المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الحادي عشر: في وصف الجارية - نسيم الصبا

[ابن حبيب الحلبي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول: في السماء وزينتها

- ‌الفصل الثاني: في الشمس والقمر

- ‌الفصل الثالث: في السحاب والمطر

- ‌الفصل الرابع: في الليل والنهار

- ‌الفصل الخامس: في أقسام العام

- ‌الفصل السادس: في البحر والنهر

- ‌الفصل السابع: في المعقل والدار

- ‌الفصل الثامن: في الأشجار والثمار

- ‌الفصل التاسع: في الروض والأزهار

- ‌الفصل العاشر: في وصف الغلام

- ‌الفصل الحادي عشر: في وصف الجارية

- ‌الفصل الثاني عشر: في الشمعة والنار

- ‌الفصل الثالث عشر: في مدح العشق وذمه

- ‌الفصل الرابع عشر: في الفراق

- ‌الفصل الخامس عشر: في الاستعطاف

- ‌الفصل السادس عشر: في مجلس الشراب

- ‌الفصل السابع عشر: في الشيب والخضاب

- ‌الفصل الثامن عشر: في الخيل والإبل

- ‌الفصل التاسع عشر: في الوحش

- ‌الفصل العشرون: في الطيور

- ‌الفصل الحادي والعشرون: في الكتابة

- ‌الفصل الثاني والعشرون: في الحرب والسلاح

- ‌الفصل الثالث والعشرون: في رمي البندق

- ‌الفصل الرابع والعشرون: في الكرم والشجاعة

- ‌الفصل الخامس والعشرون: في العدل والاحسان

- ‌الفصل السادس والعشرون: في الشكر والثناء

- ‌الفصل السابع والعشرون: في الهناء

- ‌الفصل الثامن والعشرون: في الرثاء

- ‌الفصل التاسع والعشرون: في الحكم

- ‌الفصل الثلاثون: في المواعظ

الفصل: ‌الفصل الحادي عشر: في وصف الجارية

بروحي أفدي من ضربت من آجله

وقاسيت حر النار وهي تفور

رشاً ضاع ما بين الغلائل خصره

ألم ترني شوقاً عليه أدور

فخاطبناه في وضع السلاح فوضعه، وسألناه في رفع الحجاب فرفعه. وأخذ ينادمنا بأفصح لسان، ويجلو لنا عقائل أخلاقه الحسان، وينثر علينا من جواهر لفظه النظيم، ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. والزهور تضحك في الأكمام، والغصون ترقص على غناء الحمام، والنهر يصفق لتشبيب الريح في آفاقه، والدوح ينقطه بالدنانير من أوراقه، والعيون تجري بين أيدينا، والنسيم بطيب أنفاسه يحيينا، والروض يفرش لنا بساط سندسه، ويجلسنا حتى على أحداق نرجسه. ياله منظراً ما أنضره، وسروراً ما أوفاه وأوفره، ويوماً ما كان أطيبه وأقصره. ملكنا فيه زمام التهاني، وحصلنا على الأمان والأماني. ولم نزل نتمتع منه

بكل مطلوب، إلى أن آذنت الشمس بالغروب، فتأهب الغلام لمعاده، وعلا على ظهر جواده، ثم ودعنا وسار، وأودعنا الشوق والادكار وتركنا نتقلب على تلهب النار.

‌الفصل الحادي عشر: في وصف الجارية

تاقت نفسي إلى زيارة بعض الإخوان، فسرت إليه مشمراً

ص: 48

فضل الأردان، في ليلة سما قدرها، وتجلى على السماء بدرها.

فلما وصلت إليه، وانتظمت في سلك المجتمعين لديه، ظهر لي أنه متشوف إلى قادم، ومتشوق إلى حضور منادم: فكشفت الخبر وتقمصت الأثر، فقيل لي إنه واعد بعض الحسان، وهو منتظر إياب الإحسان. فما أتممت الكلام واتصلت من العلم إلى المرام، إلا وقد أقبلت من الباب، خود تختلس الألباب، غادة رؤود طفلة أملود. كاعب رداح، ترتاح لها الأرواح. عديمة المثال، نشأت في حجر الدلال. يسرح الطرف في روض جمالها وينتزه، وتمحو بكثير محاسنها البديعة ذكر عزة، في حليها وحللها تميد وتميل، وبالجملة فهي بثينة الحسن لأن وجهها جميل.

فوقفت واستأنست، ثم سلمت وجلست، فسر الجماعة بورودها، وتملوا من جنة وجنتيها بورودها. وأقبل يمن إقبالهم، وأنشد لسان حالهم:

أهلاً وسهلاً من غادة سمحت

بالوصل ليلاً ولم تحذر من الحرس

لما تبدت أضا الداجي، ولا عجب

فطرة الصبح تمحو آية الغلس

فلما كشفت القناع، وصدق النظر السماع، تأملت أوصافها، وسبرت شمائلها وأعطافها، فرأيت ما يشرف النظر ويشنف السمع، ويذيب القلوب على ناره ذوب الشمع.

ص: 49

فمن فرع نامي الأوراق،

مرسل لتعذيب العشاق، جثل أسحم يتلوى كالأرقم، غدائره مجمدة كالغدير، وضفائره مظفرة بقتل الأسير:

كأنها فيه نهار ساطع

وكأنه ليل عليها مظلم

ووجه مشرق الأنوار، تحج إلى كعبته الأبصار. يزين اللآلئ والدرر، ويستمد من ضوئه الشمس والقمر، مرآته صقيلة، ومعاني حسنه جميلة. يترقرق فيه ماء الصبا، ويخفي من لمعه بروق الظبا:

عوذت بالسور المنيرة وجهها

وهو الجدير بأن يكون معوذا

وجبين واضح، تحن إليه الجوارح، يتلألأ مصباحه، ويتبلج في ليل الطرة صباحه:

فتاة يسر القلب والطرف حسنها

كأن الثريا علقت في جبينها

وحواجب تذيب المهج، وتجذب الأرواح من قسيها بقبضة البلج كأنها هلال محني القوام، أو فخ نصب لصيد أهل الغرام:

إذا شمت تحت الحاجبين جفونها

ترى السحر منها قاب قوسين أو أدنى

وعيون بابلية، كم أوقعت لمن إليها صبا بلية، تسل السيوف، وترسل الحتوف، صحاح مراض، ليس لسهامها سوى القلوب أغراض:

ص: 50

لله أي لواحظ غلابة

للأسد في وثباتها وثباتها

وخد كالجلنار، قد جمع بين الماء والنار، يشف الراح في زجاجه، ويهتدي الحائر بنور سراجه. يزهو بورده الأحمر الطري، وأظنه من دم المحبين غير بري:

تركية للقان ينسب خدها

واشقوتي منها بخد قاني

وخال يختال في أحلى الحلل، له من الأقراط والشنوف خول. كأنه من الدائرة قطبها، ومن القلوب المتقلبة على نار حبها:

فتنت بخال فوق خدك صانه

أبوك فويلي من أبيك وخالك

ومرشف عذب الأرياق، رضابه لسليم الهوى نعم الدرياق. فيه ماء مبرد، وثغر جوهري صحاحه منضد، ولعس يهيم به ذو الشوق، وشهد يشهد بحلاوته الذوق:

وبه شراب مسكر ما ذاقته

لكنني أروي عن المسواك

وعنق كعنق ريم، در عقوده نظيم. يطوف الحلي بأركانه، ويملك الرق بورقه وعقيانه:

وجيد جداية لا عيب فيه

سوى منع المحب من العناق

ونهود كالعاج، ملتحفة بمروط الديباج، رفيعة المنار، شغلت الحلي أن يعار. إن ثنيتها لم تجد عندها عطفاً لمرتاح، وإن لثمتها نشقت من الرمان عرف التفاح:

ص: 51

كحقين من لبّ كافورة

برأسيهما نقطتا عنبر

وبنان رطيب، على مثله يدور الخطيب، مقبل بالأفواه، مصافح بالجباه، فضّيّ الإهاب، مرقوم بالخضاب:

فما أعذب السكب من أدمعي

وأحلى المشبك من نقشها

وقوام يقيم الحروب، ويثير كرّ الكروب. كامل الحسن مهفهف، وافر الدالّ مثقف. الرماح تخضع لديه، والأغصان تسجد بين يديه:

وقد روت عن لينه واعتداله

صحاح العوالي مسنداً بعد مسند

وخصر نحيل، يشكو من ردفها الثقيل. ليس فيه حظ للمجتني لو سألتها عنه لقالت فني:

عيون الناظرين به أحاطت

فلم تحتج إلى عقد الوشاح

وأردافٍ كالأحقاف، وعدها موسوم بالإخلاف، خارجة عن العادة، لكن فيها للمحبين الحسنى وزيادة:

تمشي بأردافٍ أبين قعودها

بين النساء كما أبين قيامها

وسوقٍ جمد ماؤها، وبهر الأعين ضياؤها. مشرقة النور، قصبها من بلور:

لو لم يكن من برد ساقها

لاحترقت من نار خلخالها.

ص: 52

وأقدام لها على الفتك إقدام. تمشي كالقطا ولا تخطئ قياس الخطا:

كأن مشيتها من بيت جارتها

مرّ السحابة، لا ريث ولا عجل

وعليها من الحلي والحلل، ما يفتن العقول ويدهش المقل. فمن در ثمين كثغرها، وبلور صافٍ كصدرها، وعقيق كشفتيها، وياقوت كوجنتيها. وسبج كأجفانها، وزمرذ كنقش بنانها، وقميص رقيق الحواشي، ومطرف يحار في وصفه الناشي:

إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً

إذا ما اسبكرّت بين درع ومجول

فلما أنست بالقوم، كفّت عنها لسان اللوم، وظهرت عن خلقٍ وسيم، وطباع ألطف من النسيم، ومنادمة تطرب الأسماع، ومداعبةٍ ما الصبر عنها بمستطاع، وملحٍ ألذ من الزلال، وحديث لو لم يجن قتل المحبّ لقيل هو السحر الحلال.

وحديثها السحر الحلال لو أنه

لم يجن قتل المسلم المتحرز

إن طال لم يملل، وإن هي أوجزت

ودّ المحدّث أنها لم توجز

والسعد يطلع نجمه، والشمع واقف في الخدمة. وعرف الطيب يفوح، وأعلام الهناء تلوح، وشمل الضد مفرق، والعود يحرك ويحرق. يا له ليلة محي ظلامها ونور الأفق ابتسامها، وحليت عروسها، وطلعت حارقةً للعادة شموسها. لم ير فيها ما يشين ويعيب،

ص: 53