الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاضرات الندوة
تطور الخطاب الديني عند الشيخ محمد الخضر حسين
(1)
أيها السيدات والسادة
عنوان مداخلتي: تطور الخطاب الديني عند الشيخ محمد الخضر حسين من "السعادة العظمى" التي تأسست سنة 1904 م إلى "الهداية الإسلامية" التي تأسست في مصر سنة 1928 م.
لا مراء في أن الشيخ محمد الخضر حسين كان ركناً من أركان النهضة الفكرية والأدبية، كما بيّن ذلك الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في كتابيه:"الحركة الفكرية والأدبية في تونس"، و "أركان النهضة الأدبية في تونس". وهو معدود من أبرز من أرّخ للحركة الفكرية والأدبية في بلادنا.
والمعلوم أن الشيخ محمد الخضر حسين كان من أبرز ناشطي شيوخ الجامع الأعظم في العقد الأول من القرن العشرين، كما كان حضوره بارزاً وفاعلاً ومنتظماً في أبرز المؤسسات التحديثية التي أسسها إصلاحيو القرن التاسع عشر، أو أسسها الجيل الأول من تلاميذه، أقصد: المدرسة الصادقية. كان الرجل مدرساً في هذه المؤسسة، الجمعية الخلدونية التي تأسست عام 1896 م، وكان من أبرز محاضريها، وكان حضوره فيها منتظماً، جمعية
(1) محاضرة الأستاذ جمال الدين دراويل، باحث، ورئيس تحرير مجلة "الحياة الثقافية" بتونس.
قدماء الصادقية التي تأسست سنة 1905 م، وكانت محاضرته عن "الحرية في الإسلام" من أبرز المحاضرات التي ألقيت على منبر هذه الجمعية، وما زالت الكثير من الأفكار التي تضمنتها هذه المحاضرة تحتفظ بأهميتها.
تأسست بإشرافه وتوجيهه أولُ منظمة طالبية بتونس سنة 1907 م، وهي:(جمعية طلبة تلاميذ جامع الزيتونة). وكان حراكه الفكري، ومنزعه الإصلاحي، ووعيه الوطني سببَ استهدافه من الجبهتين: الداخلية، وأقصد: المعهد العتيقال في كان علماً من أعلامه، وهو جامع الزيتونة، والجبهة الخارجية، وأقصد: الاستعمار الفرنسي الذي سلّط عليه أنواعاً من النكاية. وكان هذا الاستهداف من الجبهتين الداخلية والخارجية وراء إغرائه سنة 1912 م إلى الرحيل إلى الشام أولاً، فمصر ثانياً؛ حيث استقر، وبلغ قمة المجد العلمي كما تعلمون.
إذن، في أفريل 904 أم أسس الشيخ محمد الخضر حسين مجلة علمية هي الأولى في البلاد التونسية، سماها:"السعادة العظمى"، والملاحظ: أن تأسيس هذه المجلة كان في مرحلة الشباب والتوثب بالنسبة إلى هذا الرجل، وعمره في سنة 1904 م إحدى وثلاثون سنة.
* "السعادة العظمى"، أو النظرة العالية:
تجدر الملاحظة: أن خروج الشيخ الخضر من دائرة المسجد، ومن حدود الدرس العلمي داخل المعهد العتيق، واقتحامه لأول مرة في التاريخ الثقافي التونسي مجالَ الصحافة الفكرية، يقيم الدليل على سعة أفق الرجل، وإدراكه أن مجال النشاط الإصلاحي ينبغي أن يشمل الرأي العام الفكري والثقافي، وأن لا يبقى في الدوائر العلمية الضيقة. وهو ما يفسّر توجُّسَ هيئة
النظّارة العلمية في جامع الزيتونة من صدور هذه المجلة، ومطالبتها للوزير الأكبر في ذلك الوقت محمد العزيز بو عتّور بإيقاف إصدارها.
إذ لم يستوعب أعضاءُ هذه الهيئة من الشيوخ المنحدرين في معظمهم من عائلات بورجوازية تونسية تجاسرَ هذا العالم الشاب من نقل مجال المداولات العلمية والفكرية المتصلة بالقضايا الفقهية والأخلاقية، والأدبية واللغوية من الدوائر التقليدية التي كان يتولاها هؤلاء الشيوخ إلى الرأي العام؛ حيث المقاهي والنوادي، إلى غير ذلك.
إذ كانوا يعتبرون أن هذه الوظيفة هي وظيفتهم، وليس فيها لغيرهم أن يتولاها، وأن يضيق دائرة سلطتهم العلمية والمعرفية في ذلك الوقت.
صدع الشيخ محمد الخضر حسين منذ المقال الأول مين مجلة "السعادة العظمى"، المقال الافتتاحي للعدد الأول، فقال:"إن دعوى غلق باب الاجتهاد لا يُسمع إلا بدليل ينسخ الدليل الذي انفتح به هذا الباب أولاً"؛ رداً على النظرة الضيقة المغلقة التي كان يروِّجها المحافظون من شيوخ جامع الزيتونة، ووعيا من الرجل بأن في "السعادة العظمى" استقلالاً وحرية ونهضة معرفية وعمرانية، وهي قضايا مركزية وجوهرية بالنسبة إليهم، فالرجل كان ذا نزعة استقلالية لا مراء فيها، وكان يعتبر أن قضايا الحرية وحقوق الإنسان من القضايا التي ينبغي أن تعالج في المجتمع الحديث.
كما راهن وركز وعالج النهضة المعرفية والنهضة الفكرية التي لابد أن تكون المقدمةَ الضرورية لدخول المجتمعات العربية الإسلامية - والمجتمعُ التونسي مثالٌ لها- إلى مرحلة التحديث، والخروج من أَسر الأُطر المغلقة التي أراد المحافظون من علماء جامع الزيتونة أن يُبقوا مسارَ
الحراك الفكري والأدبي ضمنها.
فكانت هذه الفكرة -المعبّرة عن التحدي للجمود والمحافظة- سبباً في الهياج الذي قام في وجه الشيخ الخضر ووجهِ مجلته، وكان سبباً لكثير مما نال صاحبَها من الاضطهاد والنكاية خلال مقامه بتونس، علماً أن الصراع بين الطرفين، العلمي يستلزم الاستحواذ على المناصب العلمية والشرعية والدينية، وآفاقي يتطلع إلى اعتلاء سدة التفكير الفكري والإيديولوجي، كان يغذي موقف هؤلاء الشيوخ من صاحب "السعادة العظمى".
وإضافة إلى المقال الافتتاحي للعدد الأول من مجلة "السعادة العظمى" الذي جاء واضح العبارة، صريح الموقف، لا مواربة في رفضه للتقليد والاستحواذ النظرة المذهبية على المذهب التشريعي.
بيّن الشيخ الخضر -في ذات العدد الأول-: أنه ينتهج في نظره الفقهي فَهْمَ مقاصد الشريعة، ولا يساير من انفرد بضيق النظر، فزاغ بالكلم عن مدلولها، وانتزع الفروع من غير أصولها. والرجل واضح المسلك في رفضه للجمود والتقليد، وفي كونه يروم المنزع الاجتهادي التنويري الذي لابد منه لإحداث الحراك الفكري والاجتماعي الضروري لخروج المجتمع التونسي من دائرة التقليد والجمود إلى دائرة النهضة المعرفية والاستقلال والحرية، إلى غير ذلك.
وعبّر عن موقفه ممن سلك مسلك الجمود والقعود والركود إلى ما قدمه القدامى اعتقاداً من أنه منتهى ما يمكن الوصول إليه، عبَّر عن ذلك في ذات المقال، فقال:"فإليك إيابه، وعليك حسابه" في أول جملة قالها في هذا المقال "اللهم كذا وكذا"، ثم أنهاه بقوله:"فإليك إيابه، وعليك حسابه"، والمقصود
هو من الجامدين من الزيتونيين المحافظين.
على هذا الأساس عبّرت مقالاته عن نظر فسيح، ورؤية عميقة، ومنزع إصلاحي، وهو ما يبرز للوهلة الأولى من خلال إمعان النظر في العنونة التي توخاها في جملة مقالاته في "السعادة العظمى".
وأسوق لكم بعض هذه العناوين: حياة الأمة - التقدم والكتابة - النهضة والرحلة - الشعر العصري - مدنية الإسلام والعلوم العصرية - الديانة والحرية المطلقة - كبر الهمة. هذا المعجم الذي كان الرجل يتوخاه في العنونة، بالإضافة إلى المضامين التي سآتي عليها بإيجاز بطبيعة الحال، تبين وجهة الرجل النهضوية، وطريقه الإصلاحي.
وفي مقاله الافتتاحي الموسوم بـ: "حياة الأمة" جاء في الأسطر الأولى: "لتجدن أشد الناس فتوراً، وأضعفهم عقدة في رابطة بني جنسه، من يرى أمة متمسكة بأذيال المدنية، ساعية وراءها بحركات تبهر العيون، وتدهش الألباب، ترفل في ملابس الرفاهية تحت ظلال عزّ مكين، ويشاهد أمة أخرى في أسوأ منظر من خشونة الحال، وشظف العيش، وجهومة المسكنة، ثم لا يسأل الناس إلحافاً عن الأسباب التي ترتفع بها قواعد العمران، والعلل التي تخربها على عروشها".
هذا هو سؤال التقدم الذي يمثل مركز الاهتمام بالنسبة إلى إصلاحي القرن التاسع عشر، واللافت للنظر: أن الشيخ الخضر وصف من ركنوا إلى الجمود، ووضعوا الحواجز والموانع أمام كل محاولة للتجاوز؛ بأنهم إخوان الأنعام، ودعا على أيديهم التي تمتد بالأذى على المصلحين والتنويريين بالشلل، فقال:"رماها الله بالشلل"؛ لذلك قلت: إن مرحلة "السعادة العظمى"
بالنسبة إلى خطاب الرجل هي مرحلة النظرة العالية.
فالتقدم المشاهَد في المجتمعات الأوروبية بالعيان، وليس بعده بيان -كما عبَّر عنه المصلح خير الدين-، وسقوط المجتمعات العربية والإسلامية في وَهْدة التخلف، وانحباس أعضائها الحضاري قابلٌ -كما بيّن الشيخ الخضر- لكل ذي همة عالية أن يسأل ويبحث، ويقارن ويحلل، ويضع مظاهر التخلف تحت محك البحث والمساءلة؛ وصولاً إلى معرفة الأسباب التي أدت إلى هذا الانحدار في وهدة السقوط الحضاري، وتوصلاً بالمعالجات الصحيحة العلمية المبنية على النظر الدقيق، والفحص العميق؛ للخروج من دائرة التخلف إلى دائرة النهوض والتقدم.
ولا يكون التقدم قابلاً للتحقق في مواقع الوجود الفعلي في رأي الشيخ الخضر، ولا يتسنى للأمة أن تستعيد عافيتها وتوازنها، وتسترجع نضارتها وحيويتها، وتستأنف دورها في تنشيط الحركة الحضارية، ولا يمكن للمجتمع العربي والإسلامي، وتونسُ أنموذجٌ له، أن يعرج إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة -كما قال- إلا من خلال كبر الهمة، إلا إذا كانت الهمة تواقة إلى المعالي. ومن قوله:"جرت سنّة الله في خلقه أن لا ينهض بأحد المقاصد الجليلة، ويرمي إلى الغايات البعيدة، التي يشد بها نطاق السيادة الكبرى، غيرُ النفوس التي عظم حجمها، وكبرت هممها، فلم تعلق إرادتها بسفاسف الآمال".
هذه النوعية من الرجال والشباب التي كان الشيخ الخضر يعمل على تحريكها، وعلى صناعتها؛ للوصول بالمجتمع التونسي بعد حين إلى الغاية التي كان يروم؛ من الاستقلال، ومن الحرية، ومن النهضة المعرفية.
ودعا الشيخ الخضر إلى أن تتجه المؤسسة التربوية والفكرية إلى بث هذه الروح في الناشئة التي هي مناط المستقبل، فقال:"وإذا استبنّا أن أكبر الهمة سجيةٌ من سجايا الدين، تصدر عنها الأعمال العظيمة، وتضم تحت جناحيها فضائلَ شتى، فلم لا تعقد عليها نفوس أبنائنا، ونرشحهم بلبانها في أدوار تربيتهم الأولى؛ ليستشعروا بالأداب المضيئة، ويتجلببوا بالقوانين العادلة، ولنا حياة طيبة في العاجل، وعطاء غير مجذوذ في الآجل".
وكبر الهمة، والتَّوق إلى المعالي والوجدان الأفضل والأكمل والرَّوْم على الدوام، هي مركزية في النطاق الفردي، وفي النطاق الجماعي بالنسبة إلى المجتمع التونسي، وخصص لها كتابا مفرداً هو في حقيقته محاضرة ألقاها على منبر (جمعية قدماء الصادقية) سنة 1906 م، وفي هذا الكتاب الصغير الحجم، الجليل الفائدة، جليلُ الأفكار المتضمنة فيه، بيَّن أن المجتمع الذي جثم الاستعمار عليه، أو كان تحت نفوذ سلطة مستبدة، غيرُ قادر على إنجاز الأعمال الجليلة، فقال:"الأمة التي بُليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها"، ويقصد: السلطة الاستعمارية، "أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستعباد": النظام الملكي للبايات المطلق، "هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية". وفي المقابل، فالتجمع الحر المستقل الذي يتمتع أفراده بالحرية التي عرّفها الشيخ الخضر بمضامينها الحديثة، فقال:"حيث عرف الحرية أن تُقرر للمرء حقوق لا تعوقه عن استيفائها يد غالبة"، هذه الحرية هي المنطلق والأساس بالنسبة إلى تحقق كبر الهمة، ثم إلى النهوض المعرفي والسياسي، والعلمي والاجتماعي، وإحداث الحراك اللازم لهذا النهوض.
يمكن أن نقول: إن المباحث التي تصدى لها الشيخ الخضر في مجلة "السعادة العظمى" عالجت بنظرة عالية قضايا الحرية والنهضة والتقدم والمدنية في مرحلة كانت البلاد التونسية تشهد فيها مخاضات وتحولات تُؤذِن بأن التونسيين بدؤوا يستعدون لإدارة بلادهم بأنفسهم، وهو ما عبّر عنه الشيخ الخضر إذ قال في كتابه "تونس 67 عاماً من الاحتلال الفرنساوي"، قال:"أصبحت تونس مستعدة للقيام بواجبات استقلالها، وليست في حاجة إلى ما يسمونه: حماية". علماً أن الرجل بعد الحرب العالمية الأولى أسس (جمعية استقلال تونس والجزائر) صحبةَ الشيخين: صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي، ثم في أربعينات القرن الماضي أسس (جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا)، وهي منظمة سياسية بالدرجة الأولى، غايتها استقلالية.
لم يساير الشيخ الخضر في هذه المرحلة التونسية التي أسس فيها مجلة "السعادة العظمى" المؤسسةَ التقليدية، والعلماء المحافظين، وكانت نظرته فيها معارضة للتوجه الذي كان سائداً في تلك الفترة.
* مجلة "الهداية الإسلامية":
الحجة البالغة في مجلة "الهداية الإسلامية" هي الوصول للبحث العميق والدقيق، وهي وسيلة في ذلك بينها وبين النظرة العالية في مجلة "السعادة العظمى".
إذ كان الشيخ الخضر حسين علماً بارزاً، وطوداً شامخاً، ينبغي أن نهتدي به، وإن مدونته تتيح للباحثين أن يمرسوه مفسراً، وفقيهاً، ومصلحاً، ولغوياً، وبلاغياً من الدرجة الأولى.
والحقيقة أن الأبحاث مازالت ضنينة إلى حد بعيد في هذا الاتجاه، ونرجو أن تكون هذه الندوة محفّزاً لمن يهتم من الباحثين بهذا العَلَم.
وشكراً على إصغائكم.