الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاضرات الندوة
دور المثقف في توثيق العلاقات المغاربية
(1)
أخواتي وإخواني!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محورٌ أساسي، ويبدو أن كثيراً من الجهات الثقافية -في مختلف أنحاء الوطن العربي والإسلامي- تحاول دائماً العناية به، ولكن حتى الآن لم نجد الطريق السوي الذي يمكننا من المعالجة الصحيحة.
لكن قبل ذلك عندي ملاحظة: ملاحظة حول الشيخ محمد الأخضر ابن الحسين:
أعرف أن الشيخ زار الجزائر مرتين سنة 1903، و 1904، وفي سنة 1903 م كان قد زار الجزائر قبلها الشيخ محمد عبده، وفي الوقت الذي نجد آثاراً وتأثيراً، آثاراً علمية ثقافية للشيخ محمد عبده، سواء فيما يتعلق باتصالاته بشيوخ العلم والمثقفين في ذلك الوقت، وحتى الآن مازالت بعض الرسائل تدرس في هذا الموضوع، نرى أن الشيخ محمد الخضر قد مرَّ هناك، ولم يترك شيئاً، في حين أن المثقفين الذي كانوا موجودين في الجزائر في تلك
(1) محاضرة المؤرخ والكاتب الجزائري الدكتور محمد عربي الزبيري، ألقاها دون الاعتماد على أوراق مكتوبة.
الفترة كانوا على ثلاثة أصناف، لم نجد أثراً له عند أي من هذه الأصناف.
كان هناك المثقفون المفرنسَون الذين انسلخوا عن جلدتهم، وكانوا يسعون للاندماج في المجتمع الفرنسي، لكنهم كانوا مثقفين، كانوا يكتبون على أعمدة الصحافة، وكانوا ينشطون ثقافياً، والمثقفون الوطنيون الذين كانوا -أيضاً- نوعين: كان نوع مزدوجَ اللغة، وكان نوع زيتونياً، وخاصة أنه في النوع المزدوج باللغة نجد أن الشيخ محمد بن رحّال كان يكتب في موضوعات عالجها الشيخ محمد الخضر حسين، فالشيخ محمد بن رحّال كان يلقي محاضراته باللغة الفرنسية في باريس في ذلك الوقت حول الحرية في الإسلام، حول نظرة الإسلام إلى المرأة، ونظرة الإسلام إلى المجتمع، إلى غير ذلك. موضوعات مهمة نجد أن الشيخ قد عالجها، وفي نفس الوقت عالجها الشيخ محمد بن رحّال، والمفروض أن هذا يربط بين الرجلين، خاصة وأن الشيخ محمد بن رحال كان مزدوج اللغة، ثم الزيتونيون، فكانوا في الجزائر في تلك الفترة، كان يوجد عمر القدور، وهو زيتوني، وعمر راسم الذي هو زيتوني، اللذان كان لهما مساهمة كبيرة في تنشيط الحياة الثقافية المغاربية على أعمدة الصحافة التونسية، وعلى أعمدة الصحافة الجزائرية.
هذا السؤال بقي يحيرني، بحثت فعلاً، ولكني لم أجد الجواب الشافي الكافي، هذه الملاحظة أطلب من الجميع أن يفكر معي في أسباب عدم وجود التلاقي في تلك الفترة بين هذه الرجالات التي كانت تعمل بالفعل من أجل إعادة بعث هذا المجتمع المغاربي، ودفعه نحو ما كان يسميه مالك بن نبي: المجتمع الموحد.
نعود الآن إلى صلب الموضوع: دور المثقف في تمتين أو توثيق العلاقات
المغاربية بين الشعبين الجزائري والتونسي على الأقل، وحتى في هذه التسمية أرى أن هناك تقهقراً؛ لأن التعبير كان غير ذلك، كان أسلافنا يقولون: الشعب في الجزائر وتونس، لا أن يقولوا: الشعبين الجزائري والتونسي.
سؤالي أولاً من هو المثقف؟ هل المثقف هو حامل الشهادات؟ أقول: لا، إن الشهادات -مهما علت- ليست مقياس المثقف الثقافي.
أنا أقيس الثقافة بشيء آخر هو الوعي، أن يكون الإنسان واعياً أولاً بذاته، واعياً بمحيطه الضيق، وبمحيطه الواسع، والعامل من أجل تحقيق أهداف تعود بالخير على الذات، وعلى محيطه، وعلى غيره، من أجل ذلك لكي يكون المثقف فاعلاً يجب أن ينطلق من مشروع المجتمع، ينطلق من مرجعيته الفكرية، أن ينطلق لتحقيق أهداف وأغراض ومعالم بينة واضحة. فإن لم يكن هذا موجوداً، فلست أدري كيف يمكن لإنسان أن يُسمى مثقفاً، وكيف يمكن أن يقوم بدوره؟
وفي مستهل القرن كان المثقف موجوداً بالفعل، ويبدو لي: صحيح أن الاستعمار موجود، ولكن مقاومة الاستعمار كانت قد فتحت للمثقفين مجالاً للعمل من أجل ترقية المجتمع، ومن أجل الدفاع عنه، ومن أجل وضع الأسس التي يكون منها المنطلق لتحقيق ما هو الأفضل.
قرأت مرة للشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي تعرفونه جيداً يقول: إننا في الجزائر، ويتكلم عن المثقفين في الجزائر، يقول: نحن في الجزائر نعرف عن إخواننا في تونس، وعن إخواننا في ليييا ما لا يعرفونه هم عن أنفسهم؛ لأننا نهتم بواقعهم، ونتمنى لهم كل الخير.
اليوم نرى أن هناك انحساراً، نرى أن من نسميهم: المثقفين، سواء في
الجزائر، أو في تونس، أو ليبيا، هؤلاء لا يعرفون ما يجري حتى في بلدانهم، لماذا؟ لأنهم حبسوا أنفسهم فيما يمكن أن نسميه: الوظيفة، أو العمل الرسمي، أو الجري وراء أشياء أخرى لا علاقة لها بالثقافة؛ لأن الثقافة -كما قلت- هي الوعي.
ثم إن الثقافة هي مواقف، عندما يكون الإنسان واعياً، لا بد له من مواقف تجسد ذلك الوعي، والمواقف -اسمحوا لي- لها أثمان تدفع لكي تتجسد على أرض الواقع.
ما هي مواقف المثقف في الوقت الحالي؟ مواقف المثقف -على الأقل- هي أن يؤاخي، هي أن يفتح طريق الوحدة، هي أن يعمل على تحقيق ما يصبو إليه المجتمع ككل، الشعب هنا، والشعب هناك.
لكن -مع الأسف- عندما نرى المثقف، أو ما نسميه مثقفاً يسعى دائماً لتحقيق ما يصدر عن الجهات الرسمية، هذا لم يعد مثقفاً. المفروض أن المثقف هو الذي يخط الطريق للجهات الرسمية، وليست الجهات الرسمية هي التي تخط الطريق للمثقف.
ولقد أكبرت بالأستاذ الجليل الشيخ المنجي موقفه مع وزير الداخلية، الذي أراد أن يملي عليه موقفاً من تلميذه في ذلك الوقت، هذا هو المثقف. كان يدرك، وكان يعرف أنه سيدفع ثمن موقفه هذا مع وزير الداخلية يجر عليه أتعاباً؛ لأنه كان يعرف ويدرك، فكان مستعداً لتقديم الثمن.
موضوع آخر في الجزائر جرى، هو عمر بن قدور، هذا هو زيتوني، وكان يكتب في الصحافة التونسية، والصحافة الجزائرية، وكان يظهر بموقفه المعادي للاستعمار، والداعي إلى اليقظة في أوساط المجتمع، دُعي ليغيّر
مواقفه، ويغيّر كتابته، فرفض، وهُدد، فتحدى التهديد، وحُكم عليه بالحبس والنفي في مدينة "الأغواط"، وهو موجود في الجزائر، وكان في الحكم قرار أن ينتقل إلى منفاه مشياً على الأقدام 450 كم. وبالفعل انتقل، وعندما وصل، وكان في حالة سيئة، سأله صحفي، فقال له: أنا مستعد إلى أكثر من هذا، وإلى أن أموت إن اقتضى الحال. وقع نفس الشيء مع الشيخ المكي بن شباح في بداية القرن عندما دعته السلطات الاستعمارية، وطلبت منه أن يتخلى عن النضال السياسي، ورفض، فحكم عليه بالنفي من "بسكرة" إلى "أولاد جلال"، وهو مربوط في ذيل الفرس التي كان يقودها التابع لدائرة الشرطة، هذه هي شروط المثقف.
لذلك كنت دائماً أقول للطلبة عندما يتحدثون عن الذين فجروا فتيلاً: هؤلاء لم يكونوا مثقفين. أقول لهم: لا، لم يكونوا حاملي شهادات، ولكنهم كانوا مثقفين؛ بدليل أنهم أدركوا: أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأدركوا -أيضاً- أنه ما ينبغي أن نسترجعه إن كان ثميناً يجب أن نقدم له ما هو أسمى، وهي أنفسنا، فهؤلاء هم المثقفون.
نعود إلى دور المثقف في توثيق العلاقات بين الشعب الجزائري والشعب التونسي، ما دام أرغمنا على هذه التسمية، وأرغمنا على التنازل عن كثير من المفاهيم. كنا -نحن المثقفين- نتحدث عن الإمبريالية، وكنا نتحدث عن الاستعمار، وأرغمنا على التخلي عن كثير من المفاهيم، وأتمنى أن يأتي مثقفون حقيقيون يعيدون المياه إلى مجاريها.
فالعلاقات كانت أمتن في الفترة الاستعمارية بين مثقفي الجرائر ومثقفي تونس مما عليه الآن. لم تعد هناك علاقات.
كنت أتمنى أن أرى أساتذة أجلاء من تونس يزورون الجزائر مثلما كان يقع في السابق. وعندما تقع اللقاءات، وعندما تقع الاحتكاكات والحوارات، فهذا هو سبب تطور وتقدم للمجتمع. أما إذا انزوى كل على نفسه، وتقوقع، فإننا نبقى دائماً ندور في حلقة مفرغة، ومع الأسف بدلاً من أن نتقدم، فإننا نتقهقر. كنا نعتبر نفسنا شخصاً واحداً، شعباً واحداً، أصبحنا نعتبر نفسنا شعبين، وحدود تقام بيننا تمنع.
هذه الحدود لم تمنع انتقال الجزائريين إلى تونس، والتونسيين إلى الجزائر في عهد الاستعمار، ولو كنا مثقفين بالفعل، ونقوم بدورنا، فإننا نرفع هذه الحقائق إلى من يهمه الأمر، ونطالب بإزالة هذه الحدود؛ لكي يتمكن المثقفون من الاتصال فيما بينهم، ويتمكنوا من معرفة ما يجري هنا، وما يجري هناك.
والمعرفة هي التي تساعد على حل المشاكل. وما لم نعرف، لا يمكن أن نصل إلى ذلك بالطبع. أعود إلى المثقفين بالفعل، أعرف في الجزائر مثقفين ليست لهم شهادات، باعوا أملاكهم ليؤسسوا جريدة. الجريدة يأتون بمقالاتها إلى تونس، وتطبع في تونس، ويعودون بها إلى الجزائر، ويوزعونها هناك، هذه العائدات لا تفي بالمصاريف اللازمة لإعادة طبع العدد الآخر، فكانوا يبيعون أملاكهم لكي يستمروا في طبع هذه الجرائد، وهذه موجودة، وشارك في تحريرها كثير من التونسيين، وشارك كثير من الجزائريين في تحرير الكثير من الجرائد التونسية.
ويبدو لي أن الجريدتين اللتين كان يشرف عليهما كل من عمر بن قدور، وعمر راسم كانتا متنفساً بالنسبة إلى المثقفين التونسيين، وقد اطلعت على
كثير من المقالات، عندما تقرأ لهذا لا تكاد تفرق بين مقال هنا، ومقال هناك. لماذا؟ لأن الهدف واحد، ولأن التكوين واحد، وليست هناك مصالح شخصية تدفع هؤلاء المثقفين.
إذن، نعود إلى إعطاء الوصف، وإعطاء المعنى الصحيح للمثقف، من هو المثقف؟
عندما أصل إلى من هو المثقف، في هذه الحالة. وهذا يتطلب منا أن نعود إلى الثقافة، ما هي الثقافة؟ فنحن اليوم -مع الأسف- نجلس إلى جانب ثقافتنا، ولا ننشط في داخلها؛ لأنها ممسوخة بتأثيرات خارجية كثيرة. ولست أدري إذا كانت الجامعة التونسية تتألم مما تتألم منه الجامعة الجزائرية.
فأنا لا يمكن أن أطلب من طلبة جامعيين يُعِدّون رسائل دكتوراه، أو رسائل ماجستير في موضوعات فلسفية، أو في موضوعات تاريخية أو اجتماعية، أو في علم النفس من دون وجود مدارس وطنية.
إذا كنا نطلب من المثقف أن يكون له دور. يجب أن نحدد ما هو نوع الثقافة، قبل أن نتحدث عن دور المثقف؛ لأنه إذا كان يرتوي من مَعين ليس هو ثقافة، فلا يمكن أن تطلب منه أن يقوم بدور المثقف. والسلام.