الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلم تزل تضطرم، وتستعر وتحتدم، إلى أن خمد لظى جمرها، وغاض ماء شررها وشرها، واضطجعت في مهادها، تحكي تحت غطاء رمادها:
دماً جرى من فواختٍ ذبحت
…
عليه من ريشهن منشور
فراقني ما شاهدت من حالهما، وأمعنت النظر في منقلبهما ومآلهما، وقمت من شكر المنعم بأداء الفرض، وقلت بلسان التعظيم:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
ثم إن الصحب مالوا إلى الكرى، وطال عليهم - مع كونهم جلوساً - شقة السرى، فوثبنا لاقتفاء أثر ما تقر عين الهاجع، وسألنا الحي القيوم أن يجعلنا من الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
الفصل الثالث عشر: في مدح العشق وذمه
سألني بعض المائلين إلى الهوى، المصابين بسهام الصبابة والجوى - الساهرين في الليل الطويل الذوائب، الذين صرفوا على المحبة حبات قلوبهم الذوائب - عن مراتب العشق وضروبه، وقبائل الحب وشعوبه، وهزله وجده، وجزره ومده، وشواهد شهده وسمه، وما قيل في مدحه وذمه، فأجبته إلى سؤاله، وجمعت بينه وبين آماله:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها
…
خبير أجل عندي بأوصافها علم
يا هذا إن أول العشق استحسان من يلائم الطبع من الجواري والغلمان، تحدث منه إرادة القرب والمودة، ثم يقوى الود فيكون حباً لا يمكن القلب رده. فإذا استحكمت المحبة في القلوب، عادت هوى يهوي بصاحبه في اختيار المحبوب، ثم يصير عشقاً ثم تتيماً ثم يرجع ولهاً على العقول مخيماً، وهو طمع في القلوب يتولد، يعظم بالحرص على الطلب ويتأكد. يخفى عن الأبصار، ويهيج باللجاج والتذكار، كامن كالنار في الحجر، والزهر في الشجر. إن قدحته أورى، وإن سقيته أخرج نوراً:
العشق أول ما يكون مجانة
…
فإذا تحكم صار شغلا شاغلا
فأما أوصافه الممدوحة فإنه جليس ممتع بمشاهدته، وأليف مؤنس بمنادمته، مسالكه لطيفة، وممالكه شريفة. برق لامع، ونور ساطع. تستضيء به نواظر العقول، ويفعل في الشمائل مالا تفعله الشمول، ويتصل بجواهر النفوس، فيزيل عنها لبوس البوس، فرح يجول في الروح، وارتياح يغدو في القلب ويروح، وسانح ينشر من البشر ما انطوى، وسرور ينساب في أجزاء القوى:
إذا أنت لم تطرب ولم تدر ما الهوى
…
فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
يطلق اللسان، ويشجع الجبان، ويصفي الأذهان. يولد
الأخلاق الجميلة، ويرغب في اكتساب الفضيلة، ويفتح للبليد باب الحيلة، ويرفع لواء الهمم، ويبعث على الحزم والكرم. يلطف الطباع
ويشنف الأسماع، ويدعو إلى تحسين اللباس، ويستعمل بالرياضة أهل الشماس، لا يقع فيه إلا من قليب قلبه صافي، ولا يسلم منه إلا كل جلف جافي:
فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به
…
شهيداً وإلا فالغرام له أهل
وأما أوصافه المذمومة: فإنه ملك قاهر، وحاكم جائر. هزله جد وراحته تعب، وأوله لعب
وآخره عطب. يعتري النفوس العاطلة والقلوب الفارغة، ويكسف من الآراء شموسها البازغة، ويسوق إلى وليه غمام الغم، ويهيم في وادي الهم. يذهب العقل، ويمرض الجسد، ويقوي الفكر ويضعف الجلد، ترتعد منه الفرائص، وتتقد به نار النقائص. يستعبد الأحرار، ويستأثر ذوي الأقدار، ويصفر الأبدان، ويوقع في الذل والهوان:
وكنت أظن الهوى هيناً
…
فلاقيت منه عذاباً مهينا
يورث الأسف والحرق، ويجلب الوسواس والأرق، ويجدد ملابس الوجد والألم، ويمنع عن الاشتغال بالعلوم والحكم. يحالف أرباب الشبهات، ويستخدمهم في تدبير الشهوات، ويعطل عن المصالح، ويجرح بمديته الجوارح. من جنده الغرام