقول:
فأين ليالينا وأسمارنا التي
…
تُبَلُّ بها عند الظِّماءِ كُبودُ
ليالٍ قَضَيناها بِتويسَ ليْتها
…
تعودُ وَجيْشُ الغاصِبينَ طريدُ
ويقول في رسالة من دمشق بتاريخ 29 جمادى الأول 1332 هـ موجهة إلى الشيخ محمد الصادق النيفر: "أما سيرتنا بدمشق، فلم تتغير عن الطريقة التي كنا نسلكها في تونس، وهو أن معظم أدبائها وكبرائها يعرفوننا ونعرفهم،
وبالجملة: فقد لقيت منهم أخلاقاً حسنة، وآداباً مؤنسة، وفيما بلغني أنهم راضون عن سيرتنا، ومعجبون بمسالكنا في التعليم.
كما أن للتلاميذ أدباً كامل معنا، وعواطف زائدة، ولاسيما نجباؤهم، وكثيراً ما أحادثهم بالحالة العلمية في تونس، وأحاضرهم بشؤون جامع الزيتونة. . . وعلمائه، فأصبحوا يجلّون التونسيين، ويدركون شيئاً من مقدراتهم العلمية".
إن عبارات الخطاب تشير إلى اهتمام الإمام محمد الخضر حسين ببلده تونس، والحرص على التعريف بها، وعن مكانتها العلمية.
عقد الشيخ الخضر صداقات مع كبار العلماء والمفكرين بدمشق، ومنهم: محمد كرد علي رئيس (المجمع العلمي العربى بدمشق)، وخير الدين الزركلي صاحب كتاب "الأعلام"، وعلامة الشام محمد بهجة البيطار، وشاعر الشام الأستاذ خليل مردم بك، وغيرهم الكثير.
وأصبح عضواً عاملاً في (المجمع العلمي العربي بدمشق) بجلسته الأولى في 30/ 7/ 1919 م.
وعندما عزم الإمام على الارتحال من دمشق، كتب له الشاعر الأستاذ خليل مردم بك وزيرُ خارجية سورية، ورئيس (المجمع العلمي العربي) في ذلك العهذ كتاباً رقيقاً، قال فيه: "سيدي! إن من خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه، معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي.
فقد صحبتُ الأستاذ عدة سنين، رأيته فيها الإنسان الكامل الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط نفسي على ظَفَرها بهذا الكنز
الثمين، حتى فاجأني خبرُ رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقةُ المثل:(بقدر سرور التواصل تكون حسرة التفاصل).
فلم يعد لي إلا الرجاء بأن يكون لي نصيب من الذكر في قلبه، وحظ من الخطور على باله، لذلك فأنا أتقدم إليه بهذه القصيدة؛ لتكون لي رتيمة عنده، وذكرى أحد المخلصين إليه. أمتع الله به، وأدام الكرامة، وكتب له السلامة في حله وترحاله". ومطلعها:
طَيْفٌ لِلَمْياءَ ما ينفك يبعثُ لي
…
في آخرِ الليل إنْ هَوَّمْتُ أشجانا
وأجابه الشيخ الخضر بقصيدة طويلة، ومطلعها:
ما النّجْمُ تجري به الأفلاكُ في غَسقٍ
…
كالدرِّ تقذفُه الأقلامُ في نسقِ
ويقول فيها:
وكيف أنْسى خليلاً قد تَضَوَّعَ في
…
حُشاشتي ودُّه كالعنبرِ العَبِقِ
هذا مشهد نضربه لبيان المرتبة العلمية الرفيعة التي تبوأها الإمام في قلوب أهل العلم والأدب في دمشق.
ونظم خلال إقامته في دمشق قصائد رائعة في مناسبات عدة مختلفة، نكتفي بالإشارة إلى عنوان ومطلع بعضها:
عن الضجر من كثرة الأسفار يقول:
أنا كأسُ الكريمِ والأرضُ نادٍ
…
والمطايا تطوفُ بي كالسُّقاةِ
كَمْ كؤوسٍ هَوَتْ إلى الأرضِ صَرْعى
…
بين كفٍّ تديرها واللَّهاةِ
فاسمحي يا حياةُ بي لبخيلٍ
…
جفنُ ساقِيه طافحٌ بسُباتِ
ومن قصيدة في تهنئة أخيه الإمام محمد الطاهر بن عاشور عند ولايته
القضاء بتونس 1332 هـ:
بسطَ الهناءُ على القلوبِ جناحا
…
فأعاد مُسْوَدَّ الحياةِ صباحا
ومنها:
أَوَ لَمْ نكُنْ كالفَرْقَدَين تَقارَبا
…
والصَّفْوُ يملأُ بينَنا أَقْداحا
وله قصيدة تحت عنوان: (بكاء على مجد ضائع) قالها في دمشق سنة 1322 هـ حين وجد للدولة العثمانية شيئاً من الضعف، ولقنصل فرنسا أمام قناصل الدول الأوروبية شيئاً من النفوذ، ومطلعها:
بين الجوانحِ همةٌ
…
تسمو إلى أمدٍ بعيدِ
ومنها:
أدْمى فؤادي أَنْ أَرى الـ
…
أَيامَ ترسُفُ في قيودِ
وأرى سياسةَ أمتي
…
في قبضةِ الخَصْمِ العنيدِ
ومن أروع ما قاله في الحنين متشوقاً إلى تونس ومَنْ فارقهم فيها من الأصدقاء تحت عنوان: (تحية الوطن)، ومطلعها:
ماليَ لا ألمحُ من ذي الجمالْ
…
سوى الخيالْ
إلى أن يقول:
يا موطني لم أنسَ عهدَ الشبابْ
…
عذبَ الرُّضابْ
وريثما شمَّر يبغي الذهابْ
…
صاح الغرابْ
بِنا وخُضْنا في غِمار الصِّعابْ
…
بلا حسابْ
بيني وبين المجد عهدٌ يُهابْ
…
فلا عتابْ
حيا رُبا تونسَ ذات الزهورْ
…
عهدُ السرورْ
وقال قصيدة تحت عنوان: (الشعور طليعة الفلاح) أيام الحرب العظمى في دمشق سنة 1334 هـ، ومطلعها:
وإن ساورَتْ بعضَ القلوب ضغينةٌ
…
وعادت من البغضاءِ كالحَشَفِ البالي
وفيها يقول:
لنا هممٌ تسمو إلى العِلْمِ رفعةً
…
وهِمّاتُ بعضِ الناس تصبو إلى المالِ
وله قصيدة (بكاء على قبر) يرثي بها والدته البارة السيدة حليمة السعدية بنتَ مصطفى بن عزوز. وقد عاد إلى دمشق من ألمانيا، ووجدها ارتحلت إلى الله تعالى. وهي من أهم قصائده في الرثاء، ومطلعها:
قطَّبَ الدهرُ فأبديتُ ابتساما
…
وانْتضى الخطبُ فما قلتُ سلاما
"بنتَ عزّوزٍ" لقد لقنْتِنا
…
خشيةَ الله وأَنْ نرعى الذِّماما
ودَرَيْنا منكِ أن لا نشتري
…
بمعالينا من الدنيا حُطاما
ودَريْنا منكِ أن الله لا
…
يخذُلُ العبدَ إذا العبدُ استقاما
ودَرينا كيف لا نعنو لمن
…
حاربَ الحقَّ وإنْ سَلَّ الحساما
وقال عند سفره من دمشق:
كأنيِّ دينارٌ وجِلَّقَ راحةٌ
…
تُنافِسُ في الإنفاق راحةَ حاتمِ
فكمْ سمحتْ بي للرّحيل وليتني
…
ضربتُ بها الأوتادَ ضربةَ لازمِ
وخاطب صديقه الشاعر الأستاذ خير الدين الزركلي صاحب كتاب "الأعلام" بعد أن ألقى قصيدة من نظمه في مجلسى الإمام:
يا محضراً في بُردِ شعرٍ رائعٍ
…
روحَ ابْنِ بُرْدٍ وهو يلفظ بالحِكَمْ
من علّمَ الشعراءَ أن يتحضّروا
…
روحاً تَرَذَّى جسْمُها ثوبَ العدمْ
هذه بعض أشعاره خلال المرحلة السورية في حياته التي قالها بدمشق، وله قصائد أخرى عن دمشق خلال زيارته لها قادماً من القاهرة.
* دخوله السجن في عهد السفاح جمال:
عندما نقرأ سيرة الإمام محمد الخضر حسين نجد صفحاتِ قاسيةً مؤلمة من جراء دفاعه عن الحق، وقد عانى الأذى والاضطهاد على يد السفاح التركي جمال باشا في دمشق، وقَبِلَ الابتلاء بكل إيمان وصبر، وبقلب مؤمن صادق.
اعتقل الشيخ الإمام مدة ستة أشهر وأريعة عشر يوماً في شهر رمضان سنة (1334 هـ الموافق آوت آب 1916 م) حتى الرابع من شهر ربيع الثاني 1335 هـ. وأحيل إلى المحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري تحت رئاسة فخري باشا؛ بحجّة أنه حضر مجلساً خاض فيه المجتمعون في سياسة الدولة، وسعى فيه أحدُ المحامين إلى تناول الدولة بعبارات قاسية، حتى استفتى في نكث العهد من طاعتها، والخروج عليها، وسعى إلى تأسيس جمعية تدعو إلى الانفصال عن الدولة العثمانية.
واعتبرت السلطة الطاغية في دمشق أن الشيخ يحمل المسؤولية لعدم إبلاغ الإدارة المختصة بهذا الاجتماع، وما جرى فيه من حديث يتعلق بسياسة الدولة، وأذنت باعتقاله حتى يرى المجلس العرفي رأيه.
وتم الاعتقال في (خان مردم بك) بمدينة دمشق، وهو مكان مُعَدٌّ لاعتقال رجال السياسة، وكان من رفاقه في السجن: الرئيس شكري القوتلي الذي شغل منصب رئيس الجمهورية السورية، وفارس الخوري أحد رؤساء الوزارة،
وسعدي بك الملا الذي أصبح رئيساً للوزراء في لبنان، وكان سكرتيراً لشكري الأيوبي.
وحكم المجلس العرفي على الشيخ الإمام بالبراءة مما نسب إليه ، وقرر مخاطبة الدولة بطلب إعطائه مكافأة بما لحقه من ضرر.
ويقول الإمام: "ولكني لم أتشبث بهذا القرار، وقنعت بما ظهر للدولة من طهارة ذمتي، وعدم تسرعي إلى النفخ في لهيب الفتنة على غير هدى".
ومن شعر الإمام في السجن:
غلَّ ذا الحبْسُ يدي عن قلمٍ
…
كانَ لا يصحو عن الطِّرْس فناما
هل يذودُ الغمض عن مقلته
…
أو يلاقي بعدَه الموتَ الزُّؤاما
أنا لولا همةٌ تدعو إلى
…
خِدْمة الإسلام آثرتُ الحِماما
ومن روائع شعره في المعتقل: أن الأستاذ سعدي الملا كان رفيق الإمام في زنزانة واحدة، وجرت بينهما محاورة عن البداوة والحضارة، فقال الشيخ:
جَرَى سمرٌ يومَ اعْتُقلنا بفندقِ
…
ضُحانا به ليلٌ وسامرُنا رَمْسُ
فقالَ رفيقي في شَقا الحبسِ إنَّ في الْـ
…
ـحضارةِ أُنْساً لا يقاسُ به أُنسُ
فقلتُ له: فضلُ البداوة راجحٌ
…
وحسْبُكَ أن البَدْوَ ليس به حَبْسُ
وله أشعار أخرى في المعتقل الذي لم يزِدْه إلا قوةً في العزيمة، وإصراراً على النضال والاستمرار بصلابة في طريق الحق، ودون أن تؤثر في إيمانه الراسخ حوادث الأيام العابرة.
ومن ذكريات السجن قال في دمشق:
ولقد ذكرتُكِ في الدّجى والجندُ قد .. ضربوا على دار القضاء نِطاقا
وقضاةُ حربِ أرهفوا أسماعَهم
…
وصدورُهم تغْلِي عَلَيَّ حِناقا
والمدّعي يُغري القضاةَ بمصْرَعي
…
ويرى مُعاناتي الدفاعَ سِياقا
أتروعُ أهوالُ المنونِ متيَّماً
…
جَرَّعْتِهِ بعدَ الوصالِ فِراقا
* نضاله السباسي في ألمانيا من أجل المغرب العربي والإسلام:
جند الاستعمار الفرنسي -بالترغيب والترهيب - الآلافَ من أبناء المغرب العربي في صفوف جيشه، وزجَّ بهم كالقطيع من الأغنام في مذابح الحرب، وألقى بهم في خطوط النار الأولى من المعارك التي خاضتها فرنسا ضد ألمانيا، ووقع منهم العدد الكبير أسرى لدى القوات الألمانية. وقد سافر الإمام إلى ألمانيا؛ للاتصال بهؤلاء الأسرى؛ ليحرضهم على القتال ضدَّ فرنسا، لأن بلادهم أحوجُ إليهم في هذا الموقف، ويحثهم على التطوع لمحاربة فرنسا.
أقام في ألمانيا على مرحلتين: تسعة أشهر في عام 1917 م، وسبعة أشهر في عام 1918 م، وكان رفاقه في النضال: الشيخ صالح الشريف، والشيخ إسماعيل الصفايحي من تونس، بالإضافة إلى مناضلين عرب؛ كالأستاذ عبد العزيز شاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، واللواء يوسف مصطفى.
قام بتأليف (اللجنة التونسية الجزائرية) لتحرير المغرب، وألقى المحاضرات على الجنود المغاربة الأسرى في المعتقلات، وسعى إلى ضمِّهم تحت لواء الثورة على الاستعمار من أجل الاستقلال والحرية لأوطانهم.
وكان يكتب مناشير التحريض؛ لتلقى بواسطة المدافع وراء خطوط القتال على الجنود المغاربة، يدعوهم فيها إلى التمرد والعصيان.
أتقن اللغة الألمانية خلال مدة إقامته في برلين، واطلع على أحوال
المجتمع الألماني وعاداته وأخلاقه، كما درس علوم الكيمياء والطبيعة على يد البرفسور الألماني (هاردر) أحدِ العلماء المستشرقين الألمان. وتقول بعض المصادر: إنه كان يخطب باللغة الألمانية في بعض المناسبات.
حتى تحت أزير الرصاص، وفي الأتون المشتعل لهيباً ودماراً، والحرب بضجيجها وعجاجها تقرع الأسماع ليل نهار، لم يترك الشيخ القلم جانباً، وإنما دوّن مشاهداته في برلين، ونشرها في جريدة "المقتبس" بدمشق، الجزأين السابع والثامن من المجلد الثامن، كما طبعت في كتاب مستقل، وله شعر بديع في مناسبات عدة في ألمانيا ضمن ديوانه "خواطر الحياة".
أصدرت السلطات الفرنسية حكماً عليه بالإعدام غيابياً؛ لتحريض المغاربة على الثورة ضد المستعمر الفرنسي. كما صدر الأمر المؤرخ في 15 حزيران 1917 م، والذي تضمن:"حُجزت بقصد بيعها أملاكُ الأخضر ابن الحسين المدرسِ السابق في الجامع الأعظم الذي ثبت عصيانه"، ونشر الأمر في "الرائد التونسي" - النسخة الفرنسية الصادرة 20/ 6/ 1917 م.
أقول في خاتمة هذه المحاضرة المقتضبة عن المرحلة السورية في سيرة الإمام الخضر التي تستغرق مجلداً لباحث ودارس، ولعلِّي بهذه العجالة أوجزت كثيراً، وأوفيت. أقول:
- إن الإمام محمد الخضر حسين خزانة علم متنقلة في حله وترحاله.
- إن الإمام محمد الخضر حسين نبع إلهي لا يغور ماؤه، ولا ينضب عطاؤه.
- إن الإمام محمد الخضر حسين -كما قال فيه الأستاذ محمد مواعدة-: هو رجال في رجل.
- إن الإمام محمد الخضر حسين -كما قال فيه أحد كبار علماء الأزهر، ويردده الأزهريون من بعده-: هذا. بحر لا ساحل له.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.