الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكتب الى القاضى شمس الدين الأصفهانى الحاكم
-
وكان بالأعمال القوصيّة- رحمهما الله تعالى-:
أوضح الله صنائع المجلس فى بهيم الآمال غررا، ونظم أياديه فى أجياد الأيّام دررا، وصفّى مشارع أمانيّه إن كان مشرع الأمانىّ كدرا، ولا زال الإسلام يشدو بحمده مفتخرا، والأيّام تتلو مجده سورا، والشرع المحمدىّ يكون بمضائه فى ذات الله منتصرا
فقد نشرت يمناك أردية العلا
…
تحلّى بلاد الله بالدين «1» والعلم
وأمضيت أمر الله فى شرع أحمد
…
وقيّدت شكر الله فى مطلق الحكم
وترضى كلا الخصمين فى السّخط والرضا
…
كأنك تعطى الخصم ما كان للخصيم
الى غير ذلك من محاسن وضحت وضوح النجم فى الليل البهيم، وسرت الى الحمد سرى المجدّ الى الشرف الصميم، وحدّثت عن مساعيه فجاءت بالنثر البديع والدرّ النظيم، وأثنت عليه ثناء وارف الروض على واكف الوبل بألسنة النسيم
وهزّت جناحى فضله وجلاله
…
الى درك العلياء من غاية المجد
وقالت معاليه لى المجد كلّه
…
فما ابنة ذى «2» البردين والفرس الورد
فلا عدمه الإسلام إماما فاضلا، وحكما فاصلا، وساعيا الى غايات الفضائل واصلا، وفاعل حسنات صيّر الحاصل من ثنائه باقيا والباقى من عمله الصالح حاصلا؛ المجلس- أدام الله أيامه- يعلم أن الأيام مسّتنى بحدّ شباتها، ورمتنى عن قوس أذاتها، وجنتنى الحنظل من شجراتها، والمرّ من ثمراتها، وأضرمت من نار ألمى ما لم تطفئه مقلتى بفيض عبراتها
كأنى لم أطلع بأفق سمائها
…
ولم أتقلّب فى ثياب سماتها
ولم أك منها فى سويداء قلبها
…
مخايل من هدى العلا وهداتها
- أستغفر الله- فإنها استرجعت ما لم يكن مستحقّا، وأبقت إن شاء الله لمجلسه السامى ما كان حقّا، وأسكنته «1» - أدام الله نعمته- وفلك السعادة شرقا ومطلع الشمس أفقا، وأحلّته «2» من كنف السيادة قلبا ومن رأس الرّياسة فرقا
وتطلعه الآمال خير غمامة
…
فتلمعه برقا وتوكفه ودقا
وتبقيه للدين الحنيفىّ عصمة
…
وللهدى والإضلال إن أبهما فرقا
وتبرزه فى صدر كلّ فضيلة
…
كما بذّ شأو الفاضلين بها سبقا
حضر مملوك مولانا الولد [وقد «3» ] رفع من المحامد الشمسيّة لواء، والتزم العبوديّة والإخلاص ولاء، وعمر الأفنية ودادا والأندية ثناء؛ وقال: أحسن مولانا حين أساءت الأيام، وأولى نعمة حاتمية وإنها أشرف الإنعام
وما لى لا أثنى عليه بصالح
…
وأشكره والشكر بعض حقوقه
وأملأ من حسن الثنا كلّ مسمع
…
وإنّى لأخشى بعد إثم عقوقه
ثم سار وقلبى يتبعه، ودمعى يشيعه، ولسانى يستحفظه الله ويستودعه؛ وعليه من الديون ما أحاط به إحاطة الجفون بمقلها، والأغماد بمنصلها «1» ؛ لتوالى هذه المغارم التى طمّ جداها «2» ، والمظالم التى عم رداها، والمحنة التى ملكتنى يداها؛ من خراج طمى بحر ظلمه، وزاد على حدّ «3» الجور رسمه وخصصت من بين هذا العالم بوسمه «4» ؛ للزوم قام بوصفى فتبعه لازمه، ومعنى وجب لذاتى فاستحال عدمه؛ وقد كان المملوك وولده فيما سلف يجودان بما يجدان لقانع ومعترّ، وغنىّ ومضطرّ؛ صيانة للأعراض من أعراض اللّوم، ورغبة فى صلة حمد الأمس بفائد «5» اليوم؛ وسجيّة نفس تأنف من علاقة الذم؛ وإن كان هذا فيما لا يجب فالقياس فيما يجب انبعاث النفس اليه من حتم المروءة أمضى»
، والدّين بأداء الواجب أقضى؛ لانه
مؤيّد بإبرام الشرع، وقد صحّ هذا القياس بجامعيّة الأصل والفرع؛ لكن ضاقت «1» يد القدرة عن نفاذها، واعتاضت من وابل الثروة برذاذها؛ واذا توافرت القرائن أفادت فوق ما تفيد غلبات الظنون من مدار الشرعيّات عليها، وانتهاء غالب الأحكام إليها؛ وقد كان المملوك حرّك عزائم سيّدنا قاضى القضاة- شرّف الله قدره، وأدام على الإسلام أمره- إلى تحرّيها «2» العلوم الكريمة بما هى عالمه، وحكمها بما هى حاكمه؛ ليكون «3» له مستند يدفع أقوال المتعرّضين، ويصرف اعتراض المعترضين؛ ولئلّا يقف له واقف فيجرى قلمه الشريف بأمر جازم يجب الوقوف على مثاله، والمسارعة إلى امتثاله؛ فيعزّ استدراك الأمر بعد إحكامه، ويكون السعى فى معارضته كالنقض لأحكامه؛ فكتب بما يقف مولانا عليه، وتشير مروءته وديانته اليه؛ ويقرّر مع نائبه «4» ما يقف عنده، ولا يتجاوز حدّه؛ غير ذاكر عن مولانا منعا ينفّر عنه الرّواه «5» ، ولا مشنّع «6» بكتّاب سيّدنا قاضى القضاه؛ بل يكون كالشافع، اذا صمّم الخصم اعتذر بما هو لهذه المصالح كالجامع؛ ليكون المملّك «7» فى إرضائه بحسب الإمكان ويرى الخصم ما أخذه بعد اليأس نوعا من الإحسان؛ فالنفوس اذا منعت كلّ المنع طلبت كلّ الطلب، وتعلّقت فى درك أغراضها بكل سبب؛ وإذا أخذت بالكلام
البيّن «1» ، وعوملت بالسهل «2» الليّن؛ بعد درء سورتها «3» بالمنع، ودفع شهوتها بالدفع؛ اتّسق حكم الأشياء وانتظم، وانشعب صدع هذا الجرح والتأم؛ وجرى الأمر على سداد بحفظ النظام وحفظ الحرمة والحفظ للشارع، ولذلك قال:«أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم» لا سيما مع شهادات ضروراتهم؛ بسط الله يمين سيدنا فى المعالى كما بسط لسانه فى المعالم، وقيّد عليه لسان المحامد كما أطلق يده بالمكارم «4» ؛ وعليه تحية الله التى توالى عليه نفحاتها، وتهدى إلى آماله العالى [من «5» ] مقترحاتها.
وكتب إلى شهاب الدين محمود متولى سمهود «6» من عمل قوص-
وكان بينهما مودّة، فاستدعاه للسلام عليه- فكتب:
إلينا فإنا قد حللنا بأرضكم
…
على فرط شوق لابن عثمان دائم
وزرناك محمودا كما زار أحنف «7»
…
لنيل الأمانى ربع قيس بن عاصم «8»
ولسنا بغاة للندى والتماسه
…
وان كنت معروف الندى والمكارم
ولكن وفاء بالإخاء لمن وفى
…
وقد خان حتى حدّ سيفى وقائمى
وجدتك ذخرى والزمان محاربى
…
كما كنت عونى والزمان مسالمى
فلا غرو أن أثنى اليك أعنّتى
…
كما قد ثنت يمناى خنصر خاتمى
يهدى الى المجلس السامى الشرفىّ تحيّة الله التى تحملها أنفاس النسيم معطّرة بعرف الرياض، مكلّلة بأندية الكرم الفيّاض؛ تغاديه فى السحر والمقيل، وتراوحه فى الطّفل والأصيل، وتشاهد محاسنه «1» المقل أحسن من محاسن بثينة فى وجه جميل؛ وأثنيته «2» التى تنتظم فى الأجياد انتظام القلائد، وترد على الأسماع ورود الهيم «3» على عذاب الموارد؛ ويوليه «4» من حبّه مزيّة الاختصاص، ومن موالاته السوانح التى لا تمتد إليها يد الاقتناص؛ فهو نسيم الأنس، ومسرّة النفس، وذخر اليوم والأمس؛ مصعبىّ الهمم، مهلّبى الشيم «5» ، حاتمىّ الكرم؛ فاق أخلاقا، وراق أعراقا؛ وسما نفسا، وطلع فى سماء الشرف شمسا
وألفيته فى نفسه وولائه
…
وحسن معانيه كما انتظم الدرّ
وضاع شذا أنفاسه فانتشقته
…
على النأى منه مثلما ابتسم الزهر
ولاحت معاليه بآفاق مجده
…
كما لاح فى ليل التّمام لنا بدر
لا حرم إتيانى «1» اليه، وإيثار تسليمى عليه؛ مع أنى كنت أعهد له خلوة حلوة مع الله ووقفة على بابه، والتجاءه فى جنح الليل إلى جنابه، ودمعة يرسلها إذا استرسل فى محرابه؛ وضراعة يتابعها خشوعه، وزفرة يشتمل عليها قلبه وتفرّق عنها ضلوعه
فيا ليت شعرى هل أقامت بثينة
…
على عهدها أم قد ثنتها الشواغل
وهل ذلك الودّ الذى كان بيننا
…
بوادى الخزامى مثل ما كان أوّل «2»
وكتب اليه- رحمهما الله- يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليات «3» - وقد أوردنا بعض هذه الرسالة فى الفن الأوّل فى السواقى، ونوردها فى هذا الموضع بجملتها لتكون متتابعة يتلو بعضها بعضا-:
والسيف يندب فى الوغى فيهزّه
…
ندب الكمىّ الى مضاء غراره
والحرّ أولى بانتداب خلاله
…
لمؤمّل فيه قضا أوطاره
فلذلك حرّكت العزائم العالية المولويّة الشرفيّة- أدام الله علاها، ورفع لواها وأودع أسماع الأنام ثناها؛ ولا زالت مرفّهة السرائر، منوّرة الضمائر، سائرة فى قطب المعالى سير الفلك الدائر، آخذة بحظها من شرف المفاخر، جامعة بين درك إحسان
الله فى اليوم الأوّل واليوم الآخر- تحريك الطّسميّة «1» عزائم الأسود بن عفار «2» وبعثتها إلى إنالة الأمل انبعاث الهمم العربيّة يوم ذى قار «3» ، واستجشت عزائمها استجاشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عزائم الأنصار، واستنجدتها استنجاد العثمانيّة بالهاشميّة يوم الدار «4» ، واستحثثتها سرعة الإجابة استحثاث أدهم الليل أشهب النهار؛ فإنها
للتى ثنيت عليها خنصر الاعتماد، وصرفت اليها عقيدة الاعتداد «1» ، وجعلتها من القلب فى سويدائه ومن المقلة فى السواد، واعتمدت عليها اعتماد بكر على الحارث بن عباد «2» ؛ لا جرم أنها والحمد لله تعالى ساعية لآمالى متى استسعيتها، وصدى صوتى متى دعوتها وفاتحة كتاب المحامد متى تلوتها؛ وأعيذها بالله أن تنكب عن قضائها «3» ، أو تقف دون غاية انقضائها؛ وإنها لأورق «4» فرعا من أفنان السّلمه «5» ، وأعراق أصلا فى الوفاء من أصل السّلمه «6» ، وأرشق سهما فى كنانة سلمه «7» وأوثق فى حفاظ المودّة من ابن شبرمه «8» ؛ يقين
أحطت بأنبائه، إحاطة رسول ابن داود «1» يوم إنبائه؛ فلا أشكّ فى «2» شرف نفسها وسموّ نجمها ووضوح شمسها، وزيادة يومها فى الوفاء على أمسها «3» ، كما لا تشكّ الإياديّة فى فصاحة قسّها، ولا العامريّة فى علاقة قيسها؛ وقد توجّه اليه حاملها لحمل السهام التى أسهمت له من الموالاة «4» أوفر أقسامها، ونشرت رداء ذكره على أفئدة قلوبها وألسنة أقلامها؛ عند اشتداد الحاجة إليها، وجرّ ثقل السواقى عليها؛ وحركة الحرّ التى حلّت شمسه برج حملها «5» ، وتوالت جيوش جنوده بين صدور ظباها وأطراف أسلها؛ تجفّف أنداء الثرى، وتعيد عنبر «6» الأرض عثيرا، وتشيب مفارق نباتها، وتذيق الممات «7» أكباد حبّاتها؛ فاستنصر العزائم العالية المولوية الشرفيّة فى إطفاء لهبه واقتضينا إعانته قبل انتضاء «8» قضبه، وبعثنا لمحلّ الهمة الشرفيّة قبل سطوته على قضبه «9» وقصبه؛ لتجرى جداولها على صفحة الثرى مستفيضه، وتجنى ثمرات رياضها من
أنداء همّته أريضه «1» ؛ وتغازل مقل النفوس لحظات أزهارها، وتفتن أفنان «2» فنونها بنوح بلبلها وهزارها، ويبوح شذا الروض عن «3» سرّها وآثارها «4» ؛ هذا مع أنّها خطبت حسن إحسانه، وتقلّدت جميل برّه وجزيل امتنانه؛ والربيع منمنم العذار، موشّى الإزار؛ قد لبس رداء شبابه، وماس فى خضر ترابه وخضل ربابه «5» ؛ يهزّ أعطاف سنائه «6» ، ويخطر فى برد هوائه وبرد مائه، فكلّل وجنات نوره ببرد أندائه؛ والثرى عنبرىّ الأديم، سحرىّ النسيم، رندىّ الشميم؛ موشّح بقلائد غدرانه، مغازل بعيون نرجسه بسّام بثغر أقحوانه؛ لا يغرّد «7» ذبابه ولا يطرّب، ولا يصرّ «8» بسحراته الجندب؛ تطلع شمسه محتجبة فى ضبابها «9» ، مقنّعة من سحابها؛ جارية فى أثناء حبكها «10» ، جائلة فى أدنى فلكها؛ تسعى فتسرع، وتكاد أن تغرب حين تطلع؛ والجوّ معقود الأزرار، فاختىّ «11»
الإزار؛ غيمه منسكب، ونوره منسحب؛ وليله يضمّ أطراف نهاره، ويلفّ وجهه فى حاشية إزاره؛ ينفى القذاة «1» عن مائه، ويجمع الحواسّ على جلوائه «2» ، ويعشى المقل من ضوء سنائه
فلو أن ليلى زارنى طيف أنسها
…
وماء شبابى قاطر فى ذوائبى
ضممت عليها البرد ضمّة آلف
…
وألصقت أحشائى بها وترائبى
ولكن أتتنى بعد ما شاب مفرقى
…
وودّعت أحبابى له وحبائبى
والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة «3» الأنجم؛ ممتدّة امتداد الرمح، مقوّمة تقويم القدح؛ غير مشعثة الأطراف، ولا معقّدة الأعطاف، ولا مسوّسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها بامتلاء خصورها، وتساوى [بين «4» ] هواديها وصدورها؛ معتدلة القدود، ناعمة الخدود؛ مع مليات «5» أخذت النار فيها مأخذها فاسودّت، وتطاولت عليها مدّة الجفاف فاشتدّت؛ وترامت بها مدّة القدم، كأنها فى حيّز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه فى هيجاء السّلم، وتحكى «6» صلابة آرائه فى نفاذ الرأى ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بقبضها «7» ، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمدّ يد أيدها «8» فى اقتضاء إرادتها، وتطلع
طلوع الأنجم فى فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أوّل التوديع؛ على أنها تؤذن بحقائق الاعتبار، وتجرى جرى الفلك المدار فى فناء الأعمار
تمرّ كأنفاس الفتى فى حياته
…
وتسعى كسعى المرء أثناء عمره
يفارق خلّ خلّه وهو سائر
…
على مثل حال الخلّ فى إثر سيره
ويعلمه التّدوار لو يعقل الفتى
…
بأن مرور العمر فيه كمرّه
فمن أدركت أفكاره سرّ أمرها
…
فقد أدركت أفكاره سرّ أمره
ومن فاته الإدراك أدركه الردى
…
إذا جرّعت أنفاسه كأس مرّه
هذه آخر خطوات القلم، ومنتهى خطرات الكلم؛ فقم فى سرعة وصولها وتعجيل رسولها
بعزم [غدا] ينسى لمروان عزمه
…
براهط «1» إذ جاشت عليه القبائل
غير معتمد عليه، ولا مفوّض أمرا اليه؛ فلم أعتمد عليه اعتماد الصّوفه «2» ، وإنما هو العماد عند أهل الكوفة «3» ؛ وإنما هو حمار سير، وذنب طير؛ يحمل ورقة مطويّة عن
علمه، مزويّة عن فهمه؛ «كما يحمل الزّند الشرار إلى العظم» والله تعالى يحلّه من السعادة أشرف آفاقها، ويحرسه فى طفل الشمس وإشراقها
ويجريه من ألطافه نحو غاية
…
تبلّغه الألطاف حلو مذاقها
ويلبسه فخر السيادة والعلا
…
كما لبست أسماء «1» فخر نطاقها
إن شاء الله تعالى.
ذكر شىء من إنشاء المولى [القاضى «2» الفاضل البارع الأصيل] الأجل محيى الدين عبد الله [بن عبد «3» الظاهر] رحمه الله تعالى
كان رحمه الله من أجلّ كتاب العصر، وفضلاء المصر؛ وأكابر أعيان الدّول والذى افتخر بوجوده أبناء عصره على الأول؛ له من النظم الفائق ما راق صناعة وحسنا، ومن النثر الرائق ما فاق بلاغة ومعنى؛ فقصائده مدوّنة «4» مشهوره، ورسائله بأيدى الفضلاء ودفاترهم مسطوره؛ وكلامه كاد يكون «5» لأهل هذه الصناعة وعليهم
حجّه، وطريقه فى البلاغة أسهل طريق وفى الفصاحة أوضح محجّه؛ وهو رحمه الله ممن عاصرته «1» ولسوء الحظ لم أشاهد محيّاه الوسيم، ولم أفز بالنظر إلى طلاقة وجهه الكريم؛ والذى أورده من كلامه هو ممّا نقلته من خطّه، وتلقّيته ممّن سمعه من لفظه؛ فمن كلامه- رحمة الله عليه- ما كتبه عن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحىّ- رحمه الله إلى ملك الغرب، كتب:
تحيّات الله التى تتابع وفودها وتتوالى، وتشرق نجومها وتتلالا، وتنفق إسرافا ولا تخاف من ذى العرش إقلالا؛ تخصّ الحضرة السنيّة السّريّة، العالميّة العادليّة المستنصريّه؛ ذخيرة أمير المؤمنين، وعصمة الدنيا والدين، وعدّة الموحّدين؛ لا زالت سماؤها بالعدل مغدقة الأنواء مشرقة الأنوار، ورياضها بالفضل مورقة الأغصان مونقة الثمار؛ ولا برحت ضوالّ الأمانى فى أبوابها تنشد، وقصائد القصود «2» فى اتصافها تنشد؛ وسرى الآمال عند صباح أمرها يحمد، وأحاديث الكرم عن جودها ترسل والى وجودها تسند؛ وسلامه الذى يكاثر نسيم الروض الأنيق، ويفاخر جديده عتيق «3» المسك وأين الجديد من العتيق؛ يغاديان تلك الأنداء «4» المباركة مغاداة الغوادى
من «1» وابل المطر، ويراوحانها مراوحة الرّقّة للأصل والبكر؛ حيث العزّة القعساء يمتدّ رواقها، والنعمة الغرّاء تخصف «2» أوراقها، والدّيمة الوطفاء «3» يتوالى إغداقها، ويتتالى إغراقها؛ وحيث العدل منشور الجناح، والحقّ مشهور السلاح، والإنصاف مبرور الأقسام لطالبه باق لا يزاح؛ سجيّة تتوارث توارث الفخار، ومزيّة تستأثر بالهداية استئثار النجوم بالأنوار، وشيم تستصحب استصحاب الأهلّة للإبدار؛ فلذلك يتلفّت الأمل اليها تلفّت السارى الى تبلّج الصباح، ويرتاح الى تلقّى إحسانها ارتياح الظامئ إلى ارتشاف الماء القراح؛ ويحتمى بها فى المطالب احتماء الليث بالغابه، ويستمدّ إسعافها استمداد الحديقة من السحابة؛ ويهزّ عدلها كما هزّ الكمىّ المرهف، وينبّه فضلها تنبيه النسيم جفن الزهر الأوطف «4» ؛ فيناجى بالجؤور «5» ، ويلتمس لها حسن الصنع الذى لا يزال مبتسم الثغور؛ فمما قصّ عليه من مناجاته، وطوى عليه طويّة مفاوضاته؛ أنّ القاضى زين الدين بن حباسة من بيت أسلف سلفه جميلا، وغدا هو على مكارمه دليلا؛ وكان له غلام قد سيّر معه جملة «6»
…
والاحتفال الحفىّ «7» مسئول
فى تقدّم يجيب النجاح داعيه، ويغدو الفلاح مراوحه ومغاديه؛ واعتناء يستخلص حقّه ممن عليه اعتدى، ويرى من قبسه نورا يجد به هدى؛ فببارقة يضىء لديه الحالك، وبلمحة يهتدى «بحيث اهتدت أمّ النجوم الشوابك «1» » ؛ وما هو إلا رسم يرسم به وقد قرب البعيد، وآب الشريد؛ وخاف الخائف، وكفّ الجانف «2» ؛ وجمعت الضّوالّ، وضاق على المختزل «3» واسع المجال؛ مهابة قد سكنت القلوب، وسياسة قوى الطالب بها وضعف المطلوب، وعزّة لا يزال الرجاء ينيب إليها فيما ينوب؛ وأىّ مطلب تناجى فيه الآلاء المباركة فلا يصحب قياده، ويستسقى له مزن ولا تعاهد عهاده «4» ؛ وأىّ ذاهب لا يسترجع به ولو أنه عشيّات «5» الحمى، وأى فائت لا يردّ ولو أنه زمن الشبيبة المعسول اللّمى؛ وحسب العانى أن يحطّ برحابها رحاله، أو أن يوفد إلى أبوابها آماله؛ وقد تبادرت إليه المناجح متسابقه، وانتظمت لديه المصالح متناسقه؛ فحينئذ يفعم إناء تأميله، ويستوعب الإحسان لجملة «6» قصده وتفصيله؛ ويناديه
السعد من تلك البقعة المباركه، فيوافيه التوفيق بصحائف القبول تحملها الملائكه؛ أمتع الله ببركاتها التى امتدّ رواقها، وأنار الحالك إشراقها؛ ولا زالت يراوحها تسليم عطر النفحه، وتصافحها تحيّات جميلة الصفحة؛ بمنّه وكرمه.
وكتب رسالة صيديّة عن «1» السلطان الملك الظاهر إلى الأمير عز الدين الحلّىّ «2» نائب السلطنة بالقلعة:
هذه المكاتبة إلى المجلس لا توارت شموس أنسه، ولا أذبلت ثمار غرسه ولا برح غده فى السعد مربيا على يومه ويومه على أمسه؛ تتضمّن إعلامه بأنا خرجنا إلى الصيد المبارك بجنود تملا السهل والجبل، وتستحيى الشمس منها فتستتر فى سحابها من كثرة الخجل؛ تسير على الأرض منها جبال، وتأوى الرمال منها الى أورف ظلال؛ وتوجّهنا إلى جهة الطّرّانة «3» وإذا بحشود «4» الوحوش قد توافدت، وعلى مناهل المناهج قد تواردت؛ والأجل يسوقهم، والبيد تعقّهم»
، والمنايا تعوقهم؛
ولم تزل أيدى الخيل تجمعهم فى صعيد، وتطوى بهم سطورا فى طروس البيد؛ حتى أحاطت بهم إحاطة الفلك بالنجوم الزواهر، والأجفان بالعيون النواظر؛ وجرّدت السيوف فظنّتها غدرا، ورميت النبال فحسبتها شررا؛ وعزلت «1» الرماح بالسهام وحيّتها السّلام «2» بالسّلام، وسكنت نهارا من العجاج فى ظلام؛ وضاقت عليها الأرض بما ربحت، وأدركت المنيّة منها ما طلبت؛ وراسلتها المنايا، وأهدت اليها رياحين تحايا؛ فمن صريع وصديع وطريح وطريد، وجريح ومقبل وشريد، وقائم وحصيد؛ ولم تسلم فى هذا اليوم غير غزالة السماء فإنها استترت بالغيوم، وخافت أن يكون الهلال قد نصب فخّا لصيدها وصيد غيرها من النجوم؛ والموت «3» أسر كلّ مهاة مهابه، ونال الحتف من كل طلا «4» طلابه؛ وفتكت الظّبا بالظّبى، وقالت السهام لأجيادها: مرحبا؛ وثنينا الأعنّة والشفار قد أنهلت، والظهور قد أثقلت؛ والكنس «5» خاوية على عروشها، والبيد قد أوحشت من وحوشها؛ وما نشتمل عليه من محبّة المجلس وإيثاره، ونجده من الوحشة له مع دنوّ داره؛ وسروره بما عساه لنا يتجدّد، وحبوره بما يرد من جهتنا وهذا لا نشكّ فيه ولا نتردّد؛ أوجب أن نخصّه به ونتحفه، ونصفه له على جليّته إذ كنّا بالتخصيص به لن ننصفه؛ وقد بعثنا إليه منه قسما، ولم تنس عند ذكرنا أنفسنا له اسما.
وكتب عن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى صاحب اليمن جواب كتاب عزّى فيه السلطان عن ولده الملك الصالح علاء «1» الدّين علىّ- وكان الكتاب الذى ورد فى ورق أزرق، وسيّره فى كيس اطلس أزرق، والعادة أن يكون فى كيس أطلس أصفر-:
أعزّ الله نصرته وأحسن بتسليته الصبر على كل فادح، والأجر على كلّ مصاب قرح القرائح، وجرح الجوارح، وأوفد من تعازيه كلّ مسكّن طاحت «2» به من تلقاء صنعاء اليمن الطوائح، وكتب له جزاء المصبّر عن جار من دمع طافح، على جار لسويداء القلب صالح «3» ؛ المملوك يخدم خدمة لا يذود المواصلة بها حادث، ولا يؤخّرها عن وقتها أمر كارث، ولا تنقصها عن تحسينها «4» وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث؛ ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم لولا زرقة طرسه؛ وزرقة لبسه، لقال:«وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم» ؛ يتضمّن ما كان حدث من رزء تلافاه الله بناسيه، وتوافى هو والصبر فتولّى التسليم تبيين عاسيه «5»
وتمرين قاسيه؛ فشكرنا الله على ما أعطى وحمدناه على ما أخذ، وما قلنا: هذا جزع قد انتبه إلا وقلنا: هذا تثبّت قد انتبذ «1» ، ولا توهمنا أن فلذة كبد قد اختطفت إلّا وشاهدنا حولنا من ذرّيّتنا- والحمد لله- فلذ؛ وأحسنّا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كلّ باب، ووفّانا الله أجر الصابرين بغير حساب؛ ولنا- والشكر لله- صبر جميل لا نأسف معه على فائت ولا نأسى على مفقود، وإذا علم الله حسن الاستنامة إلى قضائه والاستكانة إلى عطائه عوّض كلّ يوم ما يقول المبشّر به:
هذا مولى مولود؛ وليست الإبل بأغلظ أكبادا ممن له قلب لا يبالى بالصدمات كثرت أو قلّت، ولا بالتباريح حقرت أو جلّت، ولا بالأزمات إن هى توالت أو تولّت، ولا بالجفون إن ألقت ما فيها من الدّموع والهجوع وتخلّت؛ ويخاف من الدهر من لم يحلب أشطره، ويأسف على الفائت من لا تنتابه الخطوب الخطره؛ على أن الفادح بموت الولد الملك الصالح- رضى الله عنه- وإن كان منكيا «2» والنائج بشجوه وإن كان مبكيا، والنائج «3» بذلك الأسف وإن كان لنار الأسى مذكيا؛ فإن وراء ذلك من تثبيت الله ما ينسفه نسفا، ومن إلهامه الصبر ما يجدّد لتمزيق القلوب أحسن ما به يرفا؛ وبكتاب الله وبسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم عندنا حسن اقتداء نضرب به عن كلّ رثاء صفحا، وما كنّا مع الله- والمنّة لله- نعطى لمن يؤنّب ويؤبّن «4» أذنا ولا نعيرها لمن يلحى؛ إذ الولد الذاهب مرّ فى رضوان الله تعالى سالكا
طريقا لا عوج فيها ولا أمتا «1» ، وانتقل سارّا بارّا صالحا وما هكذا كلّ الموتى نعيا ولا نعتا؛ وان كان نفعنا «2» فى الدنيا فها نحن بالصدقات والترحّم عليه ننفعه، وان كان الولد عمل أبيه- وقد رفع الله روح ولدنا فى أعلى علّيّين تحقّق أنه العمل الصالح «والعمل الصّالح يرفعه» ؛ وفيما نحن بصدده من اشتغال بالحروب، [ما «3» ] يهوّن ما يهول من الكروب؛ وفيما نحن عاكفون عليه من مكافحات الأعداء [ما «4» ] بين المرء وبين قلبه يحول، ومله عن تخيّل أسف فى الخاطر يجول
اذا اعتاد الفتى خوض المنايا
…
فأهون ما يمرّ به الوحول «5»
ولنا بحمد الله ذرّيّة درّيّة «6» ، وعقود والشكر لله كلّها درّيّة
اذا سيّد منهم خلا قام سيّد
…
قؤول لما قال الكرام فعول «7»
ما منهم الا من نظر سعده ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدا وأن تسدّ حاله بكفالته وكفايته مسدّ «1» الخبر «والشمس طالعة إن غيّب القمر» لا سيّما من الدين به إذ هو صلاحه أعرف، ومن إذا قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهى قيل: هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف «2» ؛ وعلى كلّ حال لا عدم إحسان المولى الذى يتنوّع فى برّه، ويعاجل قضاء الحقوق فتساعف مرسومه فى توصيله طاعة بحره وبرّه؛ وله الشكر على مساهمة المولى فى الفرح والترح، ومشاركته فى الهناء إذا سنح، وفى الدمع اذا سفح؛ وما مثل مكارم المولى من يعزب مثل ذلك عن علمها، ولا يعزى الى غير حكمها وحلمها؛ وهو- أعزه الله- ذو التجارب التى مخضت له من هذه وهذه الزّبده، وعرضت عليه منهما الهضبة والوهده؛ والرغبة الى الله تعالى فى أن يجعل تلك المصيبة للرزايا خاتمه وكما لم يجعلها للظهور قاصمة فلا يجعلها لعرا الشكر فاصمه «3» ، وان يجعلها بعد حمل هذا الهمّ وفصاله على عليه فاطمه؛ وأن يحبّب الينا كلّ ما يلهى عن الأموال والأولاد من غزو وجهاد، وأن يجعلنا ليس يحدّ لدينا على مفقود تأدّبا مع الله غير السيوف فإنها تعرف بالحداد، وألّا تقصف رماحنا إلا فى فود أو فى فؤاد، ولا تحوّل