المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس عشر: في مجلس الشراب - نسيم الصبا

[ابن حبيب الحلبي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول: في السماء وزينتها

- ‌الفصل الثاني: في الشمس والقمر

- ‌الفصل الثالث: في السحاب والمطر

- ‌الفصل الرابع: في الليل والنهار

- ‌الفصل الخامس: في أقسام العام

- ‌الفصل السادس: في البحر والنهر

- ‌الفصل السابع: في المعقل والدار

- ‌الفصل الثامن: في الأشجار والثمار

- ‌الفصل التاسع: في الروض والأزهار

- ‌الفصل العاشر: في وصف الغلام

- ‌الفصل الحادي عشر: في وصف الجارية

- ‌الفصل الثاني عشر: في الشمعة والنار

- ‌الفصل الثالث عشر: في مدح العشق وذمه

- ‌الفصل الرابع عشر: في الفراق

- ‌الفصل الخامس عشر: في الاستعطاف

- ‌الفصل السادس عشر: في مجلس الشراب

- ‌الفصل السابع عشر: في الشيب والخضاب

- ‌الفصل الثامن عشر: في الخيل والإبل

- ‌الفصل التاسع عشر: في الوحش

- ‌الفصل العشرون: في الطيور

- ‌الفصل الحادي والعشرون: في الكتابة

- ‌الفصل الثاني والعشرون: في الحرب والسلاح

- ‌الفصل الثالث والعشرون: في رمي البندق

- ‌الفصل الرابع والعشرون: في الكرم والشجاعة

- ‌الفصل الخامس والعشرون: في العدل والاحسان

- ‌الفصل السادس والعشرون: في الشكر والثناء

- ‌الفصل السابع والعشرون: في الهناء

- ‌الفصل الثامن والعشرون: في الرثاء

- ‌الفصل التاسع والعشرون: في الحكم

- ‌الفصل الثلاثون: في المواعظ

الفصل: ‌الفصل السادس عشر: في مجلس الشراب

وأكلف اللسان مكابدة حمل الكتمان، وأسر من الصبابة ما أعلنه دمع الأجفان. أتكتم رائحة الطلا؟ وهل يخفى على ذوي الأبصار ابن جلا؟ لقد برح الخفاء، وأطلت يا رقيق الحاشية شقة الجفاء، وأشمت الأعادي، ومددت ظل التمادي، وزدت في الهجر والبعاد، وكلمت القلب بألسنة الصعاد. فجد بالتداني، واسمح بنيل الأماني، وارحم والهاً وأبدت ظلمة الفراق فرقه، وتصدق على مدنف سائل دمعه يقبل الصدقة. وألن قلبك القاسي، وعد عن التنائي والتناسي، وارع الود القديم، وأبدل شقاء محبك بالنعيم، ولا تعدل عن منهاج المعدلة، وسلم فقد أخذت حقها المسألة. واغمد سيف حيف صيرته مسلولا، وأوف بالعهد {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} .

‌الفصل السادس عشر: في مجلس الشراب

كان لي صديق مغرى بشرب الرحيق. غزير الفضل والآداب، كثير اللهج بذكر مجالس الشراب، وكان يود حضوري عنده، وأنا لا أبلغه مما يود قصده. فأتاني حيناً من الأحيان، يدعوني إلى مجلس بعض الأعيان، وألزمني بأن أحالفه، مقيماً على ألا أخالفه، فأجبت إلى المحاضرة، مشترطاً عدم المعاقرة. فقال: أجل أيها الأجلّ، وسآتيك إذا هزم النهار واضمحل. فلما آنس قدوم الليل، آب يسحب سحائب الذيل، وهو يقول:

ص: 67

يا من به ينفى الكمد

ويثبت العيش الرغد

جد بالوفا قد آن أن

ينجز حر ما وعد

فمضيت صحبته إلى دار، جرى بها فلك السعد ودار، عالية الجناب، رفيعة القباب. فاخترقنا أستارها، واجتلينا أقمارها، حتى انتهينا إلى مجلس فسيح، قدح الفائز بأقداحه غير منيح.

لا تسمع الآذان في جنباته

إلا ترنم ألسن العيدان

أو صوت تصفيق الجليس ونقره

وبكاء راووق وضحك قناني

يشتمل على ندمان، لا يسمح بمثلهم الزمان. حاشيتهم أرق من النسيم، ومزاج كاساتهم من تسنيم. إن نظموا أودعوا أصداف المسامع دراً، وإن نثروا نفثوا في عقد العقول سحراً.

تنازعوا درة الصهباء بينهم

وأوجبو لرضيع الكأس ما يجب

لا يحفظون على النشوان زلته

ولا يريبك من أخلاقهم ريب

بينهم سقاة حسنت صفاتهم، وتكفلت بالإنصاف كفاتهم. كم فيهم ذو وجه جميل، وده صحيح وجفنه عليل. سمهري القوام، جوهري الكلام. تنعطف الأغصان سجداً لعطفه، ويسقي بطرفه أضعاف ما يسقي بكفه:

ساق غدا يحكيه من

بان النقا وريقه

واظمئي وكالزلا

ل خمره وريقه

ص: 68

أيديهم أقداح، تفتح أبواب الأفراح، وملاكها ملوك أكاسرة على الأسرة. النور ضمن إزارها، ومعدن الذهب في قرارها. تعدل وهي جائرة، وتنشد وهي دائرة:

صل الراح بالراحات واقدح مسرة

بأقداحها واعكف على لذة الشرب

ولا تخش من ذنب فأوراق كرمها

أكف غدت تستغفر الله للذنب

وأباريق تسجد لربها، وتقبل الأرض لدى صبها. كم أصلحت فساد مزاج، وأوضحت منهاج ابتهاج. تحكي إوزاً معوجة الرقاب، أو ظباءً أشرفن من ذرى الهضاب:

وكأنما الإبريق عند ركوعه

والإثم يلثم ثغره المنعوتا

طير بمنقار له من لؤلؤ

لما أسف تناول الياقوتا

وأكواب مصفرة الأثواب، تغني عن المصباح، وتهدي ريح التفاح. تبعث على الحماسة والسماحة، وتتعب سوق ساقيها القلب وهي في راحة:

لله أكواب همومي حرمت

لما أباحت خمرها المسكوبا

نار ولم تحرق، وإن أنكرت ما

أوردته يا صاح فالمس كوبا

وكؤوس تسر بحسنها النفوس. ثغورها باسمة، ومناهلها لمادة الأسى حاسمة. تحمد عند الصبوح والغبوق، وتشرح الصدور في حالتي الغروب والشروق.

ص: 69

ولرب ساق محسن في كفه

كأس برؤيتها نفى عنا العنا

وعلى ذراها ليس يبرح ناصباً

شبك اللآلي كي يصيد لنا الهنا

وينطوي على قيان، ينشدن البديع من سحر البيان. لهن أصوات، توقظ أعين اللذات. يشنفن الأسماع، ويتقن أجناس الإيقاع:

قيان حكين البدر حسناً وبهجة

زمان الذي يحظى بهن وسيم

إذا هن ألقين الغناء بمجلس

فمعبد والغريض هشيم

وبه شمع يدهش الأبصار، ويحيى ما مات من ضوء النهار. دبيقي الملابس، عقيقي القلانس. وافر الأدب والهمة، لا يبرح واقفاً في الخدمة:

من كل هيفاء تهوى الشمس رؤيتها

بكت وأنت فلاح الماء واللهب

تجلى على السراب في ثوب لها يقق

كحية من لجين رأسها ذهب

وفيه أنواع من الشراب، تلمع في أوانيها كلمع السراب. فمن خرطوم، تخفي بدر حبابها النجوم، وشمول تشمل القوم بالقبول. ومشعشة منازل كواكبها مرتفعة، وعاتق تقدم عصرها، وخف على النديم أمرها. وخابية حانية، قطوف كرومها دانية:

ص: 70

وطوس وقنديل عقار وقرقف

مدام وإسفنط سلاف وجريال

طلاً وسباء والحميا وقهوة

كميت، شموس، خندريس وسلسال

إلى غير ذلك من روح وريحان، ومحاسن وإحسان. ومسموع ومشموم، ومشروب ومطعوم. وعود يحرق ويحرك، ومسك في الصحاف يفتت ويفرك. وقريض ينشد، وعرف ضائع لا ينشد، وبم وزير، وجنة وحرير، وزهور ومزاهر، وملح ونوادر، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون:

أيا نديمي لو شاهدت وقفتنا

في مجلس اللهو حيث الخصم مغلوب

والدف والدن مضروب ومنكسر

والزق يذبح والراووق مصلوب

وبالجملة فإني عاينت من التفضيل، ما يغني عن التفصيل، وكاد ثقيل الطرب يستخفني لولا عناية الملك الجليل. ثم نظرت وإذا أمر القوم قد اضطرب، والعترفان يخبر عن ذنب السرحان بحسن المنقلب، فأشرت إلى صاحبي بالنقلة، وعرفته أن الليل قد عزم على الرحلة. فقام يهتز من السكر اهتزاز الأفنان. وانصرفنا، وأنا أمشي كالرخ وهو يمشي كالفرزان. فلما صرنا إلى البيت، خر صعقاً كالميت. فجلست معرضاً عن الكرى، متفكراً فيما قد جرى، لائماً نفسي على اتباع الهوى، ذاماً لها على معاشرة من ضل وغوى. ثم إني

ص: 71