المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٨

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌[تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و

- ‌[تتمة الباب الرابع عشر في الكتابة وما تفرع من أصناف الكتاب]

- ‌[تتمة ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام]

- ‌[تتمة ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه]

- ‌ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين

- ‌ذكر شىء من رسائل الشيخ الإمام الفاضل ضياء الدين

- ‌ومثل صدر هذه الرسالة لبعض الكتاب المتقدّمين

- ‌ولنعد الى كلام الشيخ ضياء الدين بن القرطبى

- ‌وكتب إليه أيضا شفاعة فى بعض الأعيان

- ‌وكتب إلى الصاحب قاضى القضاة بدر الدين السنجارى

- ‌وكتب الى القاضى شمس الدين الأصفهانى الحاكم

- ‌ومن إنشائه رحمه الله تقليد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بولاية عهد السلطنة

- ‌ذكر شىء من إنشاء المولى الماجد السالك

- ‌وكتب تقليدا مظفّريّا للأمير سيف الدين سلار المنصورىّ بنبابة السلطنة الشريفة

- ‌ومن انشائه أيضا أعزه الله تعالى مقامة عملها فى سنة اثنتين وسبعمائة

- ‌ذكر شىء من إنشاء المولى الفاضل الصدر الكبير الكامل؛ البارع الأصيل، الأوحد النبيل؛ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى

- ‌ومن إنشائه تقليد السلطان الملك الناصر لما ترك الديار المصرية وأقام بالكرك

- ‌ذكر شىء من الأبيات الداخلة فى هذا الباب

- ‌ولنصل هذا الفصل بذكر هفوات الأمجاد وكبوات الجياد

- ‌ذكر شىء من الحكم

- ‌ومن الأبيات المناسبة لهذا الفصل قول الأضبط بن قريع:

- ‌ذكر كتابة الديوان وقلم التصرف وما يتصل بذلك

- ‌ذكر اشتقاق تسمية الديوان ولم سمّى ديوانا ومن سمّاه بذلك

- ‌ذكر ما تفرّع عن كتابة الديوان من أنواع الكتابات

- ‌ذكر مباشرة ديوان الجيش وسبب وضع الدواوين وأول من وضعها فى الإسلام

- ‌وأما دواوين الأموال

- ‌وأما ديوان العراق

- ‌ويحتاج إلى بسط جريدة إقطاع صورتها:

- ‌ويحتاج إلى أن يتعاهد مباشرى المعاملات والبرور

- ‌ويحتاج أيضا إلى بسط جريدة ثالثة بأسماء أرباب النقود والمكيلات خاصّة

- ‌ويحتاج أيضا الى أوراق أخر تتضمن أسماء أمراء الميمنة وأمراء الميسرة، والجالس

- ‌ويحتاج الكاتب إلى تحرير شواهده وحفظها

- ‌ويحتاج إلى أنه مهما انحلّ من الإقطاعات

- ‌ويحتاج مباشر الجيش إلى مراجعة جرائده:

- ‌وأما مباشرة الخزانة

- ‌ومنها ضبط ما يصل إلى الخزانة من تقادم الملوك والنوّاب

- ‌ومنها تجهيز ما جرت العادة بأن يجهّز فى خزائن الصحبة عند استقلال ركاب السلطان من مقرّ ملكه

- ‌ومنها تحرير ما يصل إليه من الأقمشة من دار الأعمال

- ‌وأما مباشر بيت المال

- ‌ذكر مباشرة البيوت السلطانية

- ‌وأما الشراب خاناه

- ‌وأما الفراش خاناه

- ‌وأما السلاح خاناه

- ‌ذكر الجزية الواجبة على أهل الذمّة و

- ‌أما الأحكام الشرعيّة

- ‌وأما ما اصطلح عليه كتّاب التصرّف

- ‌وأما ما يلزم مباشر الجوالى وما يحتاج الى عمله

- ‌ذكر جهات الخراجىّ وأنواعه وما يحتاج اليه مباشره

- ‌أما الديار المصريّة وأوضاعها وقوانينها وما جرت عليه قواعدها على ما استقرّ فى زماننا هذا وتداوله الكتّاب

- ‌وأما الخراج الراتب

- ‌وأما جهات الخراجىّ بالشام وكيفيّتها وما يعتمد عليه مباشروها

- ‌وأما ما يشترك فيه الهلالىّ والخراجىّ ويختلف باختلاف أحواله فجهات

- ‌أما المراعى

- ‌وأما المصايد

- ‌وأما الأحكار

- ‌وأما أقصاب السكّر ومعاصرها

- ‌ذكر كيفية الاعتصار والطبخ وتقدير المتحصّل

- ‌وأما أقصاب الشأم

- ‌ذكر أوضاع الحساب وما يسلكه المباشر ويعتمده فيها

- ‌أوّل ما يحتاج اليه كلّ مباشر أن يضع له تعليقا ليوميّته

- ‌ثم يكتب العامل مخزومة يورد فيها المستخرج والمحضر والمجرى والمصروف

- ‌ذكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم

- ‌فأما الختم

- ‌وأما التوالى

- ‌ولهم أيضا توال يسمّونها توالى الارتفاع

- ‌ولهم أيضا توالى الاعتصار

- ‌وأما الأعمال

- ‌فأما أعمال الغلال والتقاوى

- ‌وأما عمل الاعتصار

- ‌وأما عمل المبيع

- ‌وأما عمل المبتاع

- ‌وأما عمل الجوالى

- ‌وأما عمل الخدم والجنايات والتأديبات

- ‌وأما السياقات

- ‌فأما سياقة الأسرى والمعتقلين

- ‌وأما سياقة الكراع

- ‌وأما سياقة العلوفات

- ‌وأما الارتفاع

- ‌ومن أبواب المضاف ما يضاف بالقلم

- ‌ومن وجوه المضاف الغريبة: المستعاد نظير المعاد

- ‌وأما الحواصل المعدومة المساقة بالأقلام

- ‌ومما يلزم الكاتب رفعه المحاسبات

- ‌ومما يلزم الكاتب رفعه ضريبة أصول الأموال ومضافاتها عن كلّ سنة كاملة

- ‌ويلزمه رفع المؤامرات

- ‌ويلزمه رفع ضريبة ما يستأدى من الحقوق

- ‌ومما يلزمه رفعه فى كلّ سنة تقدير الارتفاع

- ‌ويلزمه فى كل ثلاث سنين رفع الكشوف الجيشيّة

- ‌ذكر أرباب الوظائف وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عمله

- ‌وأما الناظر على ذلك

- ‌وأما صاحب الديوان

- ‌وأما مقابل الاستيفاء

- ‌وأما المستوفى

- ‌وأما المشارف

- ‌وأما الشاهد

- ‌وأما العامل

الفصل: ‌ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين

‌الجزء الثامن

[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

‌[تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و

]

[تتمة الباب الرابع عشر في الكتابة وما تفرع من أصناف الكتاب]

[تتمة ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام]

[تتمة ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه]

بسم الله الرحمن الرحيم

‌ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين

أبى علىّ عبد الرحيم ابن القاضى الأشرف [أبى المجد «1» علىّ] بن «2» الحسن بن الحسين ابن أحمد بن اللّخمىّ الكاتب المعروف بالبيسانىّ- رحمه الله تعالى- إليه انتهت صناعة الإنشاء ووقفت، وبفضله أقرّت أبناء البيان واعترفت، ومن بحر علمه رويت ذو والفضائل واغترفت؛ وأمام فضله ألقت البلاغة عصاها «3» ، وبين يديه استقرّت «4» بها نواها؛ فهو كاتب الشرق والغرب فى زمانه وعصره، وناشر ألوية الفضل فى مصره وغير مصره؛ ورافع علم البيان لا محاله، والفاصل بغير إطاله؛ وقد أنصف بعض الكتّاب فيه، ونطق من تفضيله بملء فيه؛ حيث قال:

ص: 1

كلّ فاضل بعد الفاضل فضله، وكلّ قد عرف له فضله؛ وستقف إن شاء الله من كلامه على السحر الحلال، فتروى صداك من ألفاظه بالعذب الزّلال؛ فمن ذلك قوله: وافينا «1» قلعة نجم [وهى «2» نجم] فى سحاب، وعقاب فى عقاب «3» ؛ وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة اذا خضبها الأصيل كان الهلال لها «4» قلامه.

ومن رسائله ما كتب به الى النظام أمير حلب: ورد كتاب المجلس السامى- حرس الله به نظام المجد [وأطلق فيه «5» لسان الحمد] ، ودامت مساعيه مصافحة ليد السعد، وأحسن له التدبير فى اليومين: من قبل ومن بعد- فمرحبا بمقدمه، وأهلا بمنجمه؛ والشوق تختلف وفود «6» صروفه، وتتنوّع صنوف ضيوفه؛ فلا بد أن تتبعّض اذا تبعّضت المسافات، وتبرد وتخمد اذا عبّدت «7» ودنت الطّرقات؛ ولو بمقدار ما يدنو اللقاء على الرسول السائر، بالكتاب الصادر، والخيال الزائر، بالحبيب العاذر، والنسيم الخاطر، من رسائل الخواطر؛ وقد وجدت عندى أنسا لا أعهده؛ وعددت نقص البعد أحد اللقاءين، كما كنت أعدّ زيادة البعد أحد النأيين؛ فزاده الله من القلوب

ص: 2

حظوه، ولا أخلاه من بسط يد وقدم فى حظّ وحظوه «1» ؛ ووقفت على هذا الكتاب المشار اليه وما وقفت عنه لسانا شاكرا، ولا صرفت عنه طرفا ناظرا، وبلغت من ذلك جهدى وإن كان قاصرا، واستفرغت له خاطرى وما أعدّه اليوم خاطرا؛ ومما أسرّ به أن يكون فى الخدمة السلطانية- أعلاها الله ورفعها، ووصلها ولا قطعها، وألّف عليها القلوب وجمعها، واستجاب فيها الأدعية وسمعها- من يكثّر قليلى، ويشفى فى تقبيل الأرض غليلى، فإن تقبيل سيدنا كتقبيلى؛ فلو شرب صديق وأنا عطشان لأروانى، ولو استضاء بلمعة فى الشرق وأنا فى الغرب لأرانى؛ كما أنّ الصّديق اذا مسّته نعمة وجب عنها شكرى، واذا وصلت اليه يد منعم وصلتنى وتغلغلت الىّ ولو كنت فى قبرى.

ومنها: وأعود الى جواب الكتاب، الأخبار لا تزال غامضة إلى أن يشرحها، ومقفلة إلى أن يفتحها؛ بخلاف حالى مع الناس، فإن القلوب لا تزال سالمة إلا أن يجرحها، والهموم خفيفة إلا أن يرجّحها؛ والحقّ من جهته ما تحقّق، وما استنطق بشكر من أنطق؛ وفى الخواطر فى هذا الوقت موجود يجعلها [فى «2» ] العدم، ويخرجها من الألم الى اللّم «3» ، ويعادى بين الألسنة والأسماع وبين العيون والقلم؛ وكلّما قلّت الحيلة المشكوك فى نجحها، فتح الله باب الحيلة المطموع فى فتحها؛ وهى من فضل الله سبحانه والاستجارة بالاستخاره، فتلك تجارة رابحة وكلّ تجارة لا تخلو من خساره؛ والله تعالى يجمع كلمة المسلمين على يد سلطاننا، ولا يخلينا منه ومن [بنيه «4» ] حلّى زماننا، وشنوف إيماننا، ويسعدنا من أكابرهم بتيجان رءوسنا، ومن أصاغرهم بخواتم أيماننا؛

ص: 3

ولو تفرّغت العزمة الفلانية لهذا الكلب العدوّ فترجم كلبه، وتكفّ غربه؛ وتذيقه وبال أمره، وتطفئ شرار شرّه، وتعجّل له عاقبة خسره؛ فقد غاظ المسلمين وعضّهم، وفلّ جموعهم وفضّهم؛ وما وجد من يكفى فيه ويكفّه، ويشفى الغليل منه بما يشفّه «1» ؛ ولو جعل السلطان- عزّ نصره- غزو هذا الطاغية مغزاه «2» ، وبلاده مستقرّ عسكره ومثواه، لأخذ الله الكافر بطغواه؛ ولأبقى ذكرا، وأجرى فى الصحيفة أجرا؛ ولأطفأ الحقد الواقد، بالحديد البارد، وغنم المغنم البارد، وسدّد الله ذلك العزم الصادر والسهم الصارد «3» ؛ فلا بدّ أن يجرى سيّدنا هذا الذكر، ولو لما أحتسبه أنا من الأجر؛ وما أورده المجلس عن فلان من صفو شربه، وأمن سربه؛ واستقراره تحت الظلّ الظليل السلطانى- جعله الله ساكنا، وأحلّه منه حرما آمنا- ومن معافاته فى نفسه وولده وجماعته، وأهل ولائه وولايته، فقد شكرت له هذه البشرى، وفرحت بما يسّر الله ذلك المولى له من اليسرى؛ غير أنى أريد أن أسمع أخباره منه لا عنه وبمباشرته لا باستنابته، فلا عرفت مودّته من المودّات الكسالى، ولا أقلامه إلا بلبس السواد- على أنها مسرورة سارّة لا ثكالى؛ واذا قنع صديقه منه بفريضة حجيّة، لا تؤدّى إلا فى ساعة حوليّه، فإن يبخل بها ذلك الكريم فقد انتحل الاسم الآخر- أعاذه الله منه، وصرف عنه لفظه كما صرف معناه عنه؛ وللمودّة عين لا يكحلها اذا رمدت إلا إثمد مداد الصديق، وما فى الصبر وسع لصحبة أيام العقوق بعد صحبة أيام العقيق؛ وقد بلغنى أنّ ولد المذكور نزع «4» وترعرع، ونفع

ص: 4

وأينع؛ وخدم فى المجلس السلطانىّ، فسررت بأن تجمع فى خدمته الأعقاب والذّرارى؛ والله تعالى يحفظ علينا تلك الخدمة جميعا، ولا يعدمنا من يدها سحابا ولا من جنابها ربيعا؛ وقد فتح سيّدنا بابا من الأنس ونهجه، وأوثر ألّا يرتجه؛ بمكاتباته التى يده فيها بيضاء، ويد الأيام عندى خضراء؛ بحيث لا يستوفى على الحساب، فى كل جواب؛ وأنا فى هذه الأحوال أوثر العزلة وأبدأ فيها بلسانى وقلمى، وأتوخّى أن أشبّه حالة وجودى بعدمى؛ فإنى أرى من تحتها أروح ممن فوقها، ومن خرج منها أحظى ممن أقام بها؛ وللمودّات مقرّ ما هو إلا الألسنه، والقلوب قضاة لا تحتاج الى بيّنه.

وكتب [جوابا «1» ] أيضا الى آخر وهو: وقفت على كتاب الحضرة- يسر الله مطالبها وجمّل عواقبها، وصفّى من الأكدار مشاربها، وحاط من غير الأيّام جوانبها، ووسّع فى الخيرات سبلها ومذاهبها؛ ووقاها ووقى ولدها، وأسعدها وأسعد يومها وغدها؛ وجمع الشمل بها قريبا، وأحدث لها فى كلّ حادثة صنعا غريبا- من يد الحضرة الفلانيّة- لا عدمت يدها ومدّها، وأدام الله سعدها- وشكرت الله على [ما «2» ] دلّ عليه هذا الكتاب من سلامة حوزتها «3» ، ودوام نعمتها؛ وسبوغ كفايتها؛ وسألته سبحانه أن يصحّ جسمها، ويميط همّى وهمّها؛ فهما همان لا يتعلّقان إلا بخدمة المخدوم- أجارنا الله فيه من كلّ هم، وأجرى بتخصيصه السعد الأعمّ، واللّطف الأتمّ- وعرفت ما أنعمت بذكره من المتجدّدات بحضرته، ومن الأمور الدالّة على سعادته وقوّته؛ وللأمور أوائل وأواخر، وموارد ومصادر؛ فنسأل الله سبحانه أن يجعل

ص: 5

العواقب لكم، والمصادر إليكم، والنعمة عندكم، والنّصرة خاصّة بسلطانكم، والكفاية مكتنفة بجماعتكم «1» ؛ وقد قاربت الأمور بمشيئة الله أن تسفر وجوهها، والخواطر أن يستروح مشدوها «2» ، «إنّ الله لذو فضل على النّاس» وفى كلّ أقدار الله الخيرة، وفى حكمته أنه جعل الخيرة محجوبة تحت أستار الأقدار؛ وقد علم الله تقسّم فكرى لما هى عليه من المشقّات المحمولة بالقلب والجسد، والأمور الحاضرة فى اليوم والمستقبلة فى غد؛ وهى فى جانب الخير، والخير يعمّ الوكيل لصاحبه، ومن أصلح جانبه مع الله كان الله جديرا بإصلاح جانبه.

ومنه: وعليه السلام الطيّب الذى لو مرّ بالبهيم لأشرق، أو بالهشيم لأورق؛ وكتبها الكريمة إن تأخّرت فمأموله، وان وصلت فمقبوله؛ وان أنبأت بسارّ فمشهوره وان أنبأت بشرّ فمستوره؛ وخادمها فلان يخدم مجلسها خدمة الخادم لمخدومه، ويكرر التسليم على وجهه الكريم المحفوف من كلّ قلب بحبّه، ومن كلّ سلام بتسليمه.

وكتب أيضا: وصل كتاب الحضرة- وصل الله أيّامها بحميد العواقب، وبلوغ المآرب، وصحبت الدهر [على خير «3» ما صحبه صاحب] ، وأنهضنا بواجب طاعته، فإنه بالحقيقة الواجب- وكلّ واجب غيره غير واجب- من يد فلان، فرجوت أن يكون طليعة للاقتراب، ومبشّرا بالإياب، ومخبرا بعودها الذى هو كعود الشباب لو يعود الشباب؛ وأعلمنى من سلامة جسمها، وقلبها من همّها؛ ما شكرت الله عليه، واستدمت العادة الجميلة منه، وسألته أن يوزعها «4» شكر النعمة فيه؛ وعرفت الأحوال جملة من كتابها، وكلّها

ص: 6

تشهد بتوفيق سلطاننا، وبأيّامه التى تعود بمشيئة الله بإصلاح شانه وشاننا؛ والذى مدّه ظلّا، يمدّه فضلا؛ فالفضل الذى فى يديه، فى يخلق الله الذى أحالهم فى الرزق عليه؛ فكيفما دعونا لأنفسنا، وكيفما كانت أسنّة رماحه فهى نجوم حرسنا، فلا عدمت أيامه التى هى أيام أعيادنا، ولا لياليه التى هى ليالى أعراسنا.

ومن أجوبته: ورد على الخادم- أدام الله أيام المجلس وصفّاها من الأكدار، وأبقى بها من تأثيراته أحسن الآثار، وأسمع منه وعنه أطيب الأخبار وجعل التوفيق مقيما حيث أقام، وسائرا أينما سار- كتابه الكريم، الصادر عن القلب السليم، والطبع الكريم، والباطن الذى هو كالظاهر كلاهما المستقيم؛ ولا تزال الأخبار عنّا محجمه، والأحاديث مستعجمه؛ والظنون مترجّحه «1» ، والأقوال مسقمة ومصحّحه؛ الى أن يرد كتابه فيحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ويتّضح الحالى ويفتضح العاطل؛ ويعرف الفرق ما بين تحرير قائل، وتحوير ناقل «2» ؛ فتدعو له الألسنة والقلوب وتستغفر بحسناته الأيام من الذنوب؛ والشجاعة شجاعتان: شجاعة فى القلب وشجاعة فى اللسان؛ وكلتاهما لديه مجموع، ومنه وعنه مروىّ ومسموع؛ وذخائر الملوك هم الرجال، وآراء الحزماء هى النصال، ومودّات القلوب هى الأموال، ومجالس آرائهم هى المعركة الأولى التى هى ربما أغنت عن معارك القتال؛ والله تعالى يمدّ المسلمين به حال تجمّعهم على جهاد الكفّار، ويلهمهم أن يبذلوا فى سبيله النفس والسيف والدّرهم والدينار؛ ويزيل ما فى طريق المصالح من الموانع، ويفطم السيوف عن الدّماء الإسلاميّة ويحرّم عليها المراضع؛ ويجعل للمجلس فى ذلك اليد العليا، والطريقة المثلى، ويجمع له بين خيرى الآخرة والأولى؛ والأحوال هاهنا بمصر مع بعد سلطانها

ص: 7

وتمادى غيبته عن مباشرة شانها؛ على ما لم يشهد مثله فى أوقات السكون فكيف فى أوقات القلق، على من يحفظ الله به من فى البلاد من الجموع ومن فى الطّرقات ومن الرّفق؛ والأمير الولد صحيح فى جسمه وعزمه، متصرّف فى مصالحه على عادته ورسمه؛ جعله الله نعم الخلف المسعود، وأمتعه بظلّ المجلس الممدود، فى العمر الممدود؛ وعرف الخادم أن المجلس ناب عنه مرّة بمجلس فلان ويشكر على ما سلف من ذلك المناب، ويستزيد ما يستأنفه من الخطاب؛ والبيت الكريم أنا فى ولائه وخدمته كما قيل:

إنّ قلبى لكم لكالكبد الحرّى

وقلبى لغيركم كالقلوب

يسرّنى أن يمدّ الله ظلّهم، وأن يجمع شملهم؛ كما يسوءنى أن تختلف آراؤهم ولا تنتظم أهواؤهم؛ وهذا المولى يبلغنى أنه سدّ وساد، وجدّ وجاد، وخلف من سلف من كرام هذا البيت من الآباء والأجداد؛ واشتهرت حسن رعايته لمن جعله الله من الرعايا وديعه، وحسن «1» عنايته بمن جعله الله له من الأجناد شيعه؛ وإذ بلغنى ذلك سررت له ولابنه ولجدّه، وعلمت أنه لم يمت من خلّفه لإحياء مجده؛ ومن استعمله بحسن فقد أراد الله به حسنا، ومن أحسن إلى خلق الله كان الله له محسنا؛ إن الله أكرم الأكرمين، وأعدل العادلين؛ وكتب المجلس السامى ينعم بها متى خفّ أمرها، وتيسّر حملها، وتفرّغ وقته لها؛ والثقة حاصلة بالحاصل من قلبه، وعاذرة وشاكرة فى المبطئ «2» والمسرع من كتبه؛ ورأيه الموفّق إن شاء الله تعالى.

وكتب: ورد كتاب الحضرة السامية- أحسن الله لها المعونه، ويسّر لها العواقب المأمونه، وأنجدها على حرب الفئة الكافرة الملعونه- بخبر خروج الخارج

ص: 8

من قلعة كذا، وما صرّح به من الخوف الذى ملأ الصدور، والاستحثاث فى مسير العسكر المنصور؛ وكلّ ضيقة «1» وردت على القلوب ففزعت فيها إلى ربّها فرجت فرجه وأذكى لها اليقين سرجه؛ ولم تشرك معه غيره مستعانا، ولم تدع معه من خلقه إنسانا؛ فما الضّيقة وإن كانت منذرة إلا مبشّره، والخطة وإن كانت وعرة إلا ميسّره؛ لا جرم أن هذا الكتاب أعقبه وصول خبر نهضة فلان- نصر الله نهضاته، وأدّى عنه مفترضاته- فاستنهض العساكر، وقوتل العدوّ الكافر؛ فنفّس ذلك الخناق، وتماسكت الأرماق؛ وما أحسب أنّ الأمر يتمادى مع القوم، بل أقول: لا كرب على الإسلام بعد اليوم؛ تتوافى بمشيئة الله ولاة الأطراف، ويزول من نفس العدوّ وسمعه ما استشعره بين المسلمين من الخلاف؛ ويجتمعون إن شاء الله على عدوّهم، ويذهب الله بأهل دينه ما كان [من فساد «2» ] أعدائه فى أرضه وعلوّهم؛ وقد شممنا رائحة الهدنة بطلب الرسول، وبخبر هلاك ملك الألمان الذى هو بسيف الله مقتول، والموت سيف الله على الرقاب مسلول.

ومنها: فأما ما أشار إليه من القلاع التى شحنها «3» ، والحصون التى حصّنها؛ والأسلحة التى نقلها إليها، والأفوات التى ملأ بها عيون مقاتلتها وأيديها؛ فإن الله يمنّ عليه بأن يسّره لهذه الطاعه، ورزقه لها الاستطاعه؛ فكم رزق الله عبدا رزقا حرمه منه وفتح عليه بابا من الخير وصرفه عنه؛ لا جرم أنه وفّى قوما أجرهم بغير حساب، ووقف

ص: 9

قوما بموقف مناقشة الحساب، الذى المصرف عنه إلى ما بعده من العذاب؛ الآن والله ملّك الملك العادل ماله الذى أنفقه، وأودعه لخير مستودع من الذى رزقه؛ وشتّان بين الهمم: همّة ملك ذخر ماله فى رءوس القلاع لتحصين الأموال، وهمّة ملك أودع ماله فى أيدى المقاتلة لتحصين القلاع

يبنى الرجال وغيره يبنى القرى

شتّان بين مزارع ورجال

والحمد لله الذى جعل ماله له مسرّه، يوم يرى الذين يكنزون الذهب والفضّة المال عليهم حسره؛ ما أحسب أحدا من هذه الأمّة إن كان عند «1» الله من أهل الشهادات بين يديه، وإن كان كريم الوفادة لديه؛ إلا تلقّاه شاكرا لهذا السلطان شاهدا بما يولى هذه الأمّة من الإحسان، «وفى ذلك فليتنافس المتنافسون» سيحصد الزارعون ما زرعوا، والله يزيده توفيقا إلى توفيقه، ويلهم كلّ مسلم [القيام «2» ] بمفترض برّه ويعيذه من محذور عقوقه؛ وأنا أعلم أنّ الحضرة تفرد لى شطرا من [زمانها المهم، لكتاب تلقيه «3» الىّ، وخبر سارّ تورده علىّ؛ وأنا أفرد شطرا من] زمانى لشكرها، وأسرّ والله لها بتوفيق الله فى جميع أمرها، فإن الذّاكر لها بالخير كثير، فزاد الله طيب ذكرها؛ ورأيه الموفّق فى أن يجرينى على كنف العادة، و [لا «4» ] يقطع عنى هذه المادّة؛ إن شاء الله تعالى.

وكتب: ورد كتاب المجلس السامى- نصر الله عزائمه، وأمضى فى رءوس الأعداء صوارمه، وشدّ به بنيان الإسلام ودعائمه، واستردّ به حقوق الإسلام من

ص: 10

الكفر ومظالمه، وأخلف نفقاته فى سبيل الله ومغارمه، وجعلها مغانمه- وكان العهد به قد تطاول، والقلب فى المطالبة ما تساهل، ولمحت أشغاله بالطاعة التى هو فيها وما كلّ من تشاغل تشاغل؛ فهنّأه الله بما رزقه، وتقبّل فى سبيل الله ما أنفقه وعافى الجسم الذى أنضاه فى جهاد عدوّه وأخلقه، وقد وفق من أتعب نفسا فى طاعة من خلقها، وجسما فى طاعة من خلقه؛ فهذه الأوقات التى أنتم فيها أعراس الأعمار، وهذه النفقات التى تجرى على أيديكم مهور الحور فى دار القرار؛ قال الله سبحانه فى كتابه الكريم: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

وأما فلان وما يسّره الله له، وهوّنه عليه، من بذل نفسه وماله، وصبره على المشقّات واحتماله، وإقدامه فى موقف الحقائق قبل رجاله؛ فتلك نعمة الله عليه، وتوفيقه الذى ما كلّ من طلبه وصل اليه؛ وسواد العجاج فى تلك المواقف، بياض ما سوّدته الذنوب من الصحائف «يا ليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما» فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطّمأنينة تلك المرجفات «1» ؛ وقد علم الله سبحانه وتعالى منّى ما علم من غيرى من المسلمين من الدعاء الصالح فى الليل إذا يغشى، ومن الذكر الجميل لكم فى النهار إذا تجلّى؛ والله تعالى يؤيّد بكم إيمانكم، وينصركم وينصر سلطانكم، ويصلحكم ويصلح بكم زمانكم، ويشكر هجرتكم التى لم تؤثروا عليها أهليكم ولا أموالكم ولا أوطانكم؛ ويعيدكم إليها سالمين سالبين، غانمين غالبين؛ إنه على كل شىء قدير.

وكتب: وصل كتاب الحضرة السامية- أيد الله عزمها، وسدّد سهمها وجعل فى الله همّها، ووفّر فى الخيرات قسمها- مبشّرا بالحركة الميمونة السلطانيّة

ص: 11

إلى العدوّ خذله الله، ومسير المسلمين- نصرهم الله- تحت أعلامه أعلاها الله؛ ومباشرة العدوّ واستبشار المسلمين بما أسعدهم الله من الجراءة عليه، ومن إضمار العود اليه؛ وهذه مقدّمة لها ما بعدها، وهى وان كانت نصرة من الله فما نقنع بها وحدها فالهمّة العالية [السلطانيّة] للحرب التى تسلب الأجسام رءوسها، والسيوف حدّها؛ فإن الجنّة غالية الثمن، والخطاب بالجهاد متوجّه الى الملك العادل دون ملوك الأرض وإلا فمن؟ فهذه تشترى بالمشقّات، كما أن الأخرى- أعاذنا الله منها- رخيصة الثمن وتشترى بالشهوات؛ والحضرة السامية نعم القرين ونعم المعين، وفرض ذى اللهجة المبين، أن يستجيش ذا القوة المتين، وكلمة واحدة فى سبيل الله أنمى من ألوف المقاتلة والمئين؛ والله تعالى يوسّع إلى الخيرات طرقها، ويطلق بها منطلقها، ويمتع الإخوان بخلقها الكريم فما منهم إلا من يشكر خلقها؛ ورأيها الموفّق فى إجرائى على العادة المشكورة من كتبها، وإمطارى من خواطرها، لا عدمت صوب سحبها.

ومن كتاب كتبه الى القاضى محيى الدين بن الزكىّ: بعد أن أصدرت هذه الخدمة الى المجلس- لا عدمت عواطفه وعوارفه، ولطائفه ومعارفه؛ وأمتع الله الأمة عموما بفضائله وفواضله، ونفعهم بحاضره كما نفعهم بسلفه الصالح وأوائله، وعادى الله عدوّه ودلّ سهامه على مقاتله-[ورد كتاب «1» منه فى كذا وما بقيت أذكر الإغباب، فإن سيّدنا يقابله] بمثله، ولا العتاب فإن سيدنا يساجله بأفيض من سجله؛ ولا ألقى عليه من قولى قولا ثقيلا، ولا أقابل به من قوله قولا جليّا

ص: 12

جليلا؛ فقد شبّ «1» عمرو عن الطّوق، وشرف البراق عن السّوق؛ وذلك العمرو «2» ما برح محتنكا «3» والطّوق للصّبىّ، وذلك البراق حمى لا يقدّم إلا للنّبىّ؛ ومع هذا فلا تقلّص عنّى هذه الوظيفه، واعتقدها من قرب الصحيفه؛ فإنك تسكّن بها قلبا أنت ساكنه وتسرّبها وجها أنت على النوى معاينه.

وكتب إلى العماد: كانت كتب المجلس- لا غيّر الله ما به من نعمه ولا قطع عنه موادّ فضله وكرمه، ولا عدمت الدنيا خطّ قلمه وخطو قدمه؛ وأعاذنا الله بنعمة وجوده من شقوة عدمه- تأخّرت وشقّ علىّ تأخّرها، وتغيّرت علىّ عوائدها والله يعيذها مما يغيّرها؛ ثم جاءت ببيت ابن حجاج:

غاب ما غاب ووافا

نى على ما كنت أعهد «4»

وأجبته ببيت الرّضىّ:

ومتى تدن النوى بهم

يجدوا قلبى كما عهدوا

كتابة لا ينبغى ملكها إلا لخاطره السليمانىّ، وفيض لا يسند إلا عن «5» نوح قلمه

ص: 13

الطّوفانىّ، أوجبت على كل بليغ أن يتلو، «ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانىّ» وبالجملة فالواجب على كلّ عاقل ألّا يتعاطى ما لم يعطه، وأن يدخل باب مجلس سيّدنا ويقول حطّه؛ فأما ما أفاض فيه من سكون الأحوال بتلك البلاغة فقد كدت أسكر لما استخرجته من تلك المحاسن التى لو أن الزمان الأصم يسمع لأسمعته، ولو أن الحظّ الأشم يخضع لأخضعته؛ وبالجملة فإنه لا يشنأ زمن أبقى من سيّدنا نعمة البقيّة التى مهما وجدت فالخير كلّه موجود، والمجد بحفيظته مشهود؛ وكما تيسّرت راحة جسمه، فينبغى أن يقتدى به قلبه فى راحة من همّه؛ وأعراض الدنيا متاع المتاعب، وقد رفع الله قدره، وإلا فهذه الدنيا وهدة إليها مصاب المصائب؛ والحال التى هو الآن عليها عاكف [إلا «1» ] من علم يدرسه، وأدب يقتبسه، وحريم عقائل يذبّ عنه ويحرسه؛ هى خير الأحوال، فالواجب الشكر لواهبها، والمسرّة بالإفضاء إلى عواقبها؛ وما ينقص شىء من المقسوم، وإن زاد عند المجلس فليس من حظّه، ولكن من حظّ السائل والمحروم؛ فلا يسمح المجلس بكتاب من كتبه على يد من الأيدى التى لا تؤدّى، ولا يؤمن أن تكون أناملها حروف التعدّى، وهى إحدى ما تعلّقت به الشهوات من اللذّات، وهو ينعم بها على عادته فى كفّ ضراوة القلب ودفع عاديته؛ موفّقا إن شاء الله تعالى.

وكتب إلى القاضى محى الدين بن الزكىّ أيضا: كان كتابى تقدّم الى المجلس السامى- أدام الله نفاذ أمره، وعلو قدره، وراحة سرّه ونعمة يسره؛ وأجراه على أفضل ما عوّده، وأسعد جدّه وأصعده، وأحضره أمثال العام المقبل وأشهده؛ ولا زال يلبس الأيّام ويخلعها، ويستقبل الأهلّة ويودّعها

ص: 14

وهو محروس فى دنياه ودينه، مستلئم من نوب الدهر بدرع يقينه، كاشف لليل الخطب بنور جبينه، وليوم الجدب بفيض يمينه؛ وأعماله مقبوله، ودعواته على ظهر الغمام محموله؛ والدنيا ترعاه وهى تأتى «1» برغمها، والآخرة تدّخر له وهو يسعى لها سعيها- من أيدى عدّة من المسافرين، ولثقتى بهم ما قدّرت «2» أسماءهم، ولضيق صدرى بتأخير كتب المجلس ما حفظتها.

وجاء منها: وما كأنا إلا أن دعونا الله سبحانه دعوة الأوّلين أن يباعد بين أسفارنا، وأردنا أن يقطع بيننا وبين أخبارنا؛ فأجيبت الدّعوه، ولا أقول لسابق الشّقوه، ولكن للاحق الحظوه؛ فإن مكابدة الأشواق الى الأبرار، تسوق الى الجنّة ولا تسوق إلى النار، وأقسم اننى بالاجتماع به فى تلك الدار، أبهج منى بالاجتماع به لو أتيح فى هذه الدار؛ فعليه وعلىّ من العمل ما يجمع هنا لك سلك الشمل ويصل جديد الحبل؛ فثمّ لا يلقى العصا إلا من ألقى هنا «3» العصيان، وهناك لا تقرّ العين إلا ممن سهرت منه هاهنا العينان؛ فلا وجه لجمع اسمى مع اسمه فى هذه الوصيّة مع علمى بسوء تقصيرى، وخوفى من سوء مصيرى، ولكن ليزيد سيّدنا من وظائفه وعوارفه،- فكلّ فعله تفضّل من فضله- ما يخلّصنى بإخلاصه فإننى أستحق شفاعته لشفعة جوار قلبى لقلبه، وهذا معنى ما بعث على شغل الكتّاب به، مع علمى باستقرار نفسه النفيسة، إلا أنه- أبقاه الله- قد أبعد عهدى من كتبه ما يقع التفاوض فيه، والمراجعة عنه؛ والخواطر فى هذا الوقت منقبضه، والشواغل لها معترضه، وأيام العمر فى غير ما يفرض من الدنيا للآخرة

ص: 15

منقرضه؛ ومتجدّد نوبة بيروت قد غمّت كلّ قلب، وهاجت المسلمين أشواقا الى الملك الناصر، وذكرى بما ينفعه الله به من كلّ ذاكر، وأخذ الناس فى الترحّم على أوّل هذا البيت والدعاء للحاضر والآخر- وليس إن شاء الله بآخر، فما ادّخر المولى لهذه الحرب مجهودا، ولا فلّلت عسكرا مجرورا ولا مالا ممدودا

فإن كان ذنبى أنّ أحسن مطلبى

إساة ففى سوء القضاء لى العذر

ومنه: وسيّدنا يستوصى «1» بالدار بدمشق فقد خلت، وإنما الناس نفوس الديار؛ وأنا أعلم أن سيّدنا فى هذا الوقت مشدوه الخاطر عن الوصايا، ومشغول اللسان بتنفيذ ما ينفّذه مما هو منتصب له من القضايا؛ فما فى وقته فضلة ولكن فضل، وسيّدنا يحسن فى كلّ قضيّة من بعد كما أحسن من قبل؛ فهو الذى جعل بينى وبين الشام نسبا [وأنشأنى فيه الى أن ادّخرت «2» عقارا ونشبا] فعليه أن يرعى ما أقناه «3» ، وينفى الشّوك عن طريق اليد إلى جناه؛ والجار إلى هذا التاريخ ما اندفع جوره، ولا أدرك غوره؛ يعد لسانه ما تخلف يده، ويدّعى يومه ما يكذّبه فيه غده؛ وأنا على انتظار عواقب الجائرين، وقد عرف الغيظ منّى ألفاظا مجهولة ما كنت أسمح بأن أعرفها، وكشف مستورا من أسباب الحرج ما يسرّنى أن أكشفها لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ

وأسوأ خلقا من السيّىء الخلق من أحوجه إلى سوء الخلق؛ وما ذكرت هذا ليذكر، ولا طويت الكتاب عليه لينشر، والسرّ عند سيّدنا ميت وهو يقضى حقّه بأن يقبر.

ص: 16

وكتب: أدام الله أيام المجلس وخصه من لطفه بأوفر نصيب، ومنحه من السعادة كلّ عجيب وغريب، وأراه ما يكون عنه بعيدا مما يؤمّله أقرب من كلّ قريب- الخادم يخدم وينهى وصول كتاب كريم تفجّرت فيه ينابيع البلاغه، وتبرّعت [له «1» ] بالحكم أيدى البراعه؛ وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب، وهطل منها لأوليائه كلّ صوب ولأعدائه كلّ شهاب واصب «2» ، وتجلّى فما الغيد الكواعب؛ وما العقود فى التّرائب، وتفرّق منه جيش الهمّ فانظر ما تفعل الكتب فى الكتائب؛ وما ورد إلا والقلب إلى مورده شديد الظما، وما كحل به إلا ناظره الذى عشى عن الهدى وقرب من العمى؛ وما نار إبراهيم بأعظم من نوره، ولا سروره- صلى الله عليه وسلم حين نجا أعظم يوم وصوله من سروره؛ فحيّا الله هذه اليد الكريمة التى تنهلّ بالأنواء وتجزل سوابغ النعماء؛ وتعطى أفضل عطاء يسرّها فى القيامه، وتحوز به أفضل أنواع الكرامه؛ فأما شوقه لعبده فالمولى- أبقاه الله- قد أوتى فصاحة لسان، وسحب ذيل العىّ على سحبان؛ ولو أنّ للخادم لسانا موات «3» ، وقلبا يقال له هى «4» هات؛ لقال

ص: 17

ما عنده، وأذكر عهده وودّه؛ وباح بأشواقه، وذمّ الزمن على اعتياقه؛ وأما تفضّله بكذا فالخادم ما يقوم بشكره، ولا يقدّره حقّ قدره؛ وقد أحال «1» مكافأة المجلس على ملىء «2» قادر، ومسرّة خاطرة عليه يوم تبلى السرائر؛ والله تعالى يصله برزق سنىّ يملأ إناه، ويوضح هداه؛ ولا يخلى المجلس من جميل عوائده، ويمنحه أفضل وأجزل فوائده إن شاء الله تعالى.

ومن مكاتباته يتشوّق الى إخوانه وأودّائه، ومحبّيه وأوليائه- كتب إلى بعضهم:

أأحبابنا هل تسمعون على النوى

تحيّة عان أو شكيّة عاتب

ولو حملت ريح الشّمال إليكم

كلاما طلبنا مثله فى الجنائب

أصدر العبد هذه الخدمة وعنده شوق يغور به وينجد، ويستغيث من ناره بماء الدمع فيجيب وينجد؛ ويتعلّل بالنسيم فيغرى ناره بالإحراق، ويرفع النواظر إلى السّلوان فيعيدها الوجد فى قبضة الإطراق؛ أسفا على زمن تصرّم، ولم يبق إلا وجدا تضرّم، وقلبا فى يد البين المشتّ يتظلّم

ليالى نحن فى غفلات عيش

كأنّ الدّهر عنّا فى وثاق

فلا تنفّس خادمه نفسا إلا وصله بذكره، ولا أجرى كلاما إلا قيّده بشكره، ولا سار فى قفر إلا شبّه برحيب صدره، ولا أطلّ على جبل إلا احتقره بعلىّ قدره، ولا مرّ بروضة إلا خالها تفتّحت أزهارها عن كريم خلقه ونسيم عطره، ولا أوقد المصطلون نارا إلا ظنّهم اقتبسوها من جمره، ولا نزل على نهر إلا كاثر دمعه ببحره

ص: 18

سقى الله تلك الدار عودة أهلها

فذلك أجدى من سحاب وقطره

لئن جمع الشّمل المشتّت شمله

فما بعدها ذنب يعدّ لدهره

فكيف ترى أشواقه بعد عامه

اذا «1» كان هذا شوقه بعد شهره

بعيد قريب منكم بضميره

يراكم «2» اذا ما لم تروه بفكره

ترحّل عنكم جسمه دون قلبه

وفارقكم فى جهره دون سرّه

اذا ما خلت منكم مجالس ودّه

فقد عمرت منكم مجالس شكره

فيا ليل لا تجلب عليهم بظلمة

وطلعة بدر الدين طلعة بدره

ونسأل الله تعالى أن يمنّ بقربه ورحاب الآمال فسائح، وركاب الهموم طلائح والزمن المناظر «3» بالقرب «4» مسامح؛ هنالك تطلق أعنّة الآمال الحوابس، ويهتزّ مخضرّا من السعود عود يابس

وما أنا من أن يجمع الله شملنا

بأحسن ما كنا عليه بآيس

وقد كان الواجب تقديم عتبه، على تأخير كتبه؛ ولكنه خاف أن يجنى ذنبا عظيما ويؤلم قلبا كريما

ولست براض من خليل بنائل

قليل ولا راض له بقليل «5»

ص: 19

وحاشى «1» جلاله من الإخلال بعهود الوفاء، ومن انحلال عقود الصفاء، وما عهدت عزمه القوىّ فى حلبة الشوق إلا من الضعفاء، وحاشية خلقه إلا أرقّ من مدامع غرماء الجفاء

من لم يبت والبين يصدع قلبه

لم يدر كيف تقلقل الأحشاء

وكتب أيضا فى مثل ذلك: كتب مملوك المولى الأجلّ عن شوق قدح الدمع من الجفون شرارا، وأجرى من سيل الماء نارا، واستطال واستطار فما توارى أوارا، ووجد على تذكّر الأيام التى عذبت «2» قصارا، والليالى التى طابت فكأنما خلقت جميعها أسحارا

وبى غمرة للشوق من بعد غمرة

أخوض بها ماء الجفون غمارا

وما هى إلا سكرة بعد سكرة

اذا هى زالت لا تزال خمارا

رحلتم وصبرى والشباب وموطنى

لقد رحلت أحبابنا تتبارى

ومن لم تصافح عينه نور شمسه

فليس يرى حتى يراه نهارا

سقى الله أرض الغوطتين «3» مدامعى

وحسبك سحبا قد بعثت غزارا

وما خدعتنى مصر عن طيب دارها

ولا عوضتنى بعد جارى جارا

أدار الصّبا لا مثل ربعك مربع

أرى غيرك الربع الأنيس قفارا

ص: 20

فما اعتضت أهلا بعد أهلك جيرة

ولا خلت دار الملك بعدك دارا

وما ضرّ اليد الكريمة التى أياديها بيض فى ظلمات الأيّام، وأفعالها لا يقوم بمدحها إلا ألسنة الأسنّة والأقلام؛ لو قامت للمودّة بشرطها، ومحت «1» خطّ الأسى بخطّها؛ وكتبت ولو شطر سطر ففرّغت قلبا من الهمّ مشحونا، وأطلقت صبرا فى يد الكمد مسجونا؛ ونزّهت ناظر المملوك فى رياض منثورة الحلى، وحلّت عهوده بمكارم مأثورة العلا

وما كنت أرضى من علاك بذا الجفا

ولكنه من غاب غاب نصيبه

ولو غيركم يرمى الفؤاد بسهمه

لما كان ممن قد أصاب يصيبه

وما لى فيمن فرق الدهر أسوة

كأن محبّا ما نآه حبيبه

والمملوك مذ حطّت مصر أثقاله، وجهّز الشام رحاله؛ وألقت النوى عصاها وحلّت الأوبة عراها؛ يكتب فلا يجاب، ويستكشف «2» الهمّ بالجواب فلا ينجاب

يا غائبا بلقائه وكتابه

هل يرتجى من غيبتيك إياب

ومتى يصفّى الله ورد الحياة من التكدير، ويتحقّق بلقائه أحسن التقدير «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير» .

وزمان مضى فما عرف الأوّل

إلا بما جناه الأخير

أين أيّامنا بظلّك والشّم

ل جميع والعيش غضّ نضير

ص: 21

وحوشى المولى أن يكون عونا على قلبه، وأن يرحل إثره الرّى على «1» سربه، وأن ينسيه بإغباب الكتب ساعات قربه، وأن يحوجه الى إطلاق لسانه بما يصون السمع الكريم عنه من عتبه «2» ؛ الأخ فلان مخصوص بسلام كما تفتّحت عن الورد كمائمه، وكما توضّحت عن القطر غمائمه

اذا سار فى ترب «3» تعرّف تربها

بريّاه والتفّت عليها لطائمه «4»

وقد تبع الخلق الكريم فى الإغباب والجفوه، وأعدت عزائمه قلبه فاستويا فى الغلظة والقسوه

ان كنت أنت مفارقى

من أين لى فى الناس أسوه

وهب أن المولى اشتغل- لا زال شغله بمسارّه، وزمنه مقصورا على أوطاره- فما الذى شغله عن خليله، وأغفله عن تدارك غليله؟ هذا وعلائقه قد تقطّعت وعوائقه قد ارتفعت؛ وروضة هواه قد صارت بعد الغضارة هشيما، وعهوده قد عادت بعد الغضاضة رميما

إن عهدا لو تعلمان ذميما

أن تناما عن مقلتى أو تنيما

وما أولى المولى أن يواصل بكتبه عبده، ويجعل ذكره عقده، ولا ينساه ويألف بعده، ويستبدل غيره بعده.

وكتب أيضا:

أكذا كلّ غائب

غاب عمّن يحبّه

غاب عنه بشخصه

وسلا عنه قلبه

ص: 22

ولو أن لى يدا تكتب، او لسانا يسهب؛ أو خاطرا يستهلّ، أو فؤادا يستدلّ؛ لوصفت إليه شوقا إن استمسك بالجفون نثر عقدها، أو نزل بالجوانح أسعر وقدها؛ أو تنفّس مشتاق أعان على نفسه، وظنّه استعاره من قبسه؛ أو ذكر محبّ حبيبا خاله خطر فى خلده، وتفادى من أن يخطر به ذكر جلده

حتى كأنّ حبيبا قبل فرقته

لا عن أحبّته ينأى ولا بلده

بالله لا ترحموا قلبى وإن بلغت

به الهموم فهذا ما جنى بيده

ولولا رجاؤه أنّ أوقات الفراق سحابة صيف تقشعها الرياح، وزيارة طيف يخلعها الصباح؛ لاستطار فؤاده كمدا، ولم يجد ليوم مسرّته أمدا؛ ولكنه يتعلّل بميعاد لقياه، ويدافع ما أعلّه بلعلّه أو عساه

غنى فى يد الأحلام لا أستفيده

ودين على الأيّام لا أتقاضاه

ومن غرائب هذه الفرقه، وعوارض هذه الشّقة؛ أنّ مولاى قد بخل بكتابه وهو الذى يداوى به أخوه غليل اكتئابه، ويستعديه على طارق الهمّ إذا لجّ فى انتيابه

كمثل يعقوب ضلّ يوسفه

فاعتاض عنه بشم أثوابه

وهب أنّ فلانا عاقه عن الكتب عائق، واختدع ناظره كمن هو فى ناضر عيش رائق؛ فما الذى عرض لمولانا حتى صار جوهر ودّه عرضا، وجعل قلبى لسهام إعراضه غرضا؟

بى منه ما لو بدا للشمس ما طلعت

من المكاره أو للبرق ما ومضا «1»

وما عهدته- أدام الله سعادته- إلا وقد استراحت عواذله، وعرّى «2» به أفراس

ص: 23

الصّبا ورواحله؛ إلا أن يكون قد عاد إلى تلك اللّجج، ومرض قلبه فما على المريض حرج؛ وأيّا «1» ما كان ففى فؤادى اليه سريرة شوق لا أذيعها ولا أضيعها، ونفسى أسيرة غلّة لا أطيقها بل أطيعها

وانى لمشتاق اليك وعاتب

عليك ولكن عتبة لا أذيعها

والأخ النّظام- أدام الله انتظام السعد ببقائه، وأعدانى على الوجد بلقائه- مخصوص بالتحية إثر التحيّه، ووالهفى على تلك السجيّة السخيّة؛ وردت منها البابلىّ معتّقا، وظلت من أسر الهموم بلقائها معتقا

خلائق إما ماء مزن بشهدة

أغادى بها أو ماء كرم مصفّقا «2»

وقد اجتمعت آراء الجماعة على هجرانى، ونسوا كلّ عهد غير عهد نسيانى

وما كنتم تعرفون الجفا

فبالله ممّن تعلّمتم.

وكتب أيضا: إن أخذ العبد- أطال الله بقاء المجلس وثبت رفعته وبسط بسطته، ومكن قدرته، وكبت حسدته- فى وصف أشواقه إلى الأيام التى كانت قصارا وأعادت الأيام بعدها طوالا، والليالى التى جمعت من أنوار وجهه شموسا ومن رغد العيش فى داره ظلالا

وجدت اصطبارى بعدهنّ سفاهة

وأبصرت رشدى بعدهنّ ضلالا

وإن أخذ فى ذكر ما ينطق به لسانه من ولاء صريح، ويعتقده جنانه من من ثناء فصيح «3»

ص: 24

تعاطى منالا لا ينال بعزمه

وكلّ اعتزام عن مداه طليح

ولكنه يعدل عن هذين إلى الدعاء بأن يبقيه الله للإسلام صدرا، وفى سماء الملّة بدرا، وفى ظلمات الحوادث فجرا؛ وأن يجمع الشّمل بمجلسه وعراص الآمال مطلوله «1» وسهام القرب على نحور البعد مدلوله، وعقود النوى بيد اللّقاء محلوله؛ «وما ذلك على الله بعزيز» .

فقد «2» يجمع الله الشّتيتين بعد ما

يظنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا

وما رمت به النوى مراميها، ولا سلكت به الغربة مواميها «3» ؛ إلا استنجد شوقه من الجفون هاميا، واستدعى من الزّفرة ما يعيد مسلكه من الجوانح داميا، وصدر عن منهل الماء العذب النمير ظاميا، وتعلّل بالأمانى فى الاجتماع «وآخر «4» ما يبقى الإياس الأمانيا «5» » والسلوة أن الطريق بحمد الله أسفرت «6» عن فضل اجتهاده، وفضيلة جهاده؛ ونصرة الإسلام، وإعلاء الأعلام؛ وخدمة المجلس الفلانى- أعزّ الله نصره، وأسعد بها جدّه، وبلغ بها قصده، وأمضى فى الكفر حدّه؛ وأورى بها للإسلام قدحا، وشرفت حديثا وشرحا، وأجهدت الأعداء إثخانا «7» وجرحا

ص: 25

وأبقى بها فى جبهة الدهر أسطرا

اذا ما انمحى خطّ الكواكب لا تمحى

اذا جاء نصر الله فالفتح بعده، وقد جاء نصر الله فليرقب الفتحا فأما الخادم فيودّ ألّا يزال لشرف محصّلا، ولتلك اليد الكريمة مقبّلا، وللغرّة المتهلّلة كالصباح مستقبلا

محيّا اذا حيّاك منه بنظرة

فتحت به بابا من اللطف مقفلا

ويرى أن خير أوقاته ما كان فيه بالحاشية الفلانيّة مكاثرا، وتحت ظلال ألويتها سائرا

فثمّ ترى معنى السعادة ظاهرا

وثمّ ترى حزب الهداية ظاهرا

والخادم يؤثر من المجلس المواصلة بالمراسم «1» [التى يعدّ أيامها «2» من المواسم] ، ويقابل بها أوجه المسارّ طلقة المباسم؛ ويرتقبها ارتقاب الصّوّام للأهلّه، والرّوّاد لمواقع السحائب المنهلّة.

وكتب عن الملك الناصر صلاح الدين الى تقى الدين بن عبد الملك:

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها

فلى بجنوب الغوطتين جنون

وما ذكرتها النفس إلا استفزّنى

الى طيب ماء النّير بين «3» حنين

وقد كان شكّى فى الفراق مروّعى

فكيف أكون اليوم وهو يقين

ص: 26

كم جهد ما تسلّى القلوب، وتسرّى «1» الكروب؛ لا سيّما إذا كان الذى فارقته أعلق بالأكباد من خلبها «2» ، وأقرب الى القلوب من حجبها؛ وهل يستروح إلا أن يفضّ ختام الدمع، ويخترق حجاب السمع، ويستغيث بسماء العيون ذات الرّجع «3» ، لتجود أرض الخواطر ذات الصدع؛ وهنا لك أوفى ما يكون الشوق جندا، وأورى ما يورى الوجد زندا

إلى زفرة أو عبرة مستباحة

لهذى مراح عنده ولذى مغدى

وقد علم الله أنّى مذ فارقته ما دعانى الذكر إلا لبّيته بجواب من ماء الغليل غير قليل ولا ذكرت خلقه الجميل إلا ورأيت الصبر الجميل غير جميل

وغير كثير فيه وجد كثير

ولوعة قيس والتياح «4» جميل

أهيم برسم فيك للمجد واضح

وهاموا برسم للغرام محيل «5»

وقد كتبت اليه حتى كاد يشيب له المداد، لو لم يخلع عليه الناظر حلّة السواد وحبّة الفؤاد، فما ردّ، وجار عن خلقه الكريم فإنه قطّ ما ودّ «6» وصدّ؛ وأوثر منه ألّا يحكم الفراق علىّ فيشتطّ، ولا يمكن اللوعة من مهجتى فتخبط «7»

فجد لى بدرّ من بحارك إننى

من الدمع فى بحر وليس له شطّ

ص: 27

بكفّ بها للحرب والسلم آية

فيحيى لديها الخطّ أو يقتل «1» الخطّ

ونسأل الله الرغبة فى اجتماع لا يكدر ورده، ولا ينثر عقده، ولا يعزب عن آفاق الوفاق سعده

وما كان حكمى أن أفارق أرضكم

ولكنّ حكم الله لسنا نردّه

وكتب عنه أيضا إلى عز الدين فرّوخ شاه «2» :

أحبابنا لو رزقت الصبر بعدكم

لما رضيت به عن قربكم عوضا

إنى لأعجب أنّى بعد فرقتكم

ما صحّ جسمى إلا زادنى مرضا

أنبيكم عن يقين أنّ قلبى لو

أضحى مكان جناحى طائر نهضا

هذا ولو أنه بالعهد فيك وفى

لكان حين قضى الله الفراق قضى

كتبت- أطال الله بقاء المولى الولد- عن قريحة قريحه «3» ، وإنسان مقلة جريح فى جريحه، ولوعة صريحه، وذكرة اذا ذكر الصبر كانت طريحه

وليل بطىء طلوع الصبا

ح شوقا الى القسمات «4» الصّبيحه

أبحت فؤادى وأنت المباح «5»

وما كان من حقّه أن تبيحه

وما أصحبت «6» فى قتال العذول

أعنّة قلب عليهم جموحه

ص: 28

معنّى بريح شمال الشآم

لقد عذّب الله بالريح روحه

فلا روّح الله من قربكم

فؤادى بخطرة يأس مريحه

ولولا التعلّل بأبنية المنى الخادعه، والنزول بأفنية الاسا «1» الواسعه؛ لتصدّعت أكباد وتفطّرت، وتجدّلت «2» أفراس دموع وتقطّرت «3»

يا صاحبى إنّ الدموع تنفّست

فدع الدموع تبيح ما قد أضمرت

قد كنت أكتم عن وشاتى سرّها

ولقد جرى طرف الحديث كما جرت

لله ليلات قرنّ نجومها

بل بدرها بوجوه عيش أقمرت

أغلت على السّلوان شوقكم فما

باعت كما أمر الغرام من اشترت

ومذ فارقت تلك الغرّة البدريّه، والطلعة العزيزة العزّيّه؛ ما ظفرت بشخصه نوما ولا بكتابه يوما

فوا عجبا حتى ولا الطيف طارقا!

وأعجب له «4» فى الحرب نثر كتائب

بكفّ أبت «5» فى السّلم نظم كتاب

يحاسبنى فى لفظة بعد لفظة

ومعروفه يأتى بغير حساب

ولو رضيت- وكلّا- بأن أحمل من هذا الجفاء كلّا؛ لما رضى به لخلقه الرّضى، ولأخذ بقول الرّضىّ:

ص: 29

هبونى «1» أرضى فى الإياس بهجركم

أترضى لمن يرجوك ما دون وصله

والرغبة مصروفة العنان إلى الله أن يبيح من اللقاء منيعا، وينتج من اللّطف صنيعا

لو تأخذون بساعة

من وصلكم عمرى جميعا

لرغبت فى أن تشترى

ان كنت ترضى أن تبيعا

ومفارقين مع الصّبا

عزما «2» فهل أرجو الطلوعا «3»

أقسمت لو رجعوا لأع

قبنى الصّبا معهم رجوعا

هبكم منعتم [قربكم «4» ]

ولبستم بعدا منوعا

أفتمنعون بكم ضلو

عاقد شفين بكم ولوعا «5»

ما غايتى إلا الدمو

ع وأستقلّ لك الدموعا

وكتب [أيضا رحمه «6» الله تعالى] يتشوق:

فيا رب إن البين أنحت صروفه

علىّ وما لى من معين فكن معى

على قرب عدّالى وبعد أحبّتى

وأمواه أجفانى ونيران أضلعى

هذه تحيّة القلب المعذّب، وسريرة الصبر المذبذب، وظلامة عزم السلو المكذّب؛ أصدرتها الى المجلس وقد وقدت فى الحشى نارها، الزّفير أوارها، والدموع شرارها، والشوق أثارها وفى الفؤاد ثارها:

ص: 30

لو زارنى منكم خيال هاجر

لهدته فى ظلماته أنوارها

أسفا على أيّام الاجتماع التى كانت مواسم لسرور الأسرار، ومباسم لثغور الأوطار؛ وتذكّرا لأوقات عذب مذاقها، وعذّب فراقها «1» ؛ وروّحت بكرها، وزوّعت ذكرها

والله ما نسيت نفسى حلاوتها

فكيف أذكر أنّى اليوم أذكرها

ومذ فارقت الجناب النّورىّ- لا زال جنى جنابه نضيرا، وسنا سنائه «2» مستطيرا؛ وملكه فى الخافقين خافق الأعلام، وعزّه على الجديدين جديد الأيام؛ لم أقف منه على كتاب يخلف سواد سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظرى، ويقدم «3» ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سواد «4» خاطرى

ولم يبق فى الأحشاء إلا صبابة «5»

من الصبر تجرى فى الدموع البوادر

وأسأله المناب «6» بشريف الجناب، وأداء فرض، تقبيل الأرض؛ حيث تلتقى وفود

ص: 31

الدنيا والآخره، وتغمر البيوت العامرة المنن الغامره؛ ويظلّ الظلّ غير منسوخ بهجيره، وينشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره

تظاهر فى الدنيا بأشرف ظاهر

فلم ير أنقى منه غير ضميره

كفانى عزّا أن أسمّى بعبده

وحسبى هديا أن أسير بنوره

فأىّ أمير ليس يشرف قدره

إذا ما دعاه صادقا بأميره

وإننى فى السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدى تهانئ تملأ يدى، ويودع بها عندى مسرّة تقتدح فى الشكر زندى

عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة

وما هو مثل الورد فى قصر العهد

وأنا أرتقب كتابه ارتقاب الهلال لتفطر عين عن الكرى صائمه، وترد نفس على موارد الماء حائمه.

وكتب أيضا يتشوّق:

لا عتب أخشاه لقطع كتابكم

واسمع فعذرى بعده لا يعتب

مهما وجدتك فى الضمير ممثّلا

أبدا تناجينى إلى من أكتب

كتب عبد حضرة مولاه- حرس الله سمّوه، وأدام مزيد علائه ونموّه «1» ، وقرن بالمسارّ رواحه وغدوّه، وكبت حاسده وأهلك عدوّه- عن سلامة ما استثنى فيها الدهر إلا ألم فراقه، وعافية موصولة بمرض قلب لا أرجو موعد إفراقه «2»

لو لم يكن إنسان عينى سابحا

لخشيت حين بكيت من إغراقه

ص: 32

وعندى اليه «1» وجد يكلم الضلوع، ويتكلّم بألسنة الدموع؛ والنفس قريبة استعبار، لذكر أوقات السرور القصار، وأنوارها التى يكاد سنا برقها يخطف الأبصار «2» .

شهور ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهنّ ولا سرار «3»

إذ العيش غضّ وريق، والمهج لم يتقسّمها التفريق، ولا سار منها إلى بلد فريق وبقى فى بلد فريق، ولا سقاها كؤوس وجد للجفون المترعة تريق

ثملت منها ومالى

سوى الغرام رحيق

وإلى الله الشكوى من شوق فى الصّميم، وصبر راحل وغرام لا يريم، كأنه غريم

زعموا أنّ من تباعد يسلو

لا ومحيى العظام وهى رميم

ولقد استغرب وصول الرفاق وقد صفرت من كتابه الكريم عيابهم، ولو زاره لعدّه تحفة الخصيص «4» بالتخصيص، وأدرك به بغية الحريص، ورأى للدّهر المذنب مزيّة التمحيص، وصال به على نوائب الأيام المنتابه صولة لا يجد عنها من محيص

وحسبتنى لوصوله

يعقوب بشّر بالقميص

ص: 33

هنالك يرتع فى تلك الرّياض التى غصونها أسطارها، وشكلها أطيارها، وألفاظها نوّارها، ومعانيها ثمارها، وبلاغتها أنهارها، وجزالتها تيارها

إن أظلمت للنفس فيها ليلة

قمر المعانى عندنا سمسارها «1»

ويتلقّاه قبل يده بقلبه، ويكاد يسبق ضميره إلى أكله وشربه

ويظنّه والطرف معقود به

شخص الرقيب «2» بدا لعين محبّه

وإذا ضنّ مولاه بمأثوره، جاد عليه بميسوره؛

«3»

فكأنّنى أهديت للشمس السّنا

وطرحت ما بين المصاحف دفترا

وعلى كلّ حال فيسأله أن يواصله من مراسمه بما ينتظره ناظره ليجد نورا، وقلبه ليستشعر به سرورا، وخاطره ليجعله بينه وبين الهمّ سورا؛ وألّا يخلى رفقة من كتاب ولو بالقلائد القلائل من درر أقلامه، ودرارىّ كلامه.

وكتب: لو استعار الخادم- أدام الله نعمة المجلس- أنفاس البشر كلاما، وأغصان الشجر أقلاما؛ وبياض النهار أطراسا، وسواد الليل أنفاسا «4» ؛ ما عبّر عن الوجد الذى عبّرت عنه عبراته، ولا عن الشوق الذى لا يستثير مثله معبدا «5»

ص: 34

إذا هزجت «1» فى الثقيل الأوّل نبراته «2» ؛ أسفا على ما عدمه فى هذه الطريق، من ذلك المحيّا الطّليق، والخلق الذى هو بكل مكرمة خليق، والصفات التى يحسن بها كلّ حسن ويليق، ويعذر كلّ جفن يسفح ذخيرته شوقا إليها ويريق

قفا أو خذا فى العذل أىّ طريق

فما أنا من سكر الهوى بمفيق

أما والهوى إنّ الهوى لأليّة

يعظّمها فى الحبّ كلّ مشوق

لو أنّ الهوى مما تصحّ هباته

لقاسمت منه قلب كلّ صديق

وما زار ناظر خادمه الكرى إلا تمثّل له مولاه طيفا يهمّ أن يتعلّق بأذياله، وقبل تمويه ناظره على قلبه فى وصاله

وودّ أن سواد الليل مدّ له

وزاد فيه سواد القلب «3» والبصر

ولقد وجد طعم الحياة لبعده مرّا، وقال بعده للذّتى العين والقلب: مرّا

وها هو يرجو فى غد [وعد «4» ] يومه

لعلّ غدا يأبى «5» لمنتظر عذرا

وإلى الله سبحانه وتعالى يرغب أن يجعله بالسلامة مكنوفا، وصرف الحدثان عن ساحته مكفوفا «6» ، وعنان الصّروف عن فنائه مصروفا، ووفود الرجاء على أرجائه عكوفا؛ وأن يمتع الوجه «7» بوصفه الذى هو أشرف من كلّ وجه موصوفا

ص: 35

من كان يشرك فى علاك فإنّنى

وجّهت وجهى نحوهنّ حنيفا

وقد «1» كان ينتظر كتابا يشرّفه ويشنفه، ويستخدمه على الأوامر ويصرّفه؛ ويجتنى ثمر السرور غضّ المكاسر ويقتطفه؛ فتأخّر ولم يحدث له التأخير ظنّا، ولا صرفه [عن] أن يعتقد أنّ مولاه لا تحدث له الأيام بخلا بفضله ولا ضنّا

ولو تصرف السحب الغزاز عن الثّرى

لما انصرفت عن طبعك الشّيم الحسنى

وهو ينتظر من الأمر والنهى ما يكون عمله بحسبه، ويثبت له عهد الخدّام بنسبه

ومن عجب أنّى أحنّ إليهم

وأسأل عنهم من أرى وهم معى

وتطلبهم عينى وهم فى سوادها

ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى.

وكتب أيضا: كتبت والعبرات تمحو السطور، ويوقد ماؤها نار الصدور ويهتك «2» وجدا كان تحت السّتور، ويرسل من بين أضلعى نفس الموتور

قد ذكرنا عهودكم بعد ما طالت

ليال من بعدها وشهور

عجبا للقلوب كيف أطاقت

بعدكم! ما القلوب إلّا صخور

وما وردت الماء إلّا وجدت له على كبدى وقدا لا بردا، ولا تعرّضت لنفحات النسيم إلا أهدى إلىّ جهدا، ولا زارنى طيف الخيال إلا وجدنى قد قطعت طريقه سهدا، ولا خطف «3» لى البارق الشّامىّ إلا باراه قلبى خفوقا ووقدا

وأيسر ما نال منّى الغليل

ألا أحسّ من الماء بردا

ص: 36

فسقى الله داره ما شربت [من «1» ] الغمام، وأيّامنا بها وبدور ليالى تلك الأيّام تمام

ذمّ اللّيالى «2» بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأقوام «3»

وكان قد وصل منه كتاب كالطّيف أو أقصر زورا، وكالحبّ أو أظهر جورا، والربيع أو أبهر نورا، والنجم أو أعلى طورا، والماء الزلال أو أبعد غورا؛ فنثرت عليه قبلى، وجعلت سطوره قبلى «4» بل قبلى «5» ، ووردت منه موردا

أهلا به وعلى الإظماء «6» أنشده

لو بلّ من غللى أبللت من عللى

إلا أنه- أبقاه الله- ما عزّزه «7» بثان،

ولا آنس غريبه، وإنى وإيّاه غريبان

وكم ظلّ أو كم بات عندى كتابه

سمير ضمير أو جنان جنان

وأرغب إليه- لا زالت الرّغبات اليه-، وأسأله- لا خيّم السؤال إلا لديه-؛ أن يلاطف بكتابه قلبى، ويمثّل لى بمثاله أيّام قربى

ص: 37

والله لولا أنّنى

أرجو اللّقا لقضيت نحبى

هذا وما فارقتكم «1»

لكنّنى فارقت قلبى.

وكتب جواب كتاب ورد عليه:

شكرت لدهرى جمعه الدار مرّة

وتلك يد عندى له لا أضيعها

وطلعة مولانا يطالع عبده

وكلّ ربوع كان فيها ربوعها

فؤاد سقاه لا يعود غليله

وعين رأته لا تفيض دموعها

ورد على الخادم كتاب المجلس- أعلى الله سلطانه وأثبته، وأرغم أنف عدوّه وكبته، وأصماه بسهام أسقامه وأصمته؛ ولا أخلى الدنيا من وجوده، كما لم يخل أهلها من جوده، ولا عطّل سماء المجد من صعوده، كما لم يعطّل أرضها من سعوده- وهو كتاب ثان يثنى إليه عنان الثناء، ويصف لى حسن العهد على التّناء، ويستنهض الأدعية الصالحة فى الأطراف والآناء، ويبشّر الخادم بأنه وإن كان بعيد الدار فإنه بمثابة المقيم فى ذلك الفناء، وأن هذه الخدمة التى أنعم الله عليه بها وثيقة الأساس على الدهر شامخة البناء؛ فقام له قائما على قدمه، وسجد فى الطّرس ممثّلا سجود قلمه، واسترعى الله العهد على أنه تعالى قد رعى ما أودعه فى ذمّة كرمه؛ وصارت له نجران «2» علاقة خير صرف إليها وجهه فكأنها قبله، ودعا بنى الآمال إلى اعتقاد فضل مالكها فكأنّما يدعوهم إلى

ص: 38

ملّه؛ والله يوزعه شكر هذا الافتقاد «1» على البعاد، ولا يخله من هذا الرأى الجميل الذى هو ملجأ الاستناد؛ وعقد الاعتقاد؛ والخادم لا ينفكّ متطلّعا لأخبار المولى فترده مفضلة ومجمله، ومفصّلة ومجمله؛ ويعرف منها ما يعرف به موقع اللطف بالمولى فى أحواله، ومكان النجح فى آماله؛ وأنّه بحمد الله فى نعمة منه- لا غيّر الله ما به منها، ولا صرفها عنه ولا صرفه عنها- فيجدّد لله الشكر والحمد، ويبلّغه ما يبلغه منها المراد والقصد؛ ونسأل الله ألّا يخلى الدولة الناصريّة منه ناصرا لسلطانها، وعينا لأعيانها؛ وسيفا فى يد الإسلام يناضل عن حقّه، وفرعا شريفا يشهد مرآه بشرف عرقه؛ والرأى أعلى فى إجرائه على ما عوّد من هذا الإنعام، وزيادته شرفا بالاستنهاض- إن صلح له- والاستخدام.

ومن جواب آخر: ورد كتاب المجلس- أدام الله واردات الإقبال على آماله، و [لا] سلبت «2» الأيام نعمتى جميله وإجماله، ولا انحطّ قدر بدره عن درجتى تمامه وكماله، وأحسن جزاءه عن ميثاق «3» الفضل الذى نهض باحتماله- ووقفت منه على ما لا يجد الشكر عنه محيدا، وآنست «4» به القلب الذى كان وحيدا، وعددت يوم وصوله السعيد عيدا، ووردت منه بئرا معطّلة «5» وحللت قصرا مشيدا؛ ولا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها، وتلك الغاية ليست فى وسعى، ولا تعلم نفس إلا ما طرق سمعها، وتلك المحاسن ما طرق مثلها سمعى، ولا تتناول يد إلّا ما وسعه ذرعها، وهذه الأوابد الأباعد ما طالها ذراعى ولا استقلّ بها ذرعى.

ص: 39

ومن آخر: خلّد الله أيّام المجلس، وعضّد الملّة الحنيفيّة منه بحاميها، والأركان الإسلاميّة من سيفه بشائدها وبانيها، وأمتع الدولة المحمديّة بعزمته التى حسنت الكفاية بها، فلا غرو أن تحسن الكفاية فيها؛ ولا عدمت الدنيا نضرة بأيّامه النّضيره، والدين نصرة بأعلامه النصيره؛ المملوك يقبّل التراب الذى يوما يستقرّ بحوافر «1» سيله، ويوما يستقرّ بحوافر خيله- فلا زال فى يوم السلم جوده سحابا صائبا، ويوم الحرب شهابا ثاقبا- وينهى أنه وردت عليه المكاتبة التى استيقظت بها آماله من وسنها، وأفادته معنى من الجنّة فإنها أذهبت ما بالنفوس من حزنها، وتلقّى المملوك قبلها «2» بالسجود والتقبيل، وتحلّى بعقود سطورها فهيهات بعد هذا شكوى التعطيل؛ واكتحل من داء السهد بإثمدها «3» ، وأدار على الايّام كأس مرقدها «4» ، وأسمعته نغم النّعم التى هى أعجب إلى النفس من نغمات معبدها، وأطالت الوقوف عليها ركاب طرفه [فما وقوف ركاب «5» طرفة] ببرقة «6» ثهمدها؛ وضرع إلى من يشفّع وسائل المتضرّعين،

ص: 40

ويملأ مواقع آمال المتوقّعين؛ أن يغلّ عنه كلّ يد للخطوب بسيطه، ويفكّ به كلّ ربقة «1» للأيّام بأعناق بنيها «2» محيطه.

ومن آخر: رفع الله عماد الإسلام ببقاء المجلس، وبسط ظلّه على الخلق، وملّك يده الكريمة قصب السّبق، وجمع بتدبيره بين ناصيتى الغرب والشرق؛ وألّف لقدرته طاعتى الجهر والسرّ، وصرّف بعزمته زمامى النّهى والأمر، وأحرز لجدّه مسّرّتى الأجر والنصر، وقطّ «3» بفتكته شوكتى النفاق والكفر- وردت على المملوك مكاتبة كريمة رفعها حيث ترفع العمائم، ومدّ اليد اليها كما تمدّ إلى الغمائم؛ وفضّها، بعد أن قضى باللّثم فرضها، واستمطرت نفسه سماءها فأرضت أرضها؛ وكاد المملوك يتأمّلها لولا أنّ دمع الناظر إلى العين سبقه، على أنه دمع قد تلوّن بتلوّن الأيّام فى فراقه، فلو فاض لعصفر «4» الكتاب وخلّقه «5» ؛ فلا أعدمه الله المولى حاضرا وغائبا، ومشافها ومكاتبا، وأحلّه»

فى جانب السعادة ويعزّ على المملوك أن يحلّ من مولاه جانبا.

ومن آخر: ورد كتابه ووقفت على ما أودعه من فضل خطّ وفصل خطاب، وعقائل عقول ما كنا لها من الأكفاء وإن كنا «7» من الخطّاب، وآثار أقلام

ص: 41

تناضل عن الملّة نضال النّصال، وكأنها فضل سبق «1» لما تحوزه من حقّ السّبق وخصل «2» الخصال؛ فأعيذ الإسلام من عدمه، ولا عدم بسطة تلمه، وثبوت قدمه؛ فإنه الآن عين الآثار، وأثر الأعيان، وخاطر الحفظ إلا أنّ الخطوب تصحب فيه خواطر النّسيان؛ وليّن اهتصر الدهر سطوا «3» ، واختصر خطوا «4» ؛ وإنه سيف يمان إن قدم عهدا، فقد حسن فرندا «5» ، وخشن حدّا؛ وأجرى نهرا، وأورى شررا؛ واخضرّ خميله، وقطع الأيّام جميله؛ وضارب الأيّام فأجفلت «6» عن مضاربه ضرائبها «7» ، وشردت عن عزمه غرائبها؛ ولبسها حتى أنهجت «8» بواليا، ثم اختار منها أياما وأبى أن يلبسها لياليا؛ لا جرم أن صحيفته البيضاء شعار شعره، وروضة علمه الغنّاء «9» قد جلت أنوار نوره، وزواهر زهره؛ فالزمان لا يعدو عليه بزمانة تعدو، ولا يتجاوز أوقاته إلّا موسومة بمحاسنه ولا يعدو؛ حتى يمتّ إليه «10» عدوّ يلتفت «11» أمس، ويروى اليوم

ص: 42

أنّ قرابته من فضله أمسّ؛ والله يعلم أنّنى لأرى له ولا أرى فيه، وأسدّ عنه كلّ خرق تعجز عنه يد رافيه؛ ضنّا بالصدور أن تخلو من صدر كقلبها، ومحاماة عن حقوق تقدمته التى أوجبها أن تعارض بسلبها.

ومن آخر: وصل كتاب الحضرة فجعل مستقرّه النّعمة فى الصدور، وأخرجتنى ظلمات خطّه إلى نور السرور؛ ووقفت وكأنّى واقف على طلل من الأحبّة قد بكى عليه السحاب بطلّه، وابتسم له الروض عن أخبار أهله وآثار منهلّه؛ فلم أزل أرشف مسك سطوره ولماها، وأنزّه العين والقلب بين حسنها وجناها؛ وأطلق عنان شوق جعلت الأقلام له لجما، وحسبت النّقس ليلا، والكتاب طيفا، والوقوف عليه حلما؛ إلى أن قضت النفوس وطرا، وحملت الخواطر خطرا، وقرنت «1» بما ظنّه سحابا ما ظنّه مطرا؛ هذا على أنه قريب العهد بيد النّعماء، فإن هرب فمن ماء إلى ماء.

ومن آخر: فلمّا وقف على الكتاب جدّد العهد بلثمه ما لم يصل إلى اليد [التى «2» ] بعثته، وشفى القلب بضمّه عوضا عن الجوانح التى نفثته

وأين المطامع من وصله

ولكن أعلّل قلبا عليلا.

ومن آخر: وصل كتابه، وكان من لقائه طيفا إلا أنه أنس بالضّحى، وأثار حرب الشوق وكان قطب الرّحى

تخطّى إلىّ الهول والقفر دونه

وأخطاره لا أصغر الله ممشاه.

ص: 43

ومن كلامه رحمه الله يصف بلاغة كتاب، قال: كتاب إلى نحرى ضممته، وذكرت به الزمن الذى ما ذممته، وأكبرت قدره فحين تسلّمته [استلمته «1» ] والتقطت زهره فحين لمحته استملحته، وامتزج بأجزاء نفسى فحين لحظته حفظته؛ وجمعت بينه وبين مستقرّه من صدرى، واستطلت به مع قصره على حادثات دهرى، وجعلت سحره بين سحرى «2» ونحرى، واستضأت به ورشفته فهو نهارى وهو نهرى؛ فإن أردت العطر بلا أثر أمسكت مسكه بيدى، وإن أردت السكر بلا إثم أدرت كأسه فى خلدى؛ فلله أنامل رقمته، ما أشرف آثارها! وخواطر أملته، ما أشرق أنوارها! ولم أزل متنقلا منه بين روضة فيها غدير، وليلة فيها سمير؛ وإمارة لها سرير، ومسرّة أنالها طليق أسير، ونعمة أنا لها عبد بل بها أمير؛ حتى أدبرت عنى جيوش الأسى مفلوله، وقصرت عنّى يد الهمّ مغلوله؛ وملئت منّى مسامع المكارم حمدا، وخواطر الصنائع ودّا؛ وحطّ الأمل بربعى رحله، وأنبت الربيع بفنائى بقله؛ ولبست من الإقبال أشرف خلعه، ووردت من القبول أغزر شرعه، وانتجعت من رياض الرجاء أرجى نجعه.

وقال أيضا من آخر: هذا من عفو الخواطر، فكيف إذا استدعى المجلس خطّيّة «3» خطّه فجاءت تعسل «4» ، وحشد حشود بلاغته فأتت من كل حدب «5» تنسل!.

ص: 44

ومن آخر: ورتع فى رياض بلاغته التى لم يقتطفهنّ من قبله غارس ولا جان، واجتلى الحور المقصورات فى الطروس التى لم يطمثهنّ «1» إنس قبله ولا جانّ؛ وغنى بتلك المحاسن غنى خيرا من المال، واعتقد «2» فيها كنوزا إذا شاء أنفق منها الجمل، وإذا شاء أمسك منها الجمال.

وقال أيضا: كتاب اشتمل على بديع المعانى وباهرها، وزخرت بحار الفضل إلا أننى ما تعبت فى استخراج جواهرها؛ بل سبحت حتى تناولتها، وجنحت إلىّ فما حاولتها؛ واقتبست من محاسن أوصافه، وبدائع أصنافه؛ نكتا استقلت أجسادها بالارواح، وزهيت جيادها بما فيها من الغرر والأوضاح؛ فيا لله من بدائع وروائع، ولطائف وطرائف! فيها ما تشتهى الأنفس وتلذّ الأعين، وما يقرّط الأسماع ويقرّط «3» الألسن؛ فكأنه طرف طرف «4» صوبه مدرار، وعلم علم منصوب فى رأسه نار؛ صحّح السحر وإن كان ظنّا، وفضح الدّرّ إذ كان أبرع معنى، وأسنى حسنا، وأدنى مجنى، وأغنى مغنى؛ فما ضره تأخير زمانه، مع تقدّم بيانه؛ ولا من سبقه فى عصره، مع أنه قد سبق فى شعره.

ص: 45

ومن آخر: ولله هو من كتاب لمّا وقفت عليه الغلّة شفاها، ورأت وردها كلّ ماء غيره سفاها «1» ، ووطّأ مضاجع أنسها بعد أن كان الشوق يقلّب «2» الجنوب على سفاها «3» ؛ فلا عدم ودّها الذى به عن كلّ مودّة سلوة، ولا برحت كفاية الله تحلّها فى الذّرا وتعلى قدرها فى الذّروه، ولا فقد مما ينعم به أىّ نعمه، ولا مما ينشيه أىّ نشوه.

ومن آخر: كتاب كريم تبسّم إلىّ ضاحكا، وظنّ مداده أنه قد جلا سطره علىّ حالكا؛ فما هو إلّا سواد الحدقة منه انبعثت الأنوار، وما هو إلا سويداء «4» ليلة الوصل اشتملت على دجى تحته نهار، فلله هو من كتاب استغفر الدهر ذنب المشيب بسواده، واستدرك الزمان غلطه بسداده.

ومن آخر: كتاب تقارعت الجوارح عليه فكادت تتساهم، فقالت اليد:

أنا أولى به، شددت على مولاه ومولاى عقد خنصرى، ورفعت اسمه فوق منبرى؛ وقبضت عليه قبضتى، وبسطت فى بسط راحته وقت الدّعاء راحتى؛ وقالت العين:

أنا أولى به، أنا وعاء شخصه، والىّ يرجع القلب فى تمثيله ونصّه «5» ؛ وأنا سهرت بعد رحيله وحشة، وأنا إذا ذكر هجير القلب عللته «6» رشّة بعد رشّة؛ فقال القلب:

طمعتها فى حقّى لأنى غائب، وهل أنت لى يايد إلّا خادم؟ وهل أنت لى

ص: 46

يا عين إلا حاجب؟ أنا مستقرّه ومستودعه، ومرتعه ومشرعه، وأنا أذكره وبه أذكركما، وأحضره ولخدمته أحضركما؛ فاليد استخدمها مرّة فى الكتابة إليه، ومرّة فى شدّ الخنصر عليه؛ ومرّة فى الإشارة الى فضله، ومرّة فى الدعاء بكلّ صالح هو من أهله؛ والعين استخدمتها فى ملاحظة وجهه آئبا، وفى توقع لقائه غائبا «1» ؛ وفى السهد شوقا الى قربه، والمطالعة لما يخرج أمرى بكتبه من كتبه؛ فهنالك سلّمتا واستجرّتا «2» ، وألقتا واستأخرتا؛ وكدت أرشف نقسه «3» لأنقله الى سويداه، لولا أنّ سواد العين قال: أنا أحوج الى الاستمداد من هداه.

ومن كلامه رحمه الله تعالى ما ركّب نصف قرائنه على نصف بيت نحو قوله:

وصل كتاب مولاى بعد ما

أصات «4» المنادى للصلاة «5» فأعتما

فلما استقرّ لدىّ، «تجلّى الذى من جانب البدر أظلما» فقرأته، «بعين اذا استمطرتها أمطرت دما» وساءلته، «فساءلت مصروفا عن النطق أعجما» ولم يردّ جوابا، «وماذا عليه لو أجاب المتيّما» وردّدته قراءة، «فعوجلت دون الحلم أن أتحلما» وحفظته، «كما يحفظ الحرّ الحديث المكتّما» وكرّرته، «فمن حيثما واجهته قد تبسّما» وقبّلته، «فقبّلت درّا فى العقود منظّما» وقمت له، «فكنت بمفروض

ص: 47

المحبّة قيّما» وأخلصت لكاتبه، «وليس «1» على حكم الحوادث محكما» ولم أصدّفه «2» ، «ولكنّه قد خالط اللحم والدما» وأرّخت وصوله، «فكان لأيام المواسم موسما» وداويت عليل «حشا ضرّ ما فيه من النار ضرّما» وشفيت غليل «فؤاد أمنّيه وقد بلغ الظما» فأما تلك الأيام التى «حماها من «3» اللوم المقام على الحمى» والليالى العذاب التى «ملأن نحور الليل بيضا «4» وأنجما» [فإنّى «5» لأذكرها، «بصبر كما قد صرّمت قد تصرّما» ] وأرسل «6» الزفره «فلو «7» صافحت رضوى لرضّ «8» وهدّما» وأرسل العبره، «كما أنشأ «9» الأفق السحاب المديّما «10» » وأخطب السلوه، «فأسأل معدوما وأقفل «11» معدما»

ص: 48

فأما الشكر فإنما «أفضّ به مسكا عليك مختما» وأقوم منه بفرض «أرانى به دون البريّة أقوما» وأوفّى واجب قرض، «وكيف توفّى الأرض قرضا من السما» .

وقال أيضا: وصل «1» كتاب الحضرة بعد أن عددت الليالى لطلوع صديعه «2» «وقد عشت دهرا لا أعدّ اللياليا» ، وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء لفصل ربيعه «فما للنوى ترمى بليلى المراميا» ! واستروحت إلى نسيم سحره، «إذا الصيف ألقى فى الديار المراسيا» ومددت يدى لاقتطاف ثمره، «فلله ما أحلى وأحمى المجانيا «3» !» ووقفت على شكواه من زمانه، «فبث لشكواه من الدهر شاكيا» وعجبت لعمى الحظّ عن مكانه «وقد جمع الرحمن فيه المعانيا» وتوقّعت له دولة يعلو بها الفضل «إذا هزّ من تلك اليراع عواليا» ورتبة يرتقى صهوتها بحكم العدل «فربّ مراق يعتددن مهاويا» وإلى الله أرغب فى إطلاع سعوده، «زواهر فى أفق المعالى زواهيا» وفى إنهاض عثرات جدوده، «فقد أعثرت بعد النهوض المعاليا» .

وقال أيضا:

وصل من الحضرة

كتاب به ماء الحياة ونقعة ال

حيا فكأنى إذ ظفرت به الخضر

ووقف عبدها منه على

عقود هى الدرّ الذى أنت بحره

وذلك ما لا يدّعى مثله البحر

ص: 49

ورتعت منه فى

رياض [يد «1» ] تجنى وعين وخاطر

تسابق فيها النّور والزهر والثّمر «2»

وكرعت منه فى حياض

تسرّ مجانيها اذا ما جنى الظما

وتروى مجاريها اذا بخل القطر

وما زلت منه أنشد

كانّى سار فى سريرة ليلة

فلمّا بدا كبّرت إذ طلع الفجر

ووافى على ما كنت أعهد ف

خلت بأنّ العين من سحب كفّه

فمن ذى ومن ذى [فيه «3» ] ينثر الدرّ

وأسترجع فائت الدنيا من مورده

وما كان عندى بعد ذنب فراقه

بأنّى أرى يوما به يعد الدهر

ونفّس عن النفس بأبيض ثماده «4» ،

وعن العين بأسود إثمده

به لهما سبح طويل فهذه

على خاطر برد وفى خطر «5» بدر

وجدّد اليه أشواقا جديدها

يمرّ به ثوب الجديدين دائما

فيبلى ولا تبلى وإن بلى الدهر

وذكّر أياما لا يزال يستعيدها

وهيهات أن يأتى من الدهر فائت

فدع عنك هذا الأمر قد قضى الأمر.

ص: 50