الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلافهم أشد طلبًا وأكثر استحبابًا، ولا يمكن معرفة هذا إلا بمعرفة أقوالهم ونقل مذاهبهم ولعل عملنا هذا أن يسهم في ذلك. وبالله التوفيق (1).
مكانة "مذهب الجمهور" عند العلماء وموقفهم منه
لا يمكن للمشتغل في الفقه الإِسلامي اشتغال الباحثين الغواصين في بحاره وبين درره ولآلئه أن يجهل أو يتجاهل مكانة قول الجمهور ومذهبهم عند أئمة الفقه وأهل العلم، ولعل هذه المكانه تبدو جليَّة للمطَّلع على كلام أهل هذا الفن ومصنفاتهم بأمور عدةٍ، منها ما ذكرناه في الصفحات الماضية ويضاف إليه أمور:
أولًا: إفراغ الوسع في عدم مخالفتهم أو الانفراد عنهم لا من قبيل المجاملة أو المداهنة، فليس في علوم الشريعة شيء من هذا أو ذاك وإنما اعتدادًا واعتبارًا بمدرك قولهم، وأدلة مذهبهم واجتماع كثرتهم على القول أو الرأي الواحد، فاجتماع عددهم مع توفر صفات العلم والتقوى والنزاهة مظنَّة الصواب والرأي السديد، وإنفراد غيرهم عنهم مظنة الخطأ والشطط والجنوح البعيد.
وكذلك كان فعل الأئمة إذا تعارضت عندهم الأدلة في المسألة ولم يتبين لهم فيها قول، فقول الجمهور لا مندوحه عنه أو التوقف في المسألة بِرُمتها.
فإذا عرفت هذا فلا غرابة أن يقول الإِمام الكبير أبو الزناد: وربَّما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيًا (2) .. اهـ.
وهذا مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله يقول:
إن حقّا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعًا لأكثر مَنْ مضى قبله (3).
وهذا الشافعي يحاج خصمه في مسألةِ بيع المدبر، فيحتج عليه خصمه بأن المنع من بيع المدبر هو قول أكثر الفقهاء، فيرد عليه الشافعي رحمه الله بقوله:
بل قول أكثر الفقهاء أن يباع، فيحتج الخصم أن أهل المدينة لا يقولونه، فيرد عليه
(1) انظر كلام الإِمام السيوطي على قاعدة "الخروج من الخلاف مستحب" في كتابه (الأشباه والنظائر) وشروط العمل بهذه القاعدة، وكتابه هذا نفيس في بابه وهو فن أو علم قواعد الفقه ص 136.
(2)
انظر فتح الباري في ج 26 ص 36.
(3)
رواه ابن وهب عنه. انظر مقدمة المدونة للإمام مالك.
الشافعي بذكر من يقول من أهل المدينة ومكة والعراق ببيعه ثم يقول رحمه الله:
وقول أكثر التابعين ببيعه فكيف ادعيت فيه الأكثر والأكثر ممن مضى عليك،. مع أنه لا حجة لأحدٍ مع السنة (1) .. اهـ.
ثانيًا: الاعتناء بنقل أقوال الجمهور ومذاهبهم، فقل أن ترى مصنفًا في فقه المذاهب إلا وصاحبه مهتم بنقل قول الجمهور في المسائل التي فيها قول، ابتداءً بالإمام الكبير أبي بكر ابن المنذر النيسابوري في القرن الثالث الهجري وانتهاءً بما يعلمه الله تعالى من عمر هذه الدنيا وبقاء علوم الفقه والشريعة، ومرورًا بالإمام الماوردي وابن عبد البر وابن رشد والقرطبي والقاضي عياض والخطابي والبغوي وابن قدامة والنووي والحافظ ابن حجر العسقلاني والبدر العيني والشوكاني وغيرهم كثير وكثير رحمهم الله تعالى وحشرنا في زمرتهم آمين.
ثالثًا: قد ذكرت فيما مضى تنويهًا اختلاف الأصوليين والفقهاء في الاحتجاج بقول جمهور العلماء، أو بانعقاد الإجماع مع مخالفة العدد اليسير من الفقهاء، فالذي عليه جمهور الأصوليين والفقهاء: أن الإجماع لا ينعقد ولو مع مخالفة المجتهد الواحد الموجود في عصر الأكثرين، وهو مذهب جماهير أصحاب أئمة المذاهب الأربعة، وذهب الغزالي رحمه الله إلى غير هذا، قال رحمه الله: والمذهب انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل.
ونقل الآمدي مذهب الغزالي عن محمَّد بن جرير الطبري وأيي الحسين الخياط، وألمح إلى هذا الشيخ أبو محمَّد الجويني والد إمام الحرمين، لكن مراده والله تعالى أعلم إجماع الأكثر مع عدم العلم بالأقل الذي خالف، قال -رحمه الله تعالى-: والشرط أن يجمع جمهور تلك الطبقة ووجوههم ومعظمهم، ولسنا نشترط قول جميعهم، وكيف نشترط ذلك وربما يكون في أقطار الأرض من المجتهدين من لم نسمع به فإن السلف الصالح كانوا يعلمون ويتسترون بالعلم (2).
ونقل عن ابن الحاجب أن إجماع الأكثر حجة، ولكنه ليس إجماعًا، وحكى الآمدي أن المخالفين للأكثر إذا بلغوا عدد التواتر قدح في الإجماع، وإلا فلا، وذكره بعضهم عن ابن جرير في الصحيح من معنى قوله في هذه المسألة، وقيل: إجماع الأكثر أولى وليس
(1) انظر معرفة السنن والآثار في ج 7 ص 528.
(2)
قال: كذا بالأصل ولعلَّ صوابه بالعمل أو بالخمول. قلت: ومعنى العبارة أن السلف رضي الله عنهم كانوا يكرهون التظاهر والاستعلان بالعلم خوفًا من المباهاة والتنافس على الدنيا والرياء