المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(كتاب الاجتهاد في الفروع) - نشر البنود على مراقي السعود - جـ ٢

[الشنقيطي، عبد الله بن إبراهيم]

الفصل: ‌(كتاب الاجتهاد في الفروع)

(كتاب الاجتهاد في الفروع)

وهو المراد بالاجتهاد عند الإطلاق والاجتهاد من الجهد بالفتح والضم بذل الطاقة فيما فيه مشقة يقال اجتهد في حمل الصخرة العظيمة ولا يقال اجتهد في حمل النواة وقال القرافي فرقت العرب بين الجهد بفتح الجيم وضمها فبالفتح المشقة وبالضم الطاقة ومنه والذين لا يجدون إلا جهدهم أي طاقتهم والاجتهاد في الاصطلاح ما أشار له بقوله:

(بذل الفقيه الوسع أن يحصلًا

ظنا بأن ذاك حتم مثلًا)

يعني أن الاجتهاد في اصطلاح أهل هذا الفن هو بذل الفقيه وسعه بضم الواو أي طاقته في النظر في الأدلة لأجل أن يحصل عنده الظن أو بالقطع بأن حكم الله في في مسئلة كذا أنه واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه أو حرام ولذلك قلنا مثلًا بالتحريك وخرج بالفقيه المقلد وخرج استفراغ غير الفقيه طاقته لتحصل ما ذكر والظن المحصل اللازم للاستفزاع المذكور هو الفقه المعرف أوب الكتاب واستفراغ الفقيه طاقته لتحصيل قطع بحكم عقلي.

(وذاك مجتهد رديف) ذاك إشارة إلى الفقيه المذكورة في تعريف الاجتهاد يعني أن الفقيه والمجتهد مترادفان في عرف أهل الأصول والفقيه في عرف الفقهاء من تجوز له الفتوى من مجتهد ومقلد وفي العرف اليوم من مارس الفروع وأن لم تجز له الفتوى وتظهر ثمرة ذلك فيما كالوصية والوقف على الفقهاء ومن تجوز له الفتوى المجتهد المطلق والمجتهد المقيد مجتهد مذهب كان أو مجتهد فتيا وغير المجتهد إذا كان عالما بالأصول أو جاهلًا لها بشرطه الأتي في قولنا لجاهل الأصول البيت ولحقيقة المجتهد شروط ذكرها بقوله.

(وما له يحقق التكليف) ما مبتدأ خبره التكليف ويحقق مبنى للفاعل والضمير المجرور للمجتهد يعني أن المجتهد لا يكون مجتهدًا إلا

ص: 315

إذا ثبتت له هذه الشروط التي منها التكليف لأن غير المكلف من صبى ومجنون لم يكمل عقله حتى يعتبر قوله وأحرى أن لم يكن له عقل أصلًا.

(وهو شديد الفهم طبعا) يعني أن المجتهد لابد فيه أن يكون شديد الفهم طلعا أي سجية لمقاصد الشارع في كلامه لأن الفقيه المرادف له من فقه الإنسان بالضم إذا صار الفقه سجية له لأن غيره لا يتأتي له الاستنباط المقصود بالاجتهاد:

(واحنلف

فيمن بانكار القياس قد عرف)

يعني أنه وقع الخلاف فيمن أنكر حجية القياس من المجتهدين كالظاهرية هل يعد من أهل الاجتهاد وهو اختيار السبكي والقاضي عبد الوهاب إذ لا يخرجه انكار القياس عن فقاهة النفس أولا يعد منهم وهو خارج بانكاره عنها أولا يعد إذا انكر القياس الجلى لخروجه بانكاره عنها لظهوره جموده.

قد عرف التكليف بالدليل

ذي العقل قبل صارف النقول

يعني أن من شروط المجتهد أن يكون عارفا بأنه مكلف بالتمسك بالجليل العقلي أي البراءة الأصلية إلى أن يصرف عنه صارف من النقل أي الشرع فإن صرف عنه ذلك الصارف عمل بذلك الصارف كان ذلك الصارف نصًا أو إجماعًا أو قياسًا وسميت البراءة الأصلية دليلًا عقليا لأنها موجودة من العقل والنقول جمع نقل.

والنحو والميزان واللغة مع

علم الأصول وبلاغة جمع

النحو مفعول جمع قدم عليه والاثنان بعده معطوفان عليه يعني أنه يشتط في المجتهد أن يكون عارفا بالنحو الشامل للتصريف وعارفًا بعلم المنطق وهو المراد بالميزان أي عارفًا بالمحتاج إليه منه كشرائط الحدود والرسوم وشرائط البراهين وعارفًا باللغة عربية كانت أو شرعية.

ص: 316

أو عرفية وعارفا بعلم الأصول وبعلم البلاغة من معان وبيان وكلما كمل معرفة واحد من تلك العلوم كان الاجتهاد أتم ولا يقال كيف تشترط معرفة علم الأصول مع أن جمهور المجتهدين كانوا متبحرين في الاجتهاد ولم يكن هذا العلم إذ ذاك مدونا بل يكفي كونه ذا فهم صحيح لأنا نقول ليس المراد معرفته بهذه الاصطلاحات الحادثة بل المراد معرفة ذات قواعده مدونة كانت أم لا عرفها بالطبع أو التعلم وإلا لزم عدم اشتراط العربية وغيرها فإن أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا في غاية في الاجتهاد ولم تكن إذ ذاك العربية ولا غيرها مدونة وقد تقدم هذا في قولنا أول من آلفه في الكتب الخ:

وموضع الأحكام دون شرط

حفظ المتون عند أهل الضبط

بنصب موضع بالعطف على النحو يعني أنه يشترط في المجتهد أن يكون عارفا بمواضع الأحكام من المصحف والأحاديث ولا تنحصر آيات الأحكام في خمسمائة آية على الصحيح قال القرافي ولا يشترط حفظ المتون أي ألفاظًا تلك الآيات والأحاديث عند أهل الضبط أي الإتقان وهم أهل الفن وأن كان حفظها أحسن وأكمل بل يكفيه في الأحاديث أن يكون عنده من كتبها ما إذا راجعه فلم يجد فيه ما يدل على حكم الواقعة ظن أنها لا نص فيها ومثله الرافعي بسنن أبي داوود واعترض بأن سنن أبي داوود لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمه.

قال المحلى أما علمه بآيات الأحكام وأحاديثها أي مواقعها وأن لم يحفظها فلأنه المستنبط منه وأما علمه بأصول الفقه فلأنه يعرف به كيفية الاستنباط وغيرها مما يحتاج إليه وأما علمه بالباقي فلأنه لا يفهم المراد من المستنبط منه ألا به لأنه عربي بليغ انتهى.

وقال حلولو الخامس كونه عارفًا بالعربية من لغة وصناعة نحو وبلاغة على وجه يتيسر به فهم خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال والتوصل إلى التمييز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله ومجازه وعامه وخاصة وما في معنى ذلك انتهى.

ص: 317

(ذو رتبة وسطى في كل ما غبر) يعني أنه يشترط في المجتهد أن يبلغ الرتبة الوسطى في كل ما غبر أي مضى ذكره من العلووم فلا يكفيه الأقل ولا يحتاج إلى بلوغ الغاية وقيل يشترط التبحر فيما يختلف بسببه المعنى ويكتفي بالتوسط فيما عدى ذلك ويجب في معرفة اللغة الزيادة على التوسط حتى لا يشذ عنه المستعمل في الكلام في غالب الأوقات وعلى هذا لا تشترط معرفة الغريب الوحشي وهو منسوب إلى الوحش الذي يسكن القفاز استعير للألفاظ التي لم يعهد التكلم بها كقوله تكاكاتم على تكاكاكم على ذي جنة أفر نقعوا عنى.

(وعلم الاجماعات مما يعتبر) علم مبتدأ خبره مما يعتبر يعني أن معرفة مواضع الإجماع شرط في إيقاع الاجتهاد كي لا يخرقه لا شرط في كونه صفة فيه بحيث لا يوصف الشخص بقيام الاجتهاد الذي هو الاقتدار على الاستنباط بدون معرفته لذلك وكذلك يشترط معرفة مواضع الخلاف خوف أحداث تفصيل أو قول ثالث كما تقدم في كتاب الإجماع والمراد بمعرفة مواضع الإجماع معرفتها ولو إجمالاً بأن يعرف أن مسئلته المجتهد هو فيها ليست من مسائل الإجماع.

(كشرط الآحاد وما تواترا) الكاف للتشبيه يعني أنه يشترط في إيقاع الاجتهاد كونه عارفًا شروط الخبر المتواتر من كونه خبر جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب عن محسوس وعارفًا شروط خبر الآحاد وهو ما فقد فيه قيد من تلك القيود وإنما اشترط ذلك ليقدم عند التعارض المتواتر على خبر الآحاد وإذا لم يكن عارفًا ذلك فقد يعكس لكن معرفة ما ذكر من علم الأصول أنه شرط في اتصافه بالاجتهاد عند غير تقى الدين السبكى.

(وما صحيحًا أو ضعيفًا قد جرى) جملة قد جرى صلة ما وصحيحًا حال من فاعل جرى وضعيفًا معطوف عليه يعني أنه يشترط ي إيقاع الاجتهاد كونه عارفا بالشروط التي يكون بها الحديث صحيحًا أو ضعيفًا فيقدم الصحيح على الضعيف إذا تعارضًا والحسن داخل في الصحيح كما هو اصطلاح الأقدمين وقد يعكس إذا لك يعرف ذلك.

ص: 318

(وما عليه أو به النسخ وقع) يعني أنه يشترط في إيقاع الاجتهاد معرفة ما وقع عليه النسخ وهو المنسوخ ومعرفة ما وقع به النسخ وهو الناسخ ليقدم الثاني على الأول وإلا فقد يعكس والمراد أن يعرف أن هذا ناسخ وهذا منسوخ وإلا فمعرفة حقيقة الناسخ والمنسوخ داخلة في علم الأصول.

(وسبب النزول شرط متبع) يعني أن معرفة أسباب النزول في الآيات والأحاديث شرط متبع بصيغة اسم المفعول أي متفق عليه في إيقاع الاجتهاد فإن معرفة ذلك ترشد إلى فهم المراد.

(كحالة الرواة والأصحاب) يعني أن معرفة أحوال رواة الحديث ومعرفة أحوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم شرط في إيقاع الاجتهاد أعنى أحوال الرواة من رد وقبول وزيادة في الثقة والعلم والورع فيعمل برواية المقبول دون غيره ويقدم الزائد على غيره ويكون الرد لكذبه أو تهمته بالكذب أو فحش غلطه أو غفلته أو فسقه أو مخالفته للثقات أو كونه مجهولًا أو بدعته أو سوء حفظه ولابد من معرفته أحوال الصحابة من أحكام وفتاوي وزيادة في الفقه والورع ومن الأكبر والأصغر فتقدم الفتوى لعمومها والحكم قد يخص ويقدم الزائد على غيره وكذا موافق قول الأعلم منهم يقدم على موافق غيره ورواية الأكابر مقدمة على رواية الأصاغر فظهر لك رد قول المحلى لا حاجة إليه أي معرفة أحوالهم وكثيرًا ما يعتمد الإمام مالك آثار الماضين في الترجيح بين الأحاديث وجعلي معرفة علم الاجماعات وما بعده إلى هنا شرطًا في إيقاع الاجتهاد لا لكونه صفة ذاتية له إنما هو تبع لتقي الدين السبكي وقال في الآيات البينات أن لقائل أن يقول لم كانت هذه الأمور معتبرة لإيقاع الاجتهاد لا لتحققه ومعرفة متعلق الأحكام من كتاب وسنة بالعكس انتهى.

(وقلدن في ذا على الصواب) ذا إشارة إلى جميع ما ذكر من الشروط يعني أن معرفة الاجماعات إلى معرفة أحوال الصحابة يعني أنه يكفي في زمان تاج الدين السبكي فضلًا عما بعده تقليد أئمة كل من الشروط على الصواب فإن فقدوا فالكتب المصنفة في ذلك فيرجع في

ص: 319

الأحاديث إلى الكتب المشهورة بالصحة كصحيح البخاري ومسلم وصحيح ابن حبان وابن خزيمة وأبي عوانة وابن السكن وكذا المستخرجات وموطأ مالك وفي أحوال الصحابة إلى الاستيعاب لابن عبد البر وإلى الإصابة لابن حجر ونحوهما وفي أحوال الرواة إلى «المدارك» لعياض والميزان للذهبي ولسان الميزان لابن حجر وفي الإجماعات إلى إجماعات ابن المنذر وابن القطان ونحو ذلك وفي أسباب النزول إلى أسباب النزول للسيوطي. وهكذا ومقابل الصواب قول الإبياري لا يكفي التقليد فيما ذكر لأنه إذا قلد في شيء ما ذكر مقلدًا فيما يبنى عليه عليه لا مجتهدًا وفيه نظر إذ المدار على غلبة الظن:

وليس الاجتهاد ممن قد جهل

علم الفروع والكلام ينحظل

يعني أن المجتهد يجوز أن يكون جاهلًا لعلم الفروع أي المسائل التي استخرجها غيره أو استخرجها هو بنفسه مع أن القسم الثاني يلزم في اشتراطه الدور.

قال الإمام الرازي وأما تفاريع الفقه فلا حاجة إليها لأن هذه التفاريع يولدها المجتهدون بعد أن فازوا بمنصب الاجتهاد فكيف تكون شرطًا فيه انتهى. واشتراطه أبو إسحاق الاسفراييني وصحح بعضهم كونه شرطًا في إيقاع الاجتهاد وليس بصفة للمجتهد لكن الواقع بعد زمان الصحابة أن الاجتهاد إنما يكون بعد ممارسة الفقه بخلاف زمان الصحابة مع إمكان سلوك طريق الصحابة لغيرهم وليس عدم اشتراط معرفة الفقه منافيًا لقولهم الفقيه العالم بجميع الأحكام لأن المراد به المتهيئ والمنفي هنا العلم بالفعل وكذا يجوز أن يكون المجتهد جاهلًا لعلم الكلام لإمكان الاستنباط ممن يجزم بعقائد الإسلام تقليدًا بناء على صحة إيمان المقلد سواء قلنا أنه عاص بترك النظر أو غير عاص به وقال الإبياري من المالكية الصحيح عندنا اشتراطه ولعله على طريقة المتكلمين من معرفة البراهين الاقترانية والاستثنائية وإلا فلا خلاف وفيه نظر لأن كثيرًا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مجتهدون ولا يعرفون براهين الكلام إلا أن يقال أنها مركوزة في عقولهم وإنما

ص: 320

الحادث بعدهم الألفاظ الاصطلاحية كما تقدم في معرفة علم الأصول قال شهاب الدين عميرة الظاهر أن جملة المتضايفين لقب لأصول الدين وحينئذ ففي كلامه مضاف محذوف أي معرفة علم الكلام فإن كان المضاف إليه هو اللقب فقط فلا حذف انتهى.

(كالعبد والأنثى) يعني أنه كما لا يشترط في تحقق الاجتهاد علم الكلام وتفاريع الفقه لا يشترط عدم الأنوثة وعدم العبودية بل يجوز أن يكون المجتهد عبدًا أو أنثى لجواز أن يبلغ بعض النساء مرتبة الاجتهاد وقد وقع ذلك في عائشة رضي الله تعالى عنها وإن كن ناقصات عقل عن الرجال في الجملة لا في كل الأفراد وكذا يجوز في بعض العبيد ولا تمنعه خدمة سيده إذ قد ينظر حال التفرغ منها والأصح انه يشترط أن يعرف من الحساب ما تصح به المسائل الحسابية الفقهية ولا يشترط عدم العداوة وعدم القرابة إن كان مفتيًا قاله حلولو:

كذا لا تجب

عدالة على الذي ينتخب

يعني أن أهل الأصول لا يجب عندهم في المجتهد أن يكون عدلًا وقد تقدم تعريفه في كتاب السنة لجواز أن يبلغ الفاسق مرتبة الاجتهاد وقيل تشترط ليعتمد على قوله كذا جعل المحلي تبعًا للزركشي هذا مقابل الأصح وقد تعقبهما فيه أبو زرعة بما حاصله أنه لا تخالف بينهما إذ لم يتواردا على شيء واحد فإن إشتراط العدالة لاعتماد قوله لا ينافي عدم اشتراطها للاجتهاد إذ الفاسق يلزمه الأخذ باجتهاد نفسه وإن لم يجز لغيره اعتماد قول قال المحشى وهو تعقب متجه قال حلولو والعدالة شرط في قبول فتواه لا أعلم في ذلك خلافًا. انتهى.

(هذا هو المطلق) يعني أن المجتهد الذي تقدم ذكر شروطه هو المجتهد المطلق وهو الناظر في الأدلة الشرعية من غير التزام مذهب إمام معين كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وأما المجتهد المقيد فهو ما أشار إليه بقوله:

والمقيد

منسفل الرتبة عنه يوجد

ص: 321

المقيد بصيغة اسم المفعول مبتدأ خبره جملة يوجد بالبناء للمفعول ومنسفل مفعول ثان له وعنه متعلق بمنسفل يعني أن المجتهد المقيد دون المطلق بصيغة اسم المفعول في الرتبة لأن المطلق أصله وقد روته ورفعته على التابع في الفروع معلومة والمجتهد المقيد قسمان مجتهد المذهب ومجتهد الفتيا وأشار إلى تعريف المجتهد المقيد من حيث هو بقوله:

ملتزم أصول ذاك المطلق

فليس بعدوها على المحقق

بصيغة اسم المفعول يعني أن المجتهد المقيد هو الملتزم مراعات مذهب معين فصار نظره في نصوص إمامه كمنظر المطلق في نصوص الشارع فلا يتعداها إلى نصوص غيره على المشهور خلافًا للخمي فإنه يخرج على قواعد غيره وقد عيب عليه ذلك حتى قال أبن غازي:

لقد هتكت قلبي سهام جفونها

كما هتك اللخمي مذهب مالك

وبدأ بتعريف مجتهد المذهب لأنه أعلى رتبة من مجتهد الفتيا فقال:

مجتهد المذهب من أصوله

منصوصة أم لا حوى معقولة

وشرطه التخريج للأحكام

على نصوص ذلك الاعام

أصوله مبتدأ والضمير للمذهب وجملة حوى معقولة خبره والجملة كلها صلة من وهو خبر مجتهد ومعقولة بمعنى عقله فاعل حوى ومفعوله محذوف أي حواها عقله وحفظه حال كون تلك الأصول والقواعد منصوصة للإمام المقلد بفتح اللام أو مستنبطة من كلامه فكثيرًا ما يستخرج أهل المذهب الأصول أي القواعد وفاقية أو خلافية من كلام إمامهم والشرط المحقق لمجتهد المذهب أن يكون له قدرة على تخريج الأحكام على نصوص إمامه الملتزم هوله فالوجوه هي الأحكام التي

ص: 322

يبديها على نصوص إمامه ومعنى تخريج الوجوه على النصوص استنباطها منها كان يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه لوجود معنى ما نص عليه فيما سكت عنه سواء نص إمامه على ذلك المعنى أو استنبطه هو من كلامه وكان يستخرج حكم المسكوت عنه من دخوله تحت عموم ذكره أو قاعدة قررها وقد يستنبط صاحب الوجوه من نصوص الشارع لكن يتقيد في استنباطه منها بالجري على طريق إمامه في الاستدلال ومراعاة قواعده وشروطه فيه وبهذا يفارق المجتهد المطلق فإنه لا يتغير بمذهب غيره ولا بمراعاة قواعده وشروطه فيه فإذا قالوا فلان من أصحاب الوجوه فمرادهم أنه مجتهد المذهب وهو المتبحر المتمكن من تخريج الوجوه على نصوص إمامه:

مجتهد الفتيا الذي يرجح

قولًا على قول وذاك أرجح

يعني أن مجتهد الفتيا بضم الفاء هو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من ترجيح قول له على آخر أطقهما ذلك الإمام بأن لم ينص على ترجيح واحد منهما على الآخر والمتمكن من ترجيح قول أصحاب ذلك الإمام على قول آخر أطلقوهما قوله وذاك أرجح يعني أن مجتهد المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفتوى بفتح الفاء:

لجاهل الأصول أن يفتي بما

نقل مستوفي فقط وأمما

هذه مرتبة رابعة ليست من الاجتهاد في شيء وهو أن يقوم بحفظ المذهب وفهمه في الواضحات والمشكلات ومعرفة عامة وخاصة ومطلقة ومقيدة لكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته بجهله بالأصول فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه وما لا يجده منقولًا إن وجد في المنقول معناه بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق وكذا ما يعلم اندراجه تحت قاعدة من قواعد مذهبه وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به ولا يجوز لأحد العمل به ويشترط في صاحب هذه المرتبة الرابعة أن يكون شديد الفهم ذا حظ كثير من الفقه قوله

ص: 323

مستوفى بصيغة اسم المفعول ومعنى استيفائه له حفظ ما فيه من الروايات والأقوال وعلم عامها وخاصها ومطلقها ومفيدها كما تقدم قوله فقط أي دون ما لم يستوفه فلا يجوز الاقتداء به فيه قوله وأمما فعل أمر أي اقتد به فيما نقل مستوفي وهذه الرتبة هي التي تلي رتبة المجتهدين الثلاثة:

يجوز الاجتهاد في فن فقط

أو في قضية وبعض قد ربط

يعني أن الصحيح الذي عليه الأكثر جواز تجزي الاجتهاد بأنواعه الثلاثة في فن دون غيره من الفنون كالانكحة دون البيوع والعكس ومن عرف الفرائض مثلًا لا يضره جهله بعلم النحو ومن عرف القياس فله أن يفتي في مسئلة قياسية إذا علم عدم المعارض ولا يضره جهله بعلم الحديث وكذا يجوز أن يبلغ رتبة الاجتهاد في قضية أي مسئلة دون غيرها ووقع لأبن القاسم وغيره في مسائل معدودة خالفوا فيها مالكًا رحمه الله تعالى وبعضهم يقول إن المخالفة فيها باعتبار أصوله لا أنهم نظروا فيها نظرًا مطلقًا كما هو كثير من اللخمي وقيل لا يجوز لارتباط العلوم والمسائل بعضها ببعض لاحتمال أن يكون فيما لم يبلغ رتبة الاجتهاد فيه معارض لما بلغها فيه بخلاف من أحاط بالكل ونظر فيه وليس من تجزي الاجتهاد قول المجتهد في بعض المسائل لا أدري وأجابته عن البعض كما ظنه بعضهم لأنه متهئ لمعرفة ذلك إذ أصرف النظر إليه كما تقدم في قولنا والعلم بالصلاح إلخ

وقد يتجزأ الاجتهاد لمن دون مجتهد الفتيا وهو صاحب المرتبة الرابعة قاله في الآيات البينات:

والخلف في جواز الاجتهاد أو

وقوعه من النبي قد رووا

فاعل رووا ضمير أهل الأصول يعني أن متأخري الأصوليين كابن الحاجب والسبكي والقرافي نقلوا عن متقدميهم الخلاف في جواز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه

ص: 324

وفي وقوعه بناء على جوازه فالصحيح وهو مذهب الجمهور جوازه وعداه بعضهم إلى سائر الأنبياء لوقوعه كما في الأدلة الآتية وقال بعض الشافعية والجباء وأبنه من المعنزلة بالمنع لقدرته على اليقين بالتلقي من الوحي بأن ينتظره والقادر على اليقين في الحكم لا يجوز له الاجتهاد فيه اتفاقًا ورد بأن إنزال الوحي ليس في قدرته وبعدم انحصار سبب اليقين في التلقي من الوحي لأن الصواب في اجتهاد أنه لا يخطئ فيكون الاجتهاد أيضًا سبب اليقين فلا يتم الدليل على منع الاجتهاد إلا إذا كان هذا المانع من القائلين بأن اجتهاده قد يخطئ وقال بعضهم يجوز اجتهاده في الآراء والحروب ويمنع في غيرهما جمعًا بين الأدلة وقال أكثر المحققين بالوقف وقال عياض لا خلاف أنه له ذلك في الأمور الدنيوية كترك تلقيح النخل وأن له الرجوع في ذلك إلى غيره وقال في الآيات البينات أن القرافي أدعى أن محل الخلاف في الفتاوي وأن الأقضية يجوز فيها من غير نزاع قال وقد يفرق بأن القضاء غالبًا يترتب على النزاع والخصومة والشارع ناظر إلى المبادرة إلى فصل ذلك بقدر الإمكان وفي وقوعه مذاهب الوقوع وهو مختار الأمدي وأبن الحاجب السبكي لقوله تعالى ((وشاورهم في الأمر)) ((وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث)) الآية ((ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)) ((عفا الله عنك لم أذنت لهم)) عوتب على استبقاء أسرى بدر بالفداء وعلى الإذن لمن ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك ولا يعاتب فيما صدر عن وحي فيكون عن اجتهاده وقال بعضهم بعدم الوقوع وقال بعضهم بالوقف وصححه الغزالي.

تنبيه:

إذا قاس النبي صلى الله عليه وسلم فرعًا على الأصل جاز القياس على هذا الفرع عند الغزالي لأنه صار أصلًا بالنص قال وكذا لو اجتمعت الأمة عليه وخالفه الأبياري من المالكية ورأى أنه بمنزلة الفرع الثابت حكمه من المجتهد وعليه فمن يقيس على الفرع يقيس عليه ومن لا فلا.

ص: 325

(وواجب العصمة يمنع الجنف) بالتحريك الميل والخطأ يعني أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يخطئ لوجوب العصمة له بناء على جوازه هذا إذا قلنا أن المصيب واحد وأما إذا قلنا أن كل مجتهد مصيب فلا خلاف في ذلك وكونه لا يخطئ في اجتهاده هو الحق والمختار ومذهب المحققين ونقل الأمدي عن جماعة جواز مقابله وهو قول مستبشع إلا أن قائله يقول لا يقر عليه بل ينبه سريعًا والصواب امتناع الخطأ على غيره من الأنبياء إما مطلقًا وإما من غير تنبيه عليه سريعًا خلافًا للماوردي وأبن أبي هريرة في تجويزهما الخطأ عليهم دونه من غير تنبيه عليه ورد بأنه نقص لا يليق بمنصب النبوءة.

(وصحح الوقوع عصره السلف) بنصب عصره على الظرفية يعني أن الصحيح أن اجتهاد غيره صلى الله عليه وسلم جائز وواقع في عصره مطلقًا وقيل لا وثالثها لم يقع للحاضر في قطره صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره وقيل بالوقف واستدل على الوقوع بأنه صلى الله عليه وسلم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فقال تقتل مقاتلهم وتسبي ذريتهم فقال صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بما حكم الله تعالى به ويقول أبي بكر يوم حنين لاها الله إذا لا يعتمد إلى أسد من أسود الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال صلى الله عليه وسلم صدق فأعطاه إياه والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا يفيد مجموعها التواتر المعنوي.

(ووحد المصيب في العقلي) وحد فعل أمر مفعوله المصيب يعني أن المصيب من المختلفين في العقليات وهي ما لا يتوقف على سمع واحد وهو من صادف الحق لتعينه في نفس الأمر ومعنى كونه واحدًا أنهم لا يصيبون جميعًا بل إما أن يخطأ جميعهم أو يصيب واحد منهم فقط والعقليات كحدوث العالم وثبوت الباري وصفاته سبحانه وبعثه الرسل وقولنا وهي ما لا يتوقف على سمع يشمل ما يمكن إثباته في السمع ككون الصانع ممكن الرؤية.

(ومالك رآه في الفرعي) يعني أن الإمام مالكًا رحمه الله تعالى ذهب إلى توحيد المصيب من المجتهدين المختلفين في الفرعيات أي مسائل

ص: 326

الفقه التي لا قاطع فيها وهو الأصح من مذهبه وهو مذهب الجمهور حجة الجمهور أنه تعالى شرع الشرائع لتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة أو لدرء المفاسد كذلك ويستحيل وجودها في النقيضين فيتحد الحكم:

فالحكم في مذهبه معين

له على الصحيح ما يبين

معين بصيغة اسم المفعول ويبين بالبناء للفاعل يعني أن حكم الله تعالى في الواقعة معين قبل حصول الاجتهاد فيها على مذهب مالك القائل بأن المصيب واحد لكنه غير معلوم لنا فمن أصاب ذلك الحكم المعين فهو المصيب ومن أخطاه فهو المخطئ ولذلك الحكم المعين ما يبينه أي يظهره للمجتهد من إمارة أي دليل ظني وقيل قطعي فإن أخطأه لم يأثم لغموضه ولم يذهب إلى التأثيم حالة الخطأ إلا المريسي من المعتزلة وقيل لا دليل على ذلك الحكم المعين لا قطعي ولا ظني أي ليس بينه وبين شيء ارتباط ينتقل به إليه بل هو كدفين يعثر عليه بالاتفاق والنصوص أسباب عادية للمصادفة كالمشي إلى محل الدفين والقول بأن عليه دليلًا هو الصحيح:

مخطئه وإن عليه انحتما

إصابة له الثواب ارتسمًا

بالبناء للفاعل كالفعل قبله وله متعلق بارتسم بمعنى ثبت يعني أن المجتهد إذا أخطأ ذلك الحكم المعين يثبت له الأجر لبذله وسعه في طلبه قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) والأجر ثابت وإن قلنا إن المجتهد واجب عليه إصابة ذلك الحكم لإمكانها وأحرى في ثبوت الأجر له إذا مشينا على القول بأن المجتهد غير واجب عليه إصابة الحكم لغموضه فالحاصل أنهم اختلفوا في كون الثواب على القصد أو على الاجتهاد فعلى الأول يؤجر على قصده الصواب ولا يؤجر على الاجتهاد لأنه أفضى به إلى الخطأ.

ص: 327

وعلى الثاني يؤجر عليه وعلى الاجتهاد جميعًا وإنما كان المجتهد في الفروع لا يأثم إذا أخطأ لأنه أضاف إلى الله تعالى ما يجوز أن يكون شرعه بخلاف خطأه في العقليات فإنه يأثم لأنه أضاف إليه تعالى ما هو مستحيل عليه قاله القرافي:

ومن رأى كلا مصيبًا يعتقد

لأنه يتبع ظن المجتهد

أو ثم ما لو عين الحكم حكم

به لدرء أو لجلب قد ألم

يعني أن بعض الأصوليين كالأشعري إمام أهل السنة والقاضي أبي بكر الباقلاني منا وقيل أن الأول شافعي وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وأبن سريج من الشافعية قالوا إن كل مجتهد في المسألة التي لا قاطع فيها مصيب لقوله صلى الله عليه وسلم (اختلاف أمتي رحمة) ولو كان واحد مخطئًا لكان عذابًا ومعنى رحمة أنه توسعة على الأمة ولقوله (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وأهل هذا المذهب يقال لهم المصوبة ومن يقول المصيب واحد يقال لهم المخطئة بتشديد الطاء ثم قال الأولان حكم الله فيها تابع لظن المجتهد فما ظنه فيها من الحكم فهم حكم الله تعالى في حقه وحق من قلده والتبعية باعتبار تعلق الحكم التنجيزي به ولمقلديه لا باعتبار ذاته لأن الحكم قديم فلا يتبع غيره والتعلق التنجيزي حادث وقال الثلاثة الباقون في المسألة شيء لو حكم الله فيها على التعيين لكان به وإلا فقد حكم لكن على الإبهام بأن جعل حكمه فيها ما يظنه المجتهد فالمعنى أنه ما من مسألة إلا ولها مناسبة خاصة ببعض الأحكام بعينه بحيث لو أراد الله الحكم على التعيين لكان بذلك البعض بعينه وتسمى هذه المقالة الأشبه والمناسبة تكون لكونه راجحًا في درء المفسدة أو جلب المصلحة والشريعة تعتمدهما وهذا القول حكم بالفرض والتقدير لا بالتحقيق ومعنى قد ألم قد حصل فيه ما ذكر من الدرء أو الجلب وبيان ذلك كما في شرح المحصول للقرافي إنا نقطع في زماننا هذا أن لا نبي لله تعالى ظاهر في الأرض لإخبار الله تعالى بذلك ومع ذلك نقول لو أراد الله أن يبعث نبيًا لكان فلانًا ونشير إلى من نعتقده خير زماننا

ص: 328

والمراد أن الأولين قالًا بمجرد التبعية لظن المجتهد من غير أن يكون هناك ما لو حكم الله لكان به والثلاثة زادوا على التبعية لظن المجتهد أن هناك ما لو حكم الله لكان به فقد صرح السبكي في شرح المنهاج بأن حكم الله تعالى عند الثلاثة أيضًا تابع لظن المجتهد فإن قلنا أن الثلاثة لا تقول أن حكم الله تعالى تابع لظن المجتهد كما يفهم منتمام قول السعد وذهب شرذمة من المصوبة إلى أن لله في الواقعة حكمًا واحدًا يتوجه إليه الطلب إذ لابد للطالب من مطلوب لكن لم يكلف المجتهد إصابته فلذلك كان مصيبًا وإن لم يصبه إذ المعنى بالمصيب أنه أدى ما كلف به لكان هذا بعينه مذهب القائلين بتخطئة البعض والضمير في لأنه للحكم واللام زائدة وقوله ثم أي في المسألة وفاعل عين ضمير الله تعالى:

لذا يصوبون في ابتداء

والاجتهاد دون الانتهاء

والحكم فاعل يصوب للثلاثة القائلين أن هناك ما لو حكم الله لكان به يعني أنهم يصوبون من لم يصادف ذلك الشيء أي يقولون أصاب ابتداء لا انتهاء وبعبارة أخرى أصاب اجتهادًا لا حكمًا فهو مخطئ حكمًا وانتهاء أصاب اجتهادًا لأنه بذل وسعه اللازم في الاجتهاد ليس إلا بذل الوسع لأنه المقدور لا حكمًا لأنه لم يصادف الشيء الذي لو حكم الله لكان به وقولهم ابتداء لأنه بذل وسعه على الوجه المعتبر وهو إنما يبدأ ببذل وسعه ثم تارة يؤديه إلى المطلوب وتارة لا ولم يصب انتهاء لأن اجتهاده لم ينته به إلى مصادفة ذلك الشيء والخطأ في الحكم عند الثلاثة غير الخطأ فيه عند الجمهور لأن الخطأ هنا معناه عدم مصادفة ما لو حكم الله لكان به وإن كان لم يحكم به فعد مخطئًا لعدم مصادفة ما له المناسبة الخاصة وإن لم يحكم به والخطأ عند الجمهور معناه عدم مصادفة ما حكم الله به بعينه في نفس الأمر قاله في الآيات البينات فالحاصل أن عند الجمهور حكمًا معينًا قبل الاجتهاد وعند الثلاثة هناك ما لو حكم الله لكان به ولا حكم معينًا قبل الاجتهاد:

وهو واحد متى عقل

في الفرع قاطع ولكن قد جهل

ص: 329

ببناء الفعلين للمفعول يعني أن المصيب واحد في المسألة الفرعية التي دليلها قاطع من نص أو إجماع واختلف فيها المجتهدون لعدم علمهم بذلك القاطع ولابد أن يكون قاطعًا من جهة المتن والدلالة معًا بأن يكون صريحًا متواترًا فالمصيب فيما ذكر واحد اتفاقًا وهو من وافق ذلك القاطع وقيل على الخلاف في كون كل مجتهد مصيبًا أو المصيب واحد لا بعينه وقد يعلم كعلي كرم الله وجهه مع معاوية رضي الله تعالى عنهما فإن قلنا بالأول كانا مصيبين وإن قلنا بالثاني فالمصيب على كرم الله وجهه قطعًا إلا أن هذه ليست من القطعيات ولا يأثم المخطئ في المسألة الفرعية القطعية على الأصح بناء على أن المصيب فيها واحد والقولان لمالك في شارب النبيذ قال في الآيات البينات فإن قلت هذا يشكل بإثم المخطئ في العقليات بجامع القطع في كل منهما قلت الفرق ضعف هذا الدليل بدليل الإجماع على اتحاد الحق في العقليات والاختلاف في اتحاده هنا كما أشار إليه في التلويح. انتهى.

والقول بإتحاد المصيب في الفرعية التي فيها قاطع يمكن توجيهه كما في الآيات البينات فإن القاطع يعين مدلوله قطعًا فلا يمكن تعدده وجعله تابعًا لظن المجتهد ويوجه القول الثاني بأن الدليل القاطع قد لا يعين مدلوله لمصاحبة عوارض وشبهات تمنع تعيينه ويرد على هذا التوجيه أن الخطأ ممكن أيضًا في العقليات كما تقرر في محله إلا أن يفرق بأن احتمال الخطأ في العقليات أقل وأضعف:

وهو آثم متى ما قصرا

في نظر وفقًا لدى من قد درى

يعني أن المجتهد متى قصر في نظره في مسألة إثم اتفاقًا لتركه الواجب عليه من بذل وسعه فيه وعبرنا بقولنا في نظر بدل قول بعضهم في اجتهاده لأن النظر المقصر فيه لا يسمى اجتهادًا إذ الاجتهاد إستفراغ الوسع ولا إستفراغ مع التقصير:

والحكم من مجتهد كيف وقع

دون شذوذ نقضه قد امتنع

يعني أن حكم المجتهد في الاجتهاديات يمتنع نقضه حيث ظهر له أن غيره أصوب منه كيف وقع المجتهد أي سواء كان مجتهدًا مطلقًا أو مقيدًا

ص: 330

بقسميه من مجتهد المذهب ومجتهد الترجيح وذلك الامتناع باتفاق الأصوليين إذا كان غير شاذ جدًا وصار إليه من غير ترجيح ووقع الخلف فيه بين الفقهاء ومشهور مذهبنا نقضه من الحاكم به قال خليل ونقضه هو فقط إن ظهر إن غيره أصوب وقيل لا ينقصه وهو المختار لأنه يؤدي إلى نقض النقض ويتسلسل فتفوت مصلحة نصب الحاكم وهي فصل الخصومات أما إذا لم يظهر أن غيره أصوب فلا ينقض اتفاقًا وقوله نقضه قد امتنع بغير ما ستأتي الإشارة إليه في قوله إلا إذا النص لخ ولا فرق في امتناع النقض بين أن يكون من الحاكم به أو من غيره ومفهوم المجتهد سيأتي في قوله أو بغير المعتلي لخ.

إلا إذا النص أو الإجماع أو

قاعدة خالف فيها ما رأوا

فاعل خالف ضمير حكم المجتهد والنص مفعول قدم عليه والمذكور أن بعده معطوفان عليه وفاعل رأوا ضمير أهل الفن يعني أن حكم المجتهد المذكور يمتنع نقضه إلا إذا خالف نصًا من كتاب أو سنة متواترة أو ظاهرًا منهما أو خالف إجماعًا قطعيًا أو ظنيًا أو خالف قاعدة متفقًا عليها أو مشهورة من غير معارض أرجح فإنه ينقض وجوبًا لمخالفته الدليل المذكور ولا فرق في الظاهر بين الظاهر من جهة الدلالة كالعام أو من جهة المتن كخبر الواحد وعمل أهل المدينة مثال مخالف الإجماع ما لو حكم بأن الميراث كله للأخ دون الجد لأن الأمة على قولين قيل المال كله للجد وقيل يقاسم الأخ إما حرمان بالكلية فلم يقل به أحد ومثال مخالفة القواعد ما لو حكم حاكم بتقرير النكاح في حق من قال أن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا فطلقها ثلاثًا أو أقل والصحيح لزوم الثلاث له فإذا مات أحدهما وحكم حاكم بالتوارث بينهما نقضنا حكمه لأنه على خلاف القواعد لأن من قواعد الشرع اجتماع الشرط مع الشروط لأن حكمته إنما تظهر فيه فإذا كان الشرط لا يصح اجتماعه مع مشروطه فلا يصح أن يكون في الشرع شرطًا فلذلك نقض حكم الحاكم في هذه المسألة التي تعرف بالسريجية:

أو اجتهاده أو القيس الجلي

على الأصح

ص: 331

معطوفان على النص يعني أن حكم الحاكم المجتهد ينقضه هو لا غيره إذا ظهر له أنه خرج فيه عن رأيه وما يؤدي إليه اجتهاده بتقليد لغيره بالتزام أو بدونه وكذا ينقض إذا ظهر أنه لم يصدر منه اجتهاد أصلًا لكنه حكم بقول عالم آخر بتقليد له بالتزام أو بدونه وكذا ينقضه هو وغيره إذا خالف فيه القياس الجلي وهو الذي لا شك في صحته كالحكم بقبول شهادة النصراني فإن الحكم بقبول شهادته ينقض لأن الفاسق لا تقبل شهادته والكافر أشد منه فسوقًا وأبعد عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس وحيث ما خالف القياس نقضه هو وغيره قوله على الأصح مقابل الأصح قول أبن عبد الحكم لا ينقض ما خالف نصًا أو إجماعًا وقاعدة أو قياسًا جليًا وهذه الأربعة نظمًا بعضهم فقال:

إذا قضى حاكم يومًا بأربعة

فالحكم منتقض من بعد إبرام

خلاف نص وإجماع وقاعدة

كذا قياس جلي دون إبهام

والمراد بالحاكم المجتهد

أو بغير المعتلي

حكم في مذهبه وإن وصل

لرتبة الترجيح فالنقض انحظل

يعني أن المقلد بكسر اللام غير المجتهد المقيد إذا حكم بغير المعتلي أي المشهور من مذهب إمامه وقول أصحابه نقض حكمه لأن محض المقلد لا يحكم ولا يفتي بغير المشهور إلا لغرض فاسد من أتباع الهوى وقال الطرطوشي لا يلزم أحدًا ممن يعتزى إلى مذهب تقليد ذلك المذهب في الحكم والفتوى وهذا قريب من قول اللخمى القائل بجواز التخريج على أصول غير إمامه إلا أن هذا ناظر إلى الفروع لكنه لا يفتي به ولا يحكم به ولا يعمل به مع ضعفه عنده للإجماع على عدم جواز العمل بالضعيف فيما ذكر إلا لضرورة قال في العمليات:

حكم قضاة العصر بالشذوذ

ينقض لا يتم للنفوذ

ص: 332

لكنه إذا خرج عن مشهور مذهبه وحكم بغيره خطئًا ولم يثبت خروجه خطئًا ببينة نقضه هو لا غيره فإن ثبت ببينة نقضه هو وغيره قاله الخرشي قوله وإن وصل إلخ

يعني أن محل نقض حكم الحاكم المقلد إذا حكم بغير مشهور مذهبه ما إذا لم يبلغ رتبة الترجيح وإما أن بلغها بأن كان مجتهدًا مقيدًا فلا ينقض حكمه لأنه يجوز له الحكم والعمل والإفتاء بالضعيف إذا ترجح عنده وهذا قليل في قضاة هذا الزمن في سائر أقطار الدنيا وإنما يحكم كثير منهم بالتخمين والشك:

وقدم الضعيف إن جرى عمل

به لأجل سبب قد أتصل

يعني أنه يجب تقديم القول الضعيف في العمل به على المشهور إذا تخالفًا إذا ثبت العمل بشهادة العدول إذا كان العمل موافقًا لقول وإن كان شاذًا إلا كل عمل لكن يشترط في جريان العمل بالضعيف أن يكون لسبب أتصل بنا أي وجد عندنا من حصول مصلحة أو درء مفسدة وإلا فلا نعمل بالضعيف الجاري به عمل فأس مثلًا لجلب مصلحة أو درء مفسدة ليس كذلك موجودًا في بلادنا وجه الترجيح بالعمل أن لشيوخ المذهب المتأخرين تصحيحات لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور وجرى بتصحيحاتهم عمل الحكام والفتيا لما اقتضته المصلحة والأحكام تجري مع الأعراف قاله القرافي وأبن رشد فعمل ليس بتلك المثابة لا يجوز اعتباره لاسيما عمل بلادنا هذه فالمطلقة ذات الإقراء لابد عند أهل فأس أن تمضي لها ثلاثة أشهر ثم تسئل عن انقضاء عدتها فإذا قالت إنها أنقضت صدقت ولا تصدق في انقضاء عدتها قبل ثلاثة وإنما فعلوا ذلك لكثرة كذب النساء فإذا رأينا نساء بلد يكذبن ألزمناهن ما جرى به عمل فأس بناء على قول أبن وهب وإلا لزم إتباع المشهور من تصديقهن مطلقًا:

وهل يقيس ذو الأصول إن عدم

نص إمامه الذي له لزم

مع التزام ما له أو مطلقًا

وبعضهم بنصه تعلقًا

ص: 333

ببناء عدم للمفعول ونائبه نص وبكسر زاي لزم مبنيًا للفاعل وهو ضمير النص والذي نعت الإمام والمجرور باللام ضمير ذي الأصول وما موصول صلته الجار والمجرور بعده يعني أن المقلد العارف لعلم الأصول إذا عدم في مسألة نص أمامه اختلف فيه أهل المذهب على ثلاثة أقوال قيل يجوز له القياس مع التزام ما لإمامه من الأصول فلا يقيس على أصل الشافعي إذا كان مخالفًا لأصول مالك ولا لغير الشافعي من المجتهدين كذلك وهذا هو طريق أبن رشد والمازري والتونسي وأكثر المالكية وقيل يجوز له أن يقيس مطلقًا أي فلا يلزمه التعلق بأصول إمامه وهذا قول اللخمي وفعله ولذلك قال عياض في المدارك له اختيارات خرج بكثير منها عن المذهب وقال أبن غازي فيه:

لقد هتكت قلبي سهام جفونها

كما مزق اللخمي مذهب مالك

وقيل يجوز له ذلك بشرط التعلق بنصوص إمامه فلا يفتى ولا يحكم إلا بشيء سمعه منه وهو نص أبن العربي وظاهر نقل الباجي أما إذا لم يجد المالكي في مسألة نصًا لإمامه ولا أصلًا ووجد فيها نصًا لغيره كالشافعي مثلًا أو أصلًا وجب عليه إتباع ذلك إذ لا يعمل بغير الأدلة الشرعية ويقدم نصه على أصله قياسًا على إمامه وغير العارف بالأصول لا يجوز له القياس أصلًا بل يقف مع نصوص مذهبه فإن لم يجد نصًا في مذهبه في مسألة ووجد نصًا في غيره وجب عليه إتباع مذهب الغير في تلك المسألة وإن وجد نصًا للشافعي مخالفًا لمذهب أبي حنيفة فقال بعض أهل المذهب يجب عليه العمل بمذهب الشافعي في تلك المسألة لأنه تلميذ مالك وقال بعضهم يجب عليه العمل بمذهب أبي حنيفة لقلة الخلاف بينه وبين مالك حتى حصر بعضهم الخلاف بينهما في أثنين وثلاثين مسألة فإذا عرفت أعيان تلك المسائل تحققت إن قول مالك فيما سواها كقول أبي حنيفة وإلا تعرفها عملت بالغالب الذي هو عدم الاختلاف والعمل بالراجح واجب.

(قوله الذي له لزم) يعني أن نص إمام المقلد يلزمه أتباعه:

ولم يضمن ذو اجتهاد ضيعًا

إن يك لقاطع قد رجعا

ص: 334