الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى باب من بيده الملك وهو على كل شيء قدير، واخش من يعلم السر وأخفى، {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
الفصل الثلاثون: في المواعظ
أعلمني من أثق بنقله، ولا أشك في معرفته وفضله، بقدوم بليغ من الوعاظ، يبرز دقائق المعاني في جليل الألفاظ. وأشار بحضور مجلسه، والاهتداء بضوء قبسه، فقبلت الإشارة، وانتظمت في سلك السيارة. حتى أفضينا إلى ناد فسيح، لسان مناديه فصيح، قد جمع بين الغني والفقير، واشتمل على المأمور والأمير. وإذا بشيخ قائم في بهرة حلقته، يفتن بسحر الكلام قلوب فرقته. فسمعته يقول: أيها الناس، ما الموت بساه ولا ناس، فتأهبوا لحلوله، واستعدوا له قبل نزوله، وحصلوا الراحلة والزاد، وردوا العاصي إلى الطريق فقد زاد، ولا تعدلوا عن محجة الحجا، واتقوا دعوة المظلوم في ظلام الدجا، وامنوا بالقدر خيره وشره، وارضوا بالقضاء حلوه ومره، وأفرغوا ذنوب الذنوب وافزعوا إلى علام الغيوب، وامنعوا من الأمل ما كان جموحا، وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً:
وتجنبوا سبق الخطا فلكم هوى
…
رب الهوى من حصنه وعقابه
وتمسكوا بجناب تقوى ربكم
…
كي تسلموا من خزيه وعقابه
وإياكم والدنيا فإنها تمكر بصاحبها، وتهدي إلى أقاربها سم عقاربها. عامرها خراب، وغامرها سراب. أمدها قصير، وإلى الفناء تصير. صفوها كدر وجرحها هدر، والخاطر بها على خطر. لأنها لا تبقي ولا تذر، بحرها العميق، كم له من غريق. فاركبوا فيها من التقى فلكا منيعة، واجعلوا شراعها التمسك بعرا الشريعة، لعلكم تبلغون الساحل، ويقدم بشير بشركم الراحل، وهي قنطرة فاعبروها ولا تعمروها، واخشوا عيون شركها المفتوحة لكسركم واحذروها:
مجاز حقيقتها فاعبروا
…
ولا تعمروا، هونوها تهن
فما حسن بيت له زخرف
…
تراه إذا زلزلت لم يكن؟
ابن آدم ما أكثر حرضك، وشرك ومرضك، وأجزل حرصك وأشرك، وأقوى على من دونك ظفرك، وأضعف بمن فوقك ظفرك، وأخجل من يؤنبك، وأتعب من يتعبك، ووثبك إلى صيد الحرام، وأشد شرهك على الحطام. أما علمت أن الشره، في عين الرجل مره؟ لا بالقليل تقنع، ولا من الكثير تشبع، ولا إلى المواعظ تصغي، ولا تبغي أنك لا تبغي. أنفاسك معدودة وأوقاتك محدودة، ومالك عارية مردودة، وذاتك الموجودة عن قريب مفقودة:
وما المال والأهلون إلا ودائع
…
ولا بد يوما أن ترد الودائع
ويحك أتحسب أنك تترك سدى؟ أو أن الحقوق تبطل بطول المدى؟ كلا يا كليل الذهن، لتبعثن يوم تكون الجبال كالعهن، ولتحاسبن على الذرة والبرة إن الله لا يظلم مثقال ذرة:
تنبه أيها المغرور واسأل
…
إلهك مرة من بعد مره
وقف بالباب معتذراً لتحظى
…
من البر المهيمن بالمبره
ولا تركن إلى الدنيا ففيها
…
من الأحزان ما يخفي المسره
ألا بعداً لها من دار قوم
…
بها يرضون وهي لهم مضره
تعر من الذنوب، فعن قريب
…
تحل من الممات بك المعره
وبالنزر إقتنع، فالحرص ذل
…
وإياك الهوى وتوق شره
وحلو العيش لا تقربه واصبر
…
وإن كانت حميا الصبر مره
يا أرباب الملابس الفاخرة، الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة. وما هذه الغفلة التي رانت على قلوبكم؟! ما هذا الطمع الذي ألحق بالعبيد أحراركم؟! آما آن لكم أن تنيبوا؟ وتصغوا إلى داعي الفلاح وتجيبوا؟ بلى والله آن، وظهر فجر الحق وبان، فاجنحوا إلى الطاعة، ولازموا أهل السنة والجماعة، واشتملوا على الخيرات قبل أن تمزقوا، {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ} ، وأخلصوا في الأعمال، واقطعوا حبائل الآمال، وتزودوا
للرحيل عن الوطن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحلوا بعقود المكارم، وتخلوا عن انتهاك المحارم، وجدوا كي تنالوا جد المجتهدين، {وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، واعقلوا بالشكر شوارد النعم، وصونوا أعراضكم ببذل النعم، واتخذوا الصبر على البلوى عدة وجنة، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة:
أحسن بها من جنة عالية
…
قطوفها للمجتني دانيه
آذان أهليها أولي العزم لا
…
تسمع فيها أبداً لاغيه
وجوههم فيها - ويا حسنها -
…
ناعمة مرضية راضيه
الحور والولدان من حولهم
…
يسعون في روضاتها الزاهية
كم سرر للوفد مرفوعة
…
فيها، وكم من أعين جاريه
مبثوثة فيها زرابيها
…
موضوعة أكوابها الصافية
فاجتهدوا كي تدخلوها غداً
…
يوم دخول الفرقة الناجية
إلام تهتمون في إدراك الغرض؟! وتذهبون جوهر نفوسكم في تحصيل العرض؟! وتستبدلون الضلالة بالهدى؟! وترتدون بما يوقعكم في الردى. وتسمحون بشركم وتبخلون بخيركم؟! وتسوفون بالعمل كأن منفعته لغيركم؟! ألا حسنوا الصفات، لتكريم الذات. وأكثروا من ذكر هاذم اللذات واستيقظوا من سنة الفترة واتقوا النار ولو بشق تمره، فأنى بكم
إذا أصبحتم أمواتاً؟! وعدتم بعد الرفاهية رفاتاً؟! ونقلتم إلى دار البلى، وأجيب السائل عن بقائكم بلا؟! وفجع بكم الأحباب، وغلقت دونكم الأبواب؟! وانقلبتم في قليب البرزخ، وأضحت عقودكم تحل وتفسخ؟! أم كيف بكم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور؟! ووقفتم للعرض على من بيده مقاليد الأمور؟! {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} .
ثم إنه بسط للدعاء يديه، وأجرى سوابق دمعه على خديه. فبكى القوم لبكائه، وأمنوا على صالح دعائه. فلما فرغ اقبل الناس إليه، وأكثروا من تعظيمه والثناء عليه. فمن لاثم راحته، وقاصد بالجود راحته، وملتمس بركة عنايته، وناطق بشكر نصحه وهدايته. وهو يروح أرواحهم المكروبة، ويسقي كل واحد منهم مشروبه. ثم ولى يتهادى بين صحابته، وانسحبت عنا أذيال سحابته.
فمضيت قرير الناظر، منشرح للصدر والخاطر، متعظاً بما استمعت من قول النصيح، مستنشقاً من عرف الشيخ عرف الشيح، حامداً صحبة المشير الذي لم يزل من المحسنين، مصلياً على من أنزل عليه:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
هذا آخر ما نطق به لسان اليراع، وانتهى ما أورده نسيم الصبا من أحباره الطيبة على الأسماع. والله المسئول في غفر الذنوب
وستر العوار، ومسامحة ذي اللعب والخوض، بوروده الحوض، يوم الأوار. وله الحمد على سابغ نعمه، وما من به من فيض فضله ودوام ديمه. والصلاة والسلام، على صاحب المقال والمقام، سيدنا محمد المؤيد باللسن والبراعة صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الساعة آمين.