الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ببناء يضمن للمفعول عكس ضيعا ورجعا وبتشديد يضمن يعني أن المجتهد إذا اتلف شيئًا بفتواه أو حكمه ورجع عن ذلك لا ضمان عليه في ذلك لبذله غاية طاقته الواجب عليه إذا كان رجوعه لغير دليل قطعي من نص قرآن في ذلك المعنى أو سنة متواترة نص فيه أو إجماع فإن كان رجوع قطعي وجب عليه الضمان لأشعار خفاء القاطع عليه بالتقصير ذكر ذلك الحطاب عند قول خليل مبينًا المراد به الفتوى:
إلا فهل يضمن أو لا يضمن
…
إن لم يكن منه تول بين
يضمن مضارع ضمن كعلم يعني أن غير المجتهد إذا أتلف بفتواه أو حكمه شيئًا ولم يتول ذلك الفعل بنفسه كقطعه بيده يد سارق دون النصاب بل إنما أمر بذلك فقط فيه قولان الضمان كما عند المازري ويجب أن يؤدب ما لم يتقدم له اشتغال بالعلم وعدم الضمان كما عند أبن رشد لأنه غرور بالقول فإن تولى تنفيذ ذلك بنفسه ضمن باتفاق وهذا في غير المنتصب وإلا فقد أشار له بقوله:
وإن يكن منتصبًا فالنظر
…
ذاك وفاقًا عند من يحرر
بكسر الراء يعني أن غير المجتهد إذا كان منتصبًا للفتوى أو القضاء واتلف شيئًا بواحد منهما ورجع فالذي يقتضيه النظر ذاك أي التضمين وفاقًا عند من يحرر المسائل أي يحققها وهو الحطاب شارح خليل قال لأن هذا يحكم بفتواه فهو كالشاهد يرجع عن شهادته.
فصل في التقليد في الفروع:
ولما فرغنا من الكلام على الاجتهاد أتبعناه بالكلام على التقليد لأنه مقابله والتقليد قال القرافي مأخوذ من تقليده بالقلاذة أي جعلها في عنقه قال غيره والمعنى جعل الفتوى في عنق السائل:
هو التزام مذهب الغير بلا
…
علم دليله الذي تأصلًا
يعني أن التقليد في عرف أهل الأصول هو التزام الأخذ بمذهب الغير من غير معرفة دليله الخاص وهو الذي تأصل أي صار أصلًا ومستند المذهب ذلك الغير سواء عمل بمذهب الغير أو لم يعمل به لفسق أو غيره وسواء كان المذهب قولًا أو فعلًا أو تقريرًا خلافًا للمحلي في تخصيصه المذهب بالقول دون الفعل وهو مردود بأن الزركشي ذكر أن السبكي ضرب على القول وأثبت بدله المذهب وقضية كلامه في منع الموانع إنكار وقوع التعبير بالقول منه وقد أنكر إمام الحرمين على من أخذ القول قيدًا في الحد وقال ينبغي الإتيان بلفظ يعم القول والفعل قوله من غير معرفة دليله الخاص يعني بحيث يكون مستنبطًا للحكم منه دون توقف على غيره بأن يعرف وجه الدلالة من الدليل وينتقل عنه إلى الحكم على الإطلاق من غير أن يتقيد بغيره في مقامات الدليل وشروطها وهذه المعرفة لا تكون إلا للمجتهد لأن العالم وإن أمكنه الاستنباط بأن يعرف الدليل ووجه الدلالة منه وينتقل منه إلى الحكم لكنه يحتاج في ذلك إلى ملاحظة قواعد المجتهد وشروطه في الاستدلال ولا يقدر على الخروج عنها فإن عرف بعض المسائل تلك المعرفة فهو مجتهد فيها فقط بناء على جواز تجزئ الاجتهاد إما مع معرفته أنه يجب عليه الأخذ بقول المجتهد المفتي فهي تلقيد وكذا يقال في الرجوع إلى الإجماع وقبول خبر الواحد والأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ القاضي بقول الشهود وليست تقليدًا على رأي الأمدي وأبن الحاجب وغيرهما القائلين إن التقليد هو أخذ القول من غير قيام حجة على الأخذ وقد قامت الحجة على أن جميع المذكورات دليل شرعي لوجود الحجة بالمعجزة وعصمة النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع ولوجوب قبول غيرها ومن مسائل التقليد أخذ عامي بقول عامي آخر وإنما قلت في تعريف التقليد التزام مذهب ولم نقل الأخذ بمذهب إلخ
…
لأنه لا يشترط في التقليد العمل بمذهب الغير كما تقدم:
يلزم غير ذي اجتهاد مطلق
…
وإن مقيدًا إذا لم يطق
فاعل يلزم ضمير التقليد ومطلق بفتح اللام نعت ذي أو اجتهاد والمقيد بفتح الياء يعني أن التقليد يلزم من ليس مجتهدًا مطلقًا وإن
كان غير المجتهد المطلق مجتهدًا مقيدًا بقسميه إذا عجز المجتهد المقيد عن الاجتهاد بناء على الراجح من جواز تجزيء الاجتهاد فيقلد في بعض مسائل الفقه وبعض أبوابه كالفرائض إذا لم يقدر على الاجتهاد في ذلك لقوله تعالى ((فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)). وقيل لا يقلد العالم وإن لم يكن مجتهدًا لأن له صلاحية أخذ الحكم من الدليل بخلاف العامي ولا فرق في لزوم التقليد بين المسائل الفقهية والعقلية نعم قد يستقل غير المجتهد بمعرفة البرهان العقلي كالأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني والباقلاني وأبن فورك وشيخهم أبي الحسن الأشعري قال في الآيات البينات فإن الظاهر أنه لم يصل إلى رتبة الاجتهاد في الفروع الذي هو المراد هنا لأنه الذي يلزم تقليد صاحبه ولا يخفى أنه لا سبيل إلى إلزام مثل هؤلاء تقليد من ثبتت له رتبة الاجتهاد المذكور في العقائد بل لا يجوز له ذلك بل سيأتي الخلاف في صحة الإيمان مع التقليد. هـ.
وقيل يشترط في جواز التقليد إن كان عالمًا لم يبلغ رتبة الاجتهاد أن يتبين له صحة اجتهاد من قلده بدليل بأن يبين مستنده ليسلم من لزوم أتباعه في الخطأ الجائز عليه ومنع الأستاذ أبو إسحاق التقليد في القواطع كالعقائد وكل مسألة فقهية مدركها قاطع كوجوب قواعد الإسلام الخمس:
وهو للمجتهدين يمتنع
…
لنظر قد رزقوه متسع
بكسر السين نعت نظر يعني أن التقليد لا يجوز في الفروع لمن بلغ رتبة الاجتهاد لأجل ما عندهم من النظر الذي يسع جميع المسائل بالصلاحية فإن حصل له ظن الحكم باجتهاده بالفعل حرم عليه التقليد إجماعًا وإن صلح لذلك الظن لاتصافه بصفات الاجتهاد حرم عليه ذلك عند مالك وأكثر أهل السنة لتمكنه من الاجتهاد فيه الذي هو أصل التقليد ولا يجوز العدول عن الأصل الممكن إلى بدله كما في الوضوء والتيمم وذهب أحمد إلى الجواز لعدم علمه به الآن وقيل يجوز للقاضي لحاجته إلى فصل الخصومات المطلوب تعجيله بخلاف غيره وقال محمد ابن الحسن يجوز تقليد الأعلم منهم لرجحانه بخلاف المساوي والأدون
وقيل يجوز في خاصة نفسه دون ما يفتى به غيره وقيل يجوز عند ضيق الوقت لما يسئل عنه كالصلاة الموقتة بخلاف ما إذا لم يضق قاله أبن سريج قال حلولو وما ينبغي أن يختلف في هذا لأنه كالعاجز:
وليس في فتواه مفت يتبع
…
إن لم يضف للدين والعلم الورع
ببناء يتبع للمفعول يعني أن المفتي يحرم على غيره العمل بفتواه إذا لم تجتمع فيه ثلاثة أمور الدين والعلم والورع لعدم الثقة بمن عدمت فيه خصلة من الثلاث ويعرف حصول تلك الأمور بالأخبار المفيدة للعلم أو الظن وكذلك إذا حصل العلم أو الظن باشتهاره بها كانتصابه والناس يستفتونه والعالم هو المجتهد بأقسامه الثلاثة ومن كان من أهل النقل الصرف بشرط أن يستوفي تلك المسألة بمعرفة أركانها وشروطها وكونها مطلقة أو مقيدة أو عامة أو خاصة مثلًا والمشهور فيها من الضعيف ومعرفة ما جرى به العمل المعتبر وذو الدين هو ممتثل الأوامر ومجتنب النواهي والورع متقي الشبهات كترك المندوب لأنه يجر إلى ترك السنة وترك السنة يجر إلى ترك الواجب وفعل المكروه لأنه يجر إلى فعل الحرام ومن اتقاء الشبهات ترك فعل الشيء حيث تعارضت الأدلة أو أقوال العلماء في جوازه وتحريمه وهي مستوية وإلا وجب العمل بالراجح ولابد أيضًا في المفتي من العدالة بلا خلاف وهي ملكة تمنع من اقتراب الكبائر وصغائر الخسة والرذائل المباحة كالبول في الطريق:
ومن لم يكن بالعلم والعدل أشتهر
…
أو حصل القطع فالاستفتا أنحظر
يعني أنه لا يجوز لأحد أن يستفتى الأمر قطع بكونه من أهل العلم والدين والورع أو حصل له ظن ذلك لاشتهاره بتلك الأمور كانتصابه والناس مستفتون له ولم ينكر ذلك أهل العلم والدين والورع وإذا سئل ولم يكن من أهل الدين والعلم والورع فلا يجوز العمل بفتواه كما تقدم في البيت قبل هذا سواء علمنا اتصافه بعدم خصلة من الثلاث أو جهلنا ذلك لأن الأصل عدمها والأصح وجوب البحث عن علمه وعدالته
وورعه وقيل يكفي مجرد اشتهاره بها بين الناس وإن لم يحصل علم بها أو ظن وإلا صح الاكتفاء بظاهر العدالة وقيل لابد من البحث عنها والاكتفاء بخبر الواحد عن عمله وعدالته وورعه وقيل لابد من اثنين وفي جواز استفتاء من علم علمه وجهلت عدالته احتمالان وذكرهما النووي وجهين عند الشافعية وعلى الجواز يفرق بأن الناس كلهم عوام إلا القليل والعلماء كلهم عدول إلا القليل والمروي عن مالك أن القاضي لا يجوز له الإفتاء فيما تقع فيه الخصومات بين الناس وهو مشهور المذهب وعليه مشي خليل في قوله ولم يفت في خصومة وأبن عاصم في قوله:
ومنع الإفتاء للحكام
…
في كل ما يرجع للخصام
وعن أبن عبد الحكم جوازه وبه جرى عمل فأس قال في العمليات:
وشاع إفتاء القضاة في خصام
…
مما يعد حكمهم له قوام
وواجب تجديد ذي الرأي النظر
…
إذا مماثل عدى وما ذكر
للنص مثل ما إذا تجددا
…
مغير ببناء عري بمعنى طرأ وذكر للفاعل
مثل بالكسر على الحال يعني أن ذا الرأي أي الاجتهاد مطلقًا كان أو مقيدًا إذا وقعت له حادثة مرة أخرى يجب عليه تجديد النظر فيها لعلة يظهر له خطأ في الأولى لأن الله تبارك وتعالى خالق على الدوام فيخلق له إدراك علم أو مصلحة لم يكن عنده قبل وإهمال ذلك تقصير والمجتهد لا يجوز له التقصير بل يجب عليه بذل وسعه لكن إنما يجب عليه التجديد إذا لم يكن ذاكرًا للنص أي الدليل الأول أو تجدد له مغير أي دليل يقتضي الرجوع ولو احتمالًا لاحتمال اقتضائه خلاف المظنون أولًا لأن الدليل الأول لعدم تذكره في حالة التجرد وغيره لائقة ببقاء الظن الحاصل منه.
(إلا فلن يجددا) بالبناء للفاعل يعني أنه إذا وقعت الحادثة مرة أخرى وكان ذاكرًا للدليل الذي اعتمده في الأولى بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان مستقلًا أو إلى مذهبه إن كان منتسبًا لم يجب عليه تجديد النظر إذا لم يتجدد له ما يقتضي الرجوع لعدم احتمال تغير حاله الأولى:
وهل يكرر سؤال المجتهد
…
من عم أن مماثل الفتوى يعد
سؤال مفعول يكرر فاعله الموصول في قوله من عم ويعد مضموم العين من عاد يعود إذا رجع يعني أن العامي إذا استفتى مجتهدًا مستقلًا أو منتسبًا في حادثة ولو كان العالم المسؤول مقلد ميت بناء على جواز تقليد الميت وإفتاء المقلد ثم تقع له تلك الحادثة هل يعيد السؤال لمن أفتاه أولًا يجب عليه إعادته تردد فيه أبن القصار من المالكية وحكى أبن الصلاح فيه خلافًا ثم قال الأصح لا يلزمه ولأجل ما فيه من الخلاف عبرنا بالاستفهام وقال حلولو وخص صاحب الشامل الخلاف بما إذا قلد حيًا وقطع فيما إذا كان عن ميت أنه لا تلزمه الإعادة ومراده بصاحب الشامل إمام الحرمين وقال المحلي في العامي المستفتي المذكور ما لفظه أي حكمه حكم المجتهد في إعادة النظر فيجب عليه إعادة السؤال إذ لو أخذ بجواب الأول من غير إعادة لكان أخذًا بشيء من غير دليل وهو في حقه قول المفتي وقوله الأول لا ثقة ببقائه عليه لاحتمال مخالفته له بإطلاعه على ما يخالفه من دليل إن كان مجتهدًا أو نص لإمامه إن كان مقلدًا. انتهى.
ولا تجب إعادة السؤال اتفاقًا حيث استند الجواب الأول إلى نص أو إجماع إذ لا حاجة إليه حينئذ.
(وثانيًا ذا النقل صرفًا أهمل) ثانيًا منصوب على الظرفية أي ثاني مرة وذا مضاف للنقل مفعول أهمل أمر من الإهمال والترك وصرفًا بكسر الصاد حال من ذا والصرف الخالص من كل شيء والمراد هنا الخالص من الاجتهاد بأقسامه الثلاثة أشرنا بهذا الكلام إلى ما ذكر
القرافي عقب ذكر الخلاف في وجوب إعادة العامي المستفتي للعالم السؤال ولفظه إنما يتجه هذا إذا كان المفتي مجتهدًا أما المفتي بالنقل الصرف فإذا علم المستفتي ذلك فلا حاجة إلى سؤاله ثانيًا انتهى يعني لعدم احتمال تغير ما عنده في تلك الحادثة.
(وخيرن عند استواء السبل) جمع سبيل يعني أن العالم إذا استفتاه عامي وفي المسألة أقوال مستوية فإنه يخير العامي في العمل بأي تلك الأقوال شاء إذا لم يكن بين قائلها تفاوت وبعضهم يقول يأخذ العامي بأغلظ الأقوال لما فيه من الاحتياط وإن كان فيها تفاوت من جهة فقد أشار له بقوله:
وزائدًا في العلم بعض قدمًا
…
وقدم الأورع كل القدما
بعض مبتدأ خبره جملة قدم وزائدًا مفعول قدم يعني أنه إذا وقع التفاوت في العلم مع الاستواء في الدين والورع فإن بعض العلماء يوجب الأخذ بقول الأعلم قال الإمام الرازي وهو الأقرب ولذلك قدم في إمامة الصلاة زائد الفقه لأن المقدم في كل موطن من مواطن الشريعة من هو أقوم بمصالح ذلك الموطن ولذلك قدم في الصلاة الفقيه على القارئ وقدم في الحروب من هو أعلم بها على غيره وفي أموال الأيتام من هو أعلم بمصالحها على غيره وبعضهم يخير في الآخذ بين قول العالم والأعلم لأن كلا طريق إلى الجنة فإذا اختلف أبن رشد واللخمي في فرعية ولا مرجح قدم عندهم ابن رشد لأنه أعلم بناء على القول الأول وإن كان التفاوت في الورع والدين مع الاستواء في العلم تعين الأدين لأن لزيادة الدين والورع تأثيرًا في التثبيت في الاجتهاد وغيره قال في التنقيح فإن كان أحدهما أرجح في علمه والآخر أرجح في دينه فقيل يتعين الأدين وقيل الأعلم وهو الأرجح. هـ.
ثم أعلم أن قوله وخيره عند استواء السبل، وقوله وزائدًا في العلم البيت في أخذ العامي بأحد أقوال مذهبه في مسألة اختلف فيها أصحاب الإمام مالك ومن بعدهم وقوله وجائز تقليد ذي اجتهاد، إلى قوله وموجب تقليد الأرجح في تقليد غير المجتهد المطلق له:
وجائز تقليد ذي اجتهاد
…
وهو مفضول بلا استبعاد
إضافة تقليد لذي إضافة مصدر لمفعوله يعني أنهم اختلفوا في جواز تقليد العامي للمجتهد المفضول في العلم والورع مع وجود الفاضل في ذلك فالأكثرون أجازوا ذلك وصححه الفهري منا والجمهور ورجحه أبن الحاجب لوقوعه في زمن الصحابة وغيرهم منتشرًا متكررًا من غير نكير وأشرنا إلى تعليل ذلك بقولنا:
(فكل مذهب وسيلة إلى
…
دار الحبور والقصور جعلًا)
الألف للإطلاق ونائب الفاعل ضمير مذهب ووسيلة مفعول ثان لجعل يعني أن الله تعالى جعل كل مذهب من مذاهب المجتهدين وسيلة يتوصل بها إلى دخول الجنة التي هي دار الحبور أي النعيم والقصور العالية لأن كلا على هدى من ربهم وإن تفاوتوا في العلم والورع قال في التنقيح والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة وطرق إلى الخيرات فمن سلك طريقًا منها وصلة إليها فالواجب على العامي أن يقلد واحدًا منهم لأنه أهل فإذا قلده فقد فعل الواجب عليه فعلى هذا القول لا يجب البحث عن الأعلم والأروع ولا يجوز لأحد التفضيل الذي يؤدي إلى نقص في غير إمامه قياسًا على ما ورد في تفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الشعراني في الميزان:
وموجب تقليد الأرجح وجب
…
لديه بحث عن إمام منتخب
يعني أن أبن القصار من المالكية وأبن سريج والغزالي من الشافعية والإمام أحمد منعوا تقليد المفضول مع وجود الفاضل لأن أقوال المجتهدين في حق المقلد كالأدلة في حق المجتهد فكما يجب الآخذ بالأرجح من الأدلة يجب الآخذ بالراجح من أقوال العلماء فيجب على العامي البحث عن إمام أي مجتهد منتخب بفتح الخاء المعجمة أي راجح في العلم والدين فيجب عليه تقليد أورع العالمين وأعلم الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم الأعلم على الأصح وأورد عليه أنا لو
كلفنا العامي بمعرفة الفاضل من المفضول لكان تكليفًا بالمحال لقصوره عن معرفة مراتب المجتهدين وأجيب بمنع الاستحالة بأنه بمكنه هذا القدر من الاجتهاد بسؤال الناس وغيره من قرائن الأحوال كرجوع العلماء إلى قوله وعدم رجوعهم إلى قول غيره وكثرة المستفتين له وقلة المستفتين لغيره سواء كان المقلد بكسر اللام عاميًا أو عالمًا لجريان الخلاف في كل منهما.
ثالث الأقوال وأختاره السبكي جواز تقليد المفضول لمعتقده فاضلًا أو مساويًا فإن أعتقد فيه أنه مفضول امتنع تقليده واستفتاؤه والفرق بين هذا والقول الثاني أن هذا يكتفي باعتقاد الأرجحية أو المساواة ولا يجب عليه البحث على الأرجح والثاني لا يكتفي بمجرد ذلك الاعتقاد بل يوجب البحث على الأرجح قاله في الآيات البينات فعلى هذا القول إن أعتقد العامي رحجان واحد منهم تعين تقليده ولو كان مرجوحًا في نفس الأمر عملًا باعتقاده المبني عليه تعين التقليد وإذا تبين بعد أنه مفضول في الواقع اعتد بالتقليد الماضي وعمل بمقتضى الاعتقاد الثاني في غير ذلك كما لو تغير اجتهاد المجتهد بجامع أنه يلزمه إتباع اعتقاده كما يلزم المجتهد إتباع اجتهاده قاله في الآيات البينات:
إذا سمعت فالإمام مالك
…
صح له الشاو الذي لا يدرك
ببناء يدرك للمفعول أي إذا سمعت أيها الطالب لعلم هذه المسألة وجوب تقليد الأرجح من المجتهدين فأعلم أن الإمام مالكًا رحمه الله تعالى ثبت أن له الشاو أي السبق في العلوم والغاية التي لا يدركها مجتهد غيره من عصر التابعين فمن بعدهم:
للأثر الصحيح مع حسن النظر
…
في كل فن كالكتاب والأثر
يعني أن مالكًا ثبت له الفضل على غيره ممن ذكر لأجل الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم ولا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة مع ما ثبت
له من حسن النظر أي التصرف في كل فن من الفنون ككتاب الله العزيز وآثاره صلى الله عليه وسلم أي أحاديثه وكالعربية والأصول وغير ذلك مع جمعه لمسائل الاتفاق والاختلاف وهذا لا ينكره موالف ولا مخالف إلا من طبع الله على قلبه في التعصب وهو القدوة في الحديث وأول من ألف فأجاد ورتب الكتب والأبواب وضم الأشكال وأول من تكلم في غريب الحديث وشرح في الموطأ كثيرًا منه وله في تفسير القرآن كلام كثير قد جمع مع تجويده له وضبطه حروفه وروايته له عن نافع القارئ قال بعضهم ما رأيت أنزع بآية من مالك بن أنس مع معرفته بالمعمول به من الحديث والمتروك وسيرة الرجال قال بعضهم أن مالكًا هو المراد بالحديث المذكور من غير مرية إذ لم يوجد لغيره من علماء المدينة ممن تقدمه أو عاصره أو جاء بعده إلا بعض ما وجد له وكذا لم يشك السلف أنه المراد بالحديث وعد هذا الخبر من أعلام النبوءة وقال القاضي عبد الوهاب ما معناه أنه لا ينازعنا في هذا الحديث أحد من أرباب المذاهب إذ ليس منهم من له إمام من أهل المدينة فيقول المراد به إمامي ونحن ندعي أنه إمامنا بشهادة السلف له أنه إذا أطلق عالم المدينة أو إمام دار الهجرة فالمراد به مالك دون غيره من علماء المدينة رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين:
والخلف في تقليد من مات وفي
…
بيع طروس الفقه الآن قد نفى
الطروس جمع طرس بالكسر وهو الكتاب يعني أنه وقع الخلاف بين الأصوليين في جواز تقليد المجتهد الميت فالجواز قول الجمهور وعبر عنه الشافعي بقوله المذاهب لا تموت بموت أربابها ومنعه بعضهم مطلقًا.
ثالثهما يجوز إن لم يوجد مجتهد حي ولا يجوز مع وجوده.
ثالثها يجوز إن لم يوجد
…
مجتهد حي ولا يجوز مع وجوده
رابعًا يجوز فيمن نقل عنه أن نقله مجتهد في مذهبه لكن حكى أبن عرفة أن الإجماع اليوم منعقد على جواز تقليد الميت لفقدان
المجتهدين وإلا تعطلت الأحكام قال حلولو ولا خفاء في ثبوت الإجماع في ذلك إذ لم يرو عن أحد من أهل العلم إلا من مجتهد ولا من غيره بعد استقرار المذاهب المقتدي بها إظهار الإنكار على الناس في تقليدهم مالكًا أو الشافعي مع استمرار الأزمنة وانتشار ذلك في الأقطار والأمصار ويجرى عندي في هذه المسألة الكلام في بيع كتب الفقه فإن الخلاف الواقع فيها إنما هو حيث كان المجتهدون موجودين وأما اليوم فلا يختلف في بيعها كما ضرح به اللخمي قال في تعليل ذلك وإلا أدى إلى تعطيل الأحكام وهو جار على ما تقدم من انعقاد الإجماع اليوم على تقليد الميت وما ذكر أبن يونس وغيره في موجب الخلاف في بيع كتب الفقه حقًا وباطلًا بناء على أن المصيب واحد ليس بصحيح. انتهى. وقال اللخمي لا أرى أن يختلف اليوم في جواز الإجازة على تعليم العلم:
لك أن تسئل للتثبت
…
عن مأخذ المسؤول لا التعنت
معطوف على التثبت يقال جاءه متعنتا أي طالبًا لزلته يعني أنه يجوز لك أيها العامي سؤال العالم عن بيان مأخذه أي دليله فيما أفتاك به إذا كان السؤال للتثبت أي زيادة الثبوت عنده بإذعان نفسه للقبول ببيان المأخذ لا إن كان للتعنت أي قصد إظهار عجزه أو حطاه فلا يجوز:
(ثم عليه غاية البيان
…
إن لم يكن عذر بالاكتنان)
يعني أنه يجب على العالم بيان المأخذ لسائله المذكور تحصيلًا لإرشاده إن لم يكن عذر بالاكتنان أي خفاء مأخذه على السائل بأن كان كان يقصر فهمه عنه عادة فلا يبينه له صونًا لنفسه عن التعب فيما لا يفيد ويعتذر له بخفاء المدرك أي الدليل ومحل وجوب بيانه ما لم يشق مشقة لا تتحمل عادة:
يندب للمفتي اطراحه النظر
…
إلى الحطام جاعل الرضى الوطر
متصفًا بحلية الوقار
…
محاشيًا مجالس الأشرار
اطراحه بتشديد الطاء مصدر مضاف إلى فاعله والنظر مفعوله وإلى الحطام متعلق بالنظر وجاعل حال من الضمير فاعل الاطراح والوطر مفعول جاعل الثاني ومتصفًا ومحاشيًا حالان من صاحب الحال الأول والحطام المراد به الدنيا استعير لها ما تكسر من الأعواد والحشيش يعني أنه يستحب للمفتي أن يطرح النظر إلى الدنيا بأن يكتفي بما في يده عما في أيدي الناس ويجعل وطره أي حاجته التي له فيها هم وعناية رضي الله تعالى بهداية العوام ويستحب أن يكون متصفًا بالسكينة والوقار مجتنبًا لمجالس الأشرار أي السفهاء كما روي عن مالك أنه لم يجالس سفيها ومتى تلجأ المفتي ضرورة إلى مجالسة السفهاء فلا بأس حينئذ مع كفهم عمالًا يليق بحضرته:
والأرض لا عن قائم مجتهد
…
تخلو إلى تزلزل القواعد
يعني أنه لم يقع في الأرض خلو الزمان عن مجتهد مطلق أو مقيد كما لولي الدين قائم ذلك المجتهد لله بالحجة على خلقه تفوض إليه الفتوى وينصر السنة بالتعليم والأمر بإتباعها وينكر البدعة ويحذر من ارتكابها سواء كان ذلك القائم محددًا أم لا ما لم تتزلزل قواعد الزمان أي يختل انتظام الدنيا كطلوع الشمس من مغربها ويحتمل أن يراد بالقواعد قواعد الدين وأحكام الشريعة وبتزلزلها تعطلها والأعراض عنها دليل عدم الوقوع حيث الصحيحين (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله) أي الساعة قال البخاري وهم أهل العلم فإن تزلزلت القواعد أي أركان الدنيا أو الدين خلا الزمان من المجتهد المذكور لحديث الصحيحين
…
إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وفي مسلم أن بين يدي الساعة أيامًا أيامًا يرفع الله فيها العلم وينزل فيها الجهل:
وهو جائز بحكم العقل
…
مع احتمال كونه بالنقل
يعني أن خلو الزمان من مجتهد قبل تزلزل القواعد جائز عقلًا كما يدل عليه ظاهر استدلال ابن الحاجب والآمدي وغيرهما ويحتمل أن يكون الجواز شرعيًا كما قال سعد الدين التفتازاني وكلما جاز الشيء شرعًا جاز عقلًا ولا ينعكس إلا جزئيًا:
وإن بقول ذي اجتهاد قد عمل
…
من عم فالرجوع عنه منحظل
يعني أن العامي إذا عمل بقول مجتهد في مسألة لا يجوز له اتفاقًا الرجوع عنه إلى قول غيره في مثلها لأنه قد التزم ذلك القول بالفراغ من العمل به ونعني بهذا العامي الذي لم يلتزم مذهبًا معينًا وإلا فسيأتي في قوله وذو التزام مذهب إلخ
…
فالمراد بقولنا التزام ذلك القول التزامه في تلك الحادثة فقط لا التزام جميع ما قال وإذا قلنا بوجوب تكرار سؤال المجتهد إذا عاد مثل ما أفتى به أولًا فسأله فتغير اجتهاده لم يجب عليه العمل بقوله الثاني لأنه لم يلتزمه بالفراغ من العمل به بل يتخير بينه وبين الآخذ بقول غيره إلا أن اعتقد أحدهما أرجح وأوجبنا إتباع الأرجح قاله في الآيات البينات:
إلا فهل يلزم أو لا يلزم
…
إلا الذي شرع أو يلتزم
ببناء الأفعال الأربعة للفاعل يعني أنه إذا لم يعمل به بعدما أفتاه المجتهد فقيل يلزمه العمل به بمجرد الإفتاء لأنه في حقه كالدليل في حق المجتهدين وقيل يلزمه العمل به بالشروع في العمل به بخلاف ما إذا لم يشرع وقضية هذا القول أنه لو شرع في العمل به ثم تركه لم يجز له الرجوع عنه لحصول الشروع وقيل يلزمه العمل به أن التزم العمل به في تلك الحادثة قال في الآيات البينات ولعل المراد به أي بالالتزام العزم على العمل به وينبغي أن يكون الشروع في العمل به كالالتزام أو هو منه وأما الفراغ من العمل فالتزام بلا شبهة بدليل أنهم نقلوا الإجماع على منع الرجوع بعد العمل وأن الخلاف فيما قبل العمل انتهى.
رجوعه لغيره في آخر
…
يجوز للإجماع عند الأكثر
عند متعلق بيجوز يعني أن العامي يجوز له عند الأكثر الرجوع إلى قول غير المجتهد الذي استفتاه أولًا في حكم آخر لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنه يسوغ للعامي السؤال لكل عالم ولأن كل مسألة لها حكم نفسها فكما لم يتعين الأول للإتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله فكذلك في المسألة الأخرى قاله الحطاب شارح مختصر خليل قال القرافي انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهم بغير نكير فمن أدعى رفع هاذين الاجماعين فعليه الدليل انتهى.
وغير الأكثر يقولون أنه لا يجوز له الرجوع لأنه بسؤال المجتهد والعمل بقوله التزم مذهبه ومال إمام الحرمين إلى الجواز في عصر الصحابة والتابعين ومنعه في الإعصار التي استقرت فيها المذاهب:
وذو التزام مذهب هل ينتقل
…
أولًا وتفصيل أصح ما نقل
اعلم أن الأصح عندهم أنه يجب على العامي والعالم الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين وقيل لا يجب عليه التزام مذهب معين فله أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارة وبغيره أخرى وهكذا واختلف أهل الأصح هل يجوز له الانتقال عن المذهب الذي التزمه إلى مذهب آخر أولًا عدم الجواز للحازري والغزالي لأنه التزمه وإن لم يجب التزام عينه ابتداء لجواز أن يلتزم غيره القول الثاني الجواز والتزام ما لا يلزم غير لازم ثالثها وهو الأصح عدم الجواز فيما عمل به والجواز في غير ما عمل به أخذًا مما تقدم في عمل غير الملتزم فإنه إذا لم يجز له الرجوع قال أبن الحاجب والآمدي اتفاقًا فالملتزم أولى بذلك لكن قال تقي الدين السبكي أن في دعوى الاتفاق نظرًا وإن في كلام غيرهما ما يشعر بإثبات خلاف بعد العمل:
ومن أجاز للخروج قيدًا
…
بأنه لابد أن يعتقدا
فضلًا له وأنه لم يبتدع
…
بخلف الإجماع وإلا يمتنع
يعني أن من أجاز خروج العامي من مذهب إلى مذهب آخر قيد الجاوز بثلاثة شروط.
أحدها أنه لابد أن يعتقد فضل المنتقل هو إلى مذهبه ولو بوصول أخباره ولا يقلده في عماية ولعل المراد بكونه من أهل الفضل كونه من أهل الدين والورع والاعتقاد الحسن ومن أهل الفضل في العلم لثبوت كونه مجتهدًا.
والشرط الثاني أن لا يبتدع المنتقل بمخالفته للإجماع كان يجمع بين مذهبين على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بجوازها أحد فإن انتقى واحد من الشرطين امتنع الخروج المذكور وأشار إلى:
الشرط الثالث بقوله:
وعدم التقليد فيما لو حكم
…
قاض به بالنقض حكمه يؤم
بجر عدم بالعطف على المجرور في قوله بأنه إلخ والمضاف في حكمه مبتدأ خبره بالبناء للمفعول وبالنقض متعلق به يعني أن من أجاز الخروج قيد الجواز بالقيدين المذكورين وبعدم تقليد المذهب المنتقل إليه فيما ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة جمعها قوله:
إذا قضى حاكم يومًا بأربعة
…
فالحكم منتقض من بعد إبرام
خلاف نص وإجماع وقاعدة
…
كذا قياس جلى دون إيهام
لأنه إذا لم نقره شرعًا مع تأكيده بقضاء القاضي المجتهد فأولى أن لا نقره إذا لم يتأكد به وهذا هو المراد بقولهم يمتنع تتبع الرخص
وفسر بعضهم تتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب ما هو أسهل عليه فيما يقع من المسائل وإن كان لا ينقض فيه حكم الحاكم وقد منع القرافي هذا التفسير بأن قوله صلى الله عليه وسلم (بعثت بالحنفية السمحة) أي السهلة يقتضي جواز ذلك ونقل عن أبي إسحاق المروزي جواز تتبع الرخص وجوزه بعضهم للموسوس دون غيره وهو قول حسن وامتناع تتبع الرخص شامل لملتزم مذهب معين وغيره:
أما التمذهب بغير الأول
…
فصنع غير واحد مبجل
التمذهب بضم الهاء مصدر تمذهب يعني أن التمذهب بغير المذهب الأول الذي كان عليه بأن يصير مثلًا شافعيًا بعد أن كان مالكيًا وبالعكس فجائز لأنه فعله كثير من العلماء المبجلين عند الناس أي المعظمين لأن المذاهب كلها طرق إلى الجنة والكل على هدى من ربهم:
كحجة الإسلام والطحاوي
…
وأبن دقيق العيد في الفتاوي
يعني أن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي انتقل آخر عمره إلى مذهب الإمام مالك لأنه رآه أكثر احتياطًا وقد كان شافعيًا وكذلك أبو جعفر الطحاوي انتقل من مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة وكان قد صعب عليه مذهب الشافعي حتى أنه خلف خاله المزني أن لا يحصل منه شيء فلما انتقل إلى مذهب أبي حنيفة وتفقه فيه كان يقول لو أدركني خالي لكفر عن يمينه وانتقل تقي الدين بن دقيق العيد من مذهب مالك إلى مذهب الشافعي وكان يفتي في المذهبين وإلى ذلك أشرت بقولي ذي الفتاوي جمع فتوى وقد كان أبن مالك النحوي صاحب الخلاصة والتسهيل والكافية وغيرها ظاهريًا مدة إقامته بالأندلس فلما توطن الشام انتقل إلى مذهب الشافعي لأمر اقتضي ذلك إلى غير ذلك من الجلة الإعلام:
أن ينتقل لغرض صحيح
…
ككونه سهلًا أو الترجيح
بالجر عطفًا على الكون يعني أنه إنما يجوز انتقال من مذهبه الملازم له إلى مذهب آخر يلازمه إذا كان الانتقال لغرض صحيح أي شرعي ككون المذهب المنتقل إليه سهلًا والمنتقل منه صعبًا فيرجو سرعة التفقه فيه فهذا يجب عليه الانتقال قال السيوطي وأظن هذا هو السبب في تحول الطحاوي ومن الغرض الصحيح الانتقال لرجحان المذهب المنتقل إليه عنده لما رآه من وضوح أدلته وقوتها وهل يجب على هذا الانتقال أو يجوز احتمالان قالهما الشعراني في الميزان:
وذم من نوى الدنا بالقيس
…
على مهاجر لأم قيس
وذم فعل أمر والميم مثلث أي ذم لأنه ممنوع من قصد بانتقاله الدنيا كأخذه من أحباس على أهل المذهب المنتقل إليه وهو غير مضطر إليها مستدلًا على ذلك الذم بالقياس على من هاجر من مكة أو غيرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قاصدًا بهجرته الدنيا كمهاجر أم قيس رجل هاجر من مكة إلى المدينة لأجل امرأة تسمى أم قيس فسمي مهاجر أم قيس والهجرة في اللغة الانتقال من دار وشرعا الانتقال من دار الكفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لنصرة الإسلام قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي فهي مذمومة:
وإن عن القصدين قد تجردا
…
من عم فلتبح له ما قصدا
ببناء قصد للفاعل أي بح للعامي الذي ليس بفقيه قصد الانتقال من مذهب إلى مذهب يلازمه إذا تجرد ذلك العامي عن القصدين المذكورين بأن لم يكن تحوله لغرض ديني ولا دنيوي وأما الفقيه فيكره له أو يمنع لأنه حصل فقه الأول فيحتاج إلى زمن طويل لتحصيل المذهب الثاني قاله السيوطي:
ثم التزام مذهب قد ذكرا
…
صحة فرضه على من قصرا
قصر ككرم والتزام مبتدأ خبره جملة قد ذكر صحة فرضه ببناء ذكر للمفعول وصحة بكسر الصاد نائب الفاعل وعلى من قصر متعلق بفرض يعني أنه يجب التزام مذهب معين على من قصر باعه عن بلوغ رتبة الاجتهاد المطلق وقيل لا يلزمه:
والمجمع اليوم عليه الأربعة
…
وقفو غيره الجميع منعه
يعني أنه وقع الإجماع اليوم على وجوب تقليد المذاهب الأربعة أعني مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة ومذهب الشافعي ومذهب أحمد ومنع جميع العلماء قفو أي أتباع مذهب مجتهد غيرهم من القرن الثامن الذي انقرض فيه مذهب داوود إلى هذا القرن الثاني عشر وهلم جرا سواء كان أتباع التزام أو مجرد تقليد في بعض المسائل وإنما وقع الإجماع عليها قال الحطاب في شرح خليل لأنها انتشرت حتى ظهر فيها تقييد مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها فإذا أطلقوا حكمًا في موضع وجد مكملًا في موضع آخر وأما غيرهم فتنقل عنهم الفتاوي مجردة فلعل لها مكملًا أو مقيدًا أو مخصصًا لو انضبط كلام قائله لظهر فيصير في تقليده على غير ثقة. انتهى.
ومن دون مذهبه كداوود فقد انقرض وصار كان لم يدون والظاهر أن مذهب مالك يتعين على جل أهل المغرب إذ لا يكاد يوجد فيه أحد يعرف فقه غيره من المذاهب الثلاثة الأخرى ولا كتاب مؤلف في ذلك وكذا يتعين مذهب أبي حنيفة في أرض الروم لما ذكر ومنع تقليد غير الأربعة مستمر إلى ما أشار إليه بقوله:
حتى يجيء الفاطمي المجدد
…
دين الهدى لأنه مجتهد
يعني أنه إذا جاء الفاطمي وهو المهدي المنتظر لا يلزم تقليد الأربعة بل يجوز لمن تمذهب بمذهب من الأربعة أن ينتقل لمذهبه كما