المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: لم يكن خليل الرحمن متعلقا بالكواكب في قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل وراء كوكبا قال هذا ربي فلما قال قال لا أحب الأفلين} - التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام

[عبد المجيد بن سالم المشعبي]

فهرس الكتاب

-

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: أن الله هو المتفرد بالخلق، والمتصرف في الكون، والعالم بالغيب وحده

- ‌المطلب الثاني: تعريف التنجيم

- ‌المطلب الثالث: أقسام علم النجوم

- ‌الباب الأول: التنجيم في القديم والحاضر

- ‌الفصل الأول: التنجيم عند قوم إبراهيم

- ‌‌‌المبحث الأول: عبادة قوم إبراهيم للنجوم

- ‌المبحث الأول: عبادة قوم إبراهيم للنجوم

- ‌المبحث الثاني: لم يكن خليل الرحمن منجما

- ‌المطلب الأول: لم يكن خليل الرحمن متعلقا بالكواكب في قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل وراء كوكبا قال هذا ربي فلما قال قال لا أحب الأفلين}

- ‌المطلب الثاني: لم يكن خليل الرحمن منجماً في قول الله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ}

- ‌المطلب الثالث: لم يكن خليل الرحمن يعتقد أن للفلك تدبيراً في هذا الكون:

- ‌‌‌الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين

- ‌الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين

- ‌‌‌الفصل الثالث: التنجيم عند العرب في الجاهلية

- ‌الفصل الثالث: التنجيم عند العرب في الجاهلية

- ‌الفصل الرابع: دور أعداء الإسلام في نشر التنجيم

- ‌المبحث الأول: دور أهل الكتاب وغيرهم من المشركين في نشر التنجيم بين المسلمين

- ‌المبحث الثاني: دور الرافضة في نشر التنجيم بين المسلمين

- ‌‌‌الفصل الخامس: التنجيم في العصر الحاضر

- ‌الفصل الخامس: التنجيم في العصر الحاضر

- ‌الباب الثاني: أحكام التنجيم

- ‌‌‌الفصل الأول: الحكمة من خلق النجوم

- ‌الفصل الأول: الحكمة من خلق النجوم

- ‌‌‌الفصل الثاني: حكم الاستسقاء بالأنواء

- ‌الفصل الثاني: حكم الاستسقاء بالأنواء

- ‌‌‌الفصل الثالث: حكم تعلم علم الفلك

- ‌الفصل الثالث: حكم تعلم علم الفلك

- ‌‌‌الفصل الرابع: الأدلة على فساد صناعتهم، وأنها ظنون كاذبة

- ‌الفصل الرابع: الأدلة على فساد صناعتهم، وأنها ظنون كاذبة

- ‌‌‌الفصل الخامس: شبهات المنجمين، والرد عليها

- ‌الفصل الخامس: شبهات المنجمين، والرد عليها

- ‌الفصل السادس: حكم التنجيم

- ‌المبحث الأول: حكم العمل بالتنجيم

- ‌المبحث الثاني: حكم تعلم التنجيم دون العمل به

- ‌المبحث الثالث: حكم إتيان المنجمين، وتصديقهم بما يخبرون به

- ‌المبحث الرابع: حكم الأجرة المأخوذة على صناعة التنجيم، والواجب تجاه المنجمين

- ‌الباب الثالث: فيما يلحق بالتنجيم وما قد يظن أنه منه، وهو ليس منه

- ‌الفصل الأول: ما يلحق بالتنجيم

- ‌المبحث الأول: حروف أبي جاد، والاستدلال بها على

- ‌المبحبث الثاني: الخط على الرمل، وما يلحق به، والاستدلال به على المغيبات

- ‌الفصل الثاني: أمور ليست من التنجيم، وقد يظن أنها منه

- ‌المبحث الأول: توقع حدوث الكسوف والخسوف

- ‌المبحث الثاني: توقع حالة الجو

الفصل: ‌المطلب الأول: لم يكن خليل الرحمن متعلقا بالكواكب في قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل وراء كوكبا قال هذا ربي فلما قال قال لا أحب الأفلين}

‌المبحث الثاني: لم يكن خليل الرحمن منجما

‌المطلب الأول: لم يكن خليل الرحمن متعلقا بالكواكب في قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل وراء كوكبا قال هذا ربي فلما قال قال لا أحب الأفلين}

المطلب الأول: لم يكن خليل الرحمن متعلقاً بالكواكب في قول الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِين} .

إن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه، واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته، كما قال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 1، وقال تعالى:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 2، وقال الله تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، فأخبر أنه اجتباهم وهداهم4.

ومع ذلك نجد من زعم أن إبراهيم عليه السلام اعتقد في طفولته أو بعد بلوغه أن إلهه هو الكوكب أو القمر أو الشمس ليعضد أصلاً من أصوله

1 سورة الزخرف، الآيتان: 31-32.

2 سورة البقرة، الآية:105.

3 سورة الأنعام، الآيات: 84-87.

4 انظر: "منهاج السنة النبوية": (2/416-417) .

ص: 53

الفاسدة مستدلاً بآثار ضعيفة مروية عن ابن عباس، وابن مسعود، وقتاده1، وغيرهم، ومستدلين بقول الله تعالى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2.

فقد ذهبت طائفة إلى القول بأن إبراهيم اعتقد أن الكواكب ربه وإلهه في طفولته، وقبل قيام الحجة عليه3.

وأورد ابن جرير الطبري روايتين عن ابن عباس، ورواية عن ابن مسعود، وروايتين عن ابن إسحاق تدل على أن المراد بهذه الآيات نظر إبراهيم الخليل عليه السلام في طفولته في هذه الكواكب واعتقاده أنها ربه، والروايات هي:

1 هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ابن دعامة بن قتادة بن عزيز، وكان أعمى يكنى أبا الخطاب. توفي بواسط في الطاعون، كان عالماً مفسراً فقيهاً. قال فيه يحيى بن معيحنح: حافظ ثقة ثبت لكنه مدلس، ورمي بالقدر. وقال الذهبي: ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح لاسيما إذ قال: حدثنا. وقال ابن حجر: ثقة ثبت. انظر: "الجرح والتعديل": (7/133-135)، و"ميزان الاعتدال" للذهبي:(3/385)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر:(8/351-356)، و"التقريب":(رقم 5518) .

2 سورة الأنعام، الآيات: 76-79.

3 انظر: "تفسير الطبري": (7/250) .

ص: 54

الرواية الأولى: قال ابن جرير الطبري: حدثني موسى بن هارون1، قال: حدثنا عمرو بن حماد2، قال: حدثنا أسباط3، عن السدي في4

1 هو موسى بن هارون الهمداني، من شيوخ الطبري. ذكر الطبري اسمه هذا في موضع آخر. انظر:"تاريخ الأمم والملوك": (10/431) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – دار سويدان –بيروت – لبنان.

لم أعثر له على ترجمة فيما اطلعت عليه من كتب الرجال. وقد سبقني في البحث عنه محمود شاكر، ولم يجده، ثم قال:(وما بنا من حاجة إلى ترجمة من جهة الجرح والتعديل، فإن هذا التفسير الذي يرويه عن عمرو بن حماد معروف عند أهل العلم بالحديث، وما هو إلا رواية كتاب لا رواية حديث بعينه) . تحقيق محمود شاكر على "تفسير الطبري": (1/156) . الطبعة الثانية –دار المعارف بمصر.

2 هو عمرو بن حماد بن طلحة القناد أبو محمد الكوفي، وقد ينسب إلى جده (ت 222هـ) قال ابن معين وأبو حاتم والذهبي وابن حجر وغيرهم: صدوق. انظر: "الجرح والتعديل": (6/228)، و"ميزان الاعتدال":(3/254)، و"تهذيب التهذيب":(8/22-23) .

3 هو أسباط بن نصر الهمداني، أبو يوسف، ويقال: أبو نصر، ضعفه أبو نعيم والساجي وابن معين في رواية عنه، قال عنه: ليس بشيء، وقال عنه النسائي: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه ابن معين في رواية أخرى عنه، وقال عنه البخاري: صدوق، وقال فيه أبو زرعة: أما حديثه فيعرف وينكر، وأما في فلا بأس به، وقال ابن حجر في "التقريب": صدوق كثير الخطأ يغرب.

انظر: "كتاب الضعفاء" لأبي زرعة: (2/264)، و"التقريب":(رقم الترجمة 321) .

4 هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي، أبو محمد القرشي مولاهم، الكوفي، الأعور، وهو السدي الكبير (ت 127هـ) رماه الجوزجاني وليث بالكذب، وضعفه ابن معين وعبد الرحمن بن المهدي، وقال أبو زرعة: لين: وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال الطبري: لا يحتج بحديثه. ووثقه أحمد والعجلي وابن حبان، وقال النسائي: صالح، وفي موضع آخر: ليس به بأس، وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث صدوق لا بأس به. وقال ابن حجر في "التقريب": صدوق بهم، ورمي بالتشيع.

انظر: "الجرح والتعديل": (1/184)، و"الكامل" لابن عدي:(1/274-276) . و"سير أعلام النبلاء": (5/264-265)، و"ميزان الاعتدال":(1/236-237) . و"تهذيب التهذيب": (1/313-314)، و"التقريب":(رقم الترجمة 463) .

ص: 55

خبر ذكره عن أبي صالح1، وعن أبي مالك2، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني3، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "كان من شأن إبراهيم عليه السلام أنه طلع كوكب على نمرود فذهب بضوء الشمس والقمر، ففزع من ذلك فزعاً شديداً، فدعا السحرة والكهنة

1 هو أبو صالح باذام، وقيل باذان، تابعي مولى أم هاني (ت 121هـ) تقريباً. ضعفه البخاري، وقال النسائي: ليس بثقة، وذكره أبو زرعة في "الضعفاء"، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير، وما أقل ما له من المسند، وفي ذلك التفسير ما لم يتابعه عليه أهل التفسير، ولم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه. وقال ابن معين ليس به بأس، وقال يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا تركه. قال ابن حجر في "التقريب": ضعيف يرسل.

انظر: "الجرح والتعديل": (2/431)، و"الكامل" لابن عدي:(2/501)، و"ميزان الاعتدال":(1/296)، و"سير أعلام النبلاء":(5/37-38)، و"تهذيب التهذيب":(1/416)، و"التقريب":(رقم 634) .

2 أبو مالك سئل أبو زرعة عنه، فقال: كوفي ثقة لا أعرف اسمه. "الجرح والتعديل": (9/435) .

3 هو مرة بن شراحيل السكسي أبو إسماعيل الكوفي المعروف بمرة الطيب، ومرة الخير، وثقة ابن معين والعجلي وغيرهما وقال ابن حجر في "التقريب": ثقة عابد.

انظر: "الجرح والتعديل": (8/366)، و"سير أعلام النبلاء":(4/74-75)، و"تهذيب التهذيب":(10/88)، و"التقريب": (رقم 6562

ص: 56

والقافة1 والحازة2 فسألهم عنه فقالوا: يخرج من ملكك رجل يكون على وجهه هلاكك وهلاك ملكك، وكان مسكنه ببابل الكوفة، فخرج من قريته إلى قرية أخرى، فأخرج الرجال وترك النساء وأمر أن لا يولد مولود ذكر إلا ذبحه، فذبح أولادهم، ثم إنه بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عليها إلا آزر أبا إبراهيم فدعاه فأرسله، وقال له: انظر لا تواقع أهلك، فقال له آزر: أنا أضن3 بديني من ذلك. فلما دخل القرية نظر إلى أهله فلم يملك نفسه أن وقع عليها، ففر بها إلى قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها أور فجعلها في سرب4، فكان يتعاهدها بالطعام والشراب وما يصلحها، وإن الملك لما طال عليه الأمر قال: قول سحرة كذابين، ارجعوا إلى بلدكم. فرجعوا، وولد إبراهيم، فكان في كل يوم يمر كأنه جمعة، والجمعة كالشهر، والشهر كالسنة من سرعة شبابه، ونسي الملك ذلك، وكبر إبراهيم لا يرى أن أحداً من الخلق غيره وغير أبيه وأمه. فقال أبو إبراهيم لأصحابه: إن لي ابناً قد خبأته، أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به؟ قالوا: لا، فأت به. فانطلق فأخرجه، فلما خرج الغلام من السرب نظر إلى الدواب والبهائم والخلق، فجعل يسأل أباه: ما هذا؟ فيخبره عن البعير أنه بعير، وعن البقرة أنها بقرة، وعن الفرس أنه فرس، وعن الشاة أنها شاة، فقال: ما لهؤلاء الخلق بد من أن يكون لهم رب،

1 القائف: الذي يعرف الآثار، والجمع قافة."الصحاح":(4/1419) .

2 مفردها حازي: وهو الذي يخط على الرمل. انظر: "شرح السنة": (12/183) .

3 أي: أبخل بديني. انظر: "لسان العرب": (13/261) .

4 السرّب: حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض. "لسان العرب": (1/466) .

ص: 57

وكان خروجه حين خرج من السرب بعد غروب الشمس فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري. فقال: هذا ربي. فلم يلبث أن غاب، فقال: لا أحب الآفلين، أي لا أحب رباًّ يغيب. قال ابن عباس: وخرج من آخر الشهر فلذلك لم ير القمر قبل الكواكب، فلما كان آخر الليل رأى القمر بازغاً قد طلع، فقال: هذا ربي. فلما أفل يقول: غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما أصب ورأى الشمس بازغة قال: هذا ربي هذا أكبر. فلما غابت، قال الله له: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. فأتى قومه فدعاهم فقال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً"1.

والرواية الثانية: قال ابن جرير: حدثني المثنى2، قال: ثنا أبو صالح3،

1 "تاريخ الأمم والملوك": (1/121) .

2 هو المثنى بن إبراهيم الآملي، من شيوخ الطبري. ذكر الطبري اسمه كاملاً في موضع آخر، انظر:"تاريخ الأمم والملوك": (10/388) . تحقيق محمد أبو الفضل –دار سويدان-بيروت-لبنان.

لم أعثر له على ترجمة فيما اطلعت عليه من كتب الرجال، إلا أن الدكتور عبد العزيز الحميدي قال:(لم أجد له ذكراً فيما رأيته من كتب الرجال، غير أني وجدت الحافظ ابن كثير حسن سنداً كان من طريقه) . "تفسير ابن عباس": (1/42) .

3 هو عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني المصري، أبو صالح كاتب الليث بن سعد على أمواله (ت 223هـ) . قال أحمد بن حنبل: كان أول أمره متماسكاً ثم فسد بآخره، وقال أحمد بن صالح: متهم ليس بشيء. وقال عنه أيضاً: لا أعلم أحداً روى عن الليث عن ابن أبي ذئب إلا أبو صالح، وقال أبو حاتم أخرج أحاديث في آخر عمره أنكروها عليه، نرى أنها مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن المديني: لا أروي عنه شيئاً. وقال ابن حبان: كان في نفسه صدوقاً، إنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له. وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمد. وقال الذهبي: هو صاحب حديث وعلم مكثر، ولا مناكير.

ووثقه ابن معين وعبد الملك بن شعيب بن الليث. وقال ابن حجر في "التقريب": صدوق، كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة.

انظر: "الجرح والتعديل": (5/86)، و"الكامل" لابن عدي:(4/1522)، و"سير أعلام النبلاء":(10/405)، و"ميزان الاعتدال":(2/440)، و"تهذيب التهذيب":(5/256)، و"التقريب":(رقم 3388) .

ص: 58

قال: ثني معاوية بن صالح1، عن علي بن أبي طلحة2، عن ابن عباس

1 هو معاوية بن صالح بن حيدر بن سعيد بن سعد بن فهر الحضرمي. أبو عمرو، قاضي الأندلسي (ت 158هـ) . كان يحيى بن القطان لا يرضاه، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال عنه ابن معين في رواية عنه: ليس بمرضي، وقال أبو إسحاق: ما كان بأهل أن يروي عنه.

ووثقة أحمد وأبو زرعة والعجلي والنسائي وابن معين في رواية أخرى وغيرهم. وقال ابن عدي: صدوق إلا أنه يقع في أحاديثه إفرادات. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام.

انظر: "كتاب الضعفاء" للعقيلي: (4/183)، و"الكامل" لابن عدي:(6/2402)، و"ميزان الاعتدال":(4/135)، و"تهذيب التهذيب":(10/209) / و"التقريب": (رقم 6762) .

2 هو علي بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة سالم بن المخارق الهاشمي، مولى آل عباس بن عبد المطلب (ت143هـ) . قال أحمد بن حنبل: له أشياء منكرات، وقال دحيم: لم يسمع علي بن أبي طلحة التفسير عن ابن عباس، وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث منكر ليس محمود المذهب. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: روى عن ابن عباس ولم يره ووثقه العجلي، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال أبو داود: هو إن شاء الله مستقيم الحديث، قال ابن حجر: صدوق يخطيء وأرسل عن ابن عباس ولم يره. انظر: (7/340)، و"التقريب":(رقم 4754) .

ص: 59

قال: (قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} يعني به الشمس والقمر والنجوم. {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَر ُ} فعبدها حتى غابت، فلما غابت قال:{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 1.

أما الرواية الثالثة والرابعة: فهي عن ابن إسحاق، ولم يسندها إلى أحد. فالثالثة: قال ابن جرير الطبري: حدثني محمد بن حميد قال: ثنا2

1 "تفسير الطبري": (7/248) .

2 هو أبو عبد الله محمد بن حميد بن حيان التميمي الرازي (ت 248هـ) . رماه أبو حاتم الرازي وصالح بن محمد الأسدي وأبو زرعة وابن خراش والنسائي وابن وراة بالكذب، وأورد قصصاً تدل على ذلك. وقال فضلك: دخلت على ابن حميد وهو يركب الأسانيد على المتون. وقال يعقوب بن شيبة: محمد بن حميد كثير المناكير، وذكر ابن حبان أنه كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلة بات، ولاسيما إذا حدث عن شيوخ بلده. وقال الذهبي: هو مع إمامته منكر الحديث، صاحب عجائب. وقال البخاري: في حديث نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الجوزجاني: رديء المذهب غير ثقة. وقال ابن عدي: تكثر أحاديث ابن حميد التي أنكرت عليه، أن ذكرناه على أن أحمد بن حنبل قد أثنى عليه أخيراً لصلابته في السنة. وقال أبو زرعة الرازي: سمعت محمد بن حميد، وكان عندي ثقة. وسئل ابن معين عنه، فقال: ثقة ليس به بأس. قال ابن حجر: حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه.

انظر: "كتاب الضعفاء الكبير": (4/61)، و"الجرح والتعديل":(7/232)، و"كتاب المجروحين":(2/303)، و"الكامل" لابن عدي:(6/2277-2278)، و"ميزان الاعتدال":(3/530)، و"سير أعلام النبلاء":(11/503)، و"تهذيب التهذيب":(9/127)، و"التقريب":(5834) .

ص: 60

سلمة بن الفضل1، قال: ثني محمد بن إسحاق2 فيما ذكر لنا والله

1 هو سلمة بن الفضل الأبرش الأنصاري مولاهم أبو عبد الله الأزرق قاضي الري (ت 191هـ) .

قال البخاري: عنده مناكير، وقال أبو حاتم: محله الصدق، في حديثه إنكار يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن عدي: عنده غرائب، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطيء ويخالف، وضعفه ابن راهوية والنسائي وأبو حاتم وغيرهم، ووثقه أبو داود وابن معين، وفي رواية أخرى عن ابن معين: ليس به بأس.

قال ابن حجر في "التقريب": صدوق كثي الخطأ.

انظر: "كتاب الضعفاء" و"أجوبة أبي رزعة على البرذعي": (2/362) ، و"الضعفاء الكبير"(2/150)، و"الجرح والتعديل":(4/168)، و"ميزان الاعتدال":(2/192)، و"تهذيب التهذيب":(4/154)، و "التقريب":(2505) .

2 هو محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، ويقال: كومان المدني، أبو بكر، ويقال: أبو عبد الله، المطلبي مولاهم نزيل العراق (ت151هـ) . رماه بالكذب الإمام مالك وهشام وعروة وسليمان التيمي ويحيى بن القطان ووهيب بن خالد، فقال مالك: إنه دجال من الدجاجلة، وقال عنه أيضاً: كذاب، وقال هشام بن عروة: محمد بن إسحاق كذاب، وقال في موضع آخر: أهو كان يدخل على امرأتي؟! يعني: محمد بن إسحاق –وضعفه يحيى بن معين في رواية عنه، وقال في رواية أخرى: لا يحتج به، وضعفه النسائي أيضاً، ووثقه يحيى بن معين في رواية ثالثة، والعجلي وابن سعد.

والخلاف فيه طويل، وسأقتصر على ما ذكرت من الأقوال، وسأذكر قول ابن حجر في "التقريب" فاصلاً بين الأقوال، قال ابن حجر: صدوق يدلس رمي بالتشيع والقدر.

قلت: أما رميه بالكذب فهو مستبعد، وما روي عن مالك، فقال له رجل: إن محمد بن إسحاق يقول: اعرضوا علي علم مالك فإني بيطاره. فقال مالك: انظروا إلى دجال من الدجاجلة يقول: اعرضوا عليَّ علم مالك.

وأما ما ورد عن هشام بن عروة في رمي ابن إسحاق بالكذب فسببه أن ابن إسحاق روى عنه زوجته فاطمة بنت المنذر، وهشام ينكر أن يكون ابن إسحاق رآها أو دخل عليها، فإنكاره لهذا يحسب ما علم، وعلمه ليس بحجة في إثبات كذب الرجل، إذ يحتمل أن ابن إسحاق سمع منها وهشام لم يعلم بهذا.

وأما وهيب بن خالد ويحيى القطان فهما تابعا مالكاً في قوله، وأما سليمان التيمي فهو ليس من أهل الجرح والتعديل، وبذلك يكون رميه بالكذب لا يصح، ذكر هذا الجاحظ ابن حجر رحمه الله.

انظر: "كتاب الضعفاء الكبير": (4/23)، و"الجرح والتعديل":(7/194)، و"الكامل" لابن عدي:(6/2116-2125)، و"سير أعلام النبلاء":(7/33-55)، و"ميزان الاعتدال":(3/470-475)، و"تهذيب التهذيب":(9/38-46)، و"التقريب":(رقم 5725) .

ص: 61

أعلم: (أن آزر كان رجلاً من أهل كوثى من قرية بالسواد "سواد الكوفة" كان إذ ذاك ملك المشرق) لنمرود بن كنعان، فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حجة على قومه ورسولاً إلى عباده ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبي إلا هود وصال، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد، أتى أصحاب النجوم نمرود، فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له: إبراهيم، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا، فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر، فإنه لم يعلم بحملها وذلك أنها كانت امرأة حدبة1 –فيما ذكر- لم يعرف الحمل في بطنها، ولما أراد الله أن يبلغ بولدها أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق، خرجت ليلاً إلى مغارة

1 الحدب: خروج الظهر ودخول البطن والصدر. "لسان العرب": (1/300) .

ص: 62

كانت قريبة منها، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يصنع مع المولود، ثم سدت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل فتجده حياًّ يمتص إبهامه –يزعمون والله أعلم- أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصه –وكان آزر- فيما يزعمون- سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل؟ فقالت: ولدت غلاماً فمات، فصدقها، فسكت عنها، وكان اليوم –فيما يذكرون- على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة، فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً، حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاءً، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي، مالي إله غيره، ثم نظر في السماء فرأى كوكباً قال: هذا ربي، ثم اتبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، ثم طلع القمر فرآه بازغاً، قال: هذا ربي، ثم اتبعه ببصره حتى غاب، فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس أعظم الشمس ورأى شيئاً هو أعظم نوراً من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين. ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه، وبريء من دين قومه، إلا أنه لم يبادئهم بذلك وأخبر أنه ابنه، واخبرته أم إبراهيم أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه، فسر بذلك آزر وفرح فرحاً شديداً، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدونها، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم –فيما يذكرون- فيقول: من يشتري ما يضره

ص: 63

ولا ينفعه، فلا يشتريها منه أحد، وإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فضرب فيه رؤوسها وقال: اشربي، استهزاءً بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبه إياها، واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود الملك) 1.

والرواية الرابعة هي: قال ابن جرير: حدثني ابن حميد قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل أن يبعث إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن حجة على قومه، ورسولاً إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم عليه السلام من نبي قبله إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله تعالى ما أراد أتى أصحاب النجوم نمرود

2. وذكر نحو الرواية السابقة.

وأخرج أيضاً عبد بن حميد3 وابن المنذر4 وابن أبي حاتم5

1 "تفسير الطبري": (7/248-249) .

2 "تاريخ الأمم والملوك": (1/119-120) .

3 هو عبد بن حميد بن نصر الكشي، أبو محمد الإمام الحافظ الحجة. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين.

"سير أعلام النبلاء": (12/235)، و"تهذيب التهذيب":(6/455-457) .

4 هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري الفقيه، الإمام الحافظ العلامة، المجمع على إمامته وجلالته ووفور علمه وجمعه بين التمكن في علمي الحديث والفقه، توفي سنة ثمان عشرة وثلاثمائة.

انظر: "تهذيب الأسماء واللغات": (2/196)، و"سير أعلام النبلاء":(14/490-492) .

5 هو عبد الرحمن بن محمد –ابن أبي حاتم- ابن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي أبو محمد، حافظ للحديث، توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.

"تذكرة الحفاظ": (3/829)، و"فوات الوفيات":(2/287) .

ص: 64

وأبو الشيخ1 بنحو ما ذكر ابن عباس عن قتادة قال: ذكر لنا (أن إبراهيم عليه السلام فر به من جبار مترف، فجعل في سرب، وجعل رزقه في أطرافه

) 2 وذكر الرواية.

وهذه الحادثة المنسوبة إلى إبراهيم عليه السلام في تفسير الآيات المذكورة سابقاً من سورة الأنعام لا تصح لما يلي:

أولاً: أن الروايات الواردة عن ابن عباس وابن مسعود كلها ضعيفة.

فالرواية الأولى عنهما: فيها أسباط بن نصر، وأبو صالح باذام، وكلاهما ضعيف.

والرواية الثانية عن ابن عباس فيها: أبو صالح كاتب الليث: لا يحتج به، ومعاوية بن صالح: له أوهام، وعلي بن أبي طلحة: لم يسمع التفسير من ابن عباس.

أما الروايات الواردة عن إسحاق: فكلها ضعيفة أيضاً إذ أن كلتا الروايتين عنه رويت عن محمد بن حميد: وهو ضعيف، وسلمة بن الفضل: وهو ضعيف أيضاً، مع عدم إسناد ابن إسحاق الرواية لأحد، لكنه قال:(فيما ذكر لنا) ، ولعلها مما رواها ابن إسحاق عن بني إسرائيل.

1 هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني أبو محمد المعروف بأبي الشيخ. توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة.

"سير أعلام النبلاء": (16/276)، و"هدية العارفين":(1/447) .

2 "الدر المنثور": (3/303) .

وهذه الرواية لم أجدها فيما طبع من كتاب "المنتخب لمسند عبد بن حميد"، ولا فيما طبع من "تفسير ابن أبي حاتم"، ولا فيما طبع من "كتاب العظمة" لأبي الشيخ، ولا في "تفسير ابن أبي حاتم" المخطوط في الجامعة الإسلامية، إذ أن ما طبع من هذه الكتب كلها لم تصل طباعته إلى هذه الرواية بعد.

ص: 65

والرواية عن قتادة غير معتبرة أيضاً –وإن صح السند قبلها-، لأن قتادة لم يبين من ذكر له هذا، ولعلها من أخبار بني إسرائل –كما سيأتي بيانه-.

ثانياً: أن هذه الأخبار كلها مستندة إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولاسيما إذا خالفت الحق كما ذكر ابن كثير1 ذلك، وقد أجمع المسلمون على أن ما نقل عن بني إسرائيل في الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين إلا أن يكون منقولاً إلينا عن خاتم المرسلين نقلاً صحيحاً2.

ثالثاً: أن هذا التفسير لا يوفق ظاهر الآيات المذكورة، بل يناقضه، ويتبين ذلك من عدة أوجه:

الوجه الأول: أن هذه القصة لم تكن في طفولة إبراهيم، بل كانت بعد بعثته كان إبراهيم عارفاً بربه آنذاك، ويدل على ذلك أن الله ذكر محاجة إبراهيم لأبيه، كما ذكر أنه أراه ملكوت السموات والأرض، ثم أعقب هذا يذكر هذه القصة، فقال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي

} 3الخ الآيات، فعطف هذه القصة على ما سبقها بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب. فهي إما معطوفة على محاجة إبراهيم لأبيه، فتدل على أن هذه القصة بعد مبعثه وبعد معرفته لربه، ودعوة قومه لعبادة الله وحده، وتكون آية:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} 4 جملة معترضاً بها بين المعطوف والمعطوف عليه5.

1 "البداية والنهاية" لابن كثير: (1/135) .

2 انظر: "مجموع الفتاوى": (12/57) .

3 سورة الأنعام، الآية:76.

4 سورة الأنعام، الآية:75.

5 انظر: "الكشاف": (2/30-31) .

ص: 66

وإما معطوفة على قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب، مما يدل على أن هذه القصة لم تقع إلا بعد أن عرف ربه وكان من الموقنين الصادقين1.

الوجه الثاني: أن في قوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 2 دلالة على أنه كان بين قومه عند مقالته هذه، ومعلوم أنه عندما خرج من السرب –كما زعموا- لم يكن معه قومه، ودعوى أنه كان معه أبوه وأمه فخاطبهم بهذا الخطاب دعوى باطلة متكلفة، مع عدم استقامتها.

ودعوى أن هذا القول صدر منه بعد –أي: بعد بعثته –دعوى متكلفة أيضاً يردها ظاهر الآية، قال تعالى:{فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 3، فالآية دلت على أنه قال هذا القول عقب أفول الشمس.

الوجه الثالث: قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4، وقوله:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 5.

فقد أخبر الله في هذه الآيات أن المقام مقام مناظرة ومجادلة بينه

1 انظر: "أضواء البيان": (2/201) .

2 سورة الأنعام، الآية:78.

3 سورة الأنعام، الآية:78.

4 سورة الأنعام، الآية:80.

5 سورة الأنعام، الآية:83.

ص: 67

وبين قومه1، فكيف تصرف هذه الآيات إلى طفولة إبراهيم عليه السلام؟

رابعاً: كيف يصح هذا القول في أبي الأنبياء عليه السلام؟ الذي قال الله في حقه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 2 فمن معاني الرشد هنا إنكاره على قومه عبادتهم لهذه الأصنام في صغره، فتكون الآية الثانية: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ

} مفسرة للرشد المذكور في الآية التي قبلها3.

وقال الله فيه أيضاً: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4، فنفي الله كون الشرك الماضي عن إبراهيم، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوماً ما5.

وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة، فأبواه يهوداه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء6 هل تحسون فيها من جدعاء؟ 7"

وما رواه الإمام مسلم عن عياض بن حمار

1 انظر: "تفسير ابن كثير": (2/152)، و"أضواء البيان":(2/201) .

2 سورة الأنبياء، الآيتان: 51-52.

3 انظر: "تفسير ابن كثير": (3/181-182) .

4 سورة النحل، الآية:120.

5 "أضواء البيان": (2/201) .

6 أي سليمة من العيوب، مجتمعة الأعضاء كاملتها، فلا جدع بها ولا كي. "النهاية في غريب الحديث":(1/296) .

7 أي: مقطوعة الأطراف، أو واحدها. "النهاية في غريب الحديث":(1/247) .

8 أخرجه البخاري: (2/199) ، كتاب الجنائز، ومسلم:(8/53) ، كتاب القدر.

ص: 68

المجاشعي1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته2 عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً

" 3.

وقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4.

فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين ناظراً في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب5.

وذهب آخرون إلى حمل قول إبراهيم في هذه الآيات على أول أحوال تكليفه في مهلة النظر، التي لا حرج على من أخطأ فيها –كما يزعمون-، وأنه تحير في ربه من هو؟ ورأى أشرف الجهات جهة السماء العلوية،

1 هو عياض بن حمار بن أبي حمار بن ناجية بن عقال بن محمد المجاشعي التميمي، صحابي جليل سكن البصرة، وعاش إلى حدود الخمسين. "تهذيب التهذيب":(8/200)، و"الإصابة":(3/47) .

2 أي: أعطيته، وفي الكلام حذف، أي قال الله تعالى:"كل ما أعطيته عبداً من عبادي فهو حلال"، والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم كالسائبة والوصيلة وغيرها. "شرح النووي على صحيح مسلم":(17/197) .

3 أخرجه مسلم: (8/159) ، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.

4 سورة الروم، الآية:30.

5 "تفسير ابن كثير": (2/152) .

ص: 69

وأشرف ما فيها هذه الجواهر المضيئة فقال في نفسه: انظر هل يجوز أن يكون أحد هذه الأشياء ربك؟ وبهذا قال محمد بن إبراهيم الوزير1 وأبو بكر البيهقي2 وغيرهم.

واستدل ابن الوزير على ذلك (بأن هذه القول يوجبه ظاهر الآية، وأن القول بأن إبراهيم كان مناظراً محتجاً عليهم لا يحصل به غرض، وفيه بعد لا يحصل به غرض، لأن الاستدلال بقول إبراهيم:{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} على إثبات الصانع ضعيف، وذلك لما يأتي:

أولاً: أنه رآه إبراهيم عليه السلام رأى النجم على حالة واحدة، ولم يره ساكناً.

ثانياً: أنه رآه ينتقل في السماء من جهة المشرق إلى جهة المغرب، فما الفرق بين ذلك التنقل وبين التنقل من السماء إلى غير السماء.

ثالثاً: قد كان يعلم حين رأى القمر بازغاً أنه قبل طلوعه آفلٌ، فلم يكن أفوله الثاني بأدل على عدم إلاهيته من أفوله الأول.

رابعاً: أن الحجة كانت تلتزم خصمه حين أبطل ربوبية النجم فلم أعادها في القمر والشمس وهي واحدة؟ ألا ترى أنه يحسن أن يحتج على كل نجم بذلك3؟

1 انظر: "البرهان القاطع في إثبات الصانع": ص58.

وابن الوزير هو محمد بن إبراهيم بن الوزير بن علي المرتضي العفيف الحسني الفاسي الصنعاني عز الدين اليمني الشهير بابن الوزير. توفي سنة أربعين وثمانمائة.

انظر: "الضوء اللامع": (6/272)، و"هدية العارفين":(2/190) .

2 انظر: "الأسماء والصفات": للبيهقي: ص280-281.

3 انظر: "البرهان القاطع في إثبات الصانع": ص57-59.

ص: 70

وأما أن فيه بعداً فلوجوه:

الوجه الأول: أنه خلاف الظاهر، ولا موجب للتأويل.

فإن قلت: الموجب له أن لا تنسبه إلى الجهل بالله. قلت: هو جائز عندنا في مهلة النظر.

الوجه الثاني: أنه حين قال في القمر: هذا ربي تأخر عن الجواب إلى أن غرب القمر في آخر الليل، ثم فعل ذلك في الشمس فتأخر في الجواب من طلوعها إلى غروبها، وذلك يبعد من المحتج على الخصم لوجهين:

أحدهما: أن الخصم لا ينتظره في المجلس يتطلب الجواب ليلة ويوماً.

الثاني: أن المحتج على الغير لا يجوز أن يسلم للغير ما يدعي، إلا وبين في تلك الحال أن تسليمه تسليم جدل، ويتعقبه من غير تراخ بإبطال كلامه.

الوجه الثالث: مما يدل على بعد أن ذلك منه عليه السلام على سبيل الاحتجاج على الغير، أنه قال عقب أفول القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي

} الآية، وهذا لا يقوله في مثل هذا الحال إلا المتحيرّ.

الوجه الرابع: قوله في الشمس: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} ، فإن قوله:{هَذَا أَكْبَرُ} لا يليق بحالة المناظر.

الوجه الخامس: أنه يجب أن يكون نزاعه إما لواحد يعبد هذه الثلاثة، النجم والقمر والشمس، أو لاثنين أو لثلاثة يعبد كل واحد منهم واحداً من هذه الكواكب، والقول بهذا من غير نقل بعيد، وإنما الذي في القرآن أنها كانت تعبد في زمانه الأصنام.

الوجه السادس: أنه قال: هذا ربي، ولم يقل للخصم: هذا ربك، ولا قال: هذا ربنا، ولا هذا رب، وقل ما يتفق مثل هذا من منكر لربوبية شيء قاطع ببطلانها، وإن كان جائزاً.

ص: 71

الوجه السابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ، فهذا يشعر بأن علة رؤيته للكوكب جنون الليل عليه، وعلة قوله: هذا ربي: رؤية الكوكب.

الوجه الثامن: أن الآية تدل على أنه لم يكن قد رأى النجوم ولا القمر ولا الشمس لأنه لو كان قد عرفهن لما كان لترتيب إبطال ربوبية النجم على إبطال ربوبية القمر، وإبطال ربوبية القمر على إبطال ربوبية الشمس معنى رأساً، ولا كان لانتظاره لأقولها معنى، لأن أفولها فيما مضى من الزمان قد كان عالماً به، فكان علمه به مغنياً له في الاحتجاج عن انتظار الأفول المستقبل.

الوجه التاسع: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً

} الآية، فدلت الآية على أن الله أراه الملكوت ليوقن بالله، ويستدل عليه، لا ليناظر ويجادل.

الوجه العاشر: قوله تعالى في آخر حكاية إبراهيم: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} ، وموضع الاحتجاج من الآية أنه عطف على هذه القصة قصة أخرى معناها أن إبراهيم تحاج هو وقومه، فلو كانت هذه القصة الأولى محاجة بين إبراهيم وبين قومه لما حسن بعد الفراغ منها أن يقال: وحاجة قومه) 1.

1 المصدر السابق نفسه: ص59-64.

ص: 72

الرد على هذه المزاعم:

قبل الشروع في الرد على القائلين بأن إبراهيم كان مناظراً مستدلاً بالكواكب على ربه وصانعه بعد بلوغه أريد أن أرد إجمالاً على القائلين بأن أول واجب على المكلف هو النظر والاستدلال على الصانع1، وأن طريقه أن العالم إما جوهر أو عرض وهو ممكن أو محدث، والمحدث لا بد له من محدث، والمحدث إما أن يكون واجب الوجود أو ممكناً، فإذا كان واجب الوجود فهذا المطلوب، وإن كان ممكناً فلا بد من مؤثر، وهذا يؤدي إلى الدور أو التسلسل، أو الانتهاء إلى مؤثر واجب الوجوب لذاته، والأول والثاني باطل، فتعين الأخير2، وذلك لأن منشأ نسبة أن إبراهيم اعتقد بعد بلوغه أن الكوكب ربه هو هذا الأصل الفاسد، ويتضح فساده مما يلي:

أولاً: أن سبيل معرفة الله والإيمان به ومعرفة شرعه عن طريق لرسل، وليس النظر والمقدمات والنتائج كما يزعم هؤلاء، وهذا ما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 3. وقوله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 4، وقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ

1 انظر: "المواقف في علم الكلام": ص28-32، و"شرح جوهرة التوحيد": ص35.

2 انظر: تفصيل ذلك في: كتاب "المواقف في علم الكلام": ص226.

3 سورة النساء، الآية:165.

4 سورة الإسراء، الآية:15.

ص: 73

فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1.

ثم إن أول ما يجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله وليس كما يزعم هؤلاء أن أول واجب هو النظر، والأدلة على هذا كثيرة جداً تذكر منها على سبيل الإيجاز:

قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2.

وما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً نحو اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا لله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم

" 3.

الثاني: أن الإقرار بالصانع، وبأن لكل محدث محدثاً أمر فطري ضروري لا ينكره أحد، وطريقة القرآن لا تقتصر على الإقرار بالصانع فقط –كما هو غاية أصحاب الطرق الكلامية- بل لا بد من العلم به والعمل له4، وهذا ما دلت عليه النصوص كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 5.

الثالث: أن استدلالهم هذا على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة،

1 سورة الجمعة، الآية:2.

2 سورة محمد، الآية:19.

3 أخرجه البخاري: (9/204) ، كتاب التوحيد، ومسلم:(1/37) ، كتاب الإيمان.

4 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (2/12) .

5 سورة البقرة، الآية:21.

ص: 74

واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث، ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، هو الذي بنى عليه نفاة الصفات معتقداتهم، وعطلوا ما عطلوه حتى صار منتهى قولهم كقول الذين يجحدون الخالق، وينسبون هذا الاستدلال إلى إبراهيم عليه السلام، وحاشاه من ذلك1.

الرابع: أن هذه المقدمات التي يبنون عليها وجود الصانع كنتيجة، هي من وساوس الشيطان التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منها2 فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، ومن خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته" 3، فكيف يكون ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه طريقاً موصلاً إلى معرفة الله؟

وأما الرد على قولهم: إن إبراهيم كان ناظراً، ففيه مسلكان: إجمالي، وتفصيلي.

- المسلك الأول: الرد الإجمالي: ويرد عليهم بما يلي:

أولاً: أن معرفة الأنبياء بالله وبشرائعه ومبدأ هذه المعرفة تكون عن طريق الوحي، لا بالنظر4 وهذا ما دلت عليه الأدلة، منها:

1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (13/147) .

2 انظر: "دقائق التفسير": (3/265، وما بعدها) . وللتوسع في الرد عليهم انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (2/1-38) .

3 أخرجه البخاري: (4/250) ، كتاب بدء الوحي، ومسلم:(1/84) ، كتاب الإيمان.

4 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (2/1) .

ص: 75

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.

وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 2.

ثانياً: أن هذه القصة في بيان أن المستحق للعبادة هو الله وحده، وليست في إثبات أن خالق هذا الكون هو الله، ومن غير المعقول أن يعتقد إبراهيم عليه السلام أن الكوكب أو القمر هو خالق السموات والأرض، أو أن الشمس هي الخالقة بناءً على أنها أكبر، هذا لا يعتقده إلا مخبول، ولم يكن قول إبراهيم عليه السلام:{هَذَا رَبِّي} يقصد به أنه رب العالمين، وأنه الصانع لهذا الكون، بل ولم يكن هذا اعتقاد قومه، بل كانوا مقرين بوجود رب العالمين، ولكن كانوا يشركون معه بعبادة هذه الكواكب والأصنام3، ومن الأدلة على ذلك:

قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 4، وقوله:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 5.

1 سورة الشورى، الآية:52.

2 سورة الضحى، الآية:7.

3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (5/548-550) ، (6/548-549)، "الفصل في الملل والنحل":(4/17) .

4 سورة الشعراء، الآيات: 75-77.

5 سورة الممتحنة، الآية:4.

ص: 76

فحاصل القول: أن إبراهيم عليه السلام لم يكن جاهلاً بخالق السموات والأرض، ولم يكن قومه أيضاً جاحدين له حتى يقال: إنه استدل على الصانع، أو نحو ذلك.

- المسلك الثاني: الرد التفصيلي: ويكون الرد فيه بما يلي:

أما قوله: (لا يحصل به غرض لأن الاستدلال بقول إبراهيم: {إني لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} على إثبات الصانع الضعيف..)، فالجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: الحمد لله الذي أنطقك بالحق، وجعل حجتك رداًّ على مذهبك، ومن فمك أدينك، فما دام أن قول إبراهيم: إني {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} على إثبات الصانع ضعيف، فلم تقول: إن إبراهيم استدل بهذه الطريقة على صانعه؟ وما دامت هذه الطريقة ضعيفة فلت تؤدي به إلى الطريق الصحيح، بل تؤدي به إلى الشك أو إلى الضلال –عياذاً بالله من ذلك-، فإذا بطل أن تكون هذه الطريقة في إثبات الصانع تعين أن تكون في إثبات أن الله هو المنفرد بالألوهية وحده.

الوجه الثاني: أن القائلين بأن إبراهيم عليه السلام كان محتجًّا على قومه إنما قالوا بأنه كان محتجًّا عليهم مناظراً لهم لإثبات ألوهية الله وحده، لا لإثبات الصانع، فقوم إبراهيم لم يكونوا منكرين للصانع كما أسلفت في الرد الإجمالي.

ثم لو ادعى أحد أنها ضعيفة أيضاً في إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية واستدل بما سلف من الأدلة على ضعف هذه الطريقة رد عليه بما هو آتي:

أما الدليل الأول: وهو أن إبراهيم عليه السلام رأى النجم على حالة واحدة ولم يره ساكناً، ودليله الثاني: ما الفرق بين التنقل من السماء إلى غير السماء، وبين انتقاله من المشرق إلى المغرب؟ ودليله الثالث: لا يكون

ص: 77

الأفول الذي بعد الطلوع بأدل من الأفول قبل الطلوع على عدم الإلهية، فالجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أن المعترض يريد بهذا إثبات أن الحركة تدل على الحدوث، وأن الأجسام لا تخلو من الحوادث، وإثبات أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم عليه السلام، ليتوصلوا بذلك إلى نفي الصفات الاختيارية عن الله تعالى، فنفوا أنه متكلم بمشيئتة وقدرته، وأنه ينزل متى شاء أن ينزل، وغيرها من الصفات الاختيارية، واعتقدوا أنهم أثبتوا الرب بهذا، وأنه ذات مجردة عن الصفات، وهذا الكلام باطل شرعاً وعقلاً وفطرة، وهو ليس طريق الأنبياء، ولم يكن حال الصحابة علم بالإضرار، ومن عرف ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة علم بالإضرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، ومن عرف حقيقة هذا القول علم أنه ليس بطريق موصل إلى معرفة الله، بل إنما يوصل من اعقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك، ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك1.

الوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام لم يستدل بالحركة والسكون على أن هذه الكواكب حادثة لا تصلح للألوهية، لذلك لم يقل:{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} لما رأى الكوكب يتحرك والقمر والشمس، بل إنما قال ذلك حين غاب واحتجب، فليس معنى أفل تحرك في لغة العرب2، وإنما معناها غاب واحتجب3.

1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (13/147-152) .

2 "منهاج السنة النبوية": (2/196) .

3 انظر: "الصحاح": (4/1623)، "لسان العرب":(11/18) .

ص: 78

أما قوله: (إن القول بأن إبراهيم كان مناظراً لقومه محتجًّا عليهم فيه بُعدٌ لوجوه:

الوجه الأول: أنه خلاف الظاهر ولا موجب للتأويل

) .

قلت: بل قوله الذي فيه بعد وخلاف الظاهر، فقد خالفوا بطريقتهم هذه الرسول وخالفوا ظاهر الآية: فأما مخالفتهم للرسول فبإتباع طريقة النظر وجعلهم هذه الطريقة أول واجب على المكلف، وقد أسلفت الرد على هذه الطريقة. وأما مخالفتهم لظاهر الآية فمن عدة وجوه:

الوجه الأول: تعطيل العطف الوارد في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ

} الذي يفيد الترتيب، مما يدل على أن إبراهيم قال مقالته تلك بعد أن رأى ملكوت السموات والأرض، أو بعد مناقشته لأبيه آزر بشأن عدم صلاحية الأصنام للعبادة1.

الوجه الثاني: قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، فادعاؤكم أن هذا الكلام موجه إلى أم إبراهيم عليه السلام وأبيه، أو إلى أنها حادثة حدثت فيما بعد بينه وبين قومه لا يستقيم مع دعوى الظاهر، حيث إنه من المعلوم أن إبراهيم لما خرج من الغار –كما تزعمون- لم يكن معه لا قوم ولا صنم2. أما القول بأن إبراهيم كان مناظراً لقومه فهو لا يحتاج إلى مثل هذا التأويل.

الوجه الثالث: قوله تعالى بعد أن ذكر إبراهيم هذه القصة: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِ} ، ولم يقل: على نفسه، فعلم أن هذه المباحثة

1 انظر: "الكشاف": (2/30)، و"التفسير الكبير":(13/49-50) .

2 انظر:"التفسير الكبير": (13/51) .

ص: 79

إنما جرت بين إبراهيم وقومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجل أن يطلب إبراهيم الدين والمعرفة لنفسه1.

وغير هذه الوجوه التي تبين أنهم هم الذين سلكوا مسلك التأويل.

أما على القول بأن إبراهيم كان مناظراً، فإننا نأخذ اللفظ على ظاهره –كما سيأتي بيانه مفصلاً في الترجيح إن شاء الله.

وأما قوله في الوجه الثاني: (إن الخصم لا ينتظره في المجلس يتطلب الجواب ليلة ويوماً) : فهذا تحكم لا دليل عليه، ويمكن أن يلزم بمثل هذا في مذهبه، ثم يتهافت هذا الاستدلال إذا عرفنا أن عباد الكواكب كانوا يتحرونها ويتحرون ساعات أوجها، فلا يبعد أن يكون جالساً معهم ليلة من الليالي ينهاهم عن عبادة الكواكب، فطلعت الكواكب، فأخذ يناظرهم ويستدل على عدم استحقاقها لشيء من العبادة2.

أما قوله: (إن المحتج على الغير لا يجوز أن يسلم له ما يدعيه إلا ويبين أن تسليمه تسليم جدل) : فالجواب عنه: أن إبراهيم عليه السلام لم يقصد بقوله: {هَذَا رَبِّي} التسليم، وإنما ذكر ذلك بصيغة الاستفهام الإنكاري3، أو في الآية تقدير: هذا ربي على زعمكم4 –كما سيأتي بيانه إن شاء الله-.

أما قوله في الوجه الثالث: (إن قول إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} لا يقوله إلا المتحيرّ) : فالجواب عليه: أن الالتجاء إلى الله بطلب الهداية

1 المصدر السابق نفسه.

2 المصدر نفسه: (13/58) .

3 انظر: "تفسير الطبري": (7/250)، "تفسير القرطبي":(7/26) .

4 "تفسير القرطبي": (7/26) .

ص: 80

منه هو من كمال التوحيد، فمن عرف ربًّا يلتجأ إليه، ويطلب الهداية منه، هل يقال: إنه متحير أو محتاج إلى النظر ليعرف ربه1؟ فهذا دليل عليهم لا لهم، وإنما أورد إبراهيم عليه السلام هذا الكلام في هذا المقام إرشاداً لقومه أن يطلبوا الهداية من الله، وتعريضاً بضلالهم في عبادة هذه الكواكب2، وتوجيهاً لهم بأن المستحق للعبادة هو الله وحده الذي تطلب منه الهداية، ثم إن فيها تنبيهاً بأن الله هو المتصرف في الكون وحده، وبيده تدبير كل شيء، والذي يؤكد هذا المعنى: التدرج الذي اتبعه إبراهيم في إثبات الحجة على قومه، فبين أولاً أن ما كان آفلاً لا يصلح للعبادة، وبين ثانياً تلميحاً أن من اتجه لهذه الكواكب كان ضالاً، وبين ثالثاً التصريح بأنهم على الشرك، والبراءة منهم بعد أن قامت الحجة عليهم وظهر الحق3.

أما قوله في الوجه الرابع: (أن قوم إبراهيم في الشمس: {هَذَا أَكْبَرُ} لا يليق بحالة المناظرة) : فالجواب عنه: أن إبراهيم عليه السلام كان يجادل ويناظر المنجمين وعباد الكواكب، ومذهب هؤلاء المنجمين أن الشمس هي رئيسة الكواكب في الفلك، وهي في العالم بمنزلة جرم القلب في البدن، وسائر أجرام الكواكب والأفلاك بمنزلة أعضاء البدن ومفاصل الجسد4، لذلك كانت مناسبة قوله:{هَذَا أَكْبَرُ} عظيمة، إذ به يلفت الانتباه إلى أن هذه الشمس وهي أكبر الأجرام –عندكم- منزلة وحجماً وضياءًا لا تصلح أن تكون إلهاً، فمن باب أولى ما دونها من

1 انظر: "الملل والنحل": (2/52) .

2 انظر: "الكشاف": (2/31) .

3 انظر: "الإنصاف فيها تضمنه الكشاف عن الاعتزال": (2/30-31) .

4 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (2/423) .

ص: 81

سائر الكواكب، وهذا اللفظ يؤكد أن إبراهيم كان مناظراً لهؤلاء الذين يزعمون ألوهية الكواكب1 إذ لو كان يقصد الاستدلال على الألوهية بمطلق الكبر، لكان توجيه الاستدلال بالسماء أولى وأحرى، لأنها أكبر حجمًا من الشمس بلا شك ولا ريب.

أما اعتراضه في الوجه الخامس، وهو (أنه لم يدل دليل على عبادة قوم إبراهيم للكواكب) : فالجواب عنه: أن هذه الآيات دلت على إنهم كانوا يعبدون الكواكب، لذلك كانت مناظرة إبراهيم لقومه ليصرفهم عن هذا الشرك، ويوجههم إلى عبادة الله وحده.

أما الاعتراض في الوجه السادس، وهو (أنه قال للخصم: هذا ربي، ولم يقل: هذا ربنا، ولا هذا رب..) : فالجواب عنه: أن قول إبراهيم {هَذَا رَبِّي} إنما كان على صيغة الاستفهام الإنكاري، حتى إذا قرر قومه ذلك أبطل معتقدهم بالحجة القاطعة، ولا شك أن استخدام مثل هذا الأسلوب أدعى للقبول.

أما اعتراضه في الوجه السابع، وهو (أن علة قوم إبراهيم {هَذَا رَبِّي} رؤية الكوكب) : فالجواب عنه أنه صحيح أن قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي

} يشعر بأن علة رؤية الكوكب، جنون الليل عليه، وعلة قوله: هذا ربي، رؤية الكوكب، ولكن لا يدل ذلك على حصر العلة في هذا، وانتفاء وجود علل أخرى، لذلك فإن حجتكم هذه لا تدل على انتفاء أن تكون علة قوله:{هَذَا رَبِّي} أيضاً احتجاج ومناظرة إبراهيم لقومه.

1 انظر: "تفسير الكبير": (13/60) .

ص: 82

أما قوله: (الوجه الثامن: أن الآية تدل على أنه لم يكن قد رأى النجوم، ولا القمر

) ، والاحتجاج به ينحصر في أمرين: الأول: قوله: (ليس لترتيب إبطال ربوبية النجوم على إبطال ربوبية القمر، وإبطال ربوبية القمر على إبطال ربوبية الشمس معنى رأساً) : فالجواب عنه: لم تكن هذه المناظرة لإبطال ربوبية الكواكب بمعنى إبطال أنها هي الصانعة لهذا الكون. بل هي لإبطال استحقاق هذه الكواكب للعبادة كما أسلفت الكلام على هذا. ثم إن لترتيب إبطال أن تكون مستحقة للألوهية معنى كبيراً في الإقناع، وإفحام الخصم، لأن الأخذ من الأدنى فالأدنى إلى الأعلى فالأعلى له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد، لا يحصل من غيره، فكان ذكر الاستدلال على هذا الوجه أولى1.

والأمر الثاني من الاعتراض: (أن علمه بأفول الكوكب والقمر والشمس مغني في الاحتجاج عن انتظار الأفول المقبل)، والرد عليه: أن انتزاع عقيدة توارثها الخلف عن السلف من الصعوبة بحال، لذلك لابد وأن تكون الحجة قوية وحكيمة حتى تكون أدعى للقبول، ولا شك أن الاستدلال الذي يجمع بين القول والحس أقوى من الاستدلال القولي المجرد عن الحس، لذلك كان انتظار أفول هذه الأجرام، والاستدلال بعدم صلاحيتها للألوهية أدعى لإجابة قومه من مجرد القول2.

أما اعتراضه التاسع، وهو (أن الله أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليوقن بالله ويستدل، لا ليناظر) : فالجواب عنه: أنه قصد بهذا

1 انظر: "التفسير الكبير": (13/60) .

2 انظر: "روح المعاني": (7/199) .

ص: 83

الاعتراض أن قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ

} تفصيل لما ذكر من أن الله أراه ملكوت السموات والأرض، وهذا خطأ من وجوه:

الوجه الأول: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ

} معطوف على قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ

} ، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

} جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، مقررة لما سبق ولحق1، فكونه بلغ مرتبة الموقنين يقضي باستحالة أن يعتقد ألوهية هذه الأصنام والكواكب التي يعبدها قومه2، وإما أن تكون معطوفة على قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ

} كما سبق بيانه في أول الردود.

ثانياً: أن معنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ

} يختلف عن المعنى الذي ذهبوا إليه في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ

} وذلك لأن الله هو الذي أرى إبراهيم في الآية الأولى، أما المعنى الذي ذهبوا إليه في الآية الثانية أن إبراهيم هو الذي استدل حتى توصل إلى الخالق.

ثالثاً: لو سلمنا جدلاً أن الآية الثانية: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ

} تفسير للآية التي قبلها {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ

} فما مناسبة ذكر الأرض في الآية الأولى، إذ أن الكواكب والقمر والشمس من السماء، وليس منها شيء في الأرض.

رابعاً: أن اليقين ليس بمعنى الاستدلال على الله، ولا يكون الاستدلال مترتباً على اليقين، لأن اليقين هو العلم وزوال الشك3، فمن

1 انظر: "الكشاف": (2/30) .

2 انظر: "تفسير روح المعاني": (7/198) .

3 انظر: "الصحاح": (6/2219) .

ص: 84

حصل له العلم بربه لا يحتاج إلى الاستدلال ليتوصل إلى معرفة ربه، بل يناظر المخالفين، ويقيم عليهم الحجة، فيكون هذا دليلاً على مذهبهم، لا له.

وبهذا يتبين أن قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ

} لا تصلح أن تكون تفسيراً للآية التي قبلها.

أما اعتراضه العاشر، وهو (أن الله عطف على هذه القصة قصة أخرى معناها أن إبراهيم تحاج مع قومه) : فالجواب عنه: إن هذه قصة واحدة، وليست قصتين، والمعنى أن إبراهيم بعد أن قرر عقيدة التوحيد، وأن الله هو المستحق للعبادة وحده جادله قومه فيما ذهب إليه بشبه من القول، فكان جوابه عليهم:{أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} ، أي: تجادلونني في أمر الله، وأنه لا إله إلا هو وقد بصرني وهداني إلى الحق1. وهذا معنى مستقيم لا إشكال فيه.

فمن هذا يتضح أن إبراهيم كان مناظراً لقومه، مستدلاً عليهم، مبيناً فساد اعتقادهم في ألوهية الكواكب وإشراكها مع الله في العبادة، وقد أغنت الردود عن سرد الأدلة، واختلف القائلون بهذا القول في توجيه قول إبراهيم:{هَذَا رَبِّي} على أقوال، منها:

الأول: أن إبراهيم ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بالقول بربوبية الكواكب مع أن قلبه كان مطمئناً بالإيمان، ومقصودة من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده، وأن يقبلوا منه2.

قلت: هذا التوجيه لا يصح لما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله

1 انظر: "الكشاف": (2/32-33)، و"تفسير ابن كثير":(2/152) .

2 انظر: "التفسير الكبير": (13/50)، و"تفسير القرطبي":(76/2) .

ص: 85

عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات1 ثنتين منهن في ذات الله عز وجل، قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . قال: بينا هو ذات يوم وسارة إذا أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها: فقال: من هذه؟ قال: أختي

"2.

ففي هذا الحديث حصر لكذبات إبراهيم عليه السلام، وإشارة إلى أنها أعظم ما صدر منه عليه السلام3، ولم يجعل من ضمنها قوله:{هَذَا رَبِّي} 4، فدل ذلك على أن هذا القول لم يصدر من خليل الرحمن كذباً. ثم إن إبراهيم عليه السلام قد اشتهر عنه ذكر آلهتهم بسوء، كما أخبر الله عن ذلك بقوله:{سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ، وعلى هذا فلا فائدة في التورية هنا.

الثاني: أن قوله: {هَذَا رَبِّي} معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم، وهذا الإضمار معروف في العربية، قال تعالى:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} 5، وقال:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} 6، أي: في زعمكم واعتقادكم7.

1 إنما أطلق عليه أنها "كذبات" لكونه قال قولاً لا يعتقده السامع كذباً، لكنه إذا حقق فيه وجده من باب المعاريض المحتملة لأمرين. انظر:"شرح النووي": (15/124)، و"تفسير ابن كثير":(4/13)، و"فتح الباري":(6/391) .

2 أخرجه البخاري: (4/280) ، كتاب الأنبياء، ومسلم:(7/98) ، كتاب الفضائل.

3 انظر: "الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال": (2/31) .

4 انظر: "فتح الباري"، (6/391) .

5 سورة طه، الآية:97.

6 سورة فصلت، الآية:47.

7 انظر: "التفسير الكبير": (13/52)، و"تفسير القرطبي":(7/26) .

ص: 86

الثالث: أن المراد الاستفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أهذا ربي؟ وهذا أسلوب معروف في العربية، كقول الله تعالى:{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 1، أي: أفهم الخالدون؟ 2

قلت: كلا التقديرين الأخيرين تطمئن إليه النفس –والله أعلم-، ويكون المعنى: أن إبراهيم كان مستدلاً على قومه، مناظراً لهم، يريد بمناظرته هذه إبطال عبادة هذه الكواكب بإقامة الحجة الواضحة، التي لا يشكل على الخصم فهمها، وبالأسلوب الحكيم الذي تتقبله النفوس وتلين معه، فبين لهم أن الكواكب لا تصلح أن تكون آلهة، فقال لهم: هذا ربي في زعمكم واعتقادكم؟ أو قال لهم بصيغة الاستفهام الإنكاري: أهذا ربي؟ فأجابوه نعم، فلما أفل بين أن هذا الآفل لا يستحق أن يكون إلهاً معبوداً بقوله:{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ، فلما بزغ القمر سألهم السؤال نفسه، وأجابوه بالإجابة نفسها، فلما أفل بين تعريضاً أن الالتجاء يجب أن يكون لله، وأنهم على ضلالة في عبادتهم للكواكب، فقال:{لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ، فلما بزغت الشمس سألهم السؤال نفسه، وأجابوه الإجابة نفسها، فلما أفلت بين تصريحاً أنهم على ضلالة، وأنهم مشركون بعبادتهم هذه الكواكب، وتبرأ منهم ومن شركهم، ووجههم الوجهة الصحيحة بإخلاص العبادة لله الذي خلق السموات والأرض، ثم حاجوه فيما ذهب إليه.

هذا ما ترجح عندي جمعاً بين الأدلة، والله أعلم بالصواب.

1 سورة الأنبياء، الآية:34.

2 "تفسير الطبري": (7/250)، و"تفسير القرطبي":(7/26) .

ص: 87